رفـض أن يبيـع حريتـه مقـابل المـال
من حلب إلي هوليوود.. ومن الرعب إلي الملاحم
هوليوود ــ محمد رضا
ما بين محطة القطارات في مدينة لوس أنجيليس الكبري وقرية وستوود مسافة
ثلاثة أرباع الساعة بالسيارة ترتفع طوالها البنايات والناطحات وكل مظاهر أي
مدينة حديثة في العالم, شوارع كثيرة, سيارات لا حصر لها, مشاة,
محلات, طرق تصعد وطرق تهبط وطرق سريعة تبدو من فوق كما لو أنها تقليد
لأسراب النمل وهي تعمل علي نقل بقايا حياة إلي أوكارها.
لكن الصورة لم تكن كذلك في أواخر الستينيات لما حط العقاد رحاله في محطة
القطارات حاملا حقيبة وبضع عشرات من الدولارات, في جلسة ذكريات لم تستكمل
قال لي:
العنوان الوحيد الذي لدي هو جامعة كاليفورنيا التي تقع في منطقة وستوود,
وقفت في المحطة غير مدرك كيف أتوجه, رحلتي إلي أمريكا كانت أول خروج لي
من سوريا, بعد قليل سمعت ثلاثة شبان يتكلمون العربية ولابد أنهم لاحظوا
أنني غريب, سألوني أين أريد أن أذهب, قلت لهم جامعة كاليفورنيا,
قالوا لي إنهم سيوصلونني, ركبت معهم السيارة لكني بعد قليل انتابني
الخوف......
مصطفي في ذلك الحين كان لا يزال في مطلع شبابه وككل قادم كان يضع في
اعتباره كل حساب ممكن, يمضي قائلا:
الطريق بين المحطة وقرية وستوود لم تكن كما هي اليوم عمران متواصل, بعد
قليل لاحظت أن العمران اختفي والمزارع, كلها ليمون وبرتقال وأشجار مثمرة
أخري, تمتد إلي ما لا نهاية, سألتهم أين يمضون بي, ضحكوا وقالوا لي
لا تخف.
عاش العقاد في منطقة برنتوود التي تقع خلف وستوود الحالية, بيت كبير مع
حديقة ومسبح وعدة غرف نوم وقريب من منزل أو جي سمبسون, لاعب الكرة الذي
تحول ممثلا ثم أصبح متهما بقتل زوجته, اعتاد المخرج والمنتج أن يصحو
باكرا كل يوم ويأتي إلي المكتب في التاسعة والنصف صباحا ويغادره في الواحدة
أو قبلها, مكتبه عبارة عن ثلاث غرف في مبني تجاري عملاق, مقارنة بمكاتب
إنتاجية أخري, ليس كبيرا لكنه بالتأكيد كان كافيا طوال مدة وفترة حياة
المخرج والمنتج الكبير, كان المكتب مملكته الصغيرة وكان يكرر لي:
هناك كلمة سمعتها من العقيد( يقصد السيد معمر القذافي) أؤمن بها جدا:
في عدم الحاجة تكمن الحرية.
وكان عادة ما يكمل موضحا:
أنت بحاجة إلي شيء تصبح مضطرا إليه وتفقد حريتك بالكامل, إذا لم تكن
بحاجة إليه كنت مستقلا ومتحررا, وهذا هو الوضع مع التمويل.
* كيف؟
يسألني كثيرون لماذا أنتج أفلام رعب صغيرة وردي الدائم هو إنه لو لم أنتج
هذه الأفلام لصرت عبدا لحاجتي للمال ولأستجبت لرغبة الحكام العرب إخراج
الأفلام التي يريدون مني إخراجها, بذلك أصبح عبدا لهم وأفقد استقلاليتي
التي أتمتع بها.
