اكتشف أنه أعطى
آراء فحسب ولم يقل الحقيقة عن حياته
يوسف شاهين:
سأحارب أميركا بالحبّ.. أقول لها أنظري كيف كنتٍ
نديم جرجوره
يتميّز الفيلم الروائي الطويل الأخير للمخرج المصري يوسف شاهين
<<إسكندرية.. نيويورك>>، بحسّ إنساني رفيع المستوى، وبلحظات مفعمة بالحنين
والمغفرة والانجذاب إلى مزيد من الوعي والمعرفة، بلغة سينمائية بسيطة
شابتها وتيرة عالية من الخطابية المباشرة، في المشاهد الخاصة بالأحداث
الآنيّة، أي بعلاقة يوسف شاهين نفسه بأصدقائه وبالناس المحيطين به، وبعضهم
يسعى إلى الاحتفال به في البلد الذي أنكره طوال أربعين عاما، مع أنه فتح له
أبوابه الجامعية كي يدرس السينما في أرقى معاهدها (باسادينا، كاليفورنيا).
أما المشاهد الأخرى، التي قدّمت زمنا مضى عن مراهقين وحبّ وأجساد مفعمة
بالحيوية والرغبات والمشاعر، وعقول متعطّشة للعلم وساعية إليه بقوّة وشغف،
وعن لحظات مسكونة بالجماليات والمسرح والرقص والعلاقات، هذه المشاهد مشغولة
بحرفية لافتة للنظر، على مستوى الأداء التمثيلي العفوي والمبسّط لممثلين
شباب (أحمد يحيى، يسرا اللوزي، نيلّي كريم، يسرا سليم)، وعلى مستوى الحوار
واللغة البصرية الجميلة التي استعادت أياما لا تزال أحداثها مطبوعة في عقل
شاهين وروحه وسلوكه وتكوينه الإنساني والمعرفيّ، والتي مارست سطوة التأثير
على مُشاهدين مسحورين بعبق التسامح والتواصل وإعلان الغضب والتمزّق بين
شعورين اختبرهما شاهين وأراد إشراك الآخرين بهما: حبّ لأميركا القديمة التي
منحته أجمل أيام العمر وأحلى العلم والسينما والمعرفة والوعي، وكره
لسياستها التدميرية التي ألهبت العالم بنيران الحقد والقتل والغضب والخراب.
ذهب يحيى/يوسف شاهين (محمود حميدة) إلى نيويورك تلبية لدعوة مركزها
السينمائي، للاحتفال به وبأفلامه، ترافقه زوجته جان (لبلبة). يستعيد ماضيه،
إثر لقائه جينجر (يسرا)، ويكتشف أن له ابنا منها بلغ الخامسة والعشرين من
عمره اسمه إسكندر (أحمد يحيى)، فيسعى إلى التعرّف عليه، وإقامة جسور المحبة
والأبوة والتواصل. لكن إسكندر يرفض أبا هبط من السماء فجأة، والأنكى من ذلك
<<عربي>>. محاولة سينمائية لتقديم صورة عن التناقض الفظيع بين أميركا
الأربعينيات وأميركا مطلع القرن الواحد والعشرين.
في كل لقاء به، أشعر أن الرجل الأشيب لا يزال قابعا في طفولة لا مثيل لها،
وحاضرا في حماس شبابي لا يوصف. أراه مقبلا على الحياة كي يغرف منها
التفاصيل والعناوين والتحوّلات. أجده أنيقا في غضبه وثورته وتمرّده، ومليئا
بهذا القلق المصنوع من التزامه هموم الناس والمجتمع. هكذا كان حين التقيته
في منزله في القاهرة، قبل أشهر قليلة، لمشاهدة <<نسخة عمل>> من فيلمه
الأخير هذا <<إسكندرية.. نيويورك>>، الذي عُرض في الدورة الأخيرة (أيار
الفائت) لمهرجان <<كان>> (خارج المسابقة)، وفي افتتاح الدورة السابعة
ل<<بينالي السينما العربية في باريس>> (حزيران/تموز 2004، والذي تبدأ عروضه
اللبنانية في التاسع عشر من آب الجاري. وفي مكتبه الواقع بالقرب من <<وسط
البلد>>، التقيته في هذا الحوار حول الفيلم وتداعياته.
