كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

رؤى نقدية

 
 
 
 
 

محيط الخيالات والأحلام والمآسي العربية الطويلة

أمستردام - محمد موسى

 

عُرض فيلم «الأطلنطي» للمُخرج الهولندي يان - فيليم فان إيفايك الذي يُقدم بشاعرية عالية رِحلة شاب مغربي لعبور المحيط الذي يفصل بلاده عن أوروبا بحثاً عن حياة جديدة، في الدورة الأخيرة لمهرجان تورنتو السينمائي، وبعدها في افتتاح مهرجان روتردام الدولي في شهر شباط (فبراير) الماضي، قبل أن يصل أخيراً إلى الصالات الهولندية، ليُصادف الاهتمام الإعلامي والشعبي غير المسبوق بموضوعة الهجرة غير الشرعية، إذ تُهمين مِحَن اللاجئين الذين يحاولون بالآلاف عبور البحار القاتلة إلى أوروبا على الأخبار في القارة العجوز اليوم، وتبدو حكوماتها يائسة وعاجزة عن إيجاد الحلول لوقف تدفق هؤلاء الفقراء والهاربين من عنف وانسداد الأُفق في بلدانهم.

وجهات أخرى

وعلى رغم أن قضية الهجرة إلى الغرب حضرت في الكثير من الأفلام الروائية، بعضها بتوقيع مُخرجين عرب، إلا أن مُعظم الأعمال تلك تندرج تحت فئة السينما الاجتماعية بتنويعاتها وطموحاتها المختلفة، وبمفردات تجعلها قريبة من السينما التسجيلية أو ما يُعرف بسينما الحقيقة، لجهة إعادة هذه الأفلام تجسيد الواقع، ونبضها الراهن والمُلحّ. على خلاف الأفلام السابقة، يأخذ فيلم «الأطلنطي» مساراً ومقاربة مختلفين، على رغم أنه لا يقطع علاقته مع هذا «الواقع»، عبر استعانته بممثلين مغاربة غير محترفين، والتصوير في منطقة شهدت تاريخياً هجرات شباب إلى أوروبا، لكنه يذهب إلى وجهات أخرى، إذ يُركز على العالم النفسيّ الحميمي الخاص لبطل الرحلة، المغربي الشاب، كما يحاول الفيلم نَفضَ قضية الهجرة مما علق بها من صور نمطية من السنوات الأخيرة ويفُضَّ علاقتها بالأحداث الآنية المُشتعلة، ليعيدها إلى جذورها الأصلية: كرحلة من العالم الفقير إلى العالم الغني، متواصلة عبر الأزمان. هي أيضاً رحلة بدوافع حسيّة لكثير من الرجال المهاجرين، إذ تشكل «المرأة» دائماً إحدى غاياتها.

يبدأ الفيلم بمناجاة صوتية للبطل (فتاح) عن حياته وماضيه وعلاقته بالمدى الأزرق الذي عاش حياته كلها على أطرافه، تصاحبها مشاهد مُبتكرة تكتنز كثير من الشاعرية للبطل والبحر (شخصيتي الفيلم الأساسيتين). تؤسس هذه المشاهد للمتاهة التي سيدخل فيها الفيلم، فلن نعرف الزمن، أو السياق الدرامي لتلك المشاهد. هي تُشبه غابة من الصور التي جعلها التوليف تبدو أحياناً كأنها موجات خفيفة تقترب من السكون، فيما تتحول في مشاهد أخرى إلى اهتزازات عنيفة. «فتاح» الذي يظهر في المشاهد الأولى في رحلة، وهذه الأخيرة تبدو كأنها الأهم في حياته. فالشاب مُدرّب رياضة ركوب الأمواج بالقوارب الشراعية الصغيرة، قرر أن يقطع بنفسه ومن دون أية مساعدة البحر إلى أوروبا، هي رحلته الفطرية والبدائية التي يريد عبرها تشكيل مُستقبله المقبل.

رياح مناسبة

توفر الاستعادات التي تأتي في مشاهد لاحقة من الفيلم، خلفية ما عن البطل، الذي يعيش في قرية صغيرة، يعمل جُلّ شبابها في تدريب واستضافة أوروبيين يأتون إلى القرية بفضل رياحها المُناسبة لرياضتهم. «فتاح» مثل غيره من أبناء القرية يقابل هؤلاء الأوروبيين في عطلاتهم، وعندما يغادرون إلى بلدانهم يتركون الكثير من الحسرة لدى شباب القرية. البطل أحب أيضاً سيدة هولندية متزوجة. وهذه أصبحت تمثل وجه الغواية الأبدية له لعبور البحر. هناك قصص صغيرة أخرى، منها واحدة مُؤثرة كثيراً لابنة عم «فتاح» التي تكتم حبها له، وتنتظر أن يهدأ موج حياته، حتى يكتشفها. تلعب الدور الممثلة المغربية الرائعة حسناء سويدي التي تجسد بفهم وحساسية عاليين أزمات وكبت نساء المناطق التي يتركها رجالها بحثاً عن مُستقبل في دول بعيدة.

لا يلتزم الفيلم بالتسلسل التقليدي للسرد، أو حتى بذلك الخاص بأفلام الاستعادات، هو يبدأ من مشاهد بدت من منتصف رحلة «فتاح»، ليعود بعد ذلك إلى بدايتها، ماراً أحياناً على ما بدا أنه الإشارة الأولى لنهايتها المأسوية. هذا، وإلى جانب النفس الحميمي الشاعري الخاص الذي صورت فيه غالبية مشاهد الفيلم، من شأنهما أن يجعلا هذا العمل تجربة خاصة كثيراً. حتى المشاهد الكبيرة، والتي صورت البطل على قاربه الشراعي في مُنتصف البحر (صورت من طريق طائرة هليكوبتر) كانت مُنسجمة مع الروح العامة للفيلم، لجهة عكسها للوحدة والحميمية اللتين يقطع بهما البطل البحر وعلاقته مع هذا الأخير. يركز الفيلم كثيراً على هذه الوحدة ويحولها أحياناً إلى رمز لرحلة الإنسان الأزلية في الحياة، والتي لا يُمكن تقييدها، بما تتضمنه هذه من وجهة نظر جدليّة راهنة بموضوعة الهجرة إلى أوروبا.

يُـشيــد الـمخرج الهـــولـندي في فيلمه الروائي الثاني عالماً ومناخاً خاصين يثيران الإعجاب بصرامتهما الشكلية والبنائية، كما يُقاوم إغراء الصور الشائعة عن المغرب أو الشرق ويبحث عن أخرى جديدة من روح المناطق التي تعيش فيها الشخصيات، فالمشهديات التي قدمها الفيلم للبلد شديدة التميز. بعضها يجمع بين الجمال الباهر للطبيعة وقسوة هذه على ناسها. إلى ذلك، يُوازن المخرج بين تقديم القصة الخاصة للبطل، وما تمثله من ظاهرة عامة وحلم أبدي لكثر. فيما يلعب «فتاح»، والذي يقف أمام الكاميرا للمرة الأولى في حياته، دوراً صعباً بتمكن كبير، فالشخصية القليلة الكلام عليها أن تقنع المشاهد بدوافعها وتغريه بمرافقتها في الرحلة البحرية القاسية.

محنة البحث عن هوية في «عرب يرقصون»

علي حويلي

يعرض في صالات مونتريال في كندا، فيلم «عرب يرقصون» او «ابني» (درامي - 105 دقائق) للمخرج الاسرائيلي عيران ريكليس، الذي سبق وحقق شرائط «عربية»/إسرائيلية. وهو انتاج سينمائي اسرائيلي فرنسي الماني مشترك. ويستوحي قصته من كتابين لسايد قشوع الكاتب والصحافي اليساري من فلسطينيي 48. والفيلم يعبر عن الواقع اليومي المأسوي لعرب إسرائيل.

ينطلق الفيلم من خلفية تاريخية وسياسية وأمنية ارخت بأثقالها على بطل القصة اياد (توفيق برهوم) وعائلته. فهذا الطفل العربي الفلسطيني ابن قرية الطيرة في شمال اسرئيل المعروف بـ» بالمثلث»، ينشأ ويترعرع في ظل الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982 ويعاصر في مراهقته حرب الخليج الاولى عام 1991 (احتلال العراق للكويت).

بين عالمين

كانت رغبة ابو أياد (علي سليمان احد ابطال مقاومة الاحتلال) ان يكمل تعليم ابنه، وأن يجد له مكاناً في المجتمع الاسرائيلي، و «حياة افضل وأحسن من اليهود». تتحقق رغبة الوالد ويحظى أياد، لذكائه وتفوقه، بمنحة دراسية من مدرسة يهودية داخلية مرموقة في القدس. وهي مخصصة لأبناء النخبة من اليهود من دون غيرهم. فكان أياد اول طالب عربي فلسطيني يسجل فيها كسابقة تاريخية لم تحدث من قبل. هنا يخوض اياد اول تجربة بمفرده بعيداً من عائلته ومحيطه. ويواجه مشاكل هائلة تتعلق باللغة والثقافة والهوية والانتماء. ويتابعه الفيلم في رحلة تضج بالتناقضات. فينتقل من الف باء العلم الى رحاب المعرفة، ومن قرية صغيرة الى مدينة كبيرة، ومن محيط عربي الى غالبية اسرائيلية، ومن لغته العربية الى العبرية، ومن كنف عائلته الفلسطينية الى ارتباط بعائلة يهودية وصولاً الى قناعته بالاندماج والتخلي عن هويته الاصلية ليتمكن من مواصلة نجاحه في المجتمع الاسرائيلي.

في غمرة هذه النقلة التعليمية، يشعر أياد أنه دخيل وغريب ومنبوذ ومختلف عن رفاق صفه. يرغم على التحدث بعبرية لا يجيدها، ويقع الاختيارعليه لتلاوة التوراة وتشويه حقيقة الصراع العربي - الاسرائيلي إمعاناً بإهانته وإذلاله امام رفاقه ومعلميه. ولأجل ان يتخلص من كل ذلك ويكون مقبولاً بينهم ومتساوياً معهم بالحقوق، عليه أن ينسى كل ما يمت بصلة الى جذوره الفلسطينية ويتنكر لانتمائه ويتخلى عن هويته لمصلحة اسرائيل. ومع كل هذه الإرهاصات يحاول الفتى جاهداً ان يتلاءم ويتطور مع واقعه الجديد. فينشئ علاقة صداقة وثيقة مع رفيقه (جوناثان المريض المقعد على كرسي متحرك) فيلازمه في المنزل ويقدم له ما يحتاج من خدمات. وفي هذا المشهد الدرامي تتماهى إعاقة جوناثان الجسدية مع اعاقة أياد الاجتماعية - الثقافية. ويتابع أياد تنكره لهويته ويتعرف الى إحدى زميلاته (نعومي) ويقع في حبها وتنشأ بينهما علاقة عاطفية سرية تنتهي بتخلي نعومي عنه لدواعٍ عنصرية. كما تحتضنه (أدنا) والدة جوناثان ويصبح بعد وفاة هذا الأخير الإبن الثاني للعائلة يحمل اسمه وبطاقته تحاشياً لتعرضه للتفتيش على الحواجز الاسرائيلية. أما المشهد السوريالي المثير للجدل في هذا السياق فهو دفن جوناثان في إحدى المقابر الاسلامية.

