ترى, حين كان مارلون براندو يتحدث عن الفلسطينيين
وانتفاضتهم وعن حقهم في الحصول على دولة لهم, وعن اضطهاد اسرائيل لهذا الشعب
المظلوم, هل كان يفكر في دور مسرحي قام به في العام 1946 في مسرحية عنوانها
"مولد علم", كتبها بن هشت ولحن موسيقاها كورت فايل؟ الذي يدفعنا الى هذا
السؤال هو أن تلك المسرحية الدعائية الفجة والتي لم تلق أي نجاح يذكر حين
عرضت, كانت تقف الى جانب "النضال" الصهيوني الساعي الى تأسيس دولة لليهود في
فلسطين, بغض النظر عن وجود شعب عربي فيها. كانت المسرحية تتبنى تماماً وجهة
نظر اليمين الصهيوني المتطرف. وفي ذلك الحين كان مارلون براندو نفسه من غلاة
المناصرين لمنظمة "شتيرن" الإرهابية. فكيف تغير مارلون براندو خلال نصف قرن
من الزمن؟ كيف تغير الى درجة انه, وبحسب ما قال هو نفسه, صار هدفاً للوبي
الصهيوني المهيمن على هوليوود, والذي راح يحاربه خلال العقدين الأخيرين من
السنين؟
"نجم النجوم"
من الصعب طبعاً الاجابة عن هذا السؤال... لكن من
ينظر بإمعان الى مسيرة هذا الذي صار في نهاية الأمر "نجم النجوم" وواحداً من
كبار فناني السينما في طول القرن العشـرين وعرضه, سيجد انه, على الشاشة
وخارجها, كان دائماً متمرداً مشاكساً, غاضباً... وهو دائماً ما تبنى قضايا
الشعوب المظلومة مروراً بالهنود الحمر والزنوج الأميركيين وغيرهم: دائماً ما
وقف عكس التيار. ولم يكن في وسع فنان تربى في وسط مناخ ليبرالي - يساري كان
في الأربعينات مهيمناً على المسرح الأميركي الذي كان مقفزه الى الفن والسينما
والحياة, لم يكن في وسعه إلا أن يتخذ مثل تلك المواقف. وما حدث في أواسط
سنوات الأربعين هو أن اليهود قدموا أنفسهم بعيد الحرب العالمية الثانية بصورة
الضحية... وقدموا صراعهم في فلسطين على انه صراع ضد الاستعمار البريطاني لا
أكثر ولا أقل. ومن هنا حين وقف براندو مناصراً الصهيونية اليمينية المتطرفة
كان مؤمناً بأنه يساند حركة تحرر وطني, خصوصاً أن مناخاً يسارياً أميركياً
معيناً كان يقف الموقف نفسه. لاحقاً بعد سنوات طويلة, سيتنبه براندو الى
خطيئته وسيعلن ذلك... وسيدفع الثمن طبعاً.
والثمن كان جزءاً منه, ذلك الحقد الذي به تعاملت
هوليوود معه دائماً. فهوليوود لم تحب براندو أبداً... حتى وإن كان جمهورها
يجّله دائماً واعتبره من البداية الى النهاية أعظم ما عرفه فن التمثيل
الرجالي في تاريخ السينما. على مضض كانت هوليوود تتعاقد مع مارلون براندو.
وعلى مضض كانت ترضى حين كان يفرضه مخرجون لهم كلمتهم, من أمثال ايليا كازان
وفرانسيس فورد كوبولا. أو هذا ما باتت عليه الأمور منذ نهاية الستينات, حين
بدأ ذلك الصراع الخفي, ثم العلني, بين مارلون براندو و"المؤسسة الهوليوودية".
وقبل ذلك كان براندو نجم هوليوود وفتاها المدلل. لاحقاً سيقول هو انه لولا
الدعم الأوروبي الكبير له, ولولا اصرار كوبولا على اعطائه بطولة الجزء الأول
من "العراب" لمات من الجوع. وعلى ضوء هذا قد يمكننا فهم ذلك التصعيد الذي
جابه به براندو هوليوود, وكان من معالمه عدم حضوره حفلة الأوسكار التي منحته
جائزة أفضل تمثيل رجالي في العام 1972 مفضلاً ارسال هندية حمراء ألقت خطاباً
باسمه واسمها حول ابادة البيض للهنود الحمر. وفي ذلك الوقت نفسه نعرف ان
مارلون براندو كان معارضاً شرساً للحرب الأميركية في فييتنام, كما انه كان
مناضلاً من أجل حصول الزنوج على حقوقهم المدنية. ولم يكن, بالطبع, مهتماً, في
أن يؤثر ذلك كله سلباً على موقعه الفني. كان يرى انه بنى من المجد ما يمكن أن
يوفر له حماية كبرى. لكنه هنا كان مخطئاً تماماً مثلما أخطأ مرات كثيرة في
حياته.
والحقيقة ان حياة مارلون براندو كانت سلسلة من
الأخطاء والمآسي, الشخصية والعائلية... وحتى الفنية أيضاً, إذ ها هو برناردو
برتولوتشي يروي لنا كيف ان براندو بعد أن انتهى من اداء دوره في واحد من آخر
أفلامه الكبرى "آخر تانغو في باريس", وشاهد الفيلم في عرض خاص التفت الى
برتولوتشي وقال له: "أنا لن أقدم أبداً بعد الآن على العمل في فيلم من هذا
النوع, أنا عادة لا أحب أن ألعب دور الممثل... ولكن هذه المرة كان الأمر
أسوأ. لقد أحسست انني اغتصبت منذ بداية الفيلم الى نهايته, اغتصبت في حياتي
وفي أعمق حميميتي, وحتى في أطفالي... لقد انتزعت مني كل شيء". يومها بعد أن
قال هذا غاضباً أعلن لصديقه المخرج انه يود ألا يتحدث اليه بعد ذلك أبداً...
وبالفعل ابتعد براندو عن برتولوتشي طوال 12 سنة كاملة.