·
يحار المرء إثر مشاهدته <<إسكندرية.. نيويورك>> إزاء حقيقة مشاعرك الخاصة
بأميركا. فهل لا يزال حبّك لها قويا إلى هذه الدرجة، مع أنك لا تخفي غضبك
منها؟
- هناك شعور متناقض في ذاتي إزاء الولايات المتحدّة الأميركية. أولا، شعور
بالانتماء إلى أميركا، وهو مؤكّد لا لبس فيه. لكن، وكما قلتُ في الفيلم،
أنكروني فيها طوال أربعين عاما، أحيوا بعدها سلسلة أسابيع سينمائية
للاحتفال بي، وبدأت جامعاتهم تهتمّ بي قليلا. التواصل الذي تمنّيته منذ
صغري ناتج من إحساسي بأن هذا البلد مهم، ويجب أن يبقى التواصل قائما معه،
من خلال مهنتي كسينمائي. شعرتُ دائما أن أميركا مُهمّة جدا. دختُ وتعبتُ.
زرتُها أكثر من عشرين مرّة. لم أكن أفهم ما هي هذه الرأسمالية الخاصة بهم،
إذ لا توجد منافسة بأي شكل من الأشكال، وهناك إنكار لأي شيء لا تصنعه
هوليوود. استعملوا الأعذار كلّها. رفضتُ وضع ترجمة لحوارات أفلامي، لأن هذا
يعني تغييب التواصل مع الجمهور الأميركي. تنازلتُ عن السوق وقلتُ <<لن
أبيع>>. لكن، هناك أهمية للاعتراف بوجود رجل درس عندهم، وباتت له شهرة
عالمية في مختلف أنحاء العالم، باستثناء الولايات المتحدّة وإنكلترا، أي
عند الأنغلوساكسون. هذا أمر مزعج بالتأكيد.
هذا كلّه في الإطار العام. لكن، حين تقول لي ما هو الارتباط القائم بيني
وبين أميركا، أجيب بأني لا أستطيع أن أفصل نفسي عن فترة دراستي هناك. أنا
متأكّد أنك أنت شخصيا تفكّر بمن درّسك وعلّمك، خصوصا من اعترف بموهبتك أولا
واهتمّ بك وساعدك على تنمية موهبتك، وأيضا بالمدرسة التي انتسبت إليها،
وبالتفاصيل التي اختبرتها فأثّرت بك. لا أستطيع أن أنساهم، ليس عرفانا
بجميلهم عليّ فقط، بل لأني لا أستطيع إلى ذلك سبيلا، خصوصا أني أعود إليهم
وإلى تلقينهم إياي دروسهم التقنية.
أضف إلى ذلك كلّه، أن أميركا، في هذه الفترة، شكّلت حيّزا للتسامح الجدّي
والفعلي، وهي بالنسبة إلينا كعرب وكمسيحيين أبدت تسامحا نحو اليهود والسود.
ذهبت إلى أميركا من آخر الدنيا، من العالم العربي. لم أشعر بأي مشكلة. لم
أكن أصلّي أو أصوم. كنت لا أدريا. أنا لست <<بتاع كنايس>>. من جهتي، لم يكن
هناك سوى العلم والمحبّة الشديدة للغاية. هناك مسألة أخرى: سافرتُ إلى
الولايات المتحدّة الأميركية للمرّة الأولى في حياتي إثر بلوغي السابعة
عشرة من عمري، أي في بداية التفتّح الجنسي والعملية الجنسية والجينات
الجنسية التي تبدأ بالظهور وتنمو، فإذا بي ألتقي صبايا جميلات يرغبن
جميعهنّ في أن يصبحنّ ممثلات.
