مصطفي العقاد أخرج الرسالة وعمر المختار وكان يحمل
الكثير من المشاريع الفنية بانتظار التمويل
المخرج العربي الوحيد في هوليوود ذهب ضحية الإرهاب
دمشق ـ من أنور بدر
لا بد أن نعترف جميعاً أن مصطفي العقاد الذي قضي نحبه في تفجيرات العاصمة
الأردنية عمان، مع ابنته ريما، كان شخصية استثنائية بكل معني الكلمة، فإذا
كنا تعرفنا علي عمر الشريف نجماً في السينما العالمية، فإن العقاد كان أول
مخرج عربي يقتحم قلعة السينما في هوليوود، وعبر فيلمين أصبحا جزءاً من
كلاسيكيات السينما العالمية هما الرسالة عام 1976، و عمر المختار عام 1980،
وهو يصر عبرهما علي تقديم هويته العربية والإسلامية والدفاع عنها في وجه
ثقافة لا تعترف بالآخر.
لكن هذا الآخر قام بدبلجة فيلم الرسالة إلي أكثر من (12 لغة عالمية)، وهو
ما زال يعرض في كبريات دور السينما ويحقق ارباحاً للشركة المنتجة، فيما لا
تزال مصر وسورية تمنع عرض هذا الفيلم، كما منعت المغرب استمرار عمليات
التصوير سابقاً.
استثنائية العقاد أنه منذ البداية اختار طريق حياته، ورسمه خطوة خطوة، رغم
أنه لم يكن سهلاً، بل اعترضه الكثير من الصعاب التي نجح في تذليلها واحدة
تلو الأخري.
ولد العقاد في مدينة حلب شمال سورية سنة 1933،ونشأ في أحد أحيائها الشعبية،
ضمن أسرة فقيرة، وحين امتلك جارهم وهو واحد من سكان الحي صالة للعرض
السينمائي أصبح يأخذ الطفل مصطفي إلي دار العرض، ليكتشف لأول مرة مفهوم
الصورة، وآلة العرض، وكيفية منتجة بعض المشاهد غير المرغوب بعرضها، ليصبح
مع الوقت مولعاً بالسينما، ثم يتابع عندما بلغت الثامنة عشرة من عمري قررت
أن أصبح مخرجاً سينمائياً، وفي هوليوود تحديداً .
يضيف العقاد أن هذه الرغبة قُوبلت بين أصدقائه وجيرانه وأهله في المنزل
باستهجان، هو الفقير يريد أن يصبح مخرجاً في هوليوود!؟
لكنه كان يعرف ما يريد ويصر علي تحقيقه، فراسل جامعة كاليفورنيا الأمريكية،
وفُوجيء قبل سواه بقبول طلبه، لكنه كان مضطراً أن يتأخر عاماً كاملاً عن
الدراسة، أمضاه في العمل كي يدخر نفقات السفر، وفي لحظة الوداع سنة 1954
قدم له والده مئتي دولار ومصحفاً صغيراً صحبه معه في رحلته إلي الطرف الآخر
من العالم.
استطاع أن يعمل ويدرس إلي أن تخرج عام 1958، لكنه قرر ان يبقي في الولايات
المتحدة ليحقق حلمه القديم، بأن يصبح مخرجاً في هوليوود، وبعد معاناة كبيرة
نجح أخيراً في إخراج فيلم الرسالة عام 1976، بنسختين عربية وإنكليزية، لعب
دور البطولة في الأولي عبد الله غيث من مصر ومني واصف من سورية، فيما لعب
دور البطولة في النسخة الإنكليزية أنطوني كوين وايرين باباس.
وهي أول محاولة لتقديم صورة عن سماحة الإسلام إلي الغرب، لكن العمل أثار
انشقاقاً لدي المتلقي العربي، فهو يسعي لمخاطبة المشاهد الغربي بلغته
وعقليته، حتي أن العديد من الفتاوي حاربته لأسباب دينية، وليس غريباً انه
ما يزال ممنوعاً من العرض في سورية ومصر، بينما مُنح مخرج هذا الفيلم وسام
الكوكب الأردني من قبل الملك الراحل حسين.