الحرية كانت مهمة عند المنتج والمخرج الكبير, من بعد أسد الصحراء أو كما
تمت تسميته عربيا بـ عمر المختار, وذلك في العام1981 وضع العقاد عدة
مشاريع سينمائية من ذات النوعية التاريخية- الملحمية, كانت لديه فكرة
فيلم تاريخي عن الأندلس, وكانت لديه فكرة فيلم روائي كبير عن القائد
الراحل جمال عبد الناصر( صنع فيلما وثائقيا طويلا هو من أفضل ما تم
تحقيقه عن الزعيم العربي إلي اليوم) وحلم طويلا بتحقيق فيلم عن صلاح
الدين.
* لكن لماذا نستعجل الكلام, لنعد إلي الوراء في مداولة زمنية قصيرة؟
في العام1974 فوجئنا في بيروت بشاب يجلس في المقاهي ويتحدث عن فيلم كبير
سيخرجه في المغرب, كنا, ونحن مازلنا شبابا قليل الخبرة, سمعنا
بمشاريع كثيرة من هذا النوع, شبان عرب يذهبون إلي أمريكا ويعودون
بأحلام, ثم غاب العقاد ثم عاد وأدرك بعضنا أن الرجل يتحدث عن ثقة, في
العام1975 باشر فعلا تصوير فيلمه الروائي الأول الرسالة في ليبيا(
اختارها بعدما أوقفت المغرب التصوير تحاشيا للحرج حينما وقف الأزهر المصري
والمملكة العربية السعودية ضد الفيلم).
كنت من الذين حضروا التصوير, شاهدوا رجلا يتحرك بحيوية وبفهم عميق,
صحيح إنه كان يعتمد علي خبرات في شتي المجالات الفنية, كذلك ديفيد لين
وأكيرا كوروساوا وكل المخرجين الكبار فهذا جزء من عملية إتقان العمل, لكن
القرار النهائي كان له مشرفا علي سير العمل خلال التصوير وبعده.
ذات مرة راعه قيام بعض الأجانب بالسباحة في البركة الإصطناعية التي أنشئت
خصيصا للفيلم علي نحو صاخب كما لو كانت حفلة بيتية, صرخ فيهم بالتوقف
حالا عن الصخب مذكرا إياهم أنهم في بلد عربي لا يطيق هذه التصرفات, لم
تكن الكلمات ماتت علي شفتيه, رحمه الله, حتي توقف الجميع في آن واحد.
بعد عامين, وبينما كان يحضر لفيلمه التاريخي الثاني, عمر المختار,
أنجز فيلم رعب أول, وهو كان الأول علي عدة مستويات:
الأول أمريكيا للعقاد إذ لم يكن أنتج فيلما أمريكيا طويلا من قبل.
الأول بالنسبة للممثلة جامي لي كيرتس التي لم تكن ظهرت في أي فيلم من
قبل.
الأول بالنسبة للمخرج الجديد جون كاربنتر الذي حقق به نجاحا, قبله أخرج
أفلاما قصيرة وفيلما روائيا صغيرا واحدا( عنوانهDarkStar)
لم يلق أي نجاح.
الأول بالنسبة لمنوال أفلام رعب تعتمد علي مقنع يجسد الشر ويقتل من دون
تمييز ولا دوافع واضحة, بعده تكاثر القتلة المقنعون من مذبحة منشار تكساس
إلي كابوس شارع إلم وسواها.
* هل كان العقاد فخورا بهذه الأفلام؟
نعم, فخور بها لأنها منحتني الإستقلالية التي أنشدها, ومنحتني المكانة
التجارية والمادية التي لا أحتاج معها إلي البحث عن تمويل راضيا بشروط تفرض
علي فرضا, وفخور لأنني أنجزت فيلما يطلبه الجمهور.
العقاد كان لا يخفي إنه مخرج يبغي التجارة أولا:
تعمل الفيلم علي أفضل مستوي تستطيع الوصول إليه, لكن عليه أن يكون فيلما
متوجها للجمهور وليس للنخبة, الجمهور هو الذي يشتري التذاكر- الفيلم
لهؤلاء.