من ناحية الأفلام الهوليوودية، كانت هناك موسيقى رومانسية مؤثّرة جدا. وفي
الوقت نفسه، طُرح سؤال التناقض في السياسة الأميركية، والمرحلة زاخرة
بالاقتصاد والسلطة، بالجينز وال<<تي شيرت>> والقبعة التي ترتديها والأشياء
التي تستعملها يوميا والأخرى التي تتمنّى الحصول عليها. في المرحلة نفسها،
نشأ <<وادي سيليكون>> الذي بات اليوم شهيرا، وصُنع ال<<وكمان>> وأجهزة
<<كمبيوتر>>. هذا كلّه جزء من حياتي وتفكيري. لا تستطيع أن تضع كل شيء في
سلّة واحدة وتقول <<طز>>. <<طز>> على إدارة بوش. فالإدارة أسيرة لبوش، وبوش
أسير لشارون الذي هو المثال الأعلى لبوش المتطرّف دينيا بشكل فظيع، كما لو
أنه من أتباع إحدى الجماعات المسيحية المتطرّفة، ك<<واكو>>، الذي ادّعى أنه
المسيح، فحرق سبعين شخصا من أتباعه. إنه متطرّف إلى أقصى حدّ ممكن، ويعترف
بوجود مسيح يهوديّ سيظهر في يوم القيامة. هذه هي الرابطة التي تجمعه بشارون.
غضب وتسامح
في مقابل هذا، سألتُ نفسي عن الخيار الذي يجب علينا، كعرب، أن نتّخذه. هل
نجحنا في مقاومة أميركا بالشتائم أم بالأسلحة التي نملك؟ قلت: حسنا
سأحاربها بالحبّ. أو على الأقلّ سأحاول. إذا هجمْتَ عليّ بشتائمك، أسعى إلى
الانتقام منك. أما إذا دخلْتَ عليّ بالحب، فهناك احتمال بأن تسمح لي بأن
أفهمك. أقول لهم: أنظروا كيف كنتم، حقيقة، وقارنوا بين الأمس واليوم،
فتجدون فرقا بين الماضي وما كنتم عليه من تسامح وانفتاح، وبين الحاضر الذي
يكشف لكم <<أين>> أصبحتم و<<ماذا>> أصبحتم. هذا هو هدفي من تحقيق
<<إسكندرية.. نيويورك>>. بهدلوا العرب والمسلمين أكثر من اللازم. حسنا، حتى
هذه مرّت. لكن، ما الذي يدوم؟ بالنسبة إليّ: الولاء والوفاء والحب أمور
تدوم حين تدفعهم إلى التفكير بها. أنت تعطيهم درسا في هذا كلّه، من خلال
الحوار المرئي الذي هو الفيلم.
·
إذاً، يُمكن القول إن فيلمك هذا
متحرّر من الغضب إلى حدّ ما.
- الغضب الكبير قلته في (الفيلم الروائي القصير) <<11/9>> (المشروع الفرنسي
الذي حقّقه أحد عشر مخرجا من إحدى عشرة دولة، أنجزوا أحد عشر فيلما مدّة كل
واحد منها إحدى عشرة دقيقة وتسع ثوان ولقطة. وشاهين هو المخرج العربي
الوحيد الذي شارك في تحقيق هذا المشروع)، على الرغم من الشتائم التي قيلت
في حقّي، والحملات التي شنّها اللوبي الصهيوني القويّ جدا ضدّي. لكن، في
مقابل راية <<العداء للسامية>> التي رفعها هذا اللوبي في وجهي، لم أنسق إلى
الفخّ الذي نصبوه لي، بل أعلنت عدم كرهي لأميركا. في المشهد الأخير، أظهرت
المثقف في مقبرة أرلينغتون يتأسّف على موت الجندي الأميركي، وإلى جانبه ظهر
المقاتل الفلسطيني الذي قال له <<لا تنسني. إبك أميركا، لكن لا تنسني>>.
