"اسكندرية/ نيويورك"
ابن ضال لشاهين في أميركا حيث تهيمن "غلاظة"
ستالوني
ابراهيم العريس
في واحد من كتبه الاخيرة, "حكاية القط البري" يروي لنا عالم
الاناسة الفرنسي كلود ليفي ستراوس حكاية فرصة التلاقح والتوأمة التي اضاعها
الغرب على نفسه, حين رفض كريستوف كولومبس, يد "الهنود" الحمر التي امتدت
نحوه ما إن وطأت قدماه وأقدام رفاقه الارض الاميركية, فكان ان ذبح اولئك
الذين كانوا ينتظرون وصوله بشغف, بدلاً من ان يعانقهم. وهذا الامر تشرحه
ليفي ستراوس على الشكل الآتي: إن سكان اميركا الاصليين كانوا, تبعاً
لأساطيرهم ومعتقداتهم, يعيشون منذ اقدم الازمان في انتظار "توأمهم" الابيض
يأتي من البحار الشرقية, ليكتملوا به. وهكذا حين وصلت سفن كولومبس, مكتشفة
او غازية, اسرع السكان الاصليون وهم على أتم الاستعداد للتآخي. فما كان من
البيض, خوفاً او طمعاً او بحسب العادة, الا ان مارسوا العنف القاتل.
شيء من هذا القبيل, ولكن مع فارق اساس في التحليل وعمق
القضية المعبّر عنها, هو ما يحدث في فيلم "اسكندرية/ نيويورك", عمل يوسف
شاهين الاخير - حتى الآن, وفي انتظار بدء اتضاح مشروعه المقبل "هاملت
الاسكندراني" - مع انقلاب "جغرافي" فقط في الادوار: فعندما يكتشف يحيى,
شخصية الفيلم الرئيسة, ان له في نيويورك ابناً غير شرعي كان انجبه من دون
ان يدري, من حبيبته الاميركية جنجر, يشعر ان حياته اكتملت اخيراً, خصوصاً
ان الأم اطلقت على ابنها اسم اسكندر, وان اسكندر هذا اذ اصبح نجم باليه
معروفاً وناجحاً, حقق في هذا الفن ما كان يصبو اليه يحيى الشاب نفسه. وهكذا
اذ يمد يحيى يده الى اسكندر, ساعياً وراء ما يشبه توأمة الروح - التي
تتجاوز الاشخاص هنا في دلالاتها - يرفض اسكندر اليد الممدودة, مما يجعل
اللقاء مستحيلاً, حتى وان ترك شاهين نهايته مفتوحة بعض الشيء, وألقى اللوم
كله على نيويورك, من خلال اغنية الفيلم النهائية.
الترميز والتبسيط
يقينا ان الترميز هنا واضح كل الوضوح, وأن البعد
الايديولوجي الذي هو وليد مباشر لما حدث بعد 11 ايلول (سبتمبر) 2001 يصل
الى حد التبسيط... ولكن من دون ان يدنو الامر كله من "تصفية الحسابات" التي
اشار كثر - بمن فيهم شاهين نفسه - بصدد الحديث عن هذا الفيلم: تصفية
الحسابات بين شاهين وبين "أميركا". الافضل ان نقول ان التناحر هنا هو بين
ماضي اميركا وحاضرها, صورتها التي تكونت على مدى عقود طويلة من القرن
العشرين, في اذهاننا - ويوسف شاهين واحد منا في هذا المجال -, وبين ما آلت
اليه هذه الصورة اليوم. وفي هذا الاطار ليس ثمة اي غموض او تحايل في
الفيلم. وحسبنا ان نتذكر ان الشخصيات الاميركية الايجابية تملأ الفيلم من
اوله الى آخره, حيث يصبح اسكندر هو الشخصية السلبية الوحيدة تقريباً.
وحسبنا ان نصغي جيداً الى ما يقوله يحيى لاسكندر في المقهى حين يجتمعان قرب
نهاية الفيلم لـ"تصفية الحساب" بينهما... بل حسبنا ان نرصد حتى دموع يحيى
ودموع... اسكندر بعدما يصبح اللقاء مستحيلاً.
وإزاء هذه العلامات كلها, لا تعود مهمة, في اعتقادنا, كل
تلك التصريحات والمقالات التي تضع "اسكندرية/ نيويورك" في خانة الصراع
الحضاري والايديولوجي بيننا وبين اميركا... وربما بيننا والغرب كله.