هالووين الأول كلف مصطفي العقاد325 ألف دولار, الإيرادات كانت جبلا من
المال43 مليون دولار, إذ حقق الفيلم في عروضه الأول نحو20 مليون
دولار أدرك العقاد إنه فتح صندوق العجائب وأن هالووين سيلد سلسلة من
الأفلام, هذه السلسلة بلغ عددها حتي العام2002 ثمانية أفلام, وإذا
جمعنا إليها فيلمين أمريكيين آخرين (هما FreeRide وDeadlyPresence)
فإن مجموع الأفلام التي أنتجها في هوليوود من مكتبه المتواضع ذاك هو
عشرة, وكان في وارد إنتاج هالووين تاسع, قال لي ابنه مالك قبل أيام
قليلة من الفاجعة: لدينا سيناريوهان نقرأهما قبل أن نقرر أي منهما سنعمد
إليه.
عثرات صلاح الدين
عربيا, الأمر لم يكن بهذا النشاط للأسف.
بعد عمر المختار سنة1981 ووجه العقاد بالكثير من الطلبات, عمليا تلقي
العقاد عروضا من العديد من الحكام العرب( بعضهم رحلوا الآن) كل عرض
يطلب فيلما عن ذلك الحاكم كشرط لإنتاج صلاح الدين.
لو باع العقاد نفسه خلال السنوات الخمس والعشرين الأخيرة, ولو أن المال
كان كل شيء بالنسبة إليه, لأصبح بليونيرا, لكنه كان أوعي من أن
يستجيب, قال لي في إحدي لقاءاتنا المتكررة:
المسألة هي أنني أريد فيلما عربيا علي مستوي عالمي وأحد الشروط الأساسية هو
أن يكون الموضوع, كما كان في الرسالة وعمر المختار عالميا ليس لحساب شخص
وليس لحساب أيديولوجيا أو بلد أو نظام.
في سبيل هذا الموقف خاض مصطفي العقاد جهودا عملاقة ليجد تمويل فيلمه صلاح
الدين وخلال هذا الخوض تعرض للكثير من الانتقادات والشائعات, أبرزها إنه
كان يدور علي الأنظمة متوسلا العون, لكن ذلك ليس صحيحا.
طوال نحو عشرين سنة, أي منذ أن أصبح صلاح الدين جاهزا وإلي اليوم, دخل
العقاد مئات الاجتماعات غير المثمرة, ربما كان يطمح إلي أكثر مما يراه
الآخرون مناسبا, كان مثلا يحلم ببناء ستديو عربي يصور فيه الفيلم.
في النهاية رحل العقاد عن عالمنا وهو يتمني إخراج صلاح الدين, كان
يقول: إنه مثال لوضعنا الحالي, نحن بحاجة إلي بطل والي قائد, لكن
الفيلم هو أيضا تجسيد لمرحلة تاريخية نضرة من حياتنا كعرب. ولفترة كان
يحاول بث العزيمة في أوصال المترددين من الذين كانوا يستطيعون, لو
أرادوا, تمويل الفيلم, كان يردد:
الفيلم ليس فقط ردا علي حملات التشويه بل أيضا إظهار لموقع القدس بالنسبة
لنا نحن المسلمين.
قبل يومين من مغادرته لوس أنجيليس, التي لن يراها مرة أخري, قال لي في
مكتبه: سأزور الكويت ولبنان وأحضر حفلة عرس في عمان وأحضر بعد ذلك مهرجان
دمشق وبعده مهرجان القاهرة, هل ستحضر القاهرة؟, حسنا, أراك
هناك.... رحل ومازلت أنتظر لقاءه!!*
البطل القومي
خلال هذه الفترة25 عاما تعالت مشادات بين العقاد ومخرجين عرب معروفين
أبرزها تلك التي قامت بينه وبين المخرج المصري يوسف شاهين وبينه وبين
المخرج السوري محمد ملص, وهي مواجهات مؤسفة للجانبين لكنها تكشف عن شرخ
في العلاقات ناتجة عن اختلاف مناهج. لم يكن رفض مصطفي العقاد لإخراج فيلم
عربي (وقد عرضت عليه أعمال كثيرة) ناتجا عن رغبته في فيلم مكلف وكبير
بل عن إدراكه أن هذا النوع من الأفلام له مخرجوه في العالم العربي, كان
يقول:
أنا لا أعرف كيف أحقق فيلما من هذا النوع, هناك من هم أفضل مني في هذا
النوع. وكانت الأفلام التي يراها مسيئة للعالم العربي, سواء أكانت
مصرية أم سورية أم تونسية, تضايقه, انتقاداته كانت في الغالب من منطلق
كلاسيكي نسمعه بين المحافظين من السينمائيين الذين كانوا يرون في أي فيلم
يظهر شروخا وعيوبا اجتماعية في أنه يضر بالسمعة العربية ولا يصلح للعرض في
أنحاء العالم.