هذه اللقطة أثارت الجنون فيهم، إذ كيف أتجرّأ على إظهار <<قنبلة بشرية>>
وأتكلّم عنها بحنان. قلت <<على طيزي>>، فأنا لا أخاف الصهاينة ولا أخشى
أحدا، خصوصا إذا كنتُ متسامحا للغاية مع الدين اليهودي، لأن لا علاقة لي
البتّة بالأديان كلّها. <<الإسرائيلية>> جنسية يحملها مواطن لا أهتمّ
بدينه. وإلى أن يفهموا هذا، لا بُدّ أن تكون الدولة التي يفكّرون بها
ديمقراطية ومتسامحة، وإلاّ فإنهم سيبقون مَكروهين في العالم كلّه.
·
هل تدعو إلى ضرورة التعرّف على
أميركا؟
- لا، ليست الحكاية أن نعرف المجتمع الأميركي، فقط. لم نحاول نحن أن
نفهمهم، وهذا أعتبره نقصا فظيعا في ثقافتنا وتفكيرنا. أقود الحرب لوحدي،
فلا حكومات ورائي لتساندني. أنا أحارب من ناحية، ومن ناحية أخرى يقولون لي:
ما الذي تفعله. ثم جاءت الفترة التي أسمّيها المرحلة الوطنية البلهاء،
فصرتُ كلّما تكلّمتُ أُتّهم بالتطبيع، وإلاّ <<لا تنطق، لا تتكلّم>>.
مُنعنا من الحوار مع أي كان. أنا لا أهتمّ بمن يكون هذا الآخر، إسرائيليا
أم أميركيا. أتحاور معه وأقود معركتي. المشكلة أن هذه الوطنية البلهاء
انقطعت عن العالم، وباتت لدينا ديبلوماسية بلهاء تمثّلنا في الخارج.
ماذا يفعل الصهاينة، في مقابل بلاهتنا هذه؟ كلّما ذهبتُ إلى جامعة تعرض
فيلما عربيا مثلا، وجدتُ على بُعد خمسة عشر مترا فقط طاولة كبيرة وضعوا
عليها كتبا ومنشورات خاصة بالصهيونية. في الجامعات والمهرجانات والمؤتمرات،
يجلسون في الصفوف الأمامية ويبدون كمن يدير دفّة كل شيء. في مهرجان
<<كان>>، حين نلت الجائزة (مُنحتْ جائزة العيد الخمسين للمهرجان في العام
1997 ليوسف شاهين عن مجمل أعماله، علما أنه أنجز حينها <<المصير>>)، طاردني
نحو خمسة عشر إسرائيليا أراد بعضهم إجراء حوارات صحافية معي، وسعى آخرون
إلى إقناعي بتلبية دعوة إلى إسرائيل. ذهبتُ إلى منتجي وقلتُ له إني منصرف
سريعا إلى الفندق. في المقابل، لم نفعل نحن أي شيء لمواجهة سياستهم البشعة
في الانتشار في كل الأمكنة. هم يحاربونني بكتب إسرائيلية، بدعايات ترويجية،
بحملات إعلانية، إلخ. إسرائيل دولة ديمقراطية والعرب ديكتاتوريون.
في النهاية، أقول لك: نحن لم نفعل شيئا لنجعل الآخرين يتعرّفون إلينا
بالشكل الصحيح. وقبل هذا، أسألك: هل تعرف عدد المواطنين العرب الذين قرأوا
إدوارد سعيد، مثلا؟ يقولون إن هناك أزمة في السينما المصرية. لا. هناك
أزمات في مصر وفي العالم العربي في المستويات كلّها. ليست السينما في أزمة،
بل التفكير العربي نفسه يُعاني أزمة. في فرنسا مثلا، يصدر يوميا خمسة
وعشرون كتابا، وفي أميركا وإنكلترا نحو خمسة عشر كتابا. ماذا عنّا نحن؟ أين
هي الأموال الطائلة التي يربحها العرب من مبيعات النفط وحده؟ ألا تُصرف
كلّها في مجالات لا تستحقّها؟ هناك أمثلة قليلة للغاية عن معنى العلاقة
السوية بين العرب: ذات مرّة، اتصل بي سفير الإمارات العربية المتحدّة في
القاهرة، في المستشفى حيث خضعت لعلاج، كي يُعلمني أن الشيخ زايد وضع
بتصرّفي كل ما أحتاج إليه في مصابي الصحي، سائلا إياي عن أي طبيب في أي
مستشفى في العالم أريده، وهو مستعدّ لاستدعائه فورا، ولدفع التكاليف كلّها.