من داخل الروح
وربما يعود هذا الى انها كانت المرة الأولى التي
يجد فيها براندو نفسه أمام مخرج قوي الشخصية لا يسمح له بأن يتدخل في الدور
أبداً... قبل ذلك, وأحياناً كثيرة بعد ذلك, كان مارلون براندو اعتاد أن يتدخل
في أدواره وفي حواراته, إذ انه في مرات كثيرة كاد يكون المخرج الحقيقي للجزء
الذي يمثل فيه في الفيلم. ولقد كان ايليا كازان أول المخرجين الذين أعطوا
براندو هذا الحق و... لم يندموا. ونحن نعرف طبعاً ان كازان, على المسرح قبل
شاشة السينما, كان هو من أعطى مارلون براندو الفرصة الأولى الكبرى: دور
كوفالسكي في مسرحية - ثم فيلم - "عربة اسمها الرغبة". كان ذلك بدءاً من العام
1947, حين أخرج كازان, المبتدئ هو الآخر, مسرحية تينسي ويليامز على مسرح
باريمور... وكان براندو العشريني, قد ظهر في مسرحيات قليلة قبل ذلك, معظمها
لم يحقق نجاحاً, لكن أداء براندو كان لافتاً فيها, إذ ان الفتى الآتي من "ستديو
الممثل" حمل الى فن التمثيل جديداً نابعاً من الروح عبر عنه الناقد هارولد
كلارمن بقوله - حول اداء براندو في مسرحية "المقهى" لماكسويل اندرسون (1946):
"انا لم يسبق لي منذ اداء جون باريمور ان شاهدت مثل هذا التمثيل. لقد كان
رائعاً. كان نابعاً من داخله, وأشبه بانفجار نفسي". والحال ان من يراقب اداء
براندو منذ أدائه البطولة السينمائية في فيلمه الأول "الرجال" (فريد زينمان -
1950) ثم فيلمه الثاني "عربة اسمها الرغبة" (ايليا كازان - 1951) وصولاً الى
"العراب" (1971) و"القيامة... الآن" (كوبولا - 1979) على الأقل, سيجد ان ما
قاله كلارمن ظل صحيحاً... وليس فقط في أفلام براندو الكبيرة.
إذاً منذ بدايته اعتبر براندو مفجر نوع جديد من
التمثيل السينمائي. وهو في هذا الاطار كان البداية التي راحت تتسع دائرتها
لاحقاً: هارفي كيتل, آل باتشينو, جاك نيكلسون, روبرت دي نيرو. كلهم كانوا من
أبناء تلك المدرسة ويمكننا ان نضيف اليهم كلينت ايستوود وشين بن. وكان يمكن
لجيمس دين أن يكون منهم لو انه أكمل الطريق. مع براندو, ومع خلفائه هؤلاء, لم
يعد الممثل - النجم, دمية في يد المخرج, ولا اسطورة حية تتصرف على هواها لتظل
هي نفسها من فيلم الى فيلم ممجدة حضور النجم على حساب الدور وصدقيته. فن
براندو السينمائي كان يقوم على تلبس الدور تماماً, وامحاء الممثل أمام
الشخصية, بوصف الممثل "شريحة من الطبيعة", بحسب تعبير فرد زينمان, "تتحرك كما
تتحرك الطبيعة, في شكل بركاني أحياناً وكالجدول الرقراق في أحيان أخرى...".
الاداء الجواني بامتياز
حضور مارلون براندو في عالم السينما تواصل أكثر من
نصف قرن, وكان يمكنه أن يتواصل أكثر لو لم يقض عليه الموت المباغت في الاسبوع الفائت. ولكن هل
كان في وسعنا حقاً أن نقول ان مارلون براندو الثمانيني, والذي كان يعيش
وحيداً مكتئباً, غارقاً في ديون تقدر بالملايين, مستذكراً بحزن ولوعة مصير
أبنائه الدامي ومصير النساء اللواتي أحب وخسر في حياته, كان هو نفسه. ذلك
الشاب الرائع الجميل الى حد الدهشة, والذي كانه في الخمسينات يوم راح الجمهور
العريض يكتشفه فيلماً بعد فيلم, وفي أدوار رائعة اختاره لها كبار مخرجي تلك
الحقبة؟ لقد كان "عربة اسمها الرغبة" العمل الذي نقل براندو الى ساحة
النجومية, في الوقت نفسه الذي جعل فيه التمثيل أمراً أكثر خطورة وجدية من ذي
قبل. وكان من الطبيعي, اثر نجاح ذلك الفيلم, أن يثنّي كازان في تعاونه مع
براندو, فحقق "فيفا زاباتا" (1952) عن حياة ونضال الثائر المكسيكي الكبير...
وهنا أيضاً في اداء جواني امتزج فيه العزم بالقلق, ولحظات التردد بلحظات
المجد في حياة مناضل كبير, بدا براندو وكأنه يفجر الشاشة, حتى وإن كان ماكياج
الدور قلل من جمال قسماته التي سيستعيدها في الفيلم التالي "يوليوس قيصر" (جوزف
مالكفتش - 1953), إذ صار هنا معبود النساء, بعدما كان في الأفلام الأولى,
موضع تقدير هواة الفن الخالص. أما في الفيلم التالي "المتوحش" (لازلو بينديك)
فإنه قام بذلك الدور الذي سيصبح علامة ويؤدي الى خلق جيمس دين, وتصبح سماته
شعار الشبيبة المتمردة خلال العقود التالية. فهو هنا بقبضته المشاكسة, وسترته
الجلدية وسرواله الضيق أبدع شخصية الأزعر الحنون, التي مهدت للشخصية
التبريرية التي سيلعبها في فيلمه التالي (عند البناء) والذي سجل ثالث لقاء له
مع ايليا كازان, والأخير لأسباب غامضة قد تكون ذات علاقة بما اعتبره الفيلم
من جانب النقاد: تبريراً ذاتياً قام به كازان لخيانته رفاقه الهوليووديين
امام اللجنة الماكارثية, متهماً اياهم بالشيوعية متبرءاً منهم. والحال ان
براندو كان في ذلك الحين قد بدأ يتغير, ويتفرس أكثر في الأفلام التي يقوم
ببطولتها, وليس فقط في دوره فيها. لكن هذا لم يحمل كل الخير له. صحيح ان
الفترة التالية ستكون واحدة من أخصب فترات حياته الفنية, إذ راح يمثل فيلماً
بعد الآخر, وصارت حصته من النجاح الجماهيري كبيرة... لكن مجده الكبير كفنان
حقيقي كان قد صار وراءه. ففي افلام مثل "ديزيريه" (1954) و"صبيان ودمى"
(1955) و"مشرب الشاي في ضوء القمر" (1956) و"سايونارا" (1957) كان من الواضح
ان براندو صار في خضم العالم التجاري. صحيح ان اياً من هذه الأفلام لم يكن
سخيفاً وتجارياً خالصاً, لكن الأدوار التي أُعطيت الى براندو فيها, لم تكن
تضاهي, قيمةً, أدواره السابقة. هنا كان كازان قد اضحى بعيداً... وربما كانت
اميركا وهوليوود كلها في حال استرخاء تام. لكن ذلك لم يدم اذ في العام 1958,
عاد براندو ليقدم جديداً درامياً وقوياً في "الأسود الصغيرة" من اخراج ادوارد
دمتريك, الذي كان بدوره, مثل مالكفتش, ومثل كازان (قبل الخيانة) من اقطاب
التيار اليساري في هوليوود... في هذا الفيلم عاد براندو سيرته في دور الضابط
الألماني, ممهداً من جديد لسلسلة ادوار لا تنسى ("النوع الهارب" حيث لا تزال
سترته ذات جلد الأفعى علامة اجتماعية حتى يومنا هذا, ثم "ثورة فوق السفينة
بونتي" للويس مايلستون, وصولاً الى "الأميركي القبيح" ذلك الفيلم الغاضب
والذي كان اول مساهمة من براندو في نقد الإيديولوجية الأميركية الشعبوية
السائدة)... واللافت هنا هو ان براندو وسط عمله على تلك الأدوار التي استعاد
فيها مجده القديم, خاض تجربة إخراجية استثنائية في فيلم رعاة بقر لا ينسى هو
"جاك ذو العين الواحدة"... ولم يكن توفيقه فيه, كمخرج, موازياً لتوفيقه
كممثل, حتى وإن كان كارل مالدن شريكه في الفيلم قد غطى عليه في مشاهد كثيرة.