* ربطت المخرج الراحل علاقات وطيدة بالرئيس العراقي السابق صدام حسين,
وذكر العقاد في أكثر من حوار أن صدام عرض أن يتولي تمويل فيلم صلاح
الدين, لكن ظروف حرب الخليج حالت دون تحقيق المشروع.
* ربطته علاقات وطيدة بالرئيس الليبي معمر القذافي والذي قال له: إن
السينما سلاح أقوي من الدبابات وهو من قام بتمويل فيلمي الرسالة, وعمر
المختار.
####
كان مخرجاً عالمياً
بالمفهوم وليس بالرغبة
مصطفى العقاد.. عربي في
هوليوود
هوليوود - محمّد رضا:
تفرض وفاة المخرج والمنتج الكبير مصطفى العقاد علينا مراجعة مسائل كثيرة
تتعلّق بالمكانة التي احتلّها في هذا الزمن الصعب وفي الشرق كما في الغرب.
فصاحب “الرسالة” و”عمر المختار” عرف خطّين من الأفلام. الأول هو اخراجه
لفيلمين عربيين في الموضوع والخطاب السياسي وعالميين في التوجه والتسويق،
والثاني هو خط أفلام أمريكية خالصة سوقها الأول محلّي لكنها، ككل الانتاجات
الأمريكية التجارية، تسللت بسهولة الى الأسواق الأوروبية والشرق آسيوية.
الاختلاف يكمن أيضاً في الحجم. الخط الأول من الانتاج تنعّم بصفة الانتاج
الكبير. ميزانية الأول وصلت الى نحو 18 مليون دولار (ما يوازي 40 مليون
دولار بكلفة هذه الأيام) والثاني تعدّت ال 25 مليون دولار (او 70-60
مليوناً بأسعار اليوم). بينما الفيلم الواحد من سلسلة “هالووين” (ثمانية
أفلام. التاسع على الطريق) انطلق من 365 ألف دولار (“هالووين” الأول) ثم
ارتفعت كلفته حلقة وراء حلقة تبعاً لارتفاع الأسعار، من نصف مليون الى
مليون الى مليونين وميزانية كل من الجزء السابع والجزء الثامن على حدة
خمسة ملايين دولار تقريباً.
ماذا يقول لنا كل ذلك؟
مصطفى العقاد، رحمه الله، كان مخرجاً عالمياً بالمفهوم وليس بالرغبة.
بالواقع وليس بالتمنيات. لكي نصل الى هذه النتيجة لابد من تحليل ماهية
العالمية.
ما العالمية؟
المنتشر عندنا هو الرأي الكلاسيكي: أنت عالمي بقدر ما تكون محلياً.
والأمثلة كثيرة يعلوها نجيب محفوظ، حسب آراء عدد لا بأس بهم من النقاد
والمتابعين المؤهلين. فبقدر ما كانت حكاياته مصرية، بقدر ما انتشرت شاقة
طريقها الى لغات عدّة، بل الى اقتباسات سينمائية في بعض الأحيان. الأمر
نفسه يمكن قوله، اذاً، عن كثيرين في هذا المجال من دستويفسكي الى سارتر ومن
غراهام غرين الى غبريال غارسيا مركيز. وبالتأكيد يقف محفوظ بين كل هؤلاء
لكن هل تفعل السينما العربية؟
العالمية تأتي من كلمة لا مجال للالتباس فيها وتعني استحواذ الشيء على
مساحة دولية يحققها بالوصول اليها. اذا كان هذا الشيء كتابا أو فيلما أو
أغنية أو مخرجاً أو ممثلاً... الأمر سيان. لكن الخطأ الذي يقع فيه كثيرون
هو عقد قران بين العالمية والمستوى الفني. فيلم “الأرض” ليوسف شاهين أو
“صمت القصور” للتونسية مفيدة التلاتلي، يقولون لك، عالمي لأنه عرض في
مهرجانات دولية ولأن مستواه عالمي.
