مايكل مور وسؤاله: لماذا يَقتلُ
الأمريكي؟
نصري الصايغ
الكاتب والمخرج الأميركي »المنشق« مايكل مور
يبحث عن جواب
لماذا يطلق التلميذ الأميركي، ذات صباحات تتكرر، رشقاً من النار
على زملائه في المدرسة ويُرديهم؟
يذهب مايكل مور الى المدرسة، يحمل عينيه وقامته
المريحة، ويستفتي بكاميرته الأسباب. يسأل: من المسؤول عن المذبحة؟ من القاتل؟
التلميذ أم البندقية أم انتشار السلاح أم الأفلام العنيفة التي يعرضها
التلفزيون؟
لماذا تتخطى نسبة الاجرام، في المدن الأميركية، كل النسب »المعقولة«
في مدن العالم، هل هذا وباء، أم هي عادة، أم هي أسلوب حياة أم لأن أميركا
تحمل في
ثقافتها »جينات قاتلة«.
لا يقنع مايكل مور بالأرقام. الأجوبة السهلة لا تحطّ
براحة أمام أدوات التفتيش. فهو محقق بارع، ومثابر على الكشف...
والافتضاح.
لم
أكن أعرف مايكل مور. كل ما عناني من مسيرته ان فيلمه الوثائقي الطويل »بولينغ
فور
كولومباين« حاز على تنويه في مهرجان »كان« الأخير. وعلى غير
عادة أن تقبل أفلام
وثائقية في حفل فاخر مثل »كان«، أو أن يكون له بطاقة عبور الى المنصة. ولكنهم
تجرأوا... وفعلوها.
كنت في باريس، عندما أمرني ولدي، بالكفّ عن القراءة والسياحة
والعائلة، والذهاب معه الى »مايكل مور« كان مزاجي بليداً، غير
راغب بالتحديق، أو
بمصافحة أحد. فأميركا هي أميركا. وما قرأته عنها يكفيني كي أكوّن صورة شديدة
القتامة وكثيفة العبوس.. ومع ذلك خضعت لآداب الزيارة، وبرهنت أني مطيع لثقافة
الفن
السابع.
شتاء باريس بكائي ومحبط. انتظرت دوري لمصافحة مايكل مور من خلف شباك
التذاكر... لكن المقاعد كانت قد بلغت ثمالتها. فعدت مطمئناً الى أن ولدي لن
يعاتبني
على تقصير ما. غير أنه بادرني بالقول :مايكل مور الهال.. اسرع.
وتبعته حتى بلغت
مقعدي، وكانت الصالة الباريسية مكتملة النصاب.
دخل مايكل مور... ها هو بقامته
يوقّع على أوراق، يفتح حساباً في مصرف، وينال مكافأة لقاء ذلك: بندقية مع
وجبة من
الطلقات بالرصاص الحي.؟
من هنا يبدأ الفيلم الوثائقي الطويل، الذي صفقت له
باريس، ومنحته جائزة »السيزار«، كما صفقت له هوليوود عندما
كرسته أفضل مخرج لأفضل
فيلم ومن منصتها اطلق صيحته:العار عليك يا بوش.
وتبدأ رحلة البحث عن القاتل
وعن القتل
»مايكل« لا يدير الكاميرا. إنه حاضر في متن
المشهد. يذهب الى كل
الأمكنة الصعبة. ويطرق الأبواب الممنوعة. يتخفّى ويلبس قمصان »شبان البنادق«،
الذين
يحرضون على اعتناق عقيدة البندقية، ونشر الايمان السماوي بالدفاع عن النفس،
وعدم
الركون الى الشرطة، فالأميركي الشجاع لا يحتاج الى شرطة كي
»يستعيد حقوقه«، بل الى
بندقية تردع »الجاني«، أو الى قتل احترازي، لخصم أو عدو مفترض. ولائحة
الاعداء
طويلة، تبدأ باللون المكسيكي والأميركي اللاتيني، ويُضاف إليها ملحق بالسود
والخلاسيين والسمر. فالأمة الأميركية أمة بيضاء... فقط؟
...فطهّرونا من كل
دنس.
لم أشعر بملل. كنت أركض خلفه بتعب وشغف. بدا لي الفيلم، أنه رواية حقيقية.
رواية من لحم ودم. من أطفال يقتلون عن
جِدّ. لا تمثيل في الجريمة. إنها الجريمة وقد
تعرّت من مساحيق الدم. إنها الفزع الطبيعي... الهلع الفجّ...