التعايش المستحيل

يتضمن الفيلم العديد من الإشارات التي تكشف العنصرية الاسرائيلية. فخلال مرافقة أياد لصديقته نعومي في احد شوارع القدس يتعرض لإهانة المارة والجنود، ويوجهون اليه رسائل تحذير مفادها «لا تحلم أيها العربي بفتاة اسرائيلية». والأمر ذاته يتكرر حين يعمل أياد في احد المطاعم الاسرائيلية ويطلب ترقيته من خادم في المطبخ الى نادل اسوة بالاسرائيليين. وهذه النماذج من المعاملة السيئة للفلسطينيين تسود جميع المرافق الاسرائيلية وتعكس الهرمية العرقية للدولة اليهودية.

وخلال تطور الأحداث يمر الفيلم على مشاهد من حرب العراق. ويركز على اصطفاف الفلسطينيين على اسطح المنازل حيث يهللون ويكبرون لسقوط بعض الصواريخ الصدامية على اسرائيل. ولا غرو اذا ما اتى عنوان الفيلم متماهياً مع هذا الواقع بكل ما يحمل من سخرية.

باختصار يعبّر الفيلم كما يعتقد المخرج عن رغبته في امكانية تحقيق نوع من التعايس السلمي بين الفلسطينيين والاسرائيليين. وفي الوقت نفسه يرى ان المواقف المتطرفة من كلا الفريقين تحول دون تحقيق ذلك.

ويرى الناقد الكندي ايف بنوا ان الفيلم يلمح الى حق كل انسان في عدم اخفاء هويته او التنازل عنها، ولكنه يبرر ايضاً ما يفرض على الأقليات من قيود لتبقى مقبولة الى جانب الغالبية الحاكمة. وهذا ما يجعل الفيلم «مثيراً للجدل» بل عنصرياً إذ يخيّر الفلسطينيين بين البقاء مواطنين درجة ثانية او ثالثة او التحول الى ارهابيين محتملين او ارغامهم على الهجرة.

الطريقة الأدق لمشاهدة الأفلام

القاهرة - محمد عويس

كيف تُصنع الأفلام؟ كيف تُسرد قصصها؟ كيف تؤثر فينا وتجعلنا نفكر؟ يحاول كتاب «أفلام مشاهدة بدقة: مدخل إلى فن تقنية السرد السينمائي» (تأليف مارلين فيب وترجمة: محمد هاشم عبدالسلام -المركز القومي للترجمة) البرهنة على أن التحليل لقطة بلقطة هو أفضل طريقة بالنسبة لطلاب ودارسي السينما لتعلم وإدراك فنون المخرجين ومهاراتهم. إذ إنه بعد تدريس دراسات السينما لسنوات عدة، تعلمت مارلين فيب أن المشاهدين الذين تدربوا على التحليل الدقيق لتسلسلات فيلم ما بمفردهم قادرون بصورة أفضل على رؤية وإدراك الثراء البصري والتعقيد السمــعـي للــوسيط السينمائي. يكشف التحليل الدقيق الأسرار المتعلقة بكيفية أن يكون لصور الفيلم، بالإضافة إلى الصوت، مثل هذا الأثر العميق في عقولنا وعواطفنا. عبر اختبارات فاحصة ومُفصلة لأحداث من أفلام كلاسيكية وشبه كلاسيكية.

يركز الكتاب على أعمال نموذجية لأربعة عشر مُخرجاً تغطي مسيرتهم الفنية، جنباً إلى جنب، تاريخ السينما السردية، بداية من دى. دبليو. جريفث وانتهاء بـمايك فيجيس. وبدلاً من مناقشة أفلام كثيرة بطريقة عامة، ناقش الكتاب أفلاماً قليلة على نحو تفصيلي، من خلال إلقاء الضوء بصفة خاصة على نحو أفضل سواء ما هو خاص ومميز أو مهم في أسلوب المُخرج أو تساعد على توضيح مغزى نظري أو إجمالي على قدر من الأهمية.

بدأت مارلين في دراسة المُخرجين الذين عملوا قبل قدوم التزامن الصوتي إلى الشاشة، مُركزة في الفصول الأولى (الأول حتى الثالث)، على أفلام نموذجية لـ دى. دبليو. جريفث، وسيرجي ايزنشتاين، واف.دبليو. مورناو، وشارلي شابلن، لأنه لم يكن لدى مخرجي الأفلام في العصر الصامت خيار استخدام الكلمة المنطوقة للتعبير عن أفكارهم، فكان عليهم أن ينقلوا أفكارهم عبر الصور. ونتيجة لذلك فالمخرجون المعاصرون لا يزالون متأثرين حتى الآن بالثراء البصري والقوة العاطفية لأفلامهم.ولأن مخرجي السينما الصامتة كانوا يعملون في ظل سوابق قليلة، فإن أعمالهم تنقل تجربة «القيام بها للمرة الأولى» تلك التجربة الحيوية والخصبة تشجعنا على التطلع إلى تقنيات السينما وتفحصها من جديد وبصورة مغايرة، فمعرفة أن نوعاً مُعيناً من حركة الكاميرا، أو لقطة وجهة النظر، أو طريقة تقابل بين لقطتين كانت مستخدمة بطريقة مُبتكرة يساعد الطلبة على التفكير والإدراك بصورة أفضل للمؤثرات المرتبطة بالعناصر الشكلية أو المنهجية للفن السينمائي.

ويبدو تحليل تسلسل قصير من فيلم «مُولد أمة» لجريفث بمثابة دورة مكثفة في أُسس فن السرد السينمائي، يهيئ أو يقدم للقُراء بطريقة محددة وواضحة جميع الأسس الخاصة بتقنيات السرد الرئيسية التي نشاهدها في الأفلام السائدة اليوم. وقد اختارت مارلين هذا الفيلم المثير للجدل عن عمد لتبدأ به هذا الكتاب لأن محتواه العنصري يوضح أن طريقة أو أسلوب تقنية السرد السينمائي لم تكن حيادية أو بريئة قط: «كل تفاوت أو اختلاف طفيف في سرد فيلمي يمكن أن ينقل أيديولوجية». كما أن التحليل الدقيق لتسلسلات من كلاسيكيات الأفلام الصامتة، علاوة على ذلك، يتيح إمكانية توضيح واختبار الأفكار النظرية الخاصة بالوسيط السينمائي التي لمُنظري السينما البارزين أصحاب الأفكار المؤثرة حتى يومنا هذا. مثال آخر تفحص تسلسلات قليلة في فيلم «المدرعة بوتمكين» لسيرجي ايزنشتاين يوضح لماذا اعتقد المخرجون السوفيات البارزون أن المونتاج كان الأساس لفن السينما. أيضاً تحليل لقطة واحدة فقط من فيلم «المغامر» لشارلي شابلن يمد الدارسين بــمــــعــــانــي أو أدوات جلية وملموسة تعدهم لاستيعــاب تنــظــيرات المُنــظر الســـينمائي الفرنسي أندريه بازان عن جماليات الواقع.

وفي الفصل الرابع تبين منــاقشة فيلم «سكــرتــيرتـه» لهاورد هوكس 1940 الذي تم تنفيذه بعد 13 سنة من إنتاج الأفلام الناطقة، للقراء تأثير التزامن الصوتي على فن السينما، بينما يقدم الفصل الخـــامس، والفصلان الســــادس والســـابـــع سلسلة من الإنجازات التي تحققت في السرد السينمائي في الأربعينات والخمسينات.

وتشير مارلين فيب مؤلفة الكتاب إلى أنه لا يوجد نص تمهيدي عن فن السرد السينمائي يكتمل من دون إعداد فصل عن الفريد هيتشكوك لذلك جاء الفصل الثامن بتحليل أسلوبي وموضوعي لفيلم «سيئة السمعة» (1946) لهيتشكوك موضحاً لماذا اعتبروه فناناً جاداً، وليس مجرد أستاذ إثارة وتشويق وذلك رداً على ادعاء أو زعم أصحاب نظرية سينما المؤلف بأن المخرجين العظماء يعتمدون دائماً على الموضوعات والهواجس الشخصية ليسموا أعمالهم بأسلوب سينمائي مميز، بغض النظر عن النوع السينمائي الذي يعملون في إطاره. حتى عندما يقتبسون مادة كتبت من قبل شخص في (الفصل التاسع) تقدم المؤلفة للقارئ فن السينما الأوروبي من طريق أعمال الإيطالي فلليني الذي جلب الأشكال السردية المعقدة والتأمل الذاتي في الأدب الحداثي إلى السينما، بينما يناقش (الفصل العاشر) الأفلام الفنية الأميركية لوودي آلان، والتي، على عكس الكثير من الأفلام لا يشرح أحد معناها أو يساعد الجمهور على متابعة الحبكة. وفي النهاية يعمل كتاب «أفلام مشاهدة بدقة» على إرشاد القراء في التجوال خلال الأعمال الكبيرة المُهمة في فن السرد السينمائي ويقدم لهم آراء نظرية عن كيفية خلق التقنيات السينمائية وإبرازها للآثار السينمائية السردية، والأيديولوجية والعاطفية. ويشير اسم الكتاب إلى «قطارات مراقبة بدقة» الفيلم الشهير للمخرج التشيكي يوري منزل، وهو أيضاً اسم كتاب مُكرس للسينما التشيكية لأنتونين ليهم، وقد اختارت مارلين هذا الاسم كذلك لأنه يعبر تماماً عن حماستها الشديدة لتعليم الطلبة كيفية القيام بتحليل الأفلام عن كثب وبدقة، لقطة بلقطة، وبهذا تنفتح عيونهم أكثر على فهم مُدرك ومُطلع على الفن والتجريب في السينما.