لكن الحقيقة أن “الأرض” فيلم رائع بذاته وفيلم “صمت القصور” تحفة صغيرة
كذلك “السقا مات” لصلاح أبو سيف و”التائهون” للناصر خمير و”حرب البترول لن
تقع” لسهيل بن بركة و”حروب صغيرة” لمارون بغدادي و”عتبات ممنوعة” لرضا
الباهي وكثير جداً غيرها كونها عرفت طريق المهرجانات وكتبت عنها الصحافة
العالمية، كما وجد البعض منها طريقه للعروض التجارية في باريس أو لندن.
هذا كله ممتاز ورائع لكنه لا يجعلها عالمية لسببين. الأول، وهو أسهلها
تعريفاً، لم تخرج من نطاق كونها انتاجات محلية لمخرجين -بصرف النظر عن فنهم
وابداعهم- معروفين في بلاد قليلة حول العالم ومن قبل نسبة ضئيلة من
المشاهدين. لم تدخل الصرح الكبير والدولي من التاريخ بل بقيت علامات في
السينمات المحلية كما في تواريخ أصحابها.
السبب الثاني أكثر تعقيداً.
الفيلم العالمي هو الذي يسعى لاقتحام الأسواق العالمية كسلعة تجارية واسعة
الانتشار (سواء نجحت محاولته تلك أو أخفقت). وفي حين أن ليس كل فيلم محلي
جيداً، فإنه ليس كل فيلم عالمي، على هذه الصورة، سيئاً أيضاً.
فيلما مصطفى العقاد “الرسالة” و”عمر المختار” كانا عالميين فعلاً، بل كانا
الفيلمين العالميين الوحيدين في تاريخ السينما العربية كلها، انطلاقاً من
هذا التحديد الواقعي والدقيق لماهية الفيلم العالمي الذي يمضي طبيعياً
ليشير ايضاً الى أنه ليس كل فيلم بميزانية كبيرة ويتكلم الانكليزية يمكن أن
يصبح عالمياً. نظرة الى محاولات السينما العراقية مباشرة بعد النجاح الكبير
لفيلمي مصطفى العقاد، تبرهن على ذلك. “القادسية” لصلاح أبو سيف و”المسألة
الكبرى” لمحمد شكري جميل تمتعا بالميزانية كما تم استقدام ممثلين أجانب
للفيلم الثاني، لكنهما لم يشهدا توزيعاً عالمياً. فلكي يتم ذلك هناك شيء في
المعرفة والكيفية ينطلق من الكتابة ويمتد كخيط لايزر الى التسويق نفسه.
هذا الشيء كان مفقوداً.
المنهج الذي خطّه مصطفى العقاد لم يبدأ بقراره أن يصنع فيلماً يشاهده
الجميع، بل بدأ به وقد هضم كيف يصنع فيلما يشاهده الجميع. في العام 1974
حين باشر العمل على انجاز “الرسالة” حط في لبنان وأنشأ مكتباً، ثم انتقل
بالسيناريو الى مصر والسعودية وعيّن كتاباً عرباً وأجانب واشتغل من وجهة
نظر مدرك على العناصر المختلفة التي سيؤول اليها أمر امساك زمام الأمور في
شتى المجالات الفنية والاعلامية. المصوّر الفوتوغرافي، وهو نسبياً من أصغر
المهن، بموازاة مدير التصوير السينمائي في الأهمية. الذين أمسكوا بخيوط
الاعلام والترويج لم يكن شخصاً واحداً وبجانبه هاتف يتصل عبره بمحرري الصحف
ويدعوهم الى كتابة هذا الخبر أو ذلك التقرير. والشغل على المجاميع لم يكن
منفصلاً عن شغل المخرج نفسه على الدراما ولو أنه أسند لسينمائيين معروفين
في المجال. كل شيء كان مدروساً وكل شيء، حينما بوشر بالتصوير في المغرب ثم
في ليبيا (بعدما خشيت المغرب السماح بتصويره على أراضيها)، كان في محله مثل
مسمار يُدق في مكانه تماماً ويثبت.