الاختباء خلف
الطاولات، وتحت الأرض واللجوء الى السلالم»التمثيل ممنوع« الكاميرا تنقل
الحدث.
تُسمعك الطلقات والاستغاثات، وبكاء الأهل
والرفاق، ثم تدعى الى وضع باقة زهر على
الدم المسفوك... فنفعل مثلهم، وتنخرط في الدمع.
مَنْ قَتل مَن؟
مجهول قتل
مجهولاً، أو، معلوم قتل معلوماً. وبلا سبب، ولكن لماذا؟
في كولومباين مدرسة.
وثمة لعبة بولنغ. لا أعرف العلاقة بين الاثنتين. إلا أنني تخيلت أن لعبة
البولنغ
تفرض على القناص الماهر، أن يصيب بطلقة واحدة، وبدفعة كرة
واحدة، كل الشهود
المنصوبين في آخر الرواق الطويل. لعل هذا هو السبب في الرشق الذي يطلقه طفل
كان
سوياً بالأمس، على رفاقه في الصف والمدرسة وقاعة الطعام.
قلت: لعل الجواب مقيم
لدى عصابة تجار البنادق، والقوانين التي تبيح بيع الأسلحة، كما تُباع العلكة
وعلب »التشيبس« ووجبات »الهمبرغر«.. فكرة السلاح
بين أيدي الناس تغريهم
باستعماله
مايكل لا يقنع. فعلى الرغم من مطاردته لمروّج هذه العقيدة، وقائدها
الأبيض، الممثل تشارلتون هستون. فإن عدد قطع السلاح في كندا،
بالنسبة الى عدد
سكانها، يفوق عدد قطع السلاح في الولايات المتحدة الأميركية. ولدى »استجواب«
وزير
العدل الكندي، يخرج مايكل باستنتاج: إن عدد جرائم القتل في أميركا يصل الى ما
فوق
العشرين ألف في العام. بينما لم يستطع وزير العدل الكندي أن يتذكر عدد حوادث
القتل
في بلده، بل هو صمت قليلاً وقال في هذا العام: لا أحد، في
العام الماضي، ربما
جريمتان أو ثلاث جرائم. إذاً: السلاح وحده لا يقتل.
على أن مايكل، لا يصدر عفواً
عن أداة الجريمة. يحرض الفتيان والأطفال على المطالبة بحقهم في الحياة، بلا
سلاح،
يدفع الجميع الى استعداد تشريع بمنع بيع الرصاص في المحلات العامة. يصرّ على
ذلك.
لأن إحدى الجرائم ارتُكبت برصاص قاتل اشترى صندوقاً من المخازن الكبرى
التابعة
ل٫K-Mart
يطارد الفتيان البائع. الإدارة مجلس الإدارة. يصرون على احضار الاعلام.
يطردون... ولكن الاولاد، بقيادة الولد
الكبير، مايكل مور، يفوزون، فتعترف الإدارة
بأنها ارتكبت بيع الرصاص الحي القاتل في مخازنها وتعتذر أمام
شاشات التلفزة. وتعد
بأنها لن تفعل ذلك بعد اليوم.
لكن الفيلم لم يجب بعد عن السؤال: الآلة لا تقتل.
فمَن القاتل؟ لا... ليست أفلام العنف. لقد برهن مايكل، أن هذه الأفلام تدور
صورها
في القارات الخمس، وتغزو مشاهدها الدامية شاشات العالم، وتقيم في غرف النوم
مع
الأولاد... ومع ذلك، فإن نسبة جرائم القتل لا تتأثر كثيراً
بهذه المشاهد، وإن كانت
تخلق تشوّهات نفسية، وتعطل قوى المجال في المخيلة.
إذاً: مَن القاتل؟ مَن المحرض
على القتل؟ لماذا وحده الأميركي، بين سكان هذا الكوكب، يعيش في كوكب آخر من
العنف؟
قبل الاجابة التي يعرضها الفيلم، سمحت لنفسي بفسحة من السياسة، على عادتي
في الهروب من الموضوع. لقد أصرّت وسائل الثقافة والدعاية
والسياسة الأميركية على
تعميم الخوف وتوزيع الرعب كل يوم، من القنابل الذرية التي يمكن أن تسقط في أي
لحظة
آتية، من الاتحاد السوفياتي. فخاف الأميركيون، وصار السوفياتي عدواً. وبات كل
من لا
يخاف من السوفياتي، عدواً أيضاً. فالخوف المشترك هو هوية الأميركي العادي.