أفلام جديدة

«سيكاريو»

إخراج: ديني فيلنوف – تمثيل: إميلي بلانت، بنيسيو ديل تورو، جوش برولين

> بعدما كان برز خلال السنوات الفائتة بعدد من الأفلام التي لفتت الأنظار وأبرزها «جراح» عن الحرب اللبنانية في اقتباس لنص من اللبناني وجدي معوض، ها هو هذا المخرج الكندي يعود في فيلم عصابات وتهريب مخدرات تقع أحداثه عند الحدود الأميركية – المكسيكية ومع نجوم أميركيين. الحكاية عادية عن رجال الإستخبارات وهم يطاردون رجال عصابات التهريب، فيما يعيشون هم في صراع ومناكفات في ما بينهم، لكن الجديد المميز هنا، هو دخول شرطية إمرأة على الخط تجد نفسها متطوعة في معركة ومطاردات لا تفهم عنها شيئاً أول الأمر، وحتى الخبطة المسرحية الأخيرة حين تنقلب الأمور الى دراما شخصية مدهشة تحمل قيمة الفيلم كله.

} «وادي الحب»

إخراج: غيّوم نيكلو – تمثيل: إيزابيل هوبير، جيرار ديبارديو

> لم يجتمعا في فيلم مشترك منذ نحو 35 عاماً حين قاما ببطولة «لولو»، ومن هنا فإن الحدث الكبير في دورة كان لهذا العام جمع هذا الفيلم لهما من جديد في حكاية بدت في نهاية الأمر مفبركة وصيغت أصلاً على قياسهما. بل إنهما حتى يحملان في الفيلم اسميهما. فهي إيزابيل وهو جيرار. هما زوجان انفصلا منذ سنوات. وحين يبدأ الفيلم يكونان قد فقدا ابنهما منذ ستة أشهر. بيد انهما يتلقيان، كل على حدة رسالة منه يضرب لهما فيها موعداً في «الغراند كانيون» –وادي الموت -، وسط الأرض الجديبة الأميركية... فلا يكون أمامهما والمفاجأة على هذا الحجم، إلا أن يتوجها الى المكان لانتظار ذلك الإبن الذي اراد كما يبدو ان يجمعهما... بتلك الطريقة المبتكرة.

} «آمنيزيا»

إخراج: باربيت شرودر- تمثيل: مارت كيللر، ماكس ريمييلت

> لعله الآن عميد المخرجين الألمان، ومع هذا لا يزال باربت شرودر يحقق سينما تتسم بروح الشباب وبقدر كبير من التجريبية. وهذا الفيلم برهان على هذا. بطل الفيلم فتى في العشرين من عمره يترك بلده المانيا اول سنوات التسعين باحثاً عن مستقبل له في الموسيقى الإلكترونية ويتوجه الى ايبيزا الإسبانية حيث يعمل مشغل اسطوانات في نادي آمنيزيا الليلي. وهناك يلتقي بامرأة في مقتبل العمر تعيش وحيدة في مواجهة البحر. يستثير أمرها فضوله ويتعرف عليها ليصبحا صديقين، غير ان غموضها يزداد في نظره. وهو حين يحاول ابان ذلك ان يقودها الى عالم الموسيقى الإلكترونية، تبدأ هي بتحطيم قناعاته بالتدريج آخذة به الى عوالمها الغامضة.

} «ماد ماكس: طريق الغضب»

إخراج: جورج ميلر – تمثيل: توم هاردي، تشارليز ثيرون

> من ناحية مبدئية كان يفترض بهذا الفيلم ان يعرض في افتتاح دورة هذا العام لمهرجان كان، لكنه استبدل في النهاية بالفيلم الفرنسي «الرأس العالية» ولم يغضب أحد لذلك. فالحدث الذي تمثله عودة «ماكس المجنون» الى الشاشة الكبيرة بعد غياب سنوات وسنوات وبتقنية الثلاثة أبعاد هو حدث تجاري لا أكثر. وهو بهذه الصفة لم يلفت نظر أحد حين قدّم في عرض كانيّ خاص... لكن مستقبله التجاري في الصالات مضمون. حتى وإن كان موضوعه يبعد بعض الشيء عما هو سائد تجارياً حيث أن ماكس، في الفيلم، بعد تجاربه السابقة ومغامراته الصحراوية اللاذعة، يستنتج ان الطريقة الوحيدة التي تمكنه من البقاء هي ان يبقى وحيداً... فهل تراه على صواب في هذه الفكرة؟

الحياة اللندنية في

29.05.2015

 
 

فيصل الياسري ينثر حلمه في لاهاي

المخرج العراقي يوثق في فيلمه 'بغداد: حلم وردي' معاناة أبناء بلده وهمومهم أثناء الاحتلال الأميركي والظروف التي نتجت عنه.

العرب/ لاهاي (هولندا) - تعرض جمعية البيت العراقي بالتعاون مع رابطة بابل للكتاب والفنانين في لاهاي الهولندية مساء غد السبت 30 مايو الجاري، فيلم “بغداد: حلم وردي” للمخرج العراقي فيصل الياسري المأخوذ عن رواية لميسلون هادي.

هذا ويشفع عرض الفيلم بمداخلة للكاتب جاسم المطير عن ثيمة القصة والإخراج، إضافة إلى مداخلة نقدية للشاعر خزعل الماجدي، يليهما نقاش مفتوح تديره باسمة بغدادي مع مخرج العمل فيصل الياسري وبطلته هند كامل.

ويوثق الياسري في فيلمه “بغداد: حلم وردي” معاناة العراقيين وهمومهم أثناء الاحتلال الأميركي لبلادهم، ومحاولته زرع التفرقة بينهم وما نجم عنها من عنف طائفي ما زالت آثاره إلى الآن.

والفيلم مأخوذ من رواية “حلم وردي فاتح اللون” للروائية العراقية ميسلون هادي، وتشارك فيه نخبة كبيرة من الممثلين العراقيين أبرزهم سامي عبدالحميد وهند كامل وأميرة جواد وسمر محمد وفلاح إبراهيم وإنعام الربيعي وخليل فاضل خليل وآلاء نجم.

وعن الفيلم يقول فيصل الياسري “أردت من خلاله أن أروي قصة سينمائية عراقية وتحديدا بغدادية عن مصائر مواطنين يصرون على العيش في بغداد في سنوات الاحتلال وعلى تحدّي الأوضاع الصعبة والتعلق بالبيت والشارع والحي والمدينة، وهنا أعتقد بأن الرسالة واضحة والاستنتاج أتركه للمشاهدين”.

ويعدّ المخرج فيصل الياسري من أبرز مخرجي السينما العراقية والعربية، إذ له مساهمات عديدة في كتابة وإخراج مجموعة من الأفلام السينمائية المتنوعة التي جاوزت السبعة عشر فيلما روائيا طويلا، فضلا عن مجموعة من الأفلام الوثائقية والتسجيلية كان من بينها الأفلام العراقية: “الرأس”، “النهر”، “القناص”، “بابل حبيبتي” و”الأميرة والنهر”.

العرب اللندنية في

29.05.2015

 
 

زبيدة ثروت... ادفنوني إلى جوار «العندليب»

محمد عبد الرحمن

القاهرةعادت المعتزلة زبيدة ثروت (1940) إلى الأضواء مرتين في أسبوع واحد. في البداية، ظهرت في حوار حصري ونادر مع الإعلامي عمرو الليثي، وبعدها بأيام دخلت العناية المركزة بسبب سرطان الرئة. ظهور درامي بعد إختفاء طويل. هكذا يمكن تلخيص عودة الممثلة المصرية بعد غياب طويل إستمر ثلاثة عقود، إثر قرار الممثلة الجميلة الابتعاد عن الكاميرا فور تقدّمها في العمر. لم ترتد نجمة «الحب الضائع» (إخراج هنري بركات، كتابة طه حسين) الحجاب، لكنها إحتجبت عن الجمهور الذي صنّفها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي بـ «صاحبة أجمل عيون» في السينما العربية. ونجح الإعلامي عمرو الليثي في إقناعها بالعودة عبر حوار خاص بثّ على قناة «الحياة» في السابع عشر من أيار (مايو) الماضي من خلال برنامجه «بوضوح». وإشترطت زبيدة تثبيت الكاميرا على يسارها لتظهر في الحوار بجانب وجهها فقط، ولم تقترب الكاميرا من ملامح الوجه الجميل، لتقاوم زبيدة علامات تقدّمها في العمر على طريقتها الخاصة. خلال الحوار معها، أطلقت الممثلة تصريحات مهمة وأخرى إستدعت فيها ذكريات زمن مضى. لكن بعد فترة وجيزة من عرض الحلقة، دخلت العناية المركزة في أحد مستشفيات القاهرة وأجرت مداخلة مع الليثي دعت الجمهور فيها للدعاء لها للنجاة من سرطان الرئة الذي أصابها بسبب شراهتها في تدخين السجائر. لاحقاً، قالت نجلتها قسمت صبحي فرحات إنّ حالة والدتها الصحية تحسّنت إلى حدّ كبير، وأن السرطان ما زال في بداياته والتشخيص الأدق للحالة هو ضيق شديد في التنفس بسبب التدخين. كما أن الأطباء والأسرة أقنعوها أخيراً بضرورة التوقف عن التدخين حتى لا تتعرّض حالتها لإنتكاسة مجدداً. وفيما ينتظر محبو ثروت خروجها من المستشفى قريباً، لا تزال أصداء تصريحاتها تتردّد في المواقع الإخبارية وعلى صفحات السوشيال ميديا. على المستوى السياسي، لم تر ثروت حرجاً في إعلان حبها الشديد للرئيس المخلوع محمد حسني مبارك، مضيفةً أنّها كانت تتطلع لزيارته في مستشفى «المعادي للقوات المسلحة». ولفتت إلى أنها كادت أن تتصل بالرئيس المؤقت عدلي منصور لتطلب منه الإفراج عنه، وبررت زبيدة هذا الحبّ بأنه «حاجة من عند ربنا». ولم يتوقف مناهضو مبارك كثيراً أمام تلك التصريحات تقديراً لمكانة الفنانة، ولأن الشارع الغاضب من مبارك تخطّى نهائياً تقييم علاقة النجوم والسياسيين به. على مستوى الذكريات، قالت ثروت إنّ والدها المنحدر من أسرة أرستقراطية رفض زواجها من عبد الحليم حافظ، مؤكداً أنه لن يزوّج إبنته لـ "مغنواتي" رغم إحترافه التمثيل في تلك المرحلة. وأكّدت ثروت أنها لم تعرف وقتها أن حليم تقدّم لخطبتها وأن الأمر ظلّ سراً فترة طويلة بينه وبين والدها. ورغم أن الزيجة لم تتمّ، لكن ثروت فاجأت جمهور البرنامج بطلبها من عمرو الليثي أن يدفنها بعد وفاتها إلى جوار «العندليب». وعن تقديمها لبعض الأفلام الجريئة، قالت إنّها عانت في تلك المرحلة من أزمة مادية بسبب حبس زوجها لعامين، ولم تجد ما تنفقه على أولادها حتى جاءها عرض من حسن يوسف لتقديم فيلم لم تعد تتذكره الآن. وكشفت أن أمنيتها الأخيرة أن تتم حفظ القرآن الكريم قبل وفاتها.