من المؤكد ان شاهين اكثر رهافة من ان يجعل نفسه رأس حربة في
صراع من هذا النوع, حتى لو ابدى بطله يحيى, بين الحين والآخر غضباً على
اميركا وانتقد سياسييها وممارساتها "الاستعمارية" الجديدة, ثم رفض ان نكرمه
قبل ان يعود ليقبل ذلك من جديد. ثم ان الفيلم نفسه اكثر غوصاً في لعبته
الفنية وأكثر جمالاً من ان يكون مجرد منشور سياسي "على الموضة" كما رآه
كثر... حتى خلال عرضه في الدورة الاخيرة لمهرجان "كان". بل في يقيننا اننا
اذا نحينا بعض "الخطابات" السياسية العرضية, وغضضنا الطرف بعض الشيء عن
دلالة استحالة اللقاء بين يحيى واسكندر - بسبب عناد هذا الاخير وربما وقوعه
تحت عنصر المفاجأة -, نصبح امام عمل فني جميل, فيه اكثر من تحية لهوليوود,
وأكثر من حنين الى ايامها الطيبة" فيه عتب على أميركا التي تخون اميركا قبل
ان تخون اي امر آخر...
في هذا الاطار يمكننا ايضاً ان نقول ان قلة من افلام
السينما, عرفت كيف توجه مثل هذه التحية الطيبة الى السينما الاميركية, بل
الى الانسان الاميركي, وتفتح الباب واسعاً امام التفاهم والتسامح (ولنستعرض
هنا الشخصيات الاميركية من خطيبة اسكندر, الى استاذه الى بولي, الى
الموزعين الاميركيين لأفلام شاهين... من دون التوقف عند جنجر باعتبارها
حالاً خاصة).
جواب لسؤال قديم
في هذا الاطار يبدو واضحاً ان "اسكندرية/ نيويورك" اكثر من
كونه فيلماً يتعاطى مع ما آلت اليه العلاقة مع اميركا, بعد "11 ايلول"
وبسببه, هو فيلم يجيب عن سؤال قديم, خامر دائماً اذهان محبي سينما يوسف
شاهين ومتابعي سيرته: ما الذي حدث لذلك الفتى (يحيى شكري) بعد المشهد الاجد
في فيلم "اسكندرية ليه؟" (1978). ففي ذلك الفيلم الذي كان الاول في سلسلة
افلام كرسها شاهين بكل وضوح لسيرته الذاتية, فكان فتح جديد في السينما
العربية, تنتهي الاحداث بالفتى يحيى وقد تمكن اخيراً من تحقيق حلمه بالوصول
الى اميركا ليتعلم السينما في مكانها الطبيعي: كاليفورنيا. وهو في اللقطة
الاخيرة يجد نفسه, على ظهر السفينة, في مواجهة تمثال الحرية, فيبتسم في وجه
التمثال, لكن هذا يغمز له بعين قبيحة وشريرة.
لماذا كل تلك الغمزة الاستقبالية؟
كان من الصعب على المرء أن يخمن في ذلك الحين, إلا إذا كان
من الذين تسرهم تلك الإشارات, بسبب عداء جذري كامن تجاه كل ما هو أميركي.
اليوم, على أية حال, في "اسكندرية ليه" تجد تلك الغمزة تفسيرها, ولكن في
موقف اسكندر وحده (حتى وان كان شاهين زرع في فيلمه علامات متفرقة حول
ممانعة البعض من الأميركيين تجاه الآخر: حارسة الاستوديوات, مساعد المصور
الذي يرفض اطلاع يحيى على كيفية عمل الكاميرا, بل يطلب طرده... ولكن ألا
يحدث مثل هذه الأمور في أي مكان من العالم؟).
غير ان اسكندر, في حقيقة الأمر, ليس شريراً, بل هو - فكرياً
- نتاج وضع يتفاقم وتكمن جذوره في النظرة الى العرب التي لربما كان العرب
أنفسهم هم المسؤولون عنها على أية حال. كما علينا أن نلحظ أنها نظرة غير
معممة, وربما كان من شأنها ألا تصل الى اسكندر, الفنان الراقص المرهف, لولا
اكتشافه ان أباه... عربي, هو الذي من دون هذه القرابة "الصادمة" ما كان
لديه, أصلاً, شيء ضد العرب.
إذاً, عدا عن هذا البعد, وعلى رغم موقعه الأساس في الفيلم,
لدينا هنا في هذا العمل الذي يمكن اعتباره من أجمل وأبسط ما حقق شاهين خلال
السنوات الأخيرة, حكاية حب جميلة, ومجموعة من العلاقات وتاريخ طويل يصل الى
نحو نصف قرن, يرويه لنا شاهين بلغته السينمائية المحكمة, وفي نوع من الرحلة
المكوكية بين الحاضر والماضي, تتوزع على ما ترويه الشخصيات وعلى ما يريد
شاهين اخبارنا به.