بعد
سقوط الاتحاد السوفياتي، وانهيار جدار الفصل بين عالم مخيف وعالم خائف،
استمرت
الولايات المتحدة الأميركية في تكريس الخوف لدى الأميركيين.
ولما سئل وزير الدفاع
الأميركي الحالي دونالد رامسفيلد عن الأعداء المحتملين والذين يهددون أميركا
اليوم
أجاب: كوريا الشمالية و...
سخر معلّق سياسي من هذا الجواب؟ :ليس لدى الشعب
الكوري أرغفة خبز كافية ليومه. شعب جائع... فكيف يهدد
أميركا؟؟، إلا أن الأميركيين
يصدقون إعلامهم الصاخب والمكرر. ولا يتنبّهون الى ملاحظات ساخرة أو حقيقية
يطلقها
معلّقون أو مفكرون مترفون في نقدهم ومهملون لواجباتهم اليومية، ازاء احترام
الأميركي الذي من حقه أن يخاف ويدافع عن نفسه.
المشاهد على قارعة القلق:
لماذا يقتل؟
لكنني صدّقت فرضيته بالكاميرا المجردة. الأميركي مواطن يتربى
على خوف دائم يوقظ فيه غريزة الدفاع عن نفسه بسلاحه. ولأن
الأميركي خائف، ومتخوّف
دائماً، فهو يقتني السلاح ليدافع به عن نفسه، وليقتل عندما يرى ذلك ضرورياً.
وليمارس حقه في تطهير المجتمع الأميركي من
الطفيليات الآنية من وراء البحار الصينية
والهندية والعربية والإسلامية واللاتينية. وتطهير القارة
البيضاء، من غير المتحضرين
البيض.
ثمة ملاحظة أشار اليها ادوار سعيد، عندما تحدث عن »السي إن ان« الأميركية
بأنها تخلو من أي ملون يظهر على شاشتها في الداخل الأميركي، بينما يطعّم مشهد
الشاشة بعدد مقبول من الملوّنين وذوي اللكنات العالمية،
لمخاطبة شعوب العالم بما
يليق بهم. فلكل شعب لونه ولغته.
مايكل مور يقدم في فيلمه »بولينغ فور كولومباين«
قصة مقلقة. بل يقدم وثيقة إدانة للثقافة الأميركية السائدة، التي عمّمت أسلوب
الحرب
الوقائية، كدرس يومي، يتعلّمه المواطن في الدفاع عن نفسه من قبل عدو مفترض.
ولا
يعود غريباً أن يصدق الأميركيون جورج دبليو بوش في حربه المعلنة على العراق
وسواه
من الدول »الحارقة« ففي العالم الأميركي الصغير، ترتكب جرائم
قتل متفرقة. وفي
العالم الأميركي الامبراطوري. ترتكب جرائم قتل فائقة الأعداد. انها الثقافة
نفسها... بل هي العار نفسه.
لذلك، عندما اعتلى مايكل مور منصة »الاوسكار«، هتف
بأعلى جرحه: العار عليك يا بوش.
الخائن مايكل مور واحد من أجمل الخونة المخلصين
لبلادهم، بطريقة أخرى.
فهو يستحقّ أكثر من تحية... ولعلنا نستحقّ أن نمضي خلفه
في صراعه الشرس، ضد الزيف... وضد »الطغمة الحاكمة« في واشنطن،
التي استولت على
السلطة، بقرار تزوير الانتخابات...
# # # #
لأول مرة في تاريخ دور العرض السينمائية
المحلية:
الفيلم الوثائقي »فهرنهايت ١١/٩« بالبحرين يفتح الباب لأفلام
أخرى
أحمد مرسي
في بادرة هي الأولى من نوعها في تاريخ دور العرض السينمائية المحلية،
تعرض سينما السيف الفيلم الوثائقي »فهرنهايت
١١/٩« للمخرج مايكل مور الحاصل على
جائزة السعفة الذهبية في مهرجان »كان« السينمائي عن الفيلم ذاته.
الفيلم سجل
رقماً قياسياً في شباك التذاكر لإسبوعين متتاليين من عرضه كونه فيلماً
وثائقيا، حيث
حقق ٨.١٢ مليون دولار في اول ثلاثة ايام من عرضه.