يمكنكم متابعة الكاتب عبر تويترMhmdAbdelRahman@

الأخبار اللبنانية في

29.05.2015

 
 

مئوية صلاح أبو سيف: مشهد رقم 2015

صالح ذباح

قد يكون المخرج الراحل صلاح أبو سيف (1915 - 1996)، الذي تحل مئوية ولادته هذا العام، أكثر من ينطبق عليه من السينمائيين العرب تعريف المؤرّخ والباحث الفرنسي مارك فيرو للشريط السينمائيّ على أنّه منتج ثقافيّ شاهد على عوالم أصحابه.

وفقاً لذلك، لن نستغرب أن يُكتب للطفل الذي ولد في بني سويف بداية الحرب العالمية الأولى، وترعرع مع أمّه في حيّ بولاق الشعبيّ في الظروف الاقتصادية والاجتماعية العاصفة التي طاولت مصر، بعيداً عن والده العمدة الذي هجر عائلته، أن يكون واحداً من أهمّ روّاد الواقعيّة في السينما المصرية، مستحضراً الحيّ المصري في معظم كادرات أفلامه.

أبو سيف، صاحب الميول الاشتراكيّة، والذي درس التجارة في ثلاثينيات القرن الماضي، وعمل في مصنع للنسيج في مدينة المحلّة، طرق أبواب الصحافة الفنية لشغفه الشديد بالفن السابع منذ طفولته، واستطاع أن ينتقل بعد محاولاته الدؤوبة إلى العمل في قسم المونتاج في "استوديو مصر" عند افتتاحه.

وكانت شرارة الواقعية الأولى في مسيرته حين عمل مساعد مخرج في فيلم "العزيمة" (1937) لكمال سليم، الأب الروحي لهذا التيّار، والذي كان من أكثر الشخصيات الفنية تأثيراً في حياة صاحب "بداية ونهاية".

"جمع بين الاجتماعيّ والسياسيّ في نظرة موحّدة للواقع"

بعد دراسته المونتاج في باريس، بفضل منحة "استوديو مصر"، وإخراجه ما يزيد على ستّة أفلام منذ أواسط الأربعينيات، شرع في التقدّم في مسار الواقعيّة الفنيّة كخطّ أساسيّ ذي ملامح خاصّة في مرحلة الخمسينيات من خلال أفلام اتخذت الحارة الشعبيّة مكاناً محورياً تدور به الأحداث، في أفلام من قبيل "الأسطى حسن"، و"شباب أمرأة" و"الفتوّة" و"ريا وسكينة".

 أعمال صُنّفت على أنها واقعية باعتبار مضمونها وللجوّ الشعبي العام فيها، ومواقع التصوير التي تمرّدت على سينما القصور. لكنّها أعمال ظلت بعيدة عن المميّزات التقنيّة والفنية للواقعية السينمائيّة التي عرّفها المُنظر السينمائي الفرنسي أندريه بازان في تلك الفترة على أنّها تدور في أماكن حقيقيّة، يقلّ تدخّل المونتاج فيها ولا تتّخذ نجوم السينما أبطالاً لها.

لم تخلُ الأفلام الآنفة الذكر، رغم التجديد الذي أحدثته على السينما العربيّة، من الميلودراميّة والمباشراتية في التوجّه الذي يميل في خطابه إلى العظة الاجتماعية والدعوة الصريحة للاشتراكيّة أحياناً، وفي أحيان أخرى ظهرت عليها النزعة التجارية من خلال إقحام الأغاني.

لعل شريط "بين السماء والأرض" (1957) أبرز ما يمكن أن نتذكره من هذه المرحلة، وهو شريط تدور معظم أحداثه داخل مصعد كهربائي يجمع ما يزيد على عشرة أشخاص، كلّ منهم يمرّ خلال هذا الحادث الاعتباطيّ بسيرورة تغيّر في شخصيته، ضمن إطار كوميديّ تشويقيّ، يقترب بأجوائه من تيار الواقعية الإيطالية أو الموجة الجديدة التي شهدتها فرنسا.

راهنت سينما أبو سيف وهي تطلب الواقعية على الالتحام بموضوعات تجمع بين الاجتماعيّ والسياسيّ في نظرة موحدة للواقع، وهو ما لم يخضه سوى قلّة من المخرجين. ويصلح، بوصول أبو سيف إلى أوج صنعته الفنية، تقسيم هذه المرحلة إلى مرحلتين: مرحلة ناصريّة، وأخرى ما بعد النكسة، والتي حافظ بعدها على وتيرة عالية من الإتقان حتى وفاته.

"ناصرَ ثورة يوليو، ثم انتقد أجهزتها بعد نكسة 1967"

في المرحلة الناصرية، قدّم أبو سيف شريطين مباشرين في توجّههما الداعم لثورة يوليو، ربط أحدهما بالمحور النسويّ من خلال رواية "أنا حرة" لإحسان عبد القدوس، والتي كتب لها السيناريو رفيق دربه نجيب محفوظ، وهي رواية تتمرّد فيها البطلة على عادات مجتمع "العهد البائد" وتنال حريّتها واستقلالها مع حلول ثورة يوليو. استعان "رائد الواقعيّة المصريّة" بأدوات التعبيرية السينمائية في مشهد الحوار الداخلي للبطلة في أحلامها حين تقف وراء ظلّها العملاق للدلالة على صراعها مع ذاتها.

وفي شريط "القاهرة 30" (1966)، المأخوذ عن رواية "القاهرة الجديدة" لنجيب محفوظ، والذي اشترطت الرقابة على المصنّفات الفنيّة أن يُعدّل اسم الشريط على هذا النحو، عرض أبو سيف الفساد الاجتماعي في العهد الملكيّ من خلال شخصيّتين/ضحيّتين إحسان (سعاد حسني) ومحجوب عبد الدايم (حمدي أحمد) اللذين باعا شرفهما كلّ بطريقته هروباً من الفقر، مستغلّاً الوسائل الرمزية في أكثر الصور رسوخاً من الشريط متمثّلة بعبد الدايم، الذي ارتضى أن يقاسمه رجل ثريّ زوجته، وهو يجلس ومن خلفه قرنان معلّقان على الحائط.

أمّا بعد النكسة، فما كان من المخرج يساريّ التوجّه إلّا أن ينتقد الأجهزة الإدارية والسلطة على عدّة مستويات منها الرمزيّ كشريطه المهمّ "الزوجة الثانية" (1968) الذي كرّس فيه كرهه للعمدة الانتهازيّ في إشارة مزدوجة إلى السلطة الحاكمة والمستعبدة لسكّان القرية من جهة، وإلى والده العمدة الذي هجره في طفولته، مقدّماً الحوار باللهجة الريفيّة المغيّبة عن السينما المصريّة، ومستعيناً بالموسيقيّ فؤاد الظاهري ليُخرج الفيلم بنفحة القصص الشعبية، وكان هذا التوجّه واضحاً في المقدّمة الكرتونيّة المتميّزة للشريط الذي ينتصر لـ "الغلابة" ضدّ العمدة.

وفي خطوة اعتبرت الأكثر جرأة في مسيرته، قدّم أبو سيف شريطاً "ما بعد نكسويّ" بامتياز، هو "حمام الملاطيلي" (1972). أثار العمل جدلاً كبيراً حين خرج إلى الصالات، لشدّة جرأته في كشف عقم المجتمع المصري والفساد المستشري فيه، من خلال التطرّق إلى التسيّب الإداري والرشاوي في الدوائر الحكومية، ومشكلتي الفقر والكبت الجنسيّ، وصولاً إلى التطرّق إلى المثليّة الجنسية؛ ليقول إنّ الهزيمة كانت في الداخل قبل أن تكون في ميدان القتال مع عدوّ خارجيّ.

ومع اقترابه من سنواته الأخيرة، جنح صاحب "المواطن مصري" إلى تطعيم الواقعيّة بالفانتازيا كما في شريط "البداية" (1987) (تأليف الكاتب لينين الرملي)، حين وضع اثني عشر نموذجاً لمواطنين مصريين، بين يساريّ ورأسمالي وفلاح وراقصة وباحثة علمية. استعرض من خلال هذا الطيف العلاقة بين السلطة الرأسماليّة ومنافقيها، وبين اليسار والشعب "الغلبان"، في واحة صغيرة كانت بمثابة عالم مصغر، كشف ديناميّة علاقات القوة بين الدولة والمواطنين، وأتاح له كشف طرق السلطة في الإخضاع بين تحريض على العلمانية تارة، ودغدغة الفطرة الدينية للشعب في مناسبات أخرى.

يبدو الفيلم، بعيون مُشاهد اليوم، وكأنه يخاطب الواقع الحالي في مصر، حيث تهكم أبو سيف ضمن خطاب شخصية أداها أحمد زكي على قدرة التلفزيون في تغيير الجلد ومجاملة السلطة متجسّدة في شخصية "نبيه بيه" (جميل راتب). فعل ذلك بخفة ظلّ شبابيّة، وكان قد تخطى حينها عقده السبعين، مؤكّداً قدرته على أن يتجدّد سينمائياً في كل فيلم يخرجه.

العربي الجديد اللندنية في

29.05.2015

 
 

اختير من بين أفضل عشرة ممثلين في العالم

زكي رستم..«باشا» السينما العربية

سعيد ياسين (القاهرة)

زكي رستم.. رائد مدرسة الاندماج في التمثيل، يصنفه البعض على أنه أفضل ممثل في تاريخ الفن مستندين على اختيار مجلة «باري ماتش» الفرنسية له كواحد من بين أفضل عشرة ممثلين في العالم، وما كتبه عنه المؤرخ والناقد الفرنسي جورج سادول من أنه فنان قدير ونسخة مصرية من أورسن ويلز بملامحه المعبرة ونظراته المؤثرة، وتوصيف مجلة «لايف» الأميركية بأنه من أعظم ممثلي الشرق، وأنه لا يختلف عن الممثل البريطاني الكبير تشارلز لوتون.