لا أعرف الشيخ زايد. لكني أسأل: كم شيخ زايد لدينا في العالم العربي؟ بعد
ذلك بوقت، سافرتُ إلى دبي، واطّلعتُ على الإنجازات العلمية والأكاديمية
التي حقّقوها، من جامعات ومعاهد متخصّصة، إلى الشوارع والطرقات والأبنية.
أمر لا يُصدّق. لذا، صوّرتُ نيويورك في دبي (في <<11/9>>).
·
كيف كان شعورك حين شاهدْتَ
النسخة الأولى من "إسكندرية.. نيويورك"؟
- استعدتُ لحظات عشتها سابقا، فشعرتُ أني قريب للغاية من هذه الفترة. بدا
الأمر صعبا. هناك مسألة الشيك الذي وصلني خطأ، في اللحظة نفسها التي حزمتُ
فيها حقائبي وودّعتُ الجميع واستعددتُ للعودة إلى القاهرة، وذلك قبل شهرين
فقط من امتحان نهاية السنة الدراسية الأخيرة. حين أشاهد هذا كلّه، أنهار،
خصوصا أن الشخصيات السينمائية حقيقية.
أفلام/محطات
·
اخترتَ مشهدين من <<باب الحديد>>
و<<إسكندريه ليه>> وقدّمتهما في سياق فيلمك الأخير هذا. لماذا؟
- لي مع كل فيلم من أفلامي حكاية. مع <<باب الحديد>>، تعرّضتُ لهجوم. بصقوا
في وجهي. أمضيتُ خمسة أعوام أعاني تداعيات هذه الحملة. كتبته وأخرجته
ومثّلت فيه.لم أشكّ أبدا في أني ممثل. بعد <<العصفور>> أرادوا سجني. يوسف
السباعي تساءل: كيف أتجرّأ على إنجاز فيلم كهذا. هناك أيضا <<الناس
والنيل>> و<<إسكندرية ليه>>. كلّها مذكورة في فيلمي الأخير. وكلّها وغيرها
عانت كثيرا وعانيت معها أكثر. دُعيتُ للمشاركة في مهرجانات عدّة، لكن عدد
المرّات التي مُنعتُ فيها من السفر والمشاركة أكبر بكثير. صراعاتي مع
السلطات لا تُعدّ ولا تُحصى. وقعَتْ مشاكل عدّة بسبب <<الناس والنيل>>:
لديّ تلغراف تهنئة عليه، وآخر بعد ثلاثة أيام قيل لي فيه إني بدّلت
السيناريو.
هذه الأفلام الثلاثة أعتبرها محطات صعبة جدا في حياتي. بخصوص <<باب
الحديد>>، قيل لي أنه لا يُمكن للجلابيب البيضاء أن تمرّ. صوّرتُ <<الناس
والنيل>> وهُنّئتُ عليه، ثم أرادوا تمزيقه لأن أحدهم سخر من موسى صبري، على
الرغم من معرفتهم أني لا أحقّق روايته. <<إسكندرية ليه>> جاء بعد لحظة
حسّاسة ورهيبة عشتها بسبب خضوعي لعملية قلب مفتوح، وهي المرّة الأولى التي
تُجرى فيها عملية كهذه. وعدتُ نفسي بتحقيق هذا الفيلم في حال لم أمتْ في
خلال العملية. لم أشأ طرح آراء. فوظيفة الفن، بالنسبة إليّ، أن يقول
الحقيقة. من يعرف الحقيقة عن عائلتي أكثر منّي؟ قلتُ أشياء كثيرة كان يصعب
قولها. أبي كان مُفلسا، عاش حياته في تناقض فظيع بين مبادئه ونزاهته،
ومهنته كمحام. لم <<تمش>> مهنته كما يجب.