عرض الفيلم يمثل تحولا
جديدا -ربما- في تعاطي دور العرض السينمائية المحلية التجارية مع الأفلام
الوثائقية
خصوصاً، إذا لم يسبق أن عرضت السينمات فيلماً وثائقيا، وتأتي هذه المبادرة
كون
الفيلم أخذ حيزا كبيراً من خلال حجم الدعاية التي رافقته خصوصا
التزامن الذي حظي به
في ظل الأوضاع السياسية الامريكية المتقلبة وفي ظل غزو العراق من ناحية
أخرى.
عرض الفيلم لا يخلو أبدا من حسابات لدى سينما السيف، وهي خطوات تطال وتيرة
التنافس الذي تشهده دور العرض السينمائية بينها وبين سينما الدانة التي هي
أيضا
بالمقابل تسعى لكل ماهو جديد تجاريا، فمع بدء الصيف عرض سينمات
الدانة فيلمي (اليوم
التالي) وفيلم (الرجل العنكبوت ٢) وبدأت السيف بعرض فيلم (هاري بوتر) وينتظر عما
قريب عرض فلمي (شريك٢) و(الملك آرثر) اللذين يحققان مدخولا جيدا في دور
العرض
السينمائية، لهذا فإن عرض فيلم »فهرنهايت
١١/٩« وإن كان غير مدرج في خطط السيف
السابقة إلا أنها خطوة تعد مكسبا لواقع حركة دور العرض، وهذا بالتأكيد
سيلفت انتباه
القائمين على دور العرض في ان يستقطبوا مثل هذه الأفلام غير المدرجة ضمن
التصنيف
التجاري.
من ناحية أخرى تعتبر البحرين من أوائل الدول العربية التي تعرض الفيلم،
ويتوقع أيضا أنه بحال عرض الفيلم في الدول العربية ودول الشرق آسيوية أنه
سيحقق
أرباحاً تعكس توقعات متابعي السينما الذين يصنفون الدول
العربية بالدول الأقل
مدخولا في حجم ارباح تذاكر الشباك، وتأتي هذه التوقعات للظرف الموضوعي الذي
سيزيد
من ارباح الفيلم (عربيا) والذي يركز فيه مور على وجهة نظره بأن الحرب على
العراق لم
تكن في مصلحة أميركا٬ وأن الهدف الوحيد منه كان خدمة المصالح
الضيقة للشركات
الأمريكية الكبرى. وأن مسؤولي إدارة بوش قد كذبوا بشأن الأسباب الحقيقية
للحرب،
واستغلوا مناخ الخوف الذي ساد في الولايات المتحدة الأمريكية في أعقاب
هجمات الحادي
عشر من سبتمبر لتحقيق مآربهم الخاصة.
سيجد القارئ هنا تناولا نقدياً للفيلم من
خلال الكاتب أحمد مرسي من جريدة المستقبل اللبنانية ومقال آخر للكاتب نصري
الصايغ
الذي يتناول فيه فيلم »بولينغ فور كولومباين« الذي اخرجه مور قبل فيلمه
الأخير
والذي تدور أحداثه حول العنف في المجتمع الأمريكي.
»فهرنهايت«٫٫
مايكل مور في
الصالات الأميركية نجاح جماهيري متصاعد وانخراط سينمائي قوي في الانتخابات
الرئاسية
أحمد مرسي
لم أحاول، بالرغم من توافر الرغبة والفضول، أن أقف في
طابور بضع ساعات لأجد مقعداً خالياً في دار عرض لمشاهدة فيلم »فهرنهايت ١١/٩«،
في احتمال كبير للفشل، خاصة، بعد أن قرأت في الصحف أن
»المحظوظين« الذين شاهدوا
الفيلم في عرضه الأول في نهاية الأسبوع الماضي قضوا الليلة وقوفاً، مصطفين في
طابور
طويل أمام دار العرض في مانهاتن.
ومع اشتداد ذهول النقاد والمراقبين لنجاح
الفيلم »الوثائقي« المدوي، بعد أن حقق إيراداً قياسياً خلال عطلة الأسبوع،
مكنه من
احتلال رأس قائمة أعلى الأفلام دخلاً، خلال العطلة الأسبوعية، بما فيها
الأفلام
التي تكلف إنتاجها عشرات الملايين، قررت أن أشاهده في العرض
الصباحي الأول ـ الساعة
الحادية عشرة صباحاً ـ في أحد أيام العمل ـ وكان ذلك يوم الثلاثاء.