طرده من السرايا

ولد لأسرة أرستقراطية عريقة في 5 مارس 1903 في حي الحلمية الجديدة في قصر كان يملكه جده محمود باشا رستم، أحد رجال الجيش المصري البارزين وقتها، وكان والده صديقا شخصياً لمصطفى كامل ومحمد فريد.

وعشق التمثيل وهو طالب في البكالوريا التي حصل عليها عام 1920، والتقى مصادفة مع عبدالوارث عسر الذي أعجب بموهبته وضمه لفرقة هواة مسرحية، وبعد وفاة والده تمرد على تقاليد أسرته، وانضم لفرقة جورج أبيض 1924، فطردته أمه من السرايا، وبعد عام انتقل لفرقة «رمسيس» مع أحمد علام، ثم عمل في «الفرقة القومية» وكان يرأسها خليل مطران وظل فيها عشرة أعوام ومثل 45 مسرحية منها «كرسي الاعتراف» و«مجنون ليلى» و«الوطن» و«مصرع كليوباترا» و«تحت سماء أسبانيا» و«الشيطانة» و«اليتيمة» وبعدما صدر قانون يمنع من يعمل بالمسرح من العمل بالسينما، استقال من الفرقة خصوصاً وأنه كان قد وقع خمسة عقود سينمائية.

بدايته في السينما

وبدأت علاقته بالسينما في سنواتها الأولى، حين اختاره المخرج محمد كريم عام 1930 ليشترك في بطولة الفيلم الصامت «زينب» أمام بهيجة حافظ وإنتاج يوسف وهبي، ثم اختاره ليشارك في أول أفلام محمد عبدالوهاب «الوردة البيضاء» 1933.

وتوالت أفلامه بعد ذلك وبلغت 240 فيلماً، ولكن المشهور منها والموجود 55 فيلماً، وقدم الأدوار الشريرة وبرع فيها حتى كرهه الناس وظنوا أنه بالفعل شرير، ولكنه قدم كذلك الأدوار الخفيفة التي تميز فيها برقة القلب مثل دوره في فيلم «ياسمين» عام 1950، أو الموظف الفقير المحب لأولاده كما في «أنا وبناتي» أو خولي الوسية القاسي الذي تغلبت عليه طيبته في «الحرام» والأب الضرير في «امرأة في الطريق».

وتفوق على نفسه في شخصية رئيس العصابة الداهية الذي يتظاهر بالورع والتقوى ويخدع الجميع في سلسلة أفلام نيازي مصطفى مثل «حميدو» و«رصيف نمرة 5» وتقمص ببراعة دور الباشا الاقطاعي المخطط للظلم الاجتماعي في «صراع في الوادي» و«أنا الماضي» و«أين عمري».

وفي 1960 وضعه دوره في فيلم «نهر الحب» مع فاتن حمامة وعمر الشريف على مستوى عالمي، ولم يقل أداؤه لدور الزوج الوزير السياسي عن الكبار من ممثلي الشاشة العالمية الذين مثلوا نفس الدور في 17 فيلماً مأخوذة عن رائعة تولستوي «أنا كارنينا».

وأشتهر زكي بالوحدة والانطواء حيث لم يكن يقبل دعوات السهر، وكان الفن عنده هو البلاتوه، وتنقطع صلته به تماماً لحظة خروجه منه، ولهذا لم يكن له أصدقاء سوى الفنان سليمان نجيب.

عزوبية

وعاش طوال حياته عَزب لا يشغله إلا الفن، وعانى في سنواته الأخيرة من ضعف السمع وكان يكره أن يستعين بسماعة حتى لا تؤثر على اندماجه، وكان يسكن بمفرده في شقة في عمارة يعقوبيان في وسط القاهرة، ولم يكن يؤنس وحدته سوى خادم عجوز قضى في خدمته أكثر من ثلاثين عاماً وكلبه الوولف الذي كان يصاحبه في جولاته الصباحية.

وكان آخر أعماله «أجازة صيف» مع فريد شوقي ومحمود المليجي، وجسد دوره وهو فاقداً لحاسة السمع تماماً، ومع ذلك أدى الدور على احسن ما يكون. وحصل عام 1962 على وسام الفنون والعلوم والآداب من الرئيس جمال عبدالناصر، وفي 1968 توقف تماماً عن التمثيل وابتعد عن السينما واعتزل الناس، وتوفي يوم 15 فبراير 1972 عن 69 عاماً.

الإتحاد الإماراتية في

29.05.2015

 
 

الدولة تسعى لإنقاذ السينما.. والسؤال هو كيف؟!

محمد شعير

اذا فكرت فى اصطحاب أسرتك لدخول السينما فى نهاية الأسبوع، ستجد أنك أمام مهمة عسيرة، ورحلة محفوفة بالمخاطر، وقد تتراجع عن الفكرة بسهولة، لأنك قد تفشل فى العثور على فيلم،

 يخلو من الألفاظ والمشاهد المثيرة للغثيان، وحتى ان وجد، ففى الأغلب لا متعة فنية أو فكرة، وانما أفلام فارغة تافهة، لا تخرج منها بشئ، أو كوميديا تعذبك لتنتزع منك مجرد ابتسامة باهتة، لا ضحكة!وفى ظل الركود الاقتصادى الكبير، على مدى السنوات الأربع الماضية، اكتفى كبار المنتجين الذين سبق لهم انتاج أفلام محترمة بالتزام بيوتهم، خوفا على أموالهم، فتركوا الساحة لآخرين قدموا أفلاما، جاءت لتعبر عن المرحلة، وتعكس مفهوم «الحرية» على الطريقة المصرية، سباب وعنف وعرى ومخدرات، فى خلطة سحرية لا تقاوم، ثم تجد من يأتى ليقول لك ان هؤلاء يحسب لهم أنهم حافظوا على استمرار صناعة السينما فى وقت تراجع فيه آخرون، وذلك زيف وباطل، لأن ما ينتجونه ليس سينما، وما هو بفن من الأساس، لكن الحق هو أنهم بالفعل لم يجدوا من يواجههم فى المقابل بانتاج آخر محترم، فاكتسحوا.

والآن، كان لابد من مواجهة، حيث تشير المعلومات الى أن الدولة تسعى جاهدة لانقاذ صناعة السينما، من خلال اجتماعات عقدت على مدى الأشهر العشرة الماضية، على المستوى الرسمى، لبحث المسألة بالكامل، وملكية أصول السينما، وكيفية ادارتها، وامكانية التدخل بالانتاج المباشر، ولكن كيف وبأى حدود. وفى أوساط المثقفين والنقاد أيضا، هناك جلسات ومنتديات لبحث القضية، لعل آخرها اللقاء الذى عقد بالمجلس الأعلى للثقافة، تحت عنوان «مستقبل السينما المصرية فى ظل غياب انتاج الدولة». وقبل تناول تفاصيل الأفكار الرسمية المطروحة، كان للمثقفين أيضا وجهات نظر.

الدكتورة رانيا يحيى عضو مجلس ادارة جمعية كتاب ونقاد السينما العازفة بالأوبرا، والتى دعت الى اللقاء، قالت اننا اذا كنا نريد أن نسهم خلال اللحظة التاريخية الراهنة فى ترميم بناء الشخصية المصرية، فلابد من الاهتمام بالفن عامة والسينما بشكل خاص، منوهة بمقولة أفلاطون الشهيرة «علموا أبناءكم الفنون ثم أغلقوا السجون»، فالفن الحقيقى يرتقى بالانسان وذوقه وأخلاقه فيبتعد عن العنف والجريمة شيئا فشيئا. ومن ناحية أخرى فان الفنون هى وسائل القوة الناعمة للدولة، التى تعكس فكرها وتاريخها ورؤيتها وثقافتها، وهو ما يستلزم أن نعمل على الرجوع الى ريادة وعظمة السينما المصرية، ولاشك أن الدولة التى غابت عن الانتاج السينمائى، ينبغى أن يكون لها دور فى ذلك.

وبكلمات حاسمة وصادمة، حول مستوى الأفلام حاليا، يقول الأمير أباظة رئيس مهرجان الاسكندرية السينمائى، اننا لا نجد فى الأغلب أفلاما مصرية تصلح للمشاركة فى المهرجان، وكذلك الحال بالنسبة لمهرجان القاهرة، بل ان مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية عرض به فيلم «الفيل الأزرق» رغم أنه سبق عرضه جماهيريا، وهذا لايليق. وفى التسعينيات كان لدينا 120 فيلما فى السنة يخرج منها 30 فيلما جيدا على الأقل، أما الآن يتم انتاج 25 فيلما فى السنة، فمن الطبيعى ألا تجد أكثر من 4 أفلام جيدة!

وبحسم أيضا، يؤكد قائلا اننا خسرنا كثيرا بعد غياب دور القطاع العام فى السينما عندما تم الغاؤه سنة 1971، فهذا القطاع هو الذى قام، بالتعاون مع منتج منفذ أو مشارك، بانتاج أفلام مثل «فجر الاسلام» و»الناصر صلاح الدين» و»الزوجة الثانية» وغيرها، وهو فقط الذى كان يقوم بالتخطيط لصناعة السينما ومستقبلها، عندما كان الموظفون الرسميون المسئولون عنه أسماء بحجم نجيب محفوظ وسعد الدين وهبة وعبد الحميد جودة السحار، ثم خسرنا أكثر فى التسعينيات عندما آلت ملكية أصول السينما لقطاع الأعمال العام، الذى كان يقوم بتحصيل أموال السينما دون الاستفادة منها فى تطويرها، والحل الآن هو بانشاء شركة قابضة لادارة أصول السينما، وأن تستفيد الدولة من عائد أموال السينما، وتستثمرها فى أن تنتج الأفلام بنفسها، ولو بشكل بسيط، أو تدعم منتجا خاصا بعد أن تضع له المعايير لانتاج الفيلم.

وبوجهة نظر مقابلة، يرى الناقد السينمائى أشرف غريب، أنه لا يحبذ دخول الدولة فى مجال الانتاج السينمائى مثلما حدث فى الستينيات، وأنه يجب ألا ننبهر للغاية بتلك التجربة وألا نعتبرها كارثية فى الوقت نفسه، بل أن نأخذ مزاياها ولكن بما يتناسب مع العصر، اذ لا يمكن تحميل الدولة حاليا أعباء مالية جديدة، فى ظل الاتجاه بشكل عام للقطاع الخاص، بل يمكن أن تكون هناك صيغ أخرى تدعم من خلالها الدولة المنتجين الجادين، اما عن طريق البنوك مثلما كان الحال سابقا بالنسبة لبنك مصر، أو توفير البنية الأساسية والاشراف على ادارتها، أو خفض رسوم التصوير فى الأماكن الأثرية مثلا، والمهم أن يكون هناك تخطيط، وبحث عن الصيغ المناسبة.