بالنسبة إلى <<إسكندرية ليه>>، فإني طرحتُ السؤال على نفسي قبل يومين اثنين
من إجراء العملية الجراحية في قلبي. هناك قرار صعب للغاية عليّ اتّخاذه:
ماذا فعلتُ في حياتي كلّها، حتى هذه اللحظة؟ اكتشفتُ أني أعطيتُ آراء ولم
أقل الحقيقة بعد. إعطاء الآراء أمر سهل. لكن، أن تكشف نفسك كما أنت، وأن
تقدّم من حولك كما هم، أي أبي وأمي وشقيقتي، فهذا صعب جدا. هناك أيضا
الأصدقاء، وبعضهم كان أكثر من مجرّد صديق. لم أخف تساؤل الولد الصغير عما
إذا كانت أمه هي مريم العذراء، كما كان يظنّ، أم إنها هي أمه فقط. هذه
تفاصيل مهمّة وضعتُها في الفيلم كي أكشفَ نفسي كما هي عليه، لأني أردتُ
القول أيضا إني عشتُ في هذه البيئة الاجتماعية والإنسانية التي علّمتني
التسامح منذ صغري. والتسامح يبدأ أصلا من الذات.
يطرح المرء على نفسه أسئلة من نوع <<أين أصبحت؟ ماذا فعلت؟>> حين يواجه
أزمة ما. لو أنك تقدّميّ إلى حدّ ما، ومتماشٍ مع الحداثة، فأنت قطعا لست
كما كنت في الأمس. هناك تطوّر يحصل بين يوم وآخر، وإذا لم تواكبه فأنت ميت.
أظهرتُ أمي وأختي وزوجتي وهنّ يتصارعنّ فيما بينهنّ. تردّدتُ كثيرا قبل
الإقدام على هذه الخطوة، في هذا الفيلم. جمعتُ الجرأة المطلوبة كلّها كي
أكشف الحقيقة. حين تُقابل ذاتك، يجب أن تكون جريئا للغاية، وأن تقول
الحقيقة. والحقيقة قاسية جدا. قيل لي إني أمدح نفسي، فأجبتهم أني قلتُ كل
شيء، وأني لم أفهم، وأردتُ أن أفهم من خلال طرحي هذه التساؤلات كلّها.
حقيقة ومتخيّل
·
ماذا عن الرقص؟ فهذه ليست المرّة
الأولى التي تخصّص بالرقص مشاهد في أفلامك.
- أنا أحبّ الرقص.لم أرقص أبدا كما حصل مع أحمد يحيى (يؤدّي دورين اثنين:
يوسف شاهين تلميذا في أميركا، وابنه أيضا، في <<إسكندرية.. نيويورك>>)،
لكني حلمت به (أي بالرقص). ربما لهذا اخترتُ يحيى. إنه ممثل جيّد. حدث
الأمر صدفة. شاهدته كراقص في <<زوربا>>. أخضعته لتمارين كثيرة فوجدتُ فيه
خامة تمثيلية مدهشة وحقيقية. وضعته في مستوى واحد مع محمود المليجي.
أرقص مثل أحمد يحيى، وأمثّل كجون غيلغود. في هذه الفترة، رقصتُ جيّدا، لكن
ليس كأحمد. أستطيع القول هنا إن أحمد يحيى هو حُلُمي. ذلك أن جزءا كبيرا من
الفيلم حقيقيّ، في حين أن الجزء المتبقي متخيّل وتمثيلي. ربما لديّ ابن
أميركي. هذا احتمال. لا أعرف ما إذا كان لديّ ابن أم لا. هذه أمور متداخلة
بين الحلم والتمثيل.