وصلت الى
شباك التذاكر في الموعد المحدد بالضبط، وقد دهشت عندما لم أجد طابور
المشاهدين الذي
كنت أتوقعه وأخشاه٫ وكانت دهشتي أكبر عندما دلفت الى قاعة
العرض في الظلام، وتبينت
أن القاعة لا تغص بالمشاهدين، وأن المقاعد الخالية تزيد بنسبة كبيرة على
المقاعد
المشغولة٫ ولكنني لم أدهش طويلاً، فقد أدركت، بعد وهلة قصيرة، أن العرض
الصباحي لا
يحضره غير »المواطنين المسنين« Senior Citizens.
يبدأ الفيلم بتقديم يمهد لفتح
ملف بطله، جورج و٫ بوش، بسرد وقائعي مختزل لدراما موقعة الانتخاب من ولاية
فلوريدا،
التي خاض معركتها، بالنيابة عنه، محاربون غير مجهولين من بينهم جيمس بيكر،
وزير
الخارجية في إدارة والد »المرشح«، وشقيق المرشح، حاكم الولاية،
ومساعدوه، وخاصة
سكرتيرة الولاية التي لعبت دوراً هاماً في المناورات التي حسمتها في آخر
الأمر
المحكمة العليا، التي عين بوش الأب، كما يقول مايكل مور في الفيلم، معظم
قضاتها،
لتسليم مقاليد حكم الولايات المتحدة للمرشح الذي لم تؤيده
أغلبية الناخبين.
وبعد
هذه المقدمة التي رسمت اسكتشاً ـ ذا دلالة هامة ـ لشخصية البطل٫ بدأ استعراض
أسماء
المساهمين في العمل السينمائي الوثائقي من فنيين وفنانين بمن
فيهم المعد والمخرج
مايكل مور، ثم ينزاح الستار عن قصة »شره وعجز« الحكومة الأميركية، ونشاطات
الرئيس
بوش صباح يوم ١١ سبتمبر »المشؤوم«، الذي أصر على أنه ما أن علم بهجمات
القاعدة
أثناء اجتماعه بأطفال مدرسة حضانة في فلوريدا، حتى هرول في
الحال من الحجرة مندفعاً
من أجل إنقاذ البلد..
عنزتي الأليفة
ولكن الفيلم يؤكد أنه أُخطر
بالهجوم على مركز التجارة العالمي قبل أن يدخل حجرة المدرسة، وقد قرر أن يتم
تصويره
وسط الأطفال كما كان مقرراً من قبل٫ ونشاهده عندما يبلّغه أحد المسؤولين ـ
أندرو
كارد ـ بالهجوم على البرج الثاني، ويقول صراحة »نحن نهاجم«،
ولكن الرئيس يواصل
قراءة »عنزتي الأليفة« لمدة سبع دقائق أخرى، ويلاحظ المشاهد اضطرابه وبلبلته
في
حركة عينيه )كشخص محشور يبحث عن مرحاض، كما وصفه أحد الكتاب الأميركين)، حتى
أصر
مساعدوه على مغادرة المدرسة٫ ولكنه مكث نصف ساعة أخرى٫ ولا شك
أن هذه اللحظات
الحاسمة تكشف الشيء الكثير عما يمكن توقعه من الرئيس الأميركي في خضم أزمة ـ
تاريخية، مثل الهجوم على عصب التجارة وسوق الأموال في نيويورك، ورمز القوة
العسكرية
للقوة العظمى الوحيدة في العالم، البنتاغون.