"سقوط" غير مبرر
فنحن في البداية لدينا يحيى شكري (ي. من يوسف, وش. من شاهين
بالطبع), (ويلعب دوره في اجادة تامة محمود حميدة الذي خيل الينا في معظم
لحظاته, شكلاً ومضموناً وتصرفات انه شاهين حقاً), وهو الآن, في أواسط
الخمسينات من القرن الماضي مخرج مبدع ذو سمعة عالمية لكنه لا يزال راغباً
في غزو أميركا... غير ان هذه تبدو عصية عليه, وحين تلين, يعاند هو ضدها
انطلاقاً من مواقف سياسية. وهكذا نجدنا في قلب لعبة نبذ وجذب بين يحيى
وحلمه الأميركي. وهذه اللعبة تصل الى خاتمتها في التسعينات, حين يقيم
"لنكولن سنتر" تكريماً ليحيى, وقد أضحى نجماً من نجوم الاخراج في السينما
العالمية. وعند تلك النقطة, وقد أضحى يحيى في السبعين من عمره, يكتشف وجود
ذلك الابن الذي أنجبه من دون أن يدري يوم عاد والتقى حبيبته جنجر في
السبعينات, وكان هو في حينه أضحى ذلك المخرج المعروف, أما هي فصارت... فتاة
هوى لا أكثر. طبعاً ليس ثمة, في سياق الفيلم, ما يبرر هذا "السقوط" الذي
كان من نصيب جنجر (وتلعب دورها هنا يسرا), بعدما كانت وهي شابة (لعبت دورها
ببراءة واتقان كبيرين يسرا أخرى في العشرينات من عمرها) تعد بالكثير... كما
أن ليس ثمة ما يشرح كيف أن فتاة الهوى تلك تمكنت من تربية ابنها اسكندر
وايصاله الى النجومية القصوى في عالم الرقص. المهم هنا هو أن هذا يحدث في
الفيلم وعلينا تقبله, حتى وان كان من حقنا في الوقت نفسه أن نرفض تطويلات
واسهابات في الفيلم أتت في كل مرة لتقطع ايقاعه (الرقصة المتخيلة أمام
بائعة الهامبرغر, حوارات أستاذ اسكندر التي لا تنتهي حول التسامح بين أمور
أخرى)... ذلك أن هذا البعد في الفيلم (سقوط جنجر) انما يمكن أخذه كتحية
لنمط ميلودرامي من السينما مثله, خصوصاً فرانك بورزاغي ودوغلاس سيرك, كان
سائداً ومحبباً أيام دراسة يحيى في كاليفورنيا. ولا يبدو لنا ان هذه التحية
مفتعلة في شكل زائد عن الحد, ان نحن نظرنا الى "اسكندرية/ نيويورك" كله على
اعتبار انه - أيضاً - فيلم/ تحية لفن السينما نفسه. اذ ان كل المرجعيات في
الفيلم سينمائية, وكل الأحداث سينمائية: ماذا هل كان لنا أن نتوقع شيئاً
آخر من فيلم لشاهين يريد أن يروي خمسين عاماً من حياة شاهين؟
تحية الى السينما
ولأن الفيلم هو, في نهاية الامر, تحية حارة الى ذلك الفن
الذي يمكنه ايضاً ان يكون مبرر حياة بأكملها, يمكن طبعاً من يحب السينما
ويحب السينما شاملة (التي تجمع الانواع كلها في بوتقة: الميلودرامي,
النضالي, الكوميدي - الموسيقي, سينما المؤلف وسينما الوعظ الاخلاقي ايضاً,
ناهيك بسينما السيرة الذاتية التي هي عماد الفيلم الاول والاخير) يمكنه ان
يجد ما يرضيه, وكأن شاهين اراد من هذا الفيلم, الذي زرعه بمشاهد واحالات
الى الكثير من افلامه - وكأنها هنا من اخراج يحيى شكري -, وكأنه اراد ان
يرسم صورة لتاريخ السينما من خلال صورة تاريخه الشخصي, انطلاقاً من ان
تاريخه الشخصي يبدو لنا قادراً على المزاوجة بين هاملت وكارمن, بين "اسكندرية
ليه؟" و"باب الحديد", وبين الخطاب السياسي والوعظ الاخلاقي (حول التسامح
الذي يعرفه جيداً ابن بار للاسكندرية لا يفوته ان يلتقي خلال زيارته
النيويوركية, وهو المسيحي, بزميلين في الدراسة له, احدهما مسلم والآخر
يهودي... وها هي نيويورك تجمعهم معاً الآن... لماذا؟ هل لأن اسكندرية اليوم
باتت عاجزة عن هذا؟ خائنة هي الاخرى لتاريخها؟), بين الفن والسقوط, بين
الغضب والعتب, هو الذي اشد ما يؤلمه انه هو "يحيى" المولع بفريد آستير
والسلالم البيض والتسامح المتجذر فيه, وريتا هايوارث والفنون الكبيرة, يجد
نفسه اليوم اباً لابن ينتمي الى افلام العنف و"غلاظة" سلفستر ستالوني... اي
الى اميركا اليوم.