وينوه، فى هذا الاطار، الى أن فيلما مثل «المسافر» من انتاج الدولة، قد فشل وتسبب فى خسارة 20 مليون جنيه، كما أن فيلمين مهمين فى الماضى مثل «المومياء»و»الأرض» قد خسرا ماديا رغم قيمتهما لأنهما لم يصلا الى التوليفة التى تجمع الرقى الفنى والجماهيرية، فى حين أنه فى السابق، كانت هناك أفلام مثل «الفتوة»و»باب الحديد» و»دعاء الكروان» و»جعلونى مجرما»، نجحت جميعا وهى من انتاج القطاع الخاص، فالمهم هو أن تدعم الدولة المنتجين الذين يقدمون فنا راقيا وجماهيريا.

أما على المستوى الرسمى، فقد كشف الدكتور محمد عفيفى الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة عن أنه يتم عقد اجتماعات أسبوعية أو نصف شهرية، على مدى الأشهر العشرة الماضية، حول أصول السينما، قائلا ان ملف السينما هو أهم الملفات المفتوحة حاليا، وأن رؤية الدولة تقوم على أن السينما تمثل القوة الناعمة لمصر، وأنها احدى وسائل مواجهة التطرف، والدولة الآن ليس لديها مانع من الدخول كمنتج فى السينما، ويمكن أن ترصد مبالغ كبيرة لذلك، لكن السينمائيين أنفسهم منقسمون بشأن ذلك، وبعضهم معترضون لأنهم يخشون أن يمثل هذا تدخلا ضد الحريات.

وقال ان هناك قرارا بعودة ملكية أصول السينما للمجلس الأعلى للثقافة، لكن القضية هى كيفية ادارة هذه الأصول بعد ذلك، وقد عرضت وزارة الشباب فى الاجتماعات تمويل الانتاج لأن امكانيات وزارة الثقافة محدودة، وطرحنا فى الوزارة فكرة انشاء شركة قابضة، ومنها شركة لادارة أصول السينما، أو انشاء قطاع للسينما داخل وزارة الثقافة، وجلسنا بالفعل مع ممثلى وزارة التخطيط لوضع تصور للهيكل الادارى والفنى لهذا القطاع، لكن هناك اجراءات لابد منها كالحصول على موافقة مجلس الوزراء وغيرها، لأن ذلك سيترتب عليه أمور ترتبط بميزانية الدولة، ويمكن أيضا أن تتولى لجنة السينما بالمجلس الأعلى للثقافة بالاشتراك مع غرفة صناعة السينما التخطيط لهذا المجال، وهذا هو ما أفضله شخصيا.. وعلى كل حال، فقد تم طرح هذه الأفكار على الدولة، وأصبح حل القضية هو مسألة وقت.

الأهرام اليومي في

29.05.2015

 
 

تحديق في وجه الفظيع

ياسين الحاج صالح

بين المهتمين بالصورة في سورية سجال متموج، يشبُّ حيناً ويخبو حيناً، حول عرض صور الأجساد المحطمة أو المحروقة، والأشلاء وفديوهات التعذيب ومشاهد القتل، أو عموماً حول صور السوريين في انكشافهم الكبير على أنفسهم وعلى العالم طوال 50 شهراً ونيف. قبل شهور نشر «أبو نضارة»، وهو تجمع سينمائيين سوريين ينتج فيلماً قصيراً واحداً كل أسبوع، بياناً أدان فيه «تمريغ كرامة» الناس «من خلال عرض صور أجسادهم المعذبة على شاشات العالم دون موافقتهم، الأمر الذي يسيء لكرامة السوريين والإنسانية جمعاء»، وبنى على ذلك مبدأ «حق الإنسان في صورة كريمة أياً كانت الظروف». وأطلق التجمع أيضاً مبادرة عنوانها: صورة السوري ما بتنذل! والعنوان مبني، مثلما هو معلوم، على غرار شعار رفع في تجمع احتجاجي باكر في دمشق قبيل الثورة، وهتف فيه المتجمعون: الشعب السوري ما بينذل!

وبين وقت وآخر يجري التعبير عن التحفظ عن مشاهد صادمة يجري تداولها على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي أو تضمينها في أعمال فنية، منها مثلاً فيلم أسامة محمد ووئام بدرخان «ماء الفضة»، حيث تتكرر صورة ولد سوري عارٍ يجري تعذيبه وإجباره على تقبيل حذاء معذّبه، ثم يتعرض لانتهاك جنسي، وفي الفيلم أيضاً مشهد جر جثث شهداء في الشارع بكلاليب مربوطة بحبل من قبل مقاومين لا يستطيعون نقل الجثث بطريقة أخرى، خوفاً من رصاص قناصي النظام. الصور صادمة ومذلة فعلاً، فما القول في شأن عرضها للعموم، أو التساهل في الأمر؟

وتجدد الكلام على الأمر بعد عرض صور من التي هرّبها «سيزر» لبعض من قتلهم النظام تحت التعذيب (55 الف صورة لـ11 ألف معذباً مقتولاً بين بداية الثورة وآب 2013)، وقد عرض قسم منها في مقر الأمم المتحدة في نيويورك في آذار 2015، ويبدو أن كان مروعاً لمشاهديه. ورأى مثقفون وفنانون، منهم محمد علي الأتاسي، أن إعادة عرض الصور من قبل أي كان مشاركة في قتل الضحايا!

هذه، على أية حال، مساهمة في إثارة نقاش أوسع، تبدو ضرورية حول الصور، صورنا.

يمتنع، بداية، أن يُعزل موضوع عرض الصور والمشاهد المروعة عن الحال السوري الراهنة، وهي حال هول قيامي، فيها كثير من العنف والفظاعة والموت والدم والاستماتة والكراهية وجنون الثأر، والانحلال والتبعثر، ويبدو ممتنعاً أن تعود سورية إلى ما قبلها، وغير مرغوب أيضاً. يبدو كذلك ممتنعاً عزل عموم السوريين عن هذه الحال، وغير مرغوب بدوره. فهل بغير التحديق في وجه هذا الهول الرهيب وأوسع إحاطة به، بصوره وتفاصيله وحكاياته، يمكن أن نطور إدراكاً بجذرية وضعنا ومأساويته، ونطور فناً وفكراً وأخلاقيات مجبولة بتمثيل هذه الأوضاع المستحيلة؟ الصور موجودة قي مكان ما، صورها أحد ما مشكوراً، مخاطراً بنفسه في بعض الأحيان، ورآها بعضنا، فهل هم متلصصون على محرم، إن كانت الحيلولة دون العرض هي الشيء الصحيح؟ وكيف لنا أن ننمي ذاكرة تخص ما أصابنا من فظاعة إن كنا نتفادى، ما وسعنا التفادي، النظر في وجه الفظاعة؟ نتذكر كي لا نكرر ما جرى لنا، وكي نمارس حياله نسياناً إرادياً واعياً، نسيان من واجهوا أنفسهم ورأوا الوحش في داخلهم، وقرروا تقييده. ينسون ترفعاً عما يعرفون في أنفسهم وفي غيرهم. وهو ما لا يتأتى دون أن نحدق ملياً في صورنا لنطْبعها عميقاً في ذاكرتنا.

هل بغير التحديق في وجه هذا الهول الرهيب وأوسع إحاطة به، بصوره وتفاصيله وحكاياته، يمكن أن نطور إدراكاً بجذرية وضعنا ومأساويته، ونطور فناً وفكراً وأخلاقيات مجبولة بتمثيل هذه الأوضاع المستحيلة؟

يطور المعترضون على النشر حججاً وجيهة، منها أن صور العنف والفظاعة تثير مشاعر الغضب ورغبة الانتقام، ويقال أحياناً أن بعض هذه الصور على الأقل سرّبها النظام عمداً لإثارة نوازع الثأر، وتحويل الصراع السوري إلى صراع طائفي ومطلق. لكن واضح أن الحال السورية أكثر جذرية وفظاعة من أن تكون الصور، مسربة بقصد أم لا، محرضاً أساسياً فيه. الصور جزء من الصراع، وقد تكون أداة من أدوات التعبئة والتحريض فعلاً، لكن منابع التحريض وفيرة، ومنها أولاً الحرب الفعلية الجارية، والمحارب الأول المزود بمضخات متفوقة للصور والكلمات والكراهية، فضلاً عن السلاح المتفوق، أعني النظام الأسدي. وهو ما يعني أن القول في شأن الصور تابع للقول في الصراع وسبل إنهائه. فلا مجال للتفكير في الصور دون مواجهة المعضلات الأكبر، الخاصة بمنابع العنف الوحشي في البلد، وبفرص التوصل إلى تمثيل سياسي مغاير لسورية والسوريين، وإلى دولة جديدة وثقافة جديدة. بعضنا غضبه يتوجه نحو الانتقام؟ نعم، هذا محتمل جداً، لكن يمكن لغضب بعضنا أن يتوجه إلى تفكير أكثر جذرية في شرطنا الإنساني والسياسي والثقافي، وإلى مساءلة نفوسنا وتاريخنا ومجتمعنا وثقافتنا عن هذه الفظائع. النقاش في شأن الصور يمكن أن يكون مساعداً في ذلك. يجب أن نرى لنتناقش.

يقال أيضاً أن نشر الصور يُطبّع موت السوريين وتحطم أجسادهم عالمياً. شيئاً فشيئاً، يمكن أن يرسخ في ذهن العالم أن السوريين يقتلون السوريين، أو أن هناك صراعاً طائفياً مميتاً في سورية، أو أن الأمور هي هكذا على الدوام في «الشرق الأوسط»، فتضيع قضايا العدالة والحق والمسؤولية، وتنطمس الأبعاد السياسية للصراع، ويجري الاعتياد على أن ما يأتي من سورية هو صور عنف وحشي تثير نفوراً متصاعداً، فلا يثير مزيد من الوحشية اهتماماً خاصاً. هذه حجة أقوى من سابقتها، لكنها تضع «العالم» و«ذهن العالم»، والمقصود عالم الطبقات الوسطى والعليا الغربية أساساً، في موقع تحكيمي غير مستحق. هذه الطبقات لا تكف عن تصفيح عالمها بالحجج والأفكار التي تحميها من الإحساس بقسوة الوجود في عالم اليوم، وتصون استقرارها الذهني والأخلاقي. أعتقد أنه يمكن مقاربة التطورات الفكرية والثقافية في الغرب منذ جيل واحد على الأقل من هذه الزاوية. أن يعيش المرء عمره في ظل أوضاع كفاية منظمة يكفي، على كل حال، لأن يصفِّح وضعه الممتاز هذا بما لا يقلق ولا يدفع إلى تغيير في النفس أو المحيط. وأعتقد أن من هذا التصفيح العيش داخل النصوص والخطابات بدلاً من مواجهة العالم وما يجري فيه من موت فظيع أو أفظع، ويقال إن كل شي نص أو لا شيء خارج النص، وبدلا من تفسير العالم، كيلا نقول تغييره على ما دعا ماركس في أربعينات القرن التاسع عشر، يغدو كل شيء تأويلاً. ثم إنه معلوم، بقدر ما يخص الأمر إقليمنا، أن معظم ما يقال عن موت السوريين اليوم، سبق قول ما يشبهه عن موت الفلسطنيين واللبنانيين والعراقيين.