ويلتقط مور خيط قصته الوثائقية
التراجيكوميدية إذا صح الوصف، بواقعة أيلول متحرياً ردود أفعالها التي توجت
بقرار
غزو العراق، على أساس مبررات أثبت الواقع بطلانها٫ بالرغم من إصرار إدارة بوش
على
عدم الاعتراف بذلك، حتى الآن٫ ويعجب المرء كيف حصل مور على تلك
اللقطات التي صورت
بأمانة الواقع ارتباك الرئيس الأميركي بل ارتباك إدارته بأسرها في اللحظات
الأولى
بعد وقوع الهجوم غير المتوقع٫ ولا شك أن هذه اللقطات بالذات التي استخدمها في
فيلمه
لم يشاهدها المواطن الأميركي على أي شبكة تليفزيونية، وكأنها التقطت خلسة
ليستخدمها
مايكل مور ببراعة وسخرية لا تخلو في معظم الأحيان من الدعابة، وهي بالتأكيد
دعائم
موهبته التي يسخرها في الغالب لخدمة قضية تهم المواطن الأميركي
العادي٫ وقد أشار
مور في برنامج تلفزيوني الى أن المتحدثين باسم البيت الأبيض قد نددوا بالفيلم
باعتباره »عملاً مزيفاً تزييفاً صادماً« يرمي الى التأثير على الانتخابات
القادمة،
وذلك، بالرغم من أنهم لم يشاهدوه٫ بينما اتهم الجناح اليميني
مور بتنفيذ مؤامرة
لحساب »الجناح اليساري«٫ وقد علق أحد الكتاب بقوله إن المحافظين اليمينيين
اشتهروا
بتدبير مؤامرات للنيل من والتشهير بمسؤولين ديموقراطيين منتخبين٫ وربما قد حل
وقت
الرد بالمثل٫
وعلى كل حال، ينبغي أن يشاهد الجميع الفيلم قبل أن يناقشوا القضايا
المثارة٫ فلا جدال، في أن الغرض من أي فيلم وثائقي هو التأثير على الرأي
العام٫
ولكن بدلاً من الصوت المهم المألوف الذي يعلق على الحدث ويوجه
تفكير المشاهد، يطرح
هذا الصوت أسئلة منطقية صعبة، ويقدم ردوداً عقلانية، ولا يفقد في أي لحظة
قيمته
الترفيهية.
إن ريتشارد مور، الذي فضح شره الشركات العملاقة في »روجر وأنا«
ومكافحة حمل السلاح في (Bowling for Columbine)، يشعر الآن برغبة جانحة في مواجهة
إدارة بوش التي بدأت تبدو، كما يوحي الفيلم، أقرب ما تكون الى الرايخ الثالث٫
فهو
يتهم مسؤولي الادارة بالكذب بشأن دوافع شن الحرب ضد العراق،
البلد الذي لم يهدد
الولايات المتحدة أبداً، وقتل آلاف المدنيين الأبرياء انتقاماً من هجوم ١١
أيلول،
بالرغم من عدم وجود أي عراقي بين الإرهابيين الذين ارتكبوا الهجوم، وقتل أكثر
من
٠٠٨
أميركي، جميعهم من عائلات الأقليات العرقية أو من الطبقات العاملة
الفقيرة.
وقد شدد ريتشارد مور على هذه الحقيقة بشكل مباشر ومقنع، بدون الاكتفاء
بسرد رقم إحصائي، وذلك عن طريق إجراء مقابلات مع عدد من أسر لمقاتلين، وبعض
المقاتلين أنفسهم الذين شهدوا بأن التطوع للخدمة العسكرية هو
الخيار الوحيد المتاح
لهم لإمكان إتمام أي دراسة جامعية، لعدم قدرة ذويهم على تحمل نفقات الجامعة٫
ومن
بين أكثر أجزاء الفيلم إفصاحاً بهذه الحقيقة، وأشدها تعرية لمشاعر الإنسان
العادي
المعقدة، والتي لا يمكن فهمها، أو حتى تصديقها، إلا في إطار
تطورات حالة معينة٫ جزء
تناول أمّاً أميركية بيضاء متزوجة من رجل أسود٫ ويتابع المخرج قصة هذه الأم
المكافحة التي استطاعت، بفضل قوة إرادتها ورغبتها في تحسين وضعها الاجتماعي،
الارتقاء من مجرد سيدة تبحث عن عمل لا يتطلب خبرة أو أي كفاءة
لا تملكهما، الى تولي
وظيفة مرموقة في نفس الهيئة الحكومية التي لجأت اليها لتشغيلها فساعدتها على
تنمية
قدراتها وتأهيلها للعمل٫ ويزور المخرج بيت الأم حيث تكتشف من حديثها معه
إحساسها
الوطني الجاد، وربما المفرط، وزهوها بأن ابنها، الذي لم يتجاوز
العشرين، يقاتل في
العراق، دفاعاً عن الوطن٫ وقد حرصت، مثلما تفعل أسر المقاتلين الأخرى، على
رفع
العلم الأميركي بواجهة البيت٫ وما أن يصلها نعي الجيش لابنها في العراق،
تتحول فجأة
هذه الأم ذات الكبرياء الوطنية الى سيدة مكلومة أفاقتها الصدمة
على مرارة الحقيقة،
موت الإبن في مطلع شبابه في حرب لا مبرر لها، وضد بلد لم يهدد وطنها،
أمريكا.