وهذا كله, في "خلطة" شاهينية مدهشة, يزينها الرقص
والموسيقى, ويزحمها سيل من العبارات / الكليشيهات, في الوقت نفسه, تتراكم
فيها ادارة رائعة للممثلين, ولا سيما ابناء الجيل الاصغر (يحيى الصغير ثم
اسكندر وقام بالدورين احمد يحيى وكذلك يسرا اللوزي - حنجر الصغيرة -), من
دون ان ننسى تفوق لبلبة على نفسها (كما هو دأبها خلال السنوات الاخيرة) على
رغم صغر دورها, اذ تلعب دور جين زوجة يحيى في ايامنا هذه. ومن دون ان ننسى
ايضاً ماجدة الخطيب (استاذة يحيى في معهد السينما, التي بدت طالعة حقاً من
اوساط المثقفين النيويوركـيين ذوي القلوب الكبيرة والصرامة الابداعية).
"خلطة" شاهين هنا انستنا على اي حال ما كنا أخذناه على
"الآخر", كما انها "حسّنت" في الوقت نفسه, لدينا صورة "سكوت حنصوّر" الذي
ينتمي بدوره الى عالم السينما عن السينما, حتى وإن كان في وسع "اسكندرية /
نيويورك" أن يقول لنا وربما لشاهين ايضاً, ما كان على الفيلمين السابقين ان
يقولاه... ما يعني ان شاهين تجاوز في فيلمه الجديد, الدروب التي كان رآها
مسدودة في وجهه في الفيلمين السابقين, ليربط سينماه من جديد, بالثلاثية
الذاتية, التي كان بدأها مع "اسكندرية ليه؟" ليستكملها مع "حدوتة مصرية" ثم
"اسكندرية كمان وكمان"... حيث اصبحت الثلاثية رباعية... واليوم بات علينا
ان ننتظر عمل شاهين المقبل "هاملت الاسكندراني" لنرى اذا كان ثمة امور, حول
تاريخه وذاته, لم يقلْها لنا في الأفلام الاربعة التي تبقى, على رغم
تطويلاتها وهناتها, من اجمل ما قدمته السينما في مجال "السيرة الذاتية" الى
جانب أعمال فيلليني... وغيره وصولاً الى بوب فوسّي.
|
أظهر حنيناً
إلى أمريكا
في "اسكندرية
نيويورك"
يوسف شاهين:
طيبة العرب
لا تنفي
تخلفهم
بيروت - "الخليج": بالرغم من تخطيه سن التقاعد وتناوله 17 نوعاً من الدواء
وطبيب خاص يرافقه دائماً، يصر المخرج المبدع يوسف شاهين على العمل كما شاب
في العشرين من عمره ليبدع أعمالاً جديدة.“الخليج” التقته في مقر اقامته في
بيروت وقد جاءها لافتتاح فيلمه الأخير “اسكندرية نيويورك” فبدا على عادته
حزيناً وناقماً على كل الواقع السائد.
·
أظهرت حنيناً لأمريكا في فيلمك
“اسكندرية نيويورك” لماذا لم تسع للعمل في هوليوود مثلاً؟
لأنني لا أعمل بحرية فيها، الكل فوق رؤوسنا بدءاً من شركات الانتاج الى
السياسات العدائية ضد العرب، وفي المحصلة لا أعمل إلا وفق مزاجي وبامتلاك
كامل حريتي.
·
هذا يعني اعترافك بأجواء الحرية
في الوطن العربي؟
وحدها الأجواء لا تكفي لا بد من انتزاع الحرية بالقوة حيناً بالحيلة او بأي
وسيلة أخرى في أحيان أخرى.
·
ولكنها أفضل من حرية أمريكا؟
أفضل من حرية بعض الأنظمة او بعض المؤسسات مثل السينما حيث تضيع رؤية
المخرج او الكاتب مثلاً.
·
بعد تجربة طويلة في الحياة، ما
حصيلة تجربتك الانسانية والعملية؟
حياتي الشخصية، ارتبطت تماماً بحياتي العملية، لذلك لم تكن سيرتي الذاتية
سهلة، خصوصاً في مواجهة أقرب الناس بصراحة، فهل يمكن ان أسيء الى والدتي
مثلاً، وكذا الأمر على زوجتي وأختي وحتى على نفسي.