الى ذلك، كان الموضوع آسراً: فيلم عن قصة الاسلام معمول لكل مشاهد على وجه
الدنيا، كما كان “آلام المسيح” (عليه السلام) مصنوعاً لكل مشاهد على وجه
الدنيا، وكما كان “بن هور” مصنوعاً لكل مشاهد على وجه الدنيا. اختلافاتنا
السرمدية نحن العرب لم تمنع الفيلم من الانتشار شرقاً وغرباً، جنوبا
وشمالاً تاركاً تأثيراً كبيراً في صعيد العقيدة ودافعاً بالبعض اما لمعرفة
دينهم أو للتعرف الى الدين لأول مرّة.
السخرية هي أن ما كان ناصعاً في الفيلم يبدو الآن مكفهراً في الحياة
السياسية بفعل هذا القدر الكبير من التطرّف والتقوقع الفكري.
من هذا الفيلم أصبح العقاد الوجه السينمائي العربي الوحيد المعروف عالمياً
في مجال الاخراج وذلك على صعيد المشاهدين عامّة وليس على صعيد المهرجانات
السينمائية. في هوليوود، كان الاسم الذي لجأت اليه الصحافة الأمريكية
تستطلع هذا الدين وتلك الرسالة وصاحبها محمد صلى الله عليه وسلم. والاسم
الذي، حين أخرج لاحقاً “عمر المختار”، أصبح الاسم العربي الوحيد اللامع في
مجال الأفلام التاريخية والملحمية. وبطبيعة الحال، هو الاسم العربي الوحيد
الذي تم تداوله عالمياً بين السينمائيين العرب. بل في حينها لم يكن هناك في
المجال العالمي نفسه سوى الممثل عمر الشريف.
الآخرون
طبعاً بعد تأسيس العقاد نفسه في هوليوود والبدء بانتاج حلقات “هالووين”
المربحة، شق الطريق ذاتها عدد آخر من المنتجين العرب (او ذوي الأصول
العربية) من بينهم ماريو قصّار وايلي سماحة وجورج شامية وجوزف مدوّر ويوسف
مرعي. بعضهم بنتائج جيّدة والبعض الآخر تنفيساً عن رغبة في العمل في
السينما من دون دراية نهائية أو خطة للرقي بنفسه فيها أو بها.
ما ميّز العقاد عن أترابه ليس انه الأول (أول عربي وطئ أرض السينما
الأمريكية كان محمد يقطين الذي سمّى نفسه فرانك لقطين ومثّل أدواراً صغيرة
من عشرينات القرن العشرين وحتى الخمسينات) بل نظرته العربية- القومية التي
التقت مع العرف الواسع لماهية القومية العربية. كان مؤمناً بها وعنيداً في
توخي الحذر حتى لا يخونها. وكل تلك الشائعات التي أطلقها البعض عن مخرج يدق
أبواب الحكام العرب مستعطفاً لأجل انجاز فيلمه المقبل، تضمحل أمام حقيقة أن
العقاد لو أراد اخراج أي فيلم كبير الحجم ليبقى في أتون العمل والمكانة
لفعل ذلك من دون انقطاع. تقريباً كل حاكم عربي أراد منه فيلماً عنه، لكن
العقاد كان دائماً ما يرد: “أنا مخرج قومي ولست محلياً. لا أستطيع اخراج
فيلم عن جزء من العالم العربي، بل عن العالم العربي ككل”.
وهو، تأكيداً، صاحب فيلم عن القائد الكبير جمال عبد الناصر مؤسس القومية
العربية الحديثة والذي قضى، رحمه الله، وهو يحارب من أجلها.
|