الأم والأب
وفي مشهد يجمع الأم والأب وبقية أفراد العائلة
تقرأ الأم لمايكل مور آخر رسائل الإبن التي يعبر فيها هو الآخر
عن بلبلته والإحساس
بانقشاع الوهم٫٫ وهم الدفاع عن الوطن في بلد لا علاقة له بهجوم ١١ أيلول٫
ويدفع
نفس هذا الإحساس بانقشاع الوهم الأم الى السفر الى واشنطن العاصمة ومحاولة
نقل
الإحساس بالذنب الى الذين أمروا بشن الحرب على العراق والإلقاء بإبنها الى
حتفه في
أتون حرب ظالمة٫ ولكنها تواجه بجدران صماء وأسوار البيت الأبيض الباردة
فتنخرط ـ
فيما يشبه تراجيدية يونانية ـ في هذيان دام وتحكي قصة الإبن
القتيل.
وعلى الجانب
الآخر، بينما لا ينكر أحد أن صدام حسين كان طاغية، إلا أن الأمهات العراقيات
والأطفال الذين أنقذوا من هذا الطاغية، هم أنفسهم الذين أحرقوا
بالصواريخ وقطعت
أوصالهم ليعيشوا مدى الحياة بدون أذرع وبدون أرجل على أيدي أشرار آخرين في زي
مختلف.
بوش والفظائع
وفي نفس الوقت، يبين المخرج الرئيس بوش وهو يبرر
الفظائع الأميركية ضد صدام حسين بقوله »لقد حاول قتل دادي«
ويسلط مور الضوء على
الحرب التي لم يعد يشعر بالحماسة لها نفس الجنود الذين يخوضونها، كما يكشف
الحوار
معهم، بينما عادت على الولايات المتحدة الكراهية وعدم ثقة العالم بدرجة غير
مسبوقة،
وفي الوقت الذي نرى فيه الرئيس بوش يمارس رياضته المفضلة »الجولف متجاهلاً
القضايا
المحلية الملحة لرعاية الصحة والتعليم والضمان الإجتماعي
والبطالة والاقتصاد، ولكنه
يحرص على تنبيه الصحافيين المحيطين به في ملعب الغولف بأن يشاهدوا ضربته
القادمة٫
بينما قام القائمون بشؤون البيت الأبيض، بدعم من صحافة غير مسؤولة لم تعبأ
بطرح
الأسئلة الصحيحة، باستمالة الرأي العام بإشاعة الخوف والترويج
لفكر ديني عن
زالمسيحي الذي ولد من جديد«، والذي يعتنقه الرئيس بوش وحواريوه٫ ويقول مور
»إن
عملية بث عوامل الخوف استعاضت بالإرهابيين والمذنبين عن الشيوعيين »والبتنيكس«،
ولكنك إذا تمكنت من تخويف الناس بقدر كاف، يفوز ـ القبضاي ـ
دائماً«.
ويتهم مور
إدارة بوش بأنها لا تزال تحاول أن تخفي الدليل الذي يثبت غباءها باحتجاز ٨٢
صفحة
من تقرير لجنة ١١ أيلول المستقلة٫ وقد ركز المخرج على العلاقة الخاصة بين آل
بوش
والسعوديين بصورة عامة، وبخاصة آل لادن٫ وادعى أن آل بوش حققوا
أرباحاً قدرها
٥.١
بليون دولار من المصالح البترولية لآل لادن، أسرة مدبر ١١ أيلول٫ ويتساءل
لماذا سمح البيت الأبيض، في الوقت الذي أوقفت فيه حركة الطيران في أنحاء
البلد بعد
١١ سبتمبر، بجمع أفراد أسرة بن لادن من أطراف الولايات المتحدة
على متن طائرة
وسفرهم ضمن ٢٤١ سعودياً آخر الى الخارج دون تحقيق أو استجواب بالرغم من
اعتراض
مكتب التحقيقات الفيدرالي.
كما يكشف الفيلم عن شخصية صاحب اسم شُطب عليه من
السجلات العسكرية لطيار زميل عُلق وضعه كطيار لرفضه اجراء فحص
طبي٫ وكان الصديق
الذي كان بوش يحاول حمايته هو جيمس بات، الذي شاركه في إدارة الاستثمارات
المالية
الأميركية لعائلة بن لادن.