·
وكيف تجيب عن هذا السؤال؟
أنا “طاحونة بلاوي”.
·
أعلنت عنها صراحة؟
أنا حكيت كثير.
·
ولا يزال لديك الكثير من
الأسرار؟
بدون شك.
·
ألا تواجه نفسك بها؟
صعبة قوي.
·
ذكرت بأن الفتاة الجميلة هي التي
تلفت انتباهك بغض النظر عن انتمائها او طائفتها، فماذا عن باقي المعايير؟
ان تكون ذكية، غير متخلفة وقارئة بالحد الأدنى، وهنا لا أضع اللوم على
الفتيات، بل على التربية الخاطئة ككل.
·
هل تعرف الخوف؟
لا أخاف إلا الله.
·
ولكنك اعترفت بأنك تخشى السجن؟
قلت بأنني لا أحب ان أدخل السجن، ولكن اذا حصل سأشتم من داخل جدرانه من
سجنني وسأكتب أيضاً من هناك السيناريوهات التي أريدها.
·
لأنك لا تحب ان تدخل السجن تسعى
لتغليف بعض الحقائق؟
أنا لا أغلق الحقائق، بل أسعى للكشف عنها بطرق دبلوماسية.
·
مع انك عدو الدبلوماسية؟
ممكن.
·
من داخل السجن لن تستطيع شيئاً؟
ومن قال اني سأكون وحدي؟ لا يمكن ان أعمل وحدي، وسيكون معي كثيرون.
·
تعتقد بأنك ستجد أوفياء لك؟
أكيد.. أولهم أبنائي خالد يوسف ويسري نصرالله وأحبابنا كثر والحمد لله.
·
كرمت في مصر أكثر من مرة؟
صحيح وأعطوني أكبر الجوائز، جائزة عبدالناصر التي عرضت علي مرة ثانية،
بالإضافة الى حميمية الناس معي إذ لا يمكنني ان أمشي في الشارع ورأسي في
الأرض.
·
ألم يجذبك العمل السياسي؟
عرضوا علي يوماً منصب وزير فقلت لهم لا.
·
لماذا؟
لأنني أفضل ان أبقى في موقعي لأني أعرف قدراتي وحجمي وموقعي تماماً، وأعرف
أين يمكن ان أؤثر أكثر، فاللغة التي أعرفها بشكل جيد والتي يمكن محاسبتي
عليها هي السينما، لماذا اذهب لمركز ينحصر فيه عملي بترقية هذا او ذاك، او
لأفقع تصريحاً تلو الآخر وكفى.
·
وصلت في فيلم “اسكندرية
نيويورك” الى مرحلة من التشاؤم قد تنعكس على جمهورك؟
أنا متفائل دوماً رغم كل السلبيات والتشاؤم الذي يسود العالم وأشعر دائماً
بأن المستقبل أفضل.
·
في فيلمك الأخير لم تترك فرصة
لبارقة أمل؟
عندما أغضب يكون غضبي عميقاً.. أنا الذي أحب الحرية لنفسي، فلا بد وان
أحبها للآخرين.
·
في فيلم “اسكندرية نيويورك”
تعلن غضبك ونقمتك على أمريكا وأنت أصلاً ناقم على العرب، فمع من أنت؟
لست مع أحد، انا مع الحرية والحقيقة، التي أظهرها الفيلم بنسبة 80%، لأني
صورت أمريكا كما هي اليوم، او بالأحرى لما وصلت إليه اليوم وهي التي لم تكن
بهذا السوء من قبل، ولكن لا يمكن ان ننكر عليهم التطور الفني الذي وصلوا
إليه. لا أنكر بأني أحببت أمريكا في إحدى الفترات. وكذلك الأمر في إعلان
مواقفي من العرب، وخصوصاً من السياسات العربية، لا أنكر على العرب طيبتهم
وكرمهم، ولكن لا يمكن ان نخفي تخلفهم، وبالتالي لا يمكن لنا ان ننكر واقعاً
نعيشه.
·
لماذا تعرض مقتطفات من حياتك في
أفلام مبعثرة؟
لأن جمعها في فيلم واحد يمكنه ان يجعل مدة عرضه ست ساعات ومن ثم فإن الأمور
جاءت بالصدفة، فأنا قدمت فيلم “اسكندرية ليه” في وقت كنا نتهم فيه بعدم
التسامح مع الآخرين، وحاولت ان أظهر فيه العكس من خلال الاسكندرية الحلوة،
بتاع زمان.. في ذلك الوقت وبعد أول عملية قلب كنت اتخذت قراراً بقول
الحقيقة، وعندما انتهيت منه شعرت بأني لم أقل الحقيقة كاملة، فصورت بعدها
فترة انتمائي للناصرية.