عند شابلن
منذ اواسط الستينات راحت ادوار مارلون براندو
تتنوع اكثر, فمن دور كوميدي رومانطيقي في "حكاية ساعة النوم" (1964), الى دور
تجسسي على النمط الهتشكوكي (في "المخرب" لبرنارد فيكي - 1965) بدا واضحاً ان
مارلون براندو دخل مرحلة الحيرة والبحث عن ادوار يعيد عبرها تأكيد ذاته.
والحال ان "المطاردة" من اخراج آرثر بن, اتاح له ذلك, حتى وإن كان اضطر في
هذا الفيلم الى مشاطرة نجاحه مع بطل الفيلم الحقيقي روبرت ردفورد. بعد
"المطاردة" عادت فترة الركود عبر افلام مثل "آبالوزا" (1966) ثم خاصته
"كونتيسة من هونغ كونغ" - آخر وأسوأ افلام تشارلي شابلن, إذ ادى براندو
واحداً من اكثر ادواره سطحية... لكنه ابداً لم يندم على ذلك طالما ان الفرصة
اتاحت له ان يدنو من اسطورة السينما شابلن. وأن يمثل الى جانب صوفيا لورين
-... وأيضاً طالما ان التعويض سرعان ما جاءه تحت عنوان "انعكاسات في عين
ذهبية" من اخراج جون هستون... إذ هنا لعب براندو, في مواجهة اليزابيث تايلور
واحداً من ادواره الكبرى: الكولونيل العاجز الذي يعيش مرض حبه المستحيل. فهل
كفاه ذلك الدور, فنياً وإنسانياً حتى يرضى بأن يلعب بعده, في افلام عدة, لن
يذكر فيها المتفرجون سوى ماكياجه الغريب في بعضها, وإصرار المخرجين على
التعامل معه كرمز جنسي في بعضها الآخر ("القادمون ليلاً" لمايكل وينر -
1971)؟ مهما كان الجواب, فإن المجد لن يتخلى في المرحلة التالية عن براندو.
إذ ها هو المخرج الإيطالي الأصل مثله يحمل إليه ذلك الدور الذي سيصل به الى
الذروة: دور فيتوكور ليوني في الجزء الأول من "العراب". ترى من يمكنه ان ينسى
لحظات اداء براندو في ذلك الفيلم لحظة بلحظة... وصولاً الى مشهد موته هادئاً
محايداً في حديقته؟ من يمكنه ان ينسى روعة ادائه الصوتي - في تجربة سيكررها
لاحقاً في تلك الدقائق الهائلة التي اعطيت له في "القيامة... الآن"؟
الحقيقة ان براندو ولو انه في حياته لم يمثل سوى
دور العراب في ذلك الفيلم, لكان هذا كافياً لسنوات طويلة من المجد. صحيح ان
دوره التالي سيكون في اتجاه آخر تماماً. بل في اتجاه متناقض كلياً, وفي فيلم
سيقول براندو انه واحد من افلام قليلة حطمته تماماً: "آخر تانغو في باريس".
ومع هذا, وعلى رغم كل ما قاله براندو وقاله آخرون حول هذا الفيلم, يمكننا ان
نقول انه ضخ فيه كل خبرته الفنية والإنسانية وأدى دوراً لا سابق ولا لاحق له
في تاريخ الفن السينمائي. صحيح انه, هو, ادى الدور, كمزحة في اول الأمر, نظر
إليه ككارثة بعد ذلك, ولكن بين المزحة والكارثة كان هناك ذلك الحضور المتألق,
وذلك الشباب الباهر الذي اخفى وصول بطلنا الى الخمسين. هنا, وعلى رغم قوة
المخرج برناردو برتولوتشي وقوة موضوعه, يمكننا ان نقول انه لم يكن ثمة, في
الفيلم, شيء آخر سوى براندو نفسه... كل ما عداه بدا اكسسواراً يحيط به. ترى
أفلا يمكننا قول الشيء نفسه عن الدور الذي سيعود ويلعبه بعد ذلك بسنوات عدة
في فيلم "القيامة... الآن" لفرانسيس فورد كوبولا (1979)؟
ربع ساعة فقط
بين "آخر تانغو" و"القيامة" كانت هناك افلام قليلة
وأدوار متنوعة قبل بها براندو من اجل لقمة العيش, هو الذي كانت حياته في ذلك
الحين قد تلخبطت تماماً: مآس عائلية, صراعات مع هوليوود, تقلبات سياسية,
وشيخوخة تقترب بقوة متلازمة مع زيادة في الوزن مرضية. ومن تلك الأوار ظهوره
العابر في "سوبرمان" (حيث نال اول مليون دولار اعطيت لممثل في تاريخ هوليوود
عن دور قصير الى ذلك الحد) وبطولته فيلم "ميسوري بريكز" لآرثر بن (1976). اما
في "القيامة... الآن" فإنه هيمن على الفيلم تماماً: هيمن عليه في غيابه كما
في حضوره. ذلك ان هذا الفيلم - الذي يعتبر من اعظم الأفلام الحربية في تاريخ
السينما, كما من اكثر أفلام "فييتنام" التباساً - لم يكن عن الحرب ولا عن
فييتنام, بقدر ما كان عن الشرط الإنساني, عن السلطة والجبروت, عن الطبيعة
وانتقامها. وهذا كله كان يمثله مارلون براندو الذي لعب دور الكولونيل كورتز
(المنتزع كما الفيلم من رواية جوزف كونراد "قلب الظلمات"). والفيلم كله مبني
من خلال مهمة يقوم بها الضابط الأميركي ويلارد للعثور على كورتز الذي كان
تمرد على الجيش الأميركي في فييتنام وأقام لنفسه مملكة خاصة به عند الحدود مع
الأدغال. لم يظهر براندو في هذا الفيلم سوى خلال ربع ساعة... وإلا في لقطات
مكبرة. وهو ظهر لكي يُقتل على يدي ويلارد... ولكن اي ربع ساعة؟! وأي لقطات
مكبرة؟! وأي قتل؟!