ويتعرض مور للقانون المسمى »باتريوت« ـ الذي سارع
الكونغرس إلى اعتماده بدون قراءته ـ ويسجّل حالة الهوس التي
أفرزها: مجموعات من
المواطنين تداهمهم الشرطة لعقد اجتماعات ناد خاص، وامرأة ترفض السلطات السماح
لها
بدخول طائرة لأنها كانت تحمل زجاجة لبن عصرية من ثديها، ويؤكد مور أن جميع
هذه
التكتيكات ترمي إلى صرف انتباه الشعب الأميركي عن الجثث
المرسلة الى الوطن من
العراق لتشييعها في جنازات لم يحضرها الرئيس جورج بوش ولو مرة واحدة، أو صرف
الانتباه عن أسطورة »أسلحة الدمار الشامل«٫ ويعرض الفيلم مشاهد يتحدث فيها
أميركيون
مختلفو الأعمار عن شكوكهم حول أولئك الصبية الذين فقدوا حياتهم في حرب مشكوك
فيها
لا تبدو لها نهاية في الأفق، أجل ماذا؟ يقول بوش »الدفاع عن الحرية، بينما
يقول
الفيلم: من أجل تحقيق الربح«٫ ويفضح الخلل في الميزان٫
فالكونغرس الذي يبلغ أعضاؤه
٥٣٥ عضواً، ليس من بينهم غير عضو واحد له ابن
يخدم في العراق.
ويعكس مايكل مور
هذه الحقيقة المذهلة، بكل ما تنم عنه من نفاق وادعاءات البطولة والوطنية
الفارغة
بالوقوف في صحبة ضابط بالجيش أمام الكونغرس ويحاول ان يقنع بعض
الأعضاء الخارجين من
الكابيتول بملء استمارات تطوع أبنائهم للخدمة في العراق٫ ولكنهم ما إن
يتبينوا
المصيدة حتى يلوذوا بالفرار، الواحد بعد الآخر ٫ ويكفي هذا المشهد الفكاهي
لتعرية
الوجه المأسوي للحرب، خاصة اذا كانت حرباً مفتعلة ووقودها أبناء العائلات
الفقيرة
وأسبابها كاذبة.
يقول الناقد ركس ريد٫٫ زلقد أعلن دهاقنة »كان« وأحرار الليموزين
ان فهرنهايت ١١٩ هو فيلم العام الوثائقي الفذ٫٫٫ واعتقد
انه ينبغي ان يتطلب ان
يشاهده كل أميركي ولكنني كالعادة اخشى ان الناس الذين يمكنهم ان يستعملوا
أكثر من
القضايا التي يثيرها، سوف يتجنبونه، كما يتجنبون جامع تبرعات من أجل إجهاض
مجاني..
(يقصد
المحافظين ـ الجدد انصار الرئيس بوش).
معارضي مايكل مور يسمونه بأنه عمل
تحريضي حزبي مشحون ايديولوجياً، وهو كذلك لكن اي رؤيوي يحاول أن ينمي تغييراً
مصيره
ان يحصد اعداء٫ وبغضبه المعتاد الموجه والذي يسيطر عليه، ينطلق مايكل مور
ليسبر
ويطلق صيحة صحوة في سنة انتخابات مشحونة عاطفياً، حيث الحقيقة
قد دُفنت على عمق ستة
اقدام تحت الارض، وينجح بدعابة وعضة٫ والنتيجة بدون شك، مستقطبة، وتُغري
بالمشاهدة
الى حد كبير وعمل سينمائي جيد بالفعل، واذا أقنع شخصاً ليس ناخباً بأن يفكر،
سوف
يخدم عرضاً٫ وأكثر شيء اثارة للحزن والغضب علمته من فهرنهايت ١١
سبتمبر ليس هو
الأثر السياسي لكنه حقيقة مدى خفة وزن الرئيس في اطار التاريخ الأميركي٫ ان
جورح
بوش ربما كان اول رئيس للولايات المتحدة قد قام بغسل مخه.
بينما ينصح قائد آخر، اندرو ساريس، المرشح الديموقراطي جون كيري بضرورة أن يقوم
مستشاروه السياسيون باجراء دراسة متروية لفيلم مايكل
مور٫٫٫ لا من أجل مذاقه الجيد وعمقه أو حتى أصالته،
بل من أجل تشبثه ككلب شرس في إهالة الوسخ على الميثولوجيا الوطنية التي
عُزلت من أكاذيب وأنصاف حقائق في البيت الأبيض.
|