·
أعود مرّة ثانية إلى مسألة الغضب. فأنت أنجزت الروائي القصير <<11/9>> وقلت
فيه هذا الغضب، وبدا يومها أنك تريد تطوير قول الغضب في فيلمك الروائي
الطويل هذا.
- استمرّ الغضب فيّ لفترة، لكني لم أعد أهتمّ به الآن. فكريا أقول إني
انتبهتُ إلى أننا لم نكسب معاركنا لا بالغضب ولا بالشتائم، بل خسرناها
كلّها لهذه الأسباب. أبناء الإسكندرية مشهورون بأنهم يتضاربون من رصيف إلى
آخر، ويتبادلون الشتائم من دون أن يخوضوا معارك حقيقية. الشتائم من بعيد لا
توصل أصحابها إلى أي شيء مفيد. لم تكن فاتحة لبدء حوار.
أكرّر لك ما قلته سابقا: في الفيلم أوجّه كلاما إلى الجميع مفاده أن انظروا
إلى أنفسكم لتروا أين كنتم وأين أصبحتم الآن. كنتم تقدّمون منحا للشباب كي
يتابعوا دراساتهم الجامعية عندكم، وكي يتعرّفوا إليكم، ويشاهدوكم عن كثب.
هناك مخرجون تمّت دعوتهم إلى أميركا للتعرّف عليها. الآن تعطون سلاحا إلى
إسرائيل، وبات الكذب أمرا طبيعيا لديكم. ما حصل في العراق يكفي للإطاحة
ببوش، لكنه بقي رئيسا للولايات المتحدّة الأميركية واستمرّ بفضل كذبه. هناك
بشاعة وكذب.
أستطيع القول هنا إني بعد كشفي لهم ما أصبحوا هم عليه الآن، قادر على فتح
حوار ما معهم. فالصراع بيننا ليس غبيا، ولا يُدار من رصيف إلى رصيف.
·
في أفلامك الأخيرة، تحديدا منذ <<المهاجر>> (1994) و<<المصير>> (1997)
و<<الآخر>> (1999)، كنت حادّا ومباشرا في خطابك وحواراتك. هل هذا مقصود؟
- يجب أن تتطوّر مع السياسة الموجودة حولك. السياسة والناس. أنا فخور بكوني
عربيا. لكن العرب لم يكونوا مضطهدين في حياتهم كلّها أكثر مما هم عليه الآن
من قِبل أميركا. أنا ابن الإسكندرية أيضا، هذه المدينة الكوزموبوليتية، بما
هي عليه من انفتاح وتسامح وتواصل. عشتُ فيها إلى جانب ثلاث عشرة جنسية
مختلفة، وثلاثة أديان. التعرّف إلى الآخر والتواصل معه أمر طبيعي جدا
بالنسبة إليّ، وهذا ما جعلني أدرك أهمية الحوار.
دعني أخبرك حادثة حصلت معي في إنكلترا، ولا أستطيع أن أنساها: في أحد
القطارات الإنكليزية، جلستْ امرأة عجوز في المقعد المقابل لي، وأمضينا وقتا
طويلا من دون أن نتبادل ولو كلمة واحدة. ثم فجأة، نظرت إليّ وقالت: ألا
تعتقد أننا غبيين أنت وأنا؟ نحن معا منذ بعض الوقت، ولا واحد منا يعرف
الآخر. ماذا لو تكلّمنا قليلا، ألا يُمكن أن نصبح صديقين؟ وهذا ما حصل في
الواقع. حين نزلَتْ في المحطّة التي قصدَتْها، ودّعنا بعضنا البعض كما لو
أننا صديقين منذ زمن بعيد. أعترف أني تعلّمت شيئا مفيدا من هذه الحادثة:
عليك أن تجتهد قليلا لإقامة حوار مع الآخر. إما أن نخلق حوارا مع الآخر،
وإما أن نصمت. لا أعتقد بوجود طريق ثالثة، ولا أستسيغ لغة الشتائم
والاتهامات.
|