هنا في هذا الدور لخص براندو فنه التمثيلي كله...
لخص الفن السينمائي وعظمة الإنسان... لخص الحياة والموت... الى درجة انه لم
يعد في حاجة من بعد الى لعب اي ادوار جديدة. كان ذلك الدور من نوع تلك التي
يختتم بها الفنان حياته ويفتح الباب لخلود اسطورته.
وبالفعل ما مثله براندو بعد ذلك كان مجرد ظهور
عارض -للقمة العيش - في افلام راح يتعامل معها كمزحة, فارضاً على المخرجين
والمتفرجين ان يتعاملوا مع الدور على انه دور لمارلون براندو, مهما ابتعدت
الشخصية عن شخصيته. وهذا ما جعل حضوره في افلام مثل "المعادلة" (1980) و"فصل
ابيض وجاف" (1989), و"الخريج الثانوي" (1990) و"دون جوان دي ماركو (1990)
وحتى "كريستوف كولومبوس - الاكتشاف" (1992), يبدو كحضور ضيف شرف لا اكثر.
وفي يقيننا ان مارلون براندو, حين وافق قبل اسابيع
على اداء دور في مشروع المخرج التونسي رضا الباهي وعنوانه "براندو وبراندو"
وافق لأسباب سياسية ("احب ان اقول للعرب والفلسطينيين عبر هذا الفيلم كم انني
احبهم" قال للباهي), لكنه وافق ايضاً لأسباب شخصية: لقد وجد في لعب دور
براندو في فيلم يتحدث عن ممثل تونسي شاب يشبهه تماماً الى درجة انه لقب نفسه
ببراندو, فرصة لتكريم نفسه وفنه مرة اخيرة, ولاختصار مجمل الأدوار التي لعبها
في الآونة الأخيرة والتي كان همها الإفادة من اسطورته اكثر من فنه التمثيلي
("الصولجان" مثلاً)... هنا, في فيلم براندو كان يمكن للفنان ان يوصل نرجسيته
- المشروعة على اي حال - الى ذروتها... لكن القدر لم يمهله: القدر جاءه على
شكل موت مفاجئ غدر به.
|
رحيل
مارلون
براندو قبل آخر فيلم له
ومات العراب..
هوليوود/ محمد رضا
أنت شقيقي الكبير... دائما ما نظرت إليك
كمثل أعلي... كان عليك أن ترعاني... عوض أن أتحول إلي صعلوك.
هكذا نطق
براندو في لقطة من علي رصيف الميناء لإيليا كازان قبل أكثر
من55 سنة. كان
براندو شابا وكان في ذلك المشهد يجلس في المقعد الخلفي شاكيا لأخيه كما أداه
رود
شتايغر. الأخ الأصغر يطلب معونة أخيه الذي شق طريقه, لا يهم كيف ومع
من, بل
شق طريقه إلي الوجاهة. صار لديه سيارة وسائق بينما الشقيق
الأصغر لايزال عاملا في
الميناء يواجه عصبة المنتفعين علي ظهر العمال كما في أحد أفضل أفلام المخرج
كازان.
سألت نفسي: ماذا لو أنني استخدمت ذلك المشهد
بطريقة مختلفة. ماذا
لو أن الشاب التونسي الذي حط رحاله في هوليوود هو الذي يجلس مكان براندو في
الفيلم
الجديد وبراندو مكان رود شتايغر والشاب التونسي يقول له: لقد نظرت إليك
دائما
كمثل أعلي... كنت أتوقع أن ترعاني عوض أن تتركني بائسا.
وكان ذلك مشهدا من
فيلم جديد بعنوان براندو وبراندو جيء بي لإصلاحه. وكان هذا
الفيلم متوقعا له أن
يكون آخر فيلم لمارلون براندو. كتبه وانطلق لتمويله المخرج التونسي رضا
الباهي
ويقص حكاية شاب تونسي كان يعيش هنيئا في بلدته الصغيرة في تونس عندما وصل
فريق
تصوير أمريكي ولاحظ بعضهم التشابه الكبير بين وجه هذا الشاب
وبين براندو في صباه
وأوحي إلي الشاب بدخول التمثيل والمجيء الي هوليوود لأن هناك مستقبلا كبيرا
بانتظارك. صوب هذا الهدف يترك الشاب حياته الهانئة ويقبل علي أميركا ما
بعد11/9
حيث يجد نفسه وقد انتهي إلي مطعم يطبخ فيه صحنا تونسيا. إلي المطعم يدخل
براندو
بعدما أرسله أحد الممثلين الأمريكيين في الفيلم الذي تم تصويره
في تونس لعله يستطيع
مساعدة الشاب. وما يحدث بعد ذلك بين الشاب الذي يعيش علي ريح الحلم وبين
الممثل
الخبير الذي عرف كل شيء وعايش كل شيء يلخص وضعا تصطدم فيه الأحلام بالحقائق
والوقائع علي الأرض.
براندو كان متحمسا جدا للفكرة. استقبل المخرج التونسي
ثلاث مرات. أول مرة لأربع ساعات ثم لساعتين ونصف الساعة في كل مرة لاحقة.
تحادثا طويلا في ربيع هذا العام عن المشروع ثم دلف الممثل إلي حياته
وأفكاره. قال
لرضا الباهي:
كنت في المغرب ذات مرة أيام شبابي. أمضيت ليلة
منهكة. في
الفجر صعدت إلي سطح الفندق الذي كنت أنزل فيه وفجأة صعد آذان من هنا وآذان من
هناك
وعم صوت الآذان من كل جانب وشعرت بالرهبة. لم أشعر بمثلها لا قبل ذلك ولا
بعد.
وقال له:
تأتي إلي هوليوود من بلد عربي ومن دون مساعدة من
منتج
أمريكي... هذه شجاعة وأريد أن أعمل معك بسببها.
وقال له أيضا:
عندما
زرت مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في بيروت في مطلع الستينيات
أدركت خطأ مساهماتي في
التبرعات الإسرائيلية... قلت يا إلهي ماذا كنت أفعل؟. وانقطعت عن تقديم
تلك
المساعدات. أدركت من الضحية واعتبرت نفسي أحد المسئولين عن نكبة
الفلسطينيين.
قناعة
هكذا كان مارلون براندو الذي رحل يوم
الخميس قبل الماضي وهو في الثمانين من العمر. رضا الباهي استقبل النبأ
بصدمة ذلك
لأنه كان وصل إلي لندن في نفس اليوم لإبرام الإتفاق مع شركة
الإنتاج البريطانية.
أول ما دخل وجد وجوما. اعتقد أن رئيسة الشركة( نورما هايمان) مريضة,
لكن
النبأ وصله فلم يصدق ما سمعه. يقول: بعد ذلك أغمي علي.