·
لذلك أنت في موقع المعارضة
اليوم؟
أبداً.. بالعكس أنا جسدت الحقائق.
·
لماذا تمزج الواقع بالخيال في كل
أعمالك؟
لأننا نعيش الخيال أصلاً في الواقع.
·
ولماذا اخترت محمود حميدة ويسرا
لبطولة “اسكندرية نيويورك”، علماً بأنك قادر على اكتشاف وجوه جديدة كل
يوم؟
عندما أجد من يمكنه التعاطي معي بشكل اوتوماتيكي، وأتواصل معهم بشكل أسرع،
لأنهم اعتادوا ان يقرأوا في عيني ما أريد، أفضل ان يعيشوا لحظات العمل معي.
·
تحب التعامل مع ممثلين يجسدون الشخصيات كما تراها أنت، فهل جسد أحمد يحيى
الشخصية في فيلم “اسكندرية نيويورك” كما تراها أنت؟
بل أفضل. الولد ده هايل.. وفضلاً عن شكله الجميل، يتمتع بلياقة ومتواضع
جداً، وبصراحة ندمت على عدم اصطحابه الى بيروت لافتتاح الفيلم.
·
ذكرت بأنك تبنيته، فهل جاء هذا
التبني على الصعيد العملي ام الانساني؟
الاثنان معاً.
·
رغم عصبيتك الحادة جداً، لكن
الجميع يحب التعامل معك، ما سر ذلك؟
عندما أعمل أصر ان تسود أجواء الحب والانتماء بين كل أعضاء فريق العمل من
كبيرهم الى صغيرهم، ومن ثم فإن عصبيتي لا تخرج إلا عندما تصطدم بحائط
الغباء، ولكنها تختفي في حالات الإبداع.
|
د. رفيق الصبان
يكتب عن «إسكندرية ـ نيويورك» (1/2)
فاكهة الجنة
التي يقدمها شاهين لمشاهدي فيلمه الجديد
الكلام عن فيلم لـ«يوسف شاهين» كلام يمتد إلي ما لا نهاية.. فأفلامه تحمل
دائما عناقيد مثمرة ولآلئ خفية وبقع ضياء.. يحار المرء فيها.. وتغرقه دائما
بمياهها الدافئة.. التي تشطح بالمتفرج أحيانا إلي شواطئ من الرمال
اللامتناهية.. والتي تلمس السماء في امتدادها.
والكلام عن فيلمه الأخير «إسكندرية ـ نيويورك» يضع المرء.. أمام دروب
متقاطعة خفية تشيد سراديب التيه.. فالفيلم يجمع بين الواقعية العاطفية
المؤثرة.. وبين الخيال الجامح المتمرد.
يجمع بين الحلم والحقيقة.. بين ما هو كائن.. وما كان المؤلف يتمناه أن
يكون.. وهو في الوقت نفسه يرسم خلفيات سياسية واجتماعية معاصرة أحيانا..
وتعود بنا إلي أيام الأربعينيات أحيانا أخري.. بكل ما تحمل هذه الفترة أو
تلك من متناقضات وأحلام ورؤي.
الفيلم يضع من يراه.. أمام مسالك متعددة.. ولكنها تعود كلما ابتعدت أو
اقتربت إلي عالم شاهين الخاص.. المصنوع من ماء ونار من بحر وبركان.. والذي
يتميز أول ما يتميز بقدرة شاهين الخاصة والمتفردة.. علي خلق نجوم جدد.. أو
إعطاء هالات جديدة غير متوقعة لنجوم قدامي.
شاهين في «باب الحديد» قدم شاهين ممثلا فذا له أسلوبه الخاص بالأداء
الداخلي المعقد، وفي «صراع في الوادي» قدم عمر الشريف.. عاشقا ورومانسيا
وفارسا.. مما أصبح سمة تقليدية له.. فيما أتي بعد ذلك من أفلام، وفي «فجر
جديد».. قدم لنا سناء جميل بهالة من الأنوثة والتمرد والحنين كانت جديدة
عليها تماما ووضع أمامها شابا ينقط رجولة وحسية واندفاعا «سيف الدين
عبدالرحمن» وفي «اليوم السادس» قدم لنا داليدا كما لم نعرفها وكما لن
نعرفها بعد ذلك أبدا.. في إطار خاص وحساسية خاصة وأداء متميز مختلف عن كل
ما أدته أو غنته أو مثلته هذه المغنية العاثرة الحظ.. ذات الوجود الساحر.