وقد شكل نجاح هذا الفيلم تجارياً وفنياً، مدخلاً للعقاد لإنجاز سلسلة أفلام
Halloween كمنتج ومنفذ بآن معاً، فأنجز ما بين عام 1978 وعام 2002 ثمانية
أجزاء، وهي من أفلام الرعب إذ يستغل الفتيان عيد البربارة لارتكاب جرائم
بشعة.
لكن العقاد ظل رغم النجاح مدركاً لرسالته الشخصية تجاه مجتمعه وأمته، فقدم
فيلم أسد الصحراء... عمر المختار أيضاً في نسختين عربية وإنكليزية أيضا.
وفيه يسلط الضوء علي شخصية هذا المقاتل العربي الذي قاد ثورة شعبية في
مواجهة الاحتلال الإيطالي لليبيا، وقد أُعدم عام 1932 وهو الشيخ الطاعن في
السن، ولم يقل نجاح هذا الفيلم عن سابقه، رغم حساسية الموضوع بالنسبة
للمتلقي الغربي.
نجاح العقاد في هوليوود ينطلق من وضوح الرؤية عنده والتي سلحها بالعلم
والخبرة، وهو يدرك أن المشاهد الغربي لا يمكن مخاطبته الإ عبر لغته وعبر
عقليته الخاصة، دون أن نستسلم لعقد النقص تجاه الآخر. لكنه يدرك الحاجة
الماسة إلي تقنية متطورة في صناعة السينما، إذا أردنا أن نخاطب هذا الغرب،
لذلك كانت تكلفة أفلامه باهظة، وهو ما أوقعه دائماً رهينة البحث عن ممولين
لمشاريعه السينمائية، ولا ينكر أن الرئيس معمر القذافي مول فيلميه الرسالة
و عمر المختار وأن صدام حسين ـ قبل الحصار ـ فكّر بتمويل مشروعه الجديد
صلاح الدين ، إلا أن الحصار فوت عليه هذه الفرصة.
ويتحدث في احد لقاءاته الصحافية أن أميراً عربياً عرض عليه تمويل هذا
الفيلم مقابل أن يعطي البطولة لإحدي صديقاته، وأن زعيماً عربياً آخر قبل
تمويل الفيلم بشرط إنجاز فيلم آخر عن بطولات هذا الزعيم. لكن العقاد لم
يساوم في هذا الأمر، كما رفض أن يساوم في أعماله السابقة مع التيارات
المتعصبة دينياً.
إلا أن المتطرفين كانوا أسرع من أحلام المثقفين فكانت التفجيرات التي طالت
ثلاث فنادق في عمان، ومنها فندق غراند حياة حيث كان العقاد يستقبل ابنته
ريما التي وصلت من بيروت لحضور حفل زفاف في العقبة يوم الأربعاء 9 /11
الحالي فتوفيت هي مباشرة ونقلت إلي مدينة طرابلس حيث عائلة زوجها زياد طارق
المنلا، ودُفنت هناك، بينما أصيب الوالد إصابات بالغة أدت الي نزف في
الرئة، لكنه توفي بسكتة قلبية في اليوم التالي للحادث، ونُقل جثمانه في
موكب رسمي إلي دمشق شارك فيه وزير الثقافة الأردني أمين محمود، حيث سجي في
مشفي الشامي بدمشق لصباح اليوم التالي، فيما توافد المئات من المواطنين
السوريين إلي ساحة الروضة وهم يحملون الشموع والورود البيضاء تحية ووفاء
لهذا المخرج العربي الذي قضي ضحية الإرهاب والتطرف الديني.
لكن الصحف السورية التي نشرت نبأ تشييع جثمان الفقيد صباح يوم الأحد 13 ـ
11 لم تشر الي ساعة التشييع، حيث فات الكثيرين فرصة المشاركة، بينما اضطر
من حضر للانتظار حتي ما بعد الحادية عشرة صباحا كي يحضر وزير الثقافة محمود
السيد للمشاركة في هذه المناسبة، وقد نقل الجثمان إلي مدينة حاب مسقط رأس
الفقيد عبر الجو، حيث صليّ عليه في مسجد الروضة ، قبل أن يواري الثري.
يذكر أن لفيفا من الفنانين السوريين حضروا إلي مشفي الشامي يتقدمهم نقيب
الفنانين السوريين أسعد فضة والممثل الكبير طلحت حمدي والمخرج باسل الخطيب،
كما حضرت الممثلة سوزان نجم الدين والممثل أيمن زيدان وسواهم من الفنانين
والمثقفين.