براندو كان متحمسا
للفيلم لأنه عمل يناصر الضعيف, وهو كان دائما مشغولا بمناصرة
الضعفاء. والمشهد
الذي لا يزال يتراءي لنا وهو يرسل فتاة من الهنود الحمر لكي تأخذ الأوسكار
عنه.
إنه أحد أوسكارين نالهما في حياته كممثل. لكن حياته السينمائية زاخرة بما
يكفي
لعشرين أوسكارا. مارلون براندو كان عميد الممثلين بلا أي
تردد او جدال.
من
الخمسينيات حول الممثل براندو التمثيل إلي تجسيد فني بارع وطوال50 سنة مارس
كل
دور له بتلك القناعة والإجادة. ينتمي إلي مدرسة النظام وهي مدرسة تعني
بالتجسيد
عبر جذب الشخصية إلي واقع الممثل ومعايشته. طريقة تركت أثرها
في السينما عبر
براندو ومونتغمري كليفت وروبرت دي نيرو وداستين هوفمان من بين آخرين. أول
فيلم له
ورد سنة1950 عندما طلبه المخرج ستانلي كرامر لبطولة الرجال لكن الخمسينيات
بالنسبة إلي هذا الممثل الكبير كانت ملكا لفيلمين من أعمال
إيليا كازان هما عربة
اسمها الرغبة وعلي رصيف الميناء. راقب براندو فيهما وتمعن كيف يمضي إلي آخر
نقطة
علي حدود المعايشة العميقة مع الدور لاغيا تذكرة العودة.
من المسرح إلي السينما
ولد مارلون براندو
في1924/4/3 في مدينة أوماها, ولاية نبرساكا ابنا لموظف
مبيعات في شركة أعلاف
كيماوية وممثلة مسرحية في المدينة الصغيرة ذاتها. متاعبه مع السلطة والنظام
ورموزهما بدأت حين أرسله والده الي مدرسة عسكرية فطردته هذه بعد أشهر بسبب
روحه
المتمردة. قلب براندو وروحه لم يكونا هناك بل في التمثيل
فانتقل إلي نيويورك ودخل
التمثيل وهو لا يزال في التاسعة عشر من العمر. ما إن بدأ العام1947 حتي
وجد
نفسه وقد أصبح نجما مسرحيا مجسدا شخصية بطل أحداث الكاتب تنيسي ويليامز في
عربة
اسمها الرغبة, شخصية كان من المفترض أن يمثلها قبله جون
غارفيلد لكنه انسحب وآلت
إلي براندو الأكثر شبابا حينها. وهذه هي المسرحية التي انتقلت بعد ذلك إلي
السينما.
موهبته ممثلا وشخصيته المتمردة ساعدتاه علي أن
ينتقل إلي الشاشة
بنجاح أيضا. بعد الرجال وعربة اسمها الرغبة وجد نفسه في بطولة فيفا زاباتا
وجوليوس سيزر والمتوحش وكلها تشترك في تطعيم ذهن المشاهد بصورة رجل خارج عن
المألوف
لدرجة التمرد. لكن لا شيء أكثر تمردا مما كان بانتظاره
سنة1954 عندما مثل علي
رصيف الميناء.... شاب فقير يعمل علي رصيف ميناء نيويورك ويدعو العاملين إلي
التضامن ضد مستغلي النقابة الذين يودون الإثراء علي حسابهم.
صور خاصة
سريعا إذن طبع براندو في ذهن المشاهد
شخصية غير مألوفة. إذا قارنتها بممثلي تلك الفترة من كلارك غايبل الي غاري
غرانت, جون واين, راندولف سكوت, جيمس ستيوارت, آلان
لاد, همفري بوغارت,
هنري فوندا وسواهم الكثيرين وجدته مختلفا عنهم ليس فقط بأدائه بل باختياراته
من
الأفلام.
في الخمسينيات لم يكن هناك شبيه ببراندو. كان
هناك نوعان من الرجال
علي الشاشة الأمريكية: القوي والمتكبر كما يعكسه جون واين أفضل انعكاس,
والرجل
المنفتح دون رغبته, وبسبب ضعفه, علي أي عارض قد يصيبه بأذي. براندو كان
الجامع الوحيد بين الشخصيتين وأكثر من ذلك, كان الممثل
الوحيد, من أيام
فالانتينو في السينما الصامتة, الذي جسد الصورة الفحولية للممثل من دون أي
خلاعة
أو إباحية. دوره, شخصيته, وسامته الداكنة كان كل ما يحتاج إليه لتجسيد
هذه
الصورة. طوال الخمسينيات ملء الشاشة بحضوره في أدوار متعددة
في أفلام متباينة
المواضيع والأنواع. كان نابليون في نابليون وكان الجندي الأمريكي الواقع في
حب
وداعة اليابانيات في سايونارا( علي عكس ما امتلأت به تلك الحقبة من أفلام
كره
حربية تصور معارك الأمريكيين ضد اليابانيين في الأربعينات).
في العام1961
أقدم علي إخراج أول أفلامه جاك ذو العين الواحدة,
قصة أمريكي من الغرب البعيد يصل
إلي بلدة يرأسها شريف كان في شبابه عضوا في عصابة وبراندو سيكشفه. المشاهد
التي
يتعرض فيها براندو للتعذيب قيل عنها آنذاك إنها كانت حقيقية. شيء قريب مما
ورد في
فيلم آلام المسيح حين انهالت السياط علي الممثل جون كافاييزل في دور
المسيح. بعد
ذلك, حين قام براندو ببطولة المطاردة للمخرج الرائع آرثر بن
تعامل الممثل مع جسده
بواقعية. اللكمات التي انهالت علي وجهه, وهو يقوم بدور شريف بلدة يحاول
منع
أبنائها من التعرض لشاب هارب من السجن( روبرت ردفورد في أحد أدواره
الأولي)
كانت حقيقية.
كانت لبراندو سقطاته بالطبع. هو نفسه يؤكد أن
أسوأ فيلم مثله
ويتمني لو أنه يمحي من الوجود فيلم عاطفي فانتازي عنوانه كاندي. لكن الحال
هي أن
براندو في زمن كاندي( النصف الثاني من الستينيات) كان قد أصبح في نضج
كامل ما
جعل الأدوار التي تستطيع استيعاب قدراته أقل عددا مما كانت
عليه في السابق. بعد
كاندي شوهد في فيلم عادي آخر هو ليلة اليوم التالي(1969) ثم في فيلم
بريطاني غير
ذي شأن عنوانه زوار الليل(1971).
مواقف سياسية
لكن الحال لم يستمر طويلا ولم يكن
حتي متواصلا. ففي العام1969 انتبه براندو إلي أهمية الرسالة السياسية
التي فيلم
جيلو بونتوكورفيو أحرق, فهو فيلم يساري النبرة( من مخرج إيطالي معروف)
يدور
حول القمع العنصري الذي ساد القارة الأفريقية في مطلع القرن الماضي(
العشرون).
