انتظر الفرنسيون يوم الأربعاء الماضي, منذ مهرجان "كان" الأخير حين حاز
فيلم مايكل مور "فهرنهايت 9/11" على جائزة السعفة الذهبية.
ففي فرنسا يبدأ عرض الأفلام الجديدة في الصالات كل يوم أربعاء ويقف مئات
الفرنسيين في صفوف طويلة تصل الى الرصيف.
أنا اخترت ألاَّ أقف في الصف وانتظرت جالساً في مقهى السينما. دخل الجميع
ثمّ دخلت. ثمن جلوسي في المقهى دفعته فور دخولي الى الصالة بحيث لم أجد
مقعداً إلا في الصف الأمامي الأول شبه الملاصق للشاشة. وحدها امرأة في
الثلاثين من عمرها وصلت بعدي وجلست قربي, ثم بدأ الفيلم.
هو فيلم وثائق لا سينما فيه. على رغم محاولات مور أن يخلق من توليف صور
الأرشيف فيلماً تكون له قيمة فنية وبعد سياسي. وهو فشل حتى في ذلك. فالفيلم
هو عبارة عن سلسلة فضائح الرئيس الاميركي جورج بوش وادارته. كلام لا شيء
جديداً فيه, يبدأ بكيفية إعلان بوش الحرب على العراق بحجة اختلقها, وكيف
قضى معظم وقته في عطلة في بيته الصيفي بينما الشعب الأميركي كان بحاجة اليه
في البيت الأبيض.
مور ليس سينمائياً إذاً حين يبيع فيلماً كهذا, وهو ليس فناناً ولا كاتباً.
يحاول أن يلعب لعبة سياسية لكنه بعيد كل البعد عن السياسة. هو أقرب الى
كونه صحافياً يبحث عن أخبار وفضائح السياسيين لتتصدر غلاف مجلة رخيصة, ثم
يكتبها بلا أسلوب وبلا تحليل فعليّ معمّق.
الفيلم ممل فيه صور سياسيين يتكلمون ثم يعيدون ما قالوه ثم ينكرون كل
شيء... صور من التلفزيون ومن كواليس التلفزيون. نرى وزير الدفاع الاميركي
دونالد رامسفيلد يبصق على يده ليمشط شعره, أو جورج بوش أمام الكاميرا قبل
أن يبدأ الارسال. الفيلم كأنه نتيجة خلاف شخصي بين بوش ومور, لا موضوعية
فيه.
وهناك صوت مور الذي يعلّق على كل مشاهد الفيلم. كأنه يشدّد على كونه عدو
الرئيس الأميركي, هو شخصياً, بصوته وصورته. فهو يظهر في الفيلم, بثيابه
التي لا غنى عنها, بصندله المعهود و"الشورت" والكاسكيت. ثياب كأنها موقف
سياسي بحدّ ذاتها. هي ثياب البساطة وعامة الشعب الاميركي بينما الحقيقة هي
أن مور من أغنى أغنياء هوليوود.
في أحد مشاهد الفيلم التي يظهر فيها, ينتظر خروج اعضاء مجلس الشيوخ من
اجتماع ويخاطب بعضهم قائلاً: "جئت أكلمكم عن طرق الالتحاق بالجيش من أجل
أولادكم لأنني أرى أن أولادكم يجب أن يلتحقـوا بالحرب قبل أولاد الشعب".
استفزاز أمــام الكامــيرا لا يخلو من السخف والتطرّف! كأن مشكلة بوش
وحكومته هي في أولاد الشيوخ الذين لم يذهبوا الى الحرب. وحين أقرأ أن ابنته
في مدرسة خاصة في شارع مانهاتن في نيويورك لأنه رأى أن جو المدرسة العامة
لا يناسبها, أتعجب من جرأته! هو لم يعد من الشعب إذاً كما يقول. وهو ما عاد
يعيش في ميشيغان بل في أحد افخم أحياء نيويورك. هو إذاً يتكلم باسم الشعب
من منصّة النجوم والأغنياء. وهو يقدر على محاربة بوش لأنه أقرب اليه منه
الى الشعب, وينتمي الى فئته الاجتماعية.