ومن جهة أخرى، هذه الصور موجودة في مكان ما، ورآها أشخاص ما. هل كان مفضلاً فعلاً ألا تكون صورت؟ هل هناك من يجيب جاداً على هذا السؤال بنعم؟ وإذا وجدت الصور، ألا «تطلب» أن تُرى؟ ومن يقرر بشأن ما إذا كان يجوز نشرها للعموم أم لا؟ وأي صور منها هي التي تنشر، وأيها تحجب؟ لا بد من وجود جهة ما تقرر في هذا الشأن، لكن أخص خصائص وضعنا اليوم، وهو وضع أزمة أسس، أزمة افتداء أو «أزمة قربانية»، بعبارة رينيه جيرار في كتابه العنف والمقدس، ينهار فيها النظام الثقافي العام، ويتناثر في كل اتجاه، أن جهة شرعية كهذه ليست موجودة، ويمتنع وجودها طالما الصراع مستمر وبؤرة تفجره نشطة. الأزمة تطال الشرعية وتعلن دمارها، فلا يستطيع أي كان تحديد السلوك الصحيح والخيار الأنسب. وظاهر أننا بالفعل في وضع كهذا في سورية اليوم، إنها حالة استثنائية وتوجب مقاربات استثنائية. يجري التفكير في الأجساد المحطمة وفق منظور الأزمة الافتدائية كأحد أوجه العملية التحويلية الكبيرة، التي تؤسس لنظام جديد وثقافة جديدة. يوماً ما، قد يقرر السوريون، عبر نقاش عام ومشاركة جماعية، أن يطووا صفحة هذه المشاهد، في سياق طي صفحة الحرب والتفاهم عل أسس جديدة لسورية جديدة. لكن سيلزم إجراء تأسيسي في هذا الشأن: بناء أرشيف لهذه المواد، يجمعها ويمنع ضياعها ويصنفها ويبوبها، ويدرجها في عملية بناء ذاكرة وطنية جديدة، لا تحول دون النسيان فقط، ولكن تمتنع على الاستثمار الجزئي وتقاوم التوظيفات الاختزالية أو الانتقائية. وهذا لا يتحقق دون أن يكون الأرشيف شاملاً، لا يحذف شيئاً ولا يكبت شيئاً ولا يتعامى عن شيء. والأرشيف شيء يطوى، لكن الوصول إليه مفتوح للجميع. وإنما عبر عمليات النقاش وبناء الأرشيف نستوعب التجربة، نؤسس لتعافي الذاكرة الوطنية ولشرعية جديدة، ونظام جديد للمجتمع والسياسة والثقافة. الذاكرة المعافاة ليست ذاكرة تتجنب مواجهة الماضي أو تكبته في دهاليز النفس، بل بالضبط تضطلع به وتتعرف عليه وتقر بمسؤوليتها عنه.

وقد يكون مفهوماً من وجهة نظر السوري المقيم خارج بلده أن يشعر بالإهانة من عرضنا محطمين أمام عيون غير ودودة وغير متعاطفة. لكن أليس من خصائص الأزمة التأسيسية ذاتها أن الحدود بين داخل وخارج تمحى؟ وفي زمن ثورة الاتصالات، هل يبقى معنى لداخل وخارج أصلاً؟ الكرامة ليست تسييج حمانا في وجه متطفلين غرباء، بل أن نجد في عيون الغرباء تعرفاً على أنفسهم في غرابتنا القصوى، غرابة الأجساد المحطمة. كلنا غرباء.

الذاكرة المعافاة ليست ذاكرة تتجنب مواجهة الماضي أو تكبته في دهاليز النفس، بل بالضبط تضطلع به وتتعرف عليه وتقر بمسؤوليتها عنه.

سوف نكون في وضع أفضل من أجل التمثيل والعملية التأسيسية، والتعافي، إن واجهنا الفظاعة ونظرنا في وجهها، وليس إن تفاديناها. الفظاعة هي أقصى الغرابة، الأجنبية القصوى. والنحن المحال إليها في الجملة السابقة هي جيل الأحياء الذي لا بد أن يتحمل المسؤولية عن التأسيس الجديد، أن يقبل الإقامة في الفظاعة كي يطور تطعيماً عاماً ضدها. هذا الجيل هو جيلنا، أعني بخاصة جيل المشتغلين بالشؤون العامة المنتجين، من فنانين وصحفيين وكتاب وناشطين سياسين. ما نطوره من أفكار وفن وحساسية حيال صور الفظيع يمكن أن يكون بمثابة تطعيم وطني عام ضد تكرار الفظاعة. ولا أستطيع تصور هيئة عامة تقرر ماذا يرى من صور الفظيع وماذا لا يرى غير جيل بأكمله، الجيل الذي انغمر في الصراع بجوانبه المختلفة. وأول مسؤولية هذا الجيل أن يضع عينه في عين الفظيع، وأن يقول: أنا من فعلت ذلك!

وأعتقد أن ما يفوت الميالين إلى تقييد مشاهدة الصور وتداولها هو الطابع التأسيسي للأزمة السورية، والتفكير بمنطق أوضاع عادية، لا يسائل الثقافة القائمة ولا يعيد النظر في مفهوم الكرامة الإنسانية أو يفكر فيه. لا أرى لنا كرامة في غير الانطلاق من أننا حيال أوضاع غير مسبوقة، لن تكون سورية في منتهاها مثلما كانت، لا ككيان ولا كنظام ولا كمجتمع ولا كثقافة، وأن نجعل من هذه المحنة التاريخية فرصة تاريخية لتجديد إحساسنا وثقافتنا، وأن نعمل على تطوير معان وقيم تحيط بعنائنا المهول. وهو ما يوجب الاعتراف به والتمعن فيه، والعمل على تملكه. ليس هناك نهج أكثر جذرية لمقاومة غرابتنا، وذلنا، غير إدارك كم أن الغريب هو الإنساني، هو العام.

ككاتب، أعمل على تمثيل الحال السورية في الثقافة، لا أستطيع أن أفعل دون أن أتنبه إلى أقاصيها، دون أن أحملق في عين الموت العنيف. أجد مشقة في النظر إلى الأجساد المحطمة، ويغلب أن أشيح النظر عن صور وفيديوهات رهيبة، لكن أظن أن علي النظر وإنعام النظر. الفنانون والكتاب عليهم أكثر من غيرهم إنعام النظر في الأجساد المحطمة لأنهم عاملو اشتراك، ولأن الأجساد جسدنا المشترك وجسد بلدنا المشترك. إن كان من أمل في طفرة فكرية وثقافية وفنية تستجيب لشرط الثورة أو تتدارك تعثرها السياسي، فهذا يمر في تصوري عبر الاضطلاع بهذا الهول الذي عاشه السوريون. معظم عمال الثقافة كانوا محميين شخصياً من هذا الهول، فلا أقل من أن يعاينوه مصوراً ويحفظوا الأجساد المحطمة في أرشيفات أجسادهم هم.

السؤال في رأيي كيف نهضم كثقافة ومجتمع هذا الهول؟ كيف نتعامل معه؟ أظن أن التمثيلات الثقافية التي ننتجها عبر تجربة المهول والإقرار به هي أساس أنسب لمواجهته وبناء الحواجز القيمية والقانونية والفكرية الفعالة التي تحول دون تكراره، من تجاهله أو تضييق مساحة الاطلاع عليه أو حمايتنا من مذلة صورنا محطمين. يلزم أن نقر بكرامة وأمانة أننا فاقدون للكرامة منذ زمن طويل، سابق كثيراً للأجساد المحطمة في سنوات الثورة. من يعرف الأجهزة الأمنية، ومن يعرف التعذيب، ومن يعرف سجن تدمر، ومن يعرف المخبرين والوشاة، ومن يعرف الأسرة الأسدية وأتباعا مثل مصطفى طلاس وما لا يحصى من أشباهه من البلهاء السعداء، يعرف أن السوريين فاقدون للكرامة منذ عقود، ربما منذ حكمهم بطل كارثة 5 حزيران، ونصب نفسه إلهاً عليهم. بالعكس، إن الإجساد المحطمة هي أحد وجوه تمرد من أجل استعادة الكرامة. وهي تستحق أن تمثل في الفن وفي الفكر وفي الثقافة، ويجب أن تمثل.

ليس في كل ما سبق ما يلغي شرعية الاعتراض على تمثيلات فنية أو توظيفات سياسية محتملة لصور الفظيع. هناك فن جيد وهناك فن رديء، بصرف النظر عن الشرعية الأخلاقية والجمالية لتمثيل الفظيع، والنقاش حول الصورة الكريمة أو اللئيمة. المشكلة ليست في تصوير الفظيع، بل في كيفية تصويره، في التمثل الفني لهذا التصوير: كيف يُرسم؟ كيف ينحت؟ كيف يمثل مسرحياً وسينمائياً؟ كيف نتكلم عنه في الروايات والقصص؟ كيف نمثله مفهومياً؟ كيف يقاربه الشعراء؟ تساءل تيودور أدورنو إن كان الشعر ممكناً بعد أوشفتز، كحدث مطلق ممتنع على التمثيل. لكن هذا هو التحدي الذي يفوز الشعر بشرعيته عبر مواجهته. والتطلع المحرك لتمثيل الفظاعة هو العمل على إذابتها، نزع إطلاقيتها، والقول إنها مأساة عظيمة واجهناها في تاريخنا، لكنها ليست مأساة المآسي، ليست المأساة المطلقة. هذا ليس فقط لتجنب سيكولوجية هولوكوستية لا يبدو أنها تنفتح على عدل أو مساواة مثلما نعرف أكثر من غيرنا، ولا تثمر غير هولوكوستات مقسطة، بانتظار الهولوكوست الأكبر يوماً ما، ولكن كذلك لأنه عندنا، حيث تواجه الفنون تحدي شرعيتها من قبل قوى الطغيان الدينية، من شأن طفرة فقط في تمثيل الفظيع أن يمكنها من أن تكون عنصراً في ثورة ثقافية، لا تقطع مع الأوضاع السياسية والاجتماعية الحالية، وإنما تؤسس لمواجهة الإفقار الديني لعالم التمثيل والعدوان عليه. قصر التمثيل على اللغة، مثلما يفعل الإسلاميون، يحتاج إلى حملقة لا متناهية في الصور التي فقدت صورتها من أجل كسره.