وفي «إسكندرية ليه»..أشرق علينا بنجم مدهش.. ينقط إحساسا وحساسية.. نجم من
النادر أن عرفت السينما المصرية شابا يافعا مثله.. تتجمع فيه الحسية مع
الحلم.. والرهافة مع التأمل، هو محسن محيي الدين الذي تابع طريقه مع
أستاذه.. مستمدا منه الرحيق كما تستمد الفراشة رحيقها من زهرة الزنبق
البيضاء الشامخة.
وفي «سكوت حنصور».. قدم لنا لطيفة بطريقة وأسلوب جديدين عليها كل الجدة..
كما قدم عمرو عبدالجليل بنظرته الحادة والغموض الخاص الذي أحاط بشخصيته
خصوصا عندما جعله يلعب دور هاملت بحري يعيش في بحر إسكندرية.. وأخيرا هاني
سلامة ببراءة وجهه والحسية الخاصة التي تنبع من عينيه وملامحه.
تماما كما استطاع أن يستخرج من أحمد محرز ما عجز جميع المخرجين الآخرين عن
رؤيته واستغلاله.. واستطاع بنظرته الثاقبة أن يتنبأ بالمسيرة الحلوة التي
سيخطوها هشام سليم.. وأن ينجح في فتح آفاق مدهشة لماجدة الرومي.. لم تحاول
المطربة الكبيرة بعد ذلك استغلالها كما كان مفروضا بها.
وها هو شاهين الذي لا يعرف التردد أو الملل طريقا له في مساره الفني
المتلألئ.. يقدم لنا بفيلمه الجديد.. وجها جديدا آخر.. ربما كان من أهم
الوجوه الشابة التي يمكن أن تشق طريقها في السينما المصرية الجديدة.. والتي
استطاع شاهين منذ ظهورها الأول بفيلمه الجديد.. أن يرسم لها أفقا عاليا
أصبح من العسير عليها أن تتراجع عنه.
أحمد يحيي في «إسكندرية ـ نيويورك» طائر أبيض يملك أجنحة شفافة يحلق بها من
خلال دورين يصلان إلي حد التناقض (.. وهنا أذكر ما فعله شاهين مع عزت
العلايلي في «الاختيار») في الجزء الذي يمس الماضي.. يبدو أحمد يحيي
شفافا.. رقيقا.. مدهشا في دهشته أمام عالم جديد يكتشفه وأمام دنيا أرسلت
أوشحتها حوله فأخرجته من براءة اعتاد عليها.. إلي زخم مدينة.. تترنح فيها
الستائر.. وتخترق النظرات الأعماق.. وتذوب الأيدي في باليه وحشي لا تمكن
السيطرة عليه.
وفي الجزء الذي يمس الحاضر.. تنقلب البراءة إلي ثورة وتمرد.. ويحل محل
الشاعرية الساذجة تعصب أعمي.. يعصف بالقلب والمشاعر.
الوجه لم يتغير.. مازالت تسيطر عليه معالم حلوة تدخل إلي القلب مباشرة،
ولكن النظرة تغيرت.. الحركة تغيرت.. الانفعال ورد الفعل تغيرا.. وأكاد أقول
من النقيض إلي النقيض.
لم يقدم يوسف شاهين في «إسكندرية ـ نيويورك» ممثلا واحدا جديدا.. مدهشا..
بل ممثلين اثنين ذوي ملامح واحدة.. ولكن من خلال تعبيرات مختلفة تصل إلي حد
التناقض.. وحركة تتوازن في القسم الأول.. وتنطلق بحرية هائجة في القسم
الثاني.
هذا الدوران الناري المستمر.. أصاب الفنانة الشابة يسرا اللوزي التي تقف
أمامه بالدوار.
فبدت أحيانا.. وكأنها نسيت نفسها وأصبحت عينا ترقب بشغف ولهفة وكثير من
الحب.. ما يفعله «يحيي» بها كما قلت في بداية حديثي.. «إسكندرية ـ نيويورك»
صرح فيلمي يثير الكثير من التساؤلات، ويضع أكثر من شارة استفهام حول أكثر
من موقف.. تاركا المتفرج يدخل إلي سراديبه وممراته دون أن يعرف أين يضع
قدمه وكيف يضعها.
ولكن التوقف أمام أداء الممثلين في هذا الفيلم العجيب الذي يدور بك كما
تدور عربات مدينة الملاهي.. بطيئة في البداية.. مجنونة سريعة في ختامها..
بحيث لا تجعلك تلتقط أنفاسك ولا تترك لك حيزا تفكر فيه.. وإنما ترتمي
مرتعشا من الدهشة وكأنك عبرت دنيا سحرية بكل ما فيها من أطياف.. ثم استفقت
لتجد نفسك راقدا علي العشب ناسيا نفسك تنظر إلي النجوم التي تحيط بك.. دون
أن تترك لك فرصة لالتقاط أنفاسك.