وبونتوكورفيو هو الذي أخرج واحدا من أفضل الأفلام التي تم
إنجازها عن الثورة
الجزائرية وهو معركة الجزائر.
الفيلم الكبير التالي لبراندو كان العراب. ويا
له من فيلم مذهل تتحسس كل دقيقة فيه إخراجا وتمثيلا وكتابة وتصميم مناظر إلي
اليوم.
العراب, كما أخرجه سنة1972 الفذ فرنسيس فورد كوبولا كان ملحمة أولي
من نوعها. أفلام العصابات قبل ذلك إما تعاطفت مع البوليس أو
مع المجرمين ضمن
شروط( العشرينيات والثلاثينيات امتلأت بها), لكن العراب كان الأول الذي
عايشها
وجسدها وصور الخارجين علي القانون بضوئين واحد متعاطف وآخر مضاد. في
العام1972
فاز بالأوسكار عن دوره في هذا الفيلم لكنه استهان بقيمتها وما
ترمز إليه هوليووديا
مفضلا استغلال المناسبة لسوء معاملة الهنود الحمر.
في العام1973 ظهر براندو
في فيلم برناردو برتولوتشي آخر تانغو في باريس ورشح للأوسكار
عنه. براندو في
الفيلم قدم أداء جديرا( أفضل ما في العمل بأسره) لكن أعضاء أكاديمية
العلوم
والفنون السينمائية, مانحة الأوسكار, لم يرغبوا في المخاطرة مرة أخري
بإيداع
الأوسكار ممثلا كان قبل سنة واحدة قد ردهم خائبين.
في العام1979 ظهر فيما
يمكن تسميته بـآخر دور رائع له وذلك في سفر الرؤيا الآن مرة
أخري تحت إدارة فرنسيس
فورد كوبولا مثل براندو شخصية الجنرال الأمريكي الذي أصابه جنون العظمة فحول
حاميته
في عمق فيتنام( خلال الحرب هناك) الي مستعمرة تحكم بأمرها تقتل
الفيتناميين
والأمريكيين إذا ما حاولوا إيقافه. دور داكن في فيلم داكن
ورائع عن رواية جوزيف
كونراد الصعبة والممتعة معا قلب الظلام. براندو كان ممثلا شامخا ومثيرا
للاهتمام
بصرف النظر عما يؤديه. وذلك جلي في فيلمه الأخير الضربة.
يقول براندو لرضا
الباهي في واحد من مقابلتهما:
أنا الذي أدرت إضاءة المشهد الذي يجمعني ودي
نيرو في المسبح( وهو واحد من أفضل مشاهد الفيلم) وأنا الذي أدرت إضاءة
المشهد
الذي أظهر فيه لأول مرة في فيلم سفر الرؤيا الآن. فرنسيس(
كوبولا) استاء من
تدخلي, لكني لم أرد عليه.
المشروع يستمر
براندو الكبير في كل شيء, قيمة
وتاريخا وجسدا, لم يعش لكي يحقق فيلما تحمس إليه لدرجة مطاردته له.
لكن
مشروع براندو وبراندو لرضا الباهي لا ينوي التوقف بموت ركنه:
نفكر الآن في
تغييرات بحيث نستعيض عن ظهور براندو ونحافظ علي تحية الفيلم
إليه في كل
الأحوال.
شخصيا, حزنت علي رحيل هذا العملاق أكثر حينما
علمت بموقفه المؤيد
للفلسطينيين. ليس لأنه موقف غير منتشر بين عدد متزايد من الفنانين
الأمريكيين,
لكن براندو كان الوحيد الذي جاهر به إذ وضعه في كتابه عن قصة حياته*
####
لماذا رفض الوحش المهيب جائزة
الأوسكار؟!
رحل مارلون براندو عن عمر يناهز الثمانين عاما,
ورفض مدير أعماله الإدلاء بأي
تفاصيل عن ظروف وفاته, بعد قضائه لفترة في المركز الطبي في جامعة
كاليفورنيا,
بعد حياة صاخبة, حافلة بالمباهج والمآسي!
اجتهد البعض في تشخيص مرضه, علي
أنه أزمة صدرية لأنه عاني قبل ذلك من مشاكل في الرئة. وتباري الجميع في
رثائه,
خاصة الذين عملوا معه. ويعتبر النقاد مارلون براندو علي رأس قائمة نجوم
هوليوود
العباقرة الذين يحملون لقب الوحوش المهيبة, وغالبيتهم ممن
تأثروا به مثل روبرت
ديفال وهارفي كيتل وروبرت دي نيرو وآل باتشينو. وهم يعدونه أعظم ممثل في
التاريخ
السينمائي, وهو يتمتع بحضور طاغ, وأداء متفرد, فله صوت متثاقل ونظرة
مغناطيسية وروح متمردة وأسلوب تهكمي., والحدث الذي أبهر
الجميع عندما رفض براندو
استلام ثاني جائزة أوسكار له عن دوره كأحسن ممثل في الأب الروحي عام1973,
كاعتراض
منه علي سوء معاملة السكان الأصليين من الهنود الحمر. وكان قد فاز بها لأول
مرة
عن دوره كأحسن ممثل في علي رصيف الميناء عام1955, بالإضافة لفوزه وترشيحه
لجوائز
أخري عديدة عالمية. ورغم المجد الذي حظي به ولم ينله أحد
غيره, فلم يتكالب يوما
علي الشهرة, بل علي العكس كان دائم الترفع والاستغناء, وعلق في إحدي
المرات
قائلا:كنت حريصا دائما منذ بدايتي, علي إيجاد وسيلة لتصغير دوري بقدر
الإمكان, حتي لا أعمل أكثر من اللازم!!
ويقول أيضا ضاحكا:هل كان سيصفق
الناس لي لو كنت عامل سباكة؟ ويتحدث عن شخصيته قائلا:أنا لا أجيد التصرف
أحيانا, ويعتقد الناس أنني متبلد الشعور. الحقيقة أنا
استخدم ذلك كدرع لحمايتي
لأنني شديد الحساسية, وإذا وجد مائتي شخص في حجرة ومن بينهم شخص واحد لا
يرغب في
وجودي, سوف أخرج فورا.
|
الفنان .. والمتمرد .. والأسطورة
نبيل زكي
بعض الفنانين يجدون انفسهم، مع مرور الوقت، ضحية
للنسيان..
تتلاشي اسماؤهم من الذاكرة وتموت اعمالهم معهم، تتواري صورتهم بسرعة مخيفة
وتصبح
خرساء.. ولا تقول شيئا، وتمحو الأيام ما تبقي منهم.. اذا كان قد بقي شيء
ما.
ولكن الفنان مارلون براندو.. حالة مختلفة.