والفيلم يتهم بوش وحكومته بنشر أكاذيب عدّة وخلق جوّ من التوتر والخوف
المتعمّد في المجتمع الاميركي, بهدف أن يبقى هو المسيطر. نوع من غسيل
الأدمغة الجماعي.
مور يفعل الشيء نفسه لأنه يفرض آراءه السياسية على شعوب كاملة, وهدفه
الوحيد أن ينال من بوش وينزعه من منصبـه. تماماً كما ان هدف بــوش الوحيد
هو أن يبقى في منصبه. وبدل الموضوعية التي لـــم يقدر مور أن يتحكم بها
لشــدة كرهه للرئيس الأميركي وتعصبه لمعتقداته السياسية, لجأ الى الكذب (هو
أيضاً) بنبرة الصدق والحقيقة المطلقة. فقد كتبت صحف ومجلات أميركية عدة أن
في الفيلم معلومات عديدة غير صحيحة. كقصة السعوديين الذين تركوا الأراضي
الأميركية مباشرة بعد 11 أيلول (سبتمبر), ومعهم عائلة بن لادن, والحقيقة أن
طائرة لم تقلع في الأيام الأولى للحادثة.
لجأ مور الى تحوير الحقيقة واستعمال الصور والموسيقى والكلمات ليؤثّر في
المشاهدين. استعمال الفنّ لأهداف سياسية (أو شخصية من يدري).
انه فيلم "بروباغاندا" إذاً, أو "بروباغندا معاكسة". صور يريدها أن تكون
قوية, أن تصدم الجمهور وتؤثر عليه. كصورة بوش يلعب الغولف ويهزأ من العمل,
أو صورة الأم الأميركية التي فقدت ابنها الذي كتب لها في رسالته الأخيرة
أنه يكره بوش وأن الرئيس افتعل حرباً من لا شيء.
وهناك مشــهد الأولاد العراقيين يلعبون بطائرة مــن ورق ويضحكــــــون, مع
خلفيــة مــن الموسيقى الهادئة. ثم فجــأة... دوي انفجار. المشهــد هــذا
يرمز الى بداية الحرب العراقية وهو المشهد الوحيد الرمزي والسينمائي. ولكنه
كالسينما الهوليوودية, تتخطى رمزيته الحقيقة فلا تعود تشبهها أو تعبّر
عنها, خصوصاً أن العراق والعراقيين يظهرون كموضوع ثانوي في الفيلم. فبوش
يكذب على الأميركيين, ويتسبّب في قتل شباب أميركيين ويُحزن أمهات
أميركيات... وأكثر من ذلك, يُغضب مخرجاً أميركياً. كأن الأميركيين هم
المشكلة وهم الحلّ. والعراقيون "تحصيل حاصل". كأنّ كذب بوش على شعبه فعل
أقبـح من تسبــبه بقــتل أبرياء عراقيين, أو كأنــه لــو لم يكذب, لما كان
في قتلهم مشكلة.
الفتاة التي وصلت بعدي وجلست قربي لم تتوقف عن التنهّد خلال المشاهدة.
كأنها تشهد خروج الحقيقة الى العلن, كأنها حين دخلت الى الصالة كانت لا
تعرف عن بوش إلاّ ما يقوله هو عن نفسه, أمّا بعد خروجها فباتت تعرف
الحقيقة. ان كان الشعب الأميركي بسيطاً كما هذه الامرأة, ففيلم كهذا ممكن
أن يؤثر على مجرى الانتخابات المقبلة, ويكون بذلك المخرج مور هزم الرئيس
بوش. ولكن بوش لم يقل بعد كلمته الأخيرة... كذبته الأخيرة في حرب السياسة
والصور.
وفي كل الحالات, من الجيد أن يعرف الأميركيون وجه بوش الذي يبقون وحدهم
عميان عنه!
|