ذهب العقاد نتيجة التطرف الديني والإرهاب الأعمي الذي كان مدركاً لخطورته
علي المجتمع العربي والشعوب الإسلامية، فقال: أنه نتيجة أحداث 11 أيلول
(سبتمبر) 2001 في الولايات المتحدة، أصبح هناك ربط بين الإسلام والإرهاب،
ونجح الإعلام الصهيوني في وضع اليهودية والمسيحية في كفة واحدة ضد الإسلام
.
لذلك قرر العقاد أن يواجه هذا الإرهاب، ويتابع في مقابلة أخيرة معه: كنت
أركز علي الإعلام الخارجي... أردت أن أقدم تعريفاً للحضارة الإسلامية،
وتقديم صراعاتنا مع الحضارات وبعده انتشار الإسلام، لكن يظلّ الأساس هنا في
بلداننا العربية، لذا سأركز في المرحلة المقبلة علي الإعلام الداخلي .
يقول: اليوم توجد موجة تطرف خطيرة بدأت تظهر في العراق بشكل فجائي، فالتطرف
هو عين الجهل، ولا أقصد التطرف الديني فقط، فالتطرف في مفهومه العام هو
عامل إضعاف للكائن البشري .
كتبت الممثلة مني واصف التي لعبت دور هند زوجة أبي سفيان في فيلم الرسالة
تقول: رحل العقاد بأيدي من يدعون الإسلام علي الرغم من أنه كان يخدم
الإسلام، رحل قبل أن يحقق حلمه في إخراج فيلم صلاح الدين الأيوبي القائد
الإسلامي المتسامح الذي رأي فيه العقاد الرجل المناسب للعصر .
وبالمناسبة فان فيلم صلاح الدين هو أحد مشاريع العقاد التي كانت تبحث مع
سواها عن التمويل، وهو مشروع كتب له السيناريو الكاتب الأمريكي جون هيل،
إلا ان في جعبته مشاريع أخري كفيلم عن البوسنة وآخر عن شخصية القائد
الشيشاني محمد شامل وثالث عن علاقة ملك انكلترا عام 1213 بملك قرطبة.
ومن مشاريع العقاد الأخري فيلم عن صبيحة الأندلسية التي حكمت الأندلس،
ولديه سيناريو آخر كتبه أستاذ الإخراج مدكور ثابت بعنوان ثلج فوق صدور
ساخنة وما زالت القائمة تطول عند هذا المبدع الذي بلغ الثانية والسبعين من
عمره وهو يتفجر طاقة وقدرة علي العطاء، وطاقة وقدرة علي القتال في سبيل
قناعاته وأفكاره، وفي سبيل أحلامه الفنية، ومن ضمنها إشادة مدينة سينمائية
علي طريقة المدن الكبري في الولايات المتحدة، وقد انتقد الحكومات العربية
التي تخصص ميزانيات ضخمة للتسليح مع أننا لا نسمع عن إطلاق رصاصة واحدة في
وجه العدو وطالب هذه الحكومات بتخصيص 10% بالمئة من ميزانيات الدفاع
للإنتاج الإعلامي، لتغيير صورة العرب المسلمين في أوروبا والعالم. لكن تلك
الحكومات لم ولن تسمع، لذلك نراه يؤكد الآن أنّ بعض الشعوب العربية مستعمرة
في بلادها من قبل حكوماتها ولذلك لا تريد أن تبني سلاح الإعلام ولا أن تدعم
سلاح الفن والثقافة.
بل إنّ السؤال : لماذا تأخر مهرجان القاهرة السينمائي الدولي حتي دورته
الأخيرة هذا العام ليكرّم العقاد ضمن سبعة مبدعين من أصل عربي ومصري، بينما
مهرجان دمشق السينمائي الذي سيفتتح دورته الرابعة عشرة في العشرين من الشهر
الحالي لم يفكر بعد في تكريم أهم مبدعي السينما السورية؟!!
فمتي يُكرّم العقاد؟ ومتي يُرفع الحظر عن فيلم الرسالة ؟ ومتي نستعيد هذا
المبدع بفنه كما استعدناه بجثته!!!
|