إلي جانب أحمد يحيي هذه المفاجأة الحلوة المذهلة.. فاكهة الجنة التي يقدمها
لنا شاهين تقف مجموعة أخري مخضرمة واعية من الممثلين.
محمود حميدة.. في دور دقيق وصعب «شاهين الكهل».. حميدة الذي يلعب هذا الدور
بعد أن أداه بشكل رائع نور الشريف.. كان عليه أن يدخل تحديين كبيرين أن
يكون «شاهين» وهذا بحد ذاته أمرا صعبا وأن يسلك طريقا وأسلوبا مختلفا تماما
عن الطريق والأسلوب الذي اتبعه نور الشريف وهو أمر أكثر صعوبة أيضا.
والمدهش أن حميدة نجح في كلا التحديين وقدم صورة من الداخل لـ«يوسف شاهين»
أمسك بروحه.. دون أن يتخلي عن مظاهر جسدية صغيرة.. أصبحت ملمحا تقليديا من
ملامح مخرجنا الشهير. حميدة في هذا الدور كان فنانا يرسم شخصيته بأصابع من
ذهب وبألوان خاصة به.. تجعلنا نحس بـ«شاهين».. من خلال وجود مدهش
لـ«حميدة».. ولعمري هذا تحد.. لا يقدر عليه إلا كبار الفنانين.
يسرا.. في دور الحبيبة.. أعطت رقتها وعذوبتها.. لشخصية تعاني من عذابات
نفسها، بينما نجحت لبلبة في دور جديد عليها تماما.. بأن تكون مقنعة،
عاطفية، وترا حساسا متألما لوحده.. ويشكو عزلة نفسية وعاطفية.. يعرف دائما
كيف يسيطر عليها ويمنعها بقوة من أن تغلبه.
دور جديد يخيل لمن يراه.. أن لبلبة قد غيرت جلدها كله لتظهر لنا.. امرأة
أخري لم نعتد علي رؤيتها بهذه الطريقة.. حساسة.. مبتكرة، عاطفية إلي درجة
التمزق، وتائهة في بحر عميق رمت بنفسها في أمواجه.. ولم تعد تعرف كيف تنجو
من تياراته المتقلبة.
هالة صدقي في دور صغير جعلته كبيرا بموهبتها وحساسيتها.
هذا الثلاثي المدهش حميدة ويسرا ولبلبة.. يفتح أذرعته كلها.. ليدفع بالعنصر
الرابع أحمد يحيي إلي الوسط لكي يكون المحور والمحرك.. وصمام الأمان في
الفيلم كله.
وهنا تأتي عبقرية يوسف شاهين.. في خلق التوازن والانسجام بين هذه الأدوات
الموسيقية الرفيعة.. بحيث لا يجعل إحداها تطغي علي الأخري وإنما يدفع كلا
منها إلي تكملة هذا الآخر.
من هذا المنطق.. يعتبر «إسكندرية ـ نيويورك» في نظري محطة مهمة لكل من يرغب
في دخول دنيا التمثيل المعقدة يتعلم فن كيف يتحرك.. وكيف ينظر.. وكيف
يتكلم.. وكيف ينقلب من شخصية حية لها اسمها وحياتها.. إلي دور خاص.. يرسم
له ظلالا يمكنه بعد ذلك أن ينفصل عنه.
كما قلت في البداية في «إسكندرية ـ نيويورك».. أكثر من نقطة يمكن التوقف
عندها.. الخيال والواقع في السيرة الذاتية.. الرموز السياسية من خلال قصة
عاطفية تتجه في بعض أجزائها إلي الميلودراما.. النظرة الشفافة إلي مدينة
وحش.. تقاومها ذكري مدينة عابقة بعطر الياسمين.. متلألئة بقطرات الندي.
وأشياء كثيرة كثيرة.. يدفعنا هذا الفيلم الكبير إلي تأملها.. ولكنني اخترت
أن أتوقف.. أمام ظاهرة شاهين والممثل.
وهي ظاهرة لا أظن أن أحدا من مخرجي مصر تفرد بها بالطريقة والأسلوب الذي
تفرد به يوسف شاهين.. وبأسلوبه في تقديمها.
لذلك آثرت أن أقف فقط علي هذا الجانب المضيء كالشعاع من فيلم «إسكندرية ـ
نيويورك».. تاركا لظروف أخري ومواقع أخري وتلمس أحجار هذا الصرح الغالي
الذي يقدمه لنا يوسف شاهين.
وللحديث بقية.
|