وبالمثل، ليس لأن هناك توظيفات سياسية ضيقة محتملة لصور الفظيع نتخذ قراراً إدارياً (من نحن؟) بأن لا يعرض الفظيع على العموم. من أشكال التوظيف السياسي المغرضة مثلاً الاعتراض على بث صور وفيديوهات تصور ضحايا التعذيب والأجساد المحطمة ومجازر النظام، لكن مع الانتشاء بنشر صور وفيديوهات عن جرائم داعش والإسلاميين. ومنه العكس، التكتم على ما يخرج من صور عن جرائم الإسلاميين، مع احتفاء بورنوغرافي بصور جرائم النظام.

المشكلة ليست في تصوير الفظيع، بل في كيفية تصويره، في التمثل الفني لهذا التصوير: كيف يُرسم؟ كيف ينحت؟ كيف يمثل مسرحياً وسينمائياً؟ كيف نتكلم عنه في الروايات والقصص؟ كيف نمثله مفهومياً؟ كيف يقاربه الشعراء؟

بيد أن كل ما سبق يطال النشر العام لصور الفظيع. نتناقش كمواطنين، كـ«عامين» بصورة ما، نفكر في الفظاعة بوصفها شأناً سورياً عاماً، يتصل بنظمنا السياسية والاعتقادية والاجتماعية، وبتاريخنا، وبمستقبلنا. لكن ماذا عن وقع الصور على الأهالي، على أحباب الضحايا، على أمهات أو آباء أو أبناء المعذبين أو المقتولين أو محطمي الأجساد؟ في آذار من هذا العام علمت من صديق أن بعض الصور تشبه معتقلاً قريباً له، لا معلومات عنه منذ أكثر من عامين، وأن صورة أخرى تشبه أخا القريب المعتقل، وأنه بدأت تردهم التعازي بالشهيدين، دون أن يكون مؤكداً قطعاً أن الصور تعود لمن يفترض أنها تعود لهم. يصف الصديق نشر الصور بلغة قوية بأنه «تسكع بين الجثث»، ويضيف: «العذابات الأليمة التي يعانيها أهلنا وبلادنا، لا تجعل الرفق بالأمهات والآباء والأهالي والأحباب ومحاولة مراعاة مشاعرهم ترفاً زائداً». هذا منطق قوي جداً. ولديّ من الاعتبارات الشخصية ما يسهل لي استبطانه. وما يبدو فظيعاً على نحو خاص هو حالة اللايقين التي تدفع الأهالي إلى التحديق في الصور المرة تلو المرة بحثاً عن يقين لا يصلون إليه في شأن ما إذا كان غائبهم هو هذا الجسد المسجى أم لا. حيال هذا الواقع، المرء مدفوع إلى التساؤل عن كيفية التوفيق بين الحاجة العامة الحيوية إلى هضم الفظيع وبين حماية الأهالي من استعراض صور أجساد أحبابهم المقطعة أو المسحوقة، وتخيل العذابات التي مروا بها قبل موتهم. لا يبدو أن هناك كيفية لذلك. فعدا أن الأهالي ليسوا قطاعاً صغيراً من السكان، هم معظم السكان في الواقع، وتقريباً كلهم، وأن ما يميز أزمة تأسيسية كأزمتنا هو امحاء المسافة بين الشخصي والمشترك، فإن شبكة الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي تفاقم امحاء الحدود هذا، بحيث يستحيل كل الاستحالة الجمع بين المطلبين. لكن هل الأمر يتعلق هنا بالصور حصراً؟ أليس التداخل الشخصي والمشترك وإمحاء الحدود واللايقين، وقبلها العنف المهول وتحطيم ما لا يحصي من حيوات وبيئات حياة، عبر إباحية عنفية لا حدود لها، أليست كلها وجوهاً لأزمة تأسيسية لا تعالج بمنطق تقليدي أو بأفكار إدارية؟ لا يتعلق الأمر بخلل في سير المجتمع والسياسة، بل بانهيار أسس الاجتماع والسياسة والقيم، وأسس التمثيل الفكر والفني والثقافي لحياتنا، السوريين، بقدر لا يقل عن أسس تمثيلنا السياسي.

مشاعية الصورة اليوم هي أحد وجوه الأزمة التأسيسية بوصفها انحلالاً عاماً.

لا أقول إن صور أجسادنا المقطعة، وانفصال رأس طفلة عن جسدها، وتحطيم جسدي حمزة الخطيب وتامر الشرعي، وتقبيل الولد حذاء معذّبه في «ماء الفضة»، ثم تعرضه لانتهاك جنسي، أو هرس رأس أحد ضحايا الشبيحة بكتل إسمنتية، أو صور مصلوبي داعش أو مذبوحيها، أو السائقين العلويين الذين قتلوا بعد سؤالهم عن عدد ركعات صلات الصبح، أو صورة شاب من درعا مرمي على الأرض بينما يسهب في شرح ذنبه ملتح مسن قبل أن يقتله بسادية مروعة بحربة بندقيته، ليست مذلة لنا، أو ليست إهانات بليغة لكرامتنا، لكن هل هي إهانات لأنها صورت، أم لأنها وقائع حدثت؟ ربما يقول إنها لا توجد كوقائع عامة إن لم تصور وتعرض. هذا منطق شائع اليوم، له قرابة قوية مع عالم يذوب بكامله في النصوص، عالم ينصرف التركيز فيه عن التجارب التاريخية إلى الخطابات والنصوص والصور، لكنه وقوف في موقف المتفرجين، مستهلكي الصور والنصوص والخطابات عن الانتهاك والتحطيم، وليس بحال موقف من وقع عليهم الانتهاك والتحطيم، وهو الموقع الذي يجدر كفاعلين عامين بنا تقمصه، وجعله تجربة عامة.

اغتصاب نساء ليس إذلالاً وتحطيماً لهن فحسب، بل هي تحطيم لجماعتهن أيضاً. لكن حين نطور نحن فناً وثقافة تقول نحن النساء اللاتي اغتصبن، فإننا نسهم في صون كرامتهن، ونكون لهن رابطة اجتماعية جديدة تحمي جماعتهن ذاتها من التحطم.

نعم، صحيح، إذا ظلت الإهانة خاصة فإن المهان يتحملها أكثر، لكن فرصة تكرارها عليه هو ذاته أو على غيره تبقى كبيرة ضمن الشروط التي مورست فيها الإهانة. بالمقابل، إن إهانة عامة أقسى على المهان، لكن فرصة مقاومة الإهانة وحشد الاحتجاج الواسع عليها وعلى الشروط التي تجعلها ممكنة أكبر بما لا يقاس. هل الانتهاك الجنسي للولد يذله؟ طبعاً، ليس هناك سؤال في هذا الخصوص. لكننا بتقمصه واعتبار أنفسنا مغتصبين مثله، ندافع عن كرامته، ونقلب الإذلال إلى فعل تمرد وصناعة للفن والقيم، وهو ما ليس ممكناً دون أن نشاهد الواقعة الإجرامية وندخل في المشهد. اغتصاب نساء ليس إذلالاً وتحطيماً لهن فحسب، بل هي تحطيم لجماعتهن أيضاً. لكن حين نطور نحن فناً وثقافة تقول نحن النساء اللاتي اغتصبن، فإننا نسهم في صون كرامتهن، ونكون لهن رابطة اجتماعية جديدة تحمي جماعتهن ذاتها من التحطم. وهو فعل كرامة حين نحن جميعاً نمتنع عن معرفة عدد ركعات صلاة الصبح، كي نكون شركاء للمقتولين لا للقاتلين.

أما إذا تكتمنا على وقائع الفظاعة وصورها، فإن أول من ينجو هو منتج الفظيع وممارسه، وليس ضحاياه. بهذا النهج لا أرى أننا نحمي الضحايا، وكرامة أسرهم، وكرامتنا كشركاء لهم في موقع وفي قضية، بل نحجب القاتل العام عن اللوم.

أنحاز للخيار الثاني، دون إنكار وجاهة بعض حجج المتحفظين.

لكن قد يقال: لما لا نسعى وراء ضوابط أو مواثيق بجري الاتفاق عليها، بحيث توضع الصور بتصرف العموم وفق قواعد محددة؟ أي لم لا نطور دستوراً يحكم علاقتنا بالصور؟ فلا نحن نمنع ونقيد بصورة إدارية أو ذاتية، ولا نحن نبيح ونتهتك؟ يبدو هذا معقولاً، لكن فرص التقدم نحوه مرهونة بتصوري بالتقدم العام نحو مواثيق وقواعد تخرجنا من الإباحية العنفية، وفي سياق بلورة دستور للدولة والسياسة، اي في التحول نحو نظام جديد للاجتماع والسياسة والحياة. وعلى كل حال هذا يحيل إلى ما سبق قوله عن الأرشيف. الأرشيف هو جمهورية الصور الدستورية المستقلة، التي نزورها متى شئنا من أجل ألا ننسى، ومن أجل أن ننفصل عن الفظيع في الآن ذاته. جمهورية الصور المستقلة هي أحد وجوه بناء جمهورية الأحياء، الأحرار.

أما ما دمنا في غمار الأزمة التأسيسية وجنة العنف المبذول الراهنة، فإن مشاعية الصورة هي خيار أكثر اتساقاً من غيره.

والواقع أن هذا ليس إلا اضطلاعاً بعواقب وضعنا المتمثل في استحالة ضبط تدفق الصور، وقبول هذه الاستحالة كقدر، ومحاولة قلبها على نفسها، تحويل الفظاعة وصور الفظيع إلى ذاكرة تنفصل عن الماضي لأنها انغمست فيه وعرفته وتملكته، تتحرر منه لأنها تعرفه وتمتلكه.

لقد أذللنا إذلالاً خارقاً، وكرامتنا لن تبنى على كبت ما أصابنا، بل لن تبنى على غير النظر في وجه ذلنا، والتحديق فيه ملياً وكثيراً. وبعد التحديق، النقاش العام مسلك مناسب جداً لهضم الفظيع، وقد يثمر أرضيات فكرية وأخلاقية وفنية أنسب لتشارك جديد.

الجمهورية السورية في

29.05.2015

 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2014)