فرغم تصرفاته العجيبة وغرابة
أطواره ومزاجه المتقلب وولعه بالمشاكسة والصدام وشخصيته الشاردة والعنيدة
التي
تنطوي علي قدر كبير من الالغاز .. إلا ان عددا محدودا من
الادوار التي قدمها في
السينما اثارت جيلا بأكمله واحدثت صدمة كهربائية وتحولا في فن التمثيل
السينمائي
الي الابد.
يقول روبرت اوزبورن، مؤرخ هوليوود، 'انه واحد من
أعظم ممثلي الشاشة
الفضية في كل الأزمنة والعصور'.
اتذكر انطباعاتي واستعيد من ذاكرتي..
انفعالاتي.. وانا اشاهد افلام مارلون
براندو في سنوات الصبا.
هل يمكن لأربعة او
خمسة ادوار كبري ان تجعل من الانسان.. 'الفنان الاعجوبة'
و'المعجزة المتمردة'؟
***
أتذكره الآن في دور ستانلي كوفالسكي في فيلم 'عربة
اسمها
الرغبة' المأخوذ عن مسرحية الكاتب الكبير 'تينيسي وليامز' وفي دور الثائر
المكسيكي 'اميليانو زاباتا' في فيلم 'فيفا زاباتا'
المأخوذ عن قصة الكاتب جون شتاينبك.. وفي
دور 'تيري مالوني' الملاكم السابق في فيلم 'رصيف الميناء'
الحائز علي جائزة
الأوسكار '1954'.. وفي دور مذهل في فيلم 'الأب الروحي'، هو دور 'دون فيتو
كورليوني'.
واتذكره الآن في مشهد واحد لا ينسي في فيلم 'القيامة.. الآن'.. ونحن
نتابع الرحلة الطويلة للضابط الأمريكي 'ويلارد' عبر احد أنهار
فيتنام، اثناء الحرب
هناك، بحثا عن الكولونيل الأمريكي 'كيرتز' 'مارلون براندو' الذي رفض المشاركة
في
الحرب ضد الشعب الفيتنامي.. والمهمة التي كلف بها الضابط 'ويلارد' هي قتل
الكولونيل
كيرتز.. ونري مارلون براندو في المشهد يبدو امامنا كما لو كان 'بوذا'، أو نصف
إله..
ويرتفع صوته وهو يلفظ آخر كلماته عن الحرب قائلا: 'الرعب.. الرعب'.
***
هذه الأدوار المحدودة تجعل من مارلون براندو
..الأعظم.
وعلي حد تعبير الناقد السينمائي 'ريك ليمان'، فإنه من المؤكد ان هذا الفنان
واحد من
حفنة من ممثلي السينما الأمريكية الخالدين.. بل يري البعض انه 'الأعظم'
بينهم.
ويمكن القول ببساطة انه في فن التمثيل السينمائي..
هناك ما قبل مارلون
براندو وما بعد مارلون براندو.
والمسافة بين 'ما قبل' و'ما بعد' اقرب الي
المسافة بين كوكبين مختلفين.
نحن بازاء حضور عبقري فذ، وقامة تراجيدية مهيبة،
واداء عملاق احدث ثورة في اسلوب الاداء.
انه نوع من 'الكاريزما' او القبول
يستقطب الجمهور ويحتضنه في دفء وحنان.
ويتفق الجميع علي انه رائد طليعي سبق
عصره، وعلي ان الكثيرين قاموا بتقليده ومحاكاته.. بل ان الكثيرين من الممثلين
تأثروا بأسلوبه، واصبح كل منهم يحتوي في ادائه علي صدي لنموذج براندو، ومنهم
بول
نيومان ووارين بيتي وروبرت دي نيرو.. واخيرا ليوناردو دي
كابريو.
بداية الانطلاق
كانت مسرح برودواي في عام 1947 وهو يؤدي دور كوفالسكي في 'عربة
اسمها الرغبة'، وكان
عمره 23 سنة، ثم قام بنفس الدور في السينما عام 1951 وعندما حقق نجاحا كبيرا
في
المسرحية، قال: 'كما لو انني، بعد النوم، أفيق جالسا فوق قالب حلوي'!. ومرة
أخري
نلاحظ ان اسطورة براندو تعتمد علي عدد صغير من
الادوار التي جعلت منه نجما لم تعرف
السينما من يماثله في حجمه.. ولا من هو اشد بريقا وتألقا.
***
في ورشة الدراما بالمعهد الجديد للأبحاث
الاجتماعية في
نيويورك تعلم براندو فن 'التمثيل المنهجي' الذي ابتدعه في روسيا كونستانتين
ستانسلافسكي في العشرينات من القرن الماضي، واشتهر هذا الفن في نيويورك في
الاربعينيات علي يد مجموعة من الاساتذة بينهم 'ستيلا آدلر'،
التي تعلم مارلون
براندو علي يديها.
يقول براندو عن ستيلا آدلر:
لقد علمتني ان اكون صادقا، وان
لا احاول اصطناع او افتعال عاطفة لم اشعر بها شخصيا اثناء الأدوار.
وفكرة
التمثيل المنهجي تعتمد علي استخدام الممثل لمهارته اكثر من
اعتماده علي التقنية مما
يقربه من الصدق في الاداء.. وكان براندو يتمتع بنفاذ بصيرة وبالقدرة علي
اكتشاف
ابعاد الدور.. انه ناقد واكاديمي عندما يناقش دورا معينا ولم يكن هناك من هو
افضل
منه في التقاط اللمسات الذكية التي تجعل الشخصية نابضة بالحياة.
***
في سيرته الذاتية.. يكتب المخرج 'ايليا كازان'
قائلا: 'لم
امارس الاخراج في مشهد التاكسي في فيلم 'علي الرصيف'.. وما حدث هو ان مارلون
براندو
شرح لي كما كان يفعل في معظم الاحيان الكيفية التي ينبغي بواسطتها اداء
المشهد..
انه يفاجئني دائما بمثل هذه المعجزات الصغيرة.. وفي احيان كثيرة، وجدته افضل
مني..
وكان شعوري نحوه هو الامتنان'.
وفي ادائه لدور دون فيتو كورليوني في 'الأب
الروحي' حرص براندو علي تقديم تصوره الشخصي للفيلم كعمل انتقادي 'للبيزنس'
الامريكي
وشراهة الاحتكارات، بينما كان تصور المؤلف 'ماريو بوزو'
للشخصية.. مختلفا.. وهذا
الاداء لشخصية كورليوني هو الذي بقي في ذاكرة الاجيال، ولا يستطيع احد
إزالته.. وفي
كل مرة يقف فيها امام الكاميرا.. يبتكر شخصية اخري غير تلك التي ارادها
المخرجون
الذين كانوا مفتونين بأدائه المتميز.. بقدر ما كانوا يمقتون
تصرفاته.
مهارة
الممثل ترتبط بنظرته الثاقبة والمرهفة والواعية للسلوك
الانساني.. والممثل العظيم
يجب ان يعرف العالم ويشعر بشيء ازاءه.. وبالهموم الأشمل والأوسع للبشرية
ويشارك
فيها.
بعد خلافات حادة مع المخرج الأمريكي لويس مايلستون
اثناء تصوير فيلم 'ثورة
علي السفينة باونتي' '1962'.. زعم المخرج ان براندو اعتاد ان يسد أذنيه بقطعة
من
القطن 'حتي لا يسمع تعليمات المخرج'!.
وبدأ الترويج للإدعاء بأن الفنان 'صعب
المراس'.
فهل كان هذا هو السبب في ان مارلون براندو لم يجد
امامه سوي فرص ضئيلة
للعمل الفني في أدوار جادة خلال الاربعين سنة الماضية.. اي عبر الجزء الأكبر
من
حياته بعد النضج؟ لقد جلبت أفكاره الاجتماعية عليه التعاسة بعد أن أخذت
تطارده
أدوار لا ترضي ميوله.
الآن يوجه بعض النقاد الاتهام لصناعة السينما
الأمريكية
بأنها تجاهلت براندو تحت ستار أقاويل ترددت بأنه يبدد موهبته، وانه نرجسي
'يعشق
ذاته' ويصعب توجيهه.
غير ان المخرج الايطالي جيلو بونتيكورفو، الذي عمل
مع
براندو في فيلمي 'تأملات في عين ذهبية' و'احرق!' يشهد بأنه علي الرغم من
حساسية
براندو المفرطة وصعوبة العمل معه، إلا انه علي مستوي عال من المهارة الحرفية
وانه
في النهاية يفعل ما هو مطلوب منه.
ام ان محاولة براندو التوغل علي نحو اكثر عمقا
في الشخصية الانسانية وظروف الحياة.. جعلته يشعر بأنه في بيئة غير مواتية
وغير
مريحة وبأنه اصبح غريبا عن صناعة السينما، وخاصة في الاحقاب
الأخيرة؟
ثمة حالة
من عدم الوفاق بين براندو والعالم الذي ينتمي اليه.. او حالة
من عدم القدرة علي
التكيف مع السينما التجارية، وهو امر لا علاقة له بعيوبه الشخصية او اضطرابه
العصبي.. ولكن قد تكون له علاقة بالنفور الطبيعي لديه من الفساد والنفاق
وانعدام
الامانة.. تماما كما كان حال شخصيات فنية اخري مثل اورسون ويلز
ومارلين مونرو في
فترة ما بعد الحرب العالمية.
ام ان ملوك صناعة السينما اتخذوا موقفا رافضا
لمارلون براندو بسبب توجهاته الفكرية والسياسية؟
***
في عام 1996، ظهر براندو في مقابلة مع المذيع
التليفزيوني
الشهير 'لاري كنج' في شبكة 'سي.ان.ان' ليصرح بأن 'اليهود يحكمون أمريكا، بل
انهم
يملكونها فعلا'.. وقامت القيامة.. واتهموه بأنه عنصري ومعاد للسامية.
وقبل ذلك
شارك براندو في اجتماع لتأسيس فرع هوليوود من لجنة مناهضة
الأسلحة النووية مع 'هنري
فوندا' و'مارلين مونرو' والكاتب المسرحي الكبير 'آرثر ميلر' و'هاري بلافونت'
وفي
مايو عام 1960، شارك مع الفنانة 'شيرلي ماكلين' وآخرين في اجتماع امام سجن
كوينتين،
وشارك في مسيرة شعبية في اغسطس 1963 في واشنطن للدفاع عن
الحقوق المدنية، وهي
المسيرة التي ألقي فيها الزعيم الأسود 'مارتن لوثر كنج' خطابا مدويا.
وخلال
زيارة للندن في عام 1964، شارك براندو في اعتصام امام سفارة
حكومة جنوب افريقيا
العنصرية للمطالبة باطلاق سراح المسجونين السياسيين، ووجه نداء الي الممثلين
والمنتجين والمخرجين والكتاب السينمائيين لكي يشترطوا في اي عقد يبرمونه في
المستقبل حظر عرض افلامهم علي مشاهدين من انصار التفرقة
العنصرية. ومنذ اوائل
الستينيات، ارتبط براندو بحركة حقوق الهنود الامريكيين، وألقي القبض عليه في
عام 1963
بولاية واشنطن لمساندته حقوق الصيد للهنود.. وفي عام 1976، القي القبض علي
براندو في سان فرانسيسكو بسبب تأييده لزعيم حركة الهنود
الامريكيين دنيس بانكس..
وساند الهنود بعد المواجهة الدموية بينهم وبين الشرطة الفيدرالية الأمريكية
في
داكوتا الجنوبية.
ويقول القس الامريكي الاسود وزعيم حركة الحقوق
المدنية جيسي
جاكسون: 'لقد ساعدنا براندو كثيرا في سنوات الستينيات'.
ودافع براندو عن حركة
'الفهود
السود' الامريكية الشهيرة، وساعدهم ماليا وشارك في تأبين الزعيم الاسود
جورج جاكسون، الذي اغتيل في داخل السجن.. ودافع عن 'هوي نيوتن' زعيم الفهود
بعد
القبض عليه في اوكلاند عام .1968
ووقف براندو ضد حرب فيتنام، وضد كل اشكال
القهر، كما وقف الي جانب المجتمعات المظلومة.كان يقول: لو اضطررت لضرب رأسي في
جدار حجري لكي ابقي صادقا مع نفسي.. لفعلت ذلك.
وبذل براندو.. جهودا كبيرة لدعم
الاطفال من خلال منظمة 'اليونيسيف'.
***
كان مارلون براندو يقول: 'ان الممثل يجب ان يلتزم
بشيء
واحد تجاه جمهوره، هو ألا يجعله يشعر بالملل'. وجاء وقت اعرب فيه براندو عن
اشمئزازه بصورة متزايدة من صناعة السينما.. ولكن الناس
سيتذكرونه كمتمرد حقيقي لا
يقبل المساومة، ولأنه آخر عمالقة الجيل الذهبي في السينما الأمريكية، ولأنه
اتقن
تقديم افلام من نوعية مختلفة وادوار مختلفة بسهولة ويسر.. لم يضارعه فيهما
احد..،
ولأنه احدث ثورة في السينما الأمريكية، وفتح عصرا جديدا في
الأداء، ولأنه كان خصما
للرأسمالية الأمريكية المتوحشة ولأنه رفض الاوسكار تعبيرا عن رفضه للتعسف
والظلم
والاضطهاد لسكان امريكا الأصليين.
ورغم أنه حصل علي 3 ملايين دولار مقابل ظهوره
لمدة 10 دقائق في فيلم
'سوبر
مان' .. إلا أنه مات مفلسا بعد أن تراكمت عليه
الديون بسبب كوارث عائليه.
|