كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

رؤى نقدية

 
 
 
 
 

الواقعية الإيطالية الجديدة (1 - 2)

"الواقعية الإيطالية الجديدة وانعكاساتها على السينما المصرية"

الجزء الأول

عدنان حسين أحمد

 

صدر عن دار "بيت الكتاب السومري" في بغداد كتاب جديد للباحث والناقد السينمائي الدكتور محمد حسن يحمل عنوان "الواقعية الإيطالية الجديدة وانعكاساتها على السينما المصرية". وقد تضمّن الكتاب مقدمة وثلاثة مباحث رئيسية وخاتمة يتبعها ثَبْت بالمصادر والمراجع والإحالات التي اعتمدها الباحث في كتابة مادته البحثية السينمائية المستوفية لشروطها النقدية.
يستهلّ الباحث محمد حسن مقدمته بالقول بأنّ الواقعية هي نظرية منهجية لفهم الأساليب السينمائية عبر تاريخ السينما الطويل، غير أنّ هذه الحركة الفنية تشظّت إلى اتجاهات متعددة وهي الواقعية الجديدة، والواقعية الاشتراكية، والملحمية، والشاعرية، والرمزية، والموجة الجديدة، والسينما الواقعية في بريطانيا، إضافة إلى اتجاهات أخر لا تهمّ سياق هذا المبحث السينمائي. كما أشار إلى بعض روّاد الواقعية الجديدة مثل لوكينو فيسكونتي، روبرتو روسيلليني، فيتوريو دي سيكا، جوزيبي دي سانتس. وقد تأثّر بهم في خمسينات القرن العشرين روّاد الواقعية في مصر وأبرزهم صلاح أبو سيف، يوسف شاهين، توفيق صالح، كمال الشيخ وهنري بركات.

أما في الثمانينات والتسعينات من القرن ذاته، فقد انتهك المخرجون الشباب تقاليد السينما المصرية السائدة آنذاك وقدّموا موضوعات مغايرة أطلق عليها النقاد تسمية الواقعية الجديدة، ومن بين هؤلاء المخرجين محمد خان، عاطف الطيب، خيري بشارة، داوود عبد السيد، شريف عرفة، ورأفت الميهي.

 اكتفى الباحث في مقدمته المقتضبة بذكر ثلاث سمات لا غير للواقعية الجديدة وهي: "الاعتماد على ممثلين غير محترفين، والتصوير خارج الأستوديو، واستعمال الكاميرا الخفيّة".

تعريف الواقعية

أورد الباحث عدة تعريفات للواقعية تقطع الشك باليقين بأن هناك واقعاً حقيقياً يختلف عن الواقع الفني. فالواقعية تعني "تصوير الأشياء أو العلاقات بصورة واضحة كما هي عليه في العالم الحقيقي والواقعي، وبتصوير الجوهر الداخلي للأشياء وليس الجنوح إلى الفنتازيا أو الرومانسية". وهناك مَنْ يذهب إلى تصوير الواقع بهدف كشف أسراره، وإظهار خفاياه في محاولة جدية لتفسيره

أما التعريف الإجرائي الذي يُقدِّم صورة واضحة المعالم للواقعية فيقول: "هي مدرسة مادية في الأدب والفن تُصوّر المجتمع تصويراً صادقاً مع الاهتمام بمشاكله الاجتماعية والإنسانية" وأكثر من ذلك فإنها تذهب للبحث عن حلول لهذه المشاكل.

يتفق نقاد ومؤرِّخو السينما بأن أول فيلم إيطالي يمثل الواقعية الجديدة هو فيلم "الوسواس" الذي ظهر عام 1942 لفيسكونتي وأن هذه المدرسة تميل إجمالاً إلى الموضوعية، والتصوير في الشوارع والأسواق والتجمعات السكنية الفقيرة، وتسجيل الحوادث الجارية في ظروف اجتماعية وواقعية.

الصدق الفني

يسعى الواقعيون لمعرفة الواقع وسبر أغواره، لذلك فهم لا يؤمنون بالغيب والأشياء غير المحسوسة. وقد أورد الباحث عدداً كبيراً من الآراء التي تُعزِّز وجهة نظره وناقشها مُؤيداً أو مُفنِّداً، فالفنان غوستاف كوربيه يقول: "إن الواقعية الحديثة هدمت الرومانسية وقضت عليها وهذا هو الطريق السليم للوصول إلى الحقيقة والجمال". ويصرّ الناقد داوود سلوم على أن الواقعية تصوّر الواقع "وتعكسه كالمرآة" وكأنّ العملية برمتها استنساخ أو نقل حرفي للواقع بينما يؤمن الباحث بأنها "تُظهر خفاياه، وتفسره، وتنوِّه للحل". فالصورة الذهنية هي انعكاس للعالم الخارجي، وهي تختلف من شخص لآخر حسب ميوله وخلفيته الثقافية. فلا غرابة أن يحسم الباحث أمره ويقول بأن الأديب أو الفنان الواقعي يجب أن ينأى عن النقل الحرفي للواقع. وفي السياق ذاته يؤكد الناقد عبد الرزاق الأصفر على أهمية "الصدق الفني" الذي يتحول من خلاله الكاتب "إلى فنان مبدع، لا إلى نسّاخ أو كاتب تقرير."

تهتم الواقعية بالإنسان والواقع الذي يعيش فيه فلا غرابة أن يقدّم شخصيات نمطية، ويرسم الواقع مثلما يراه في مخيلته من دون تحريف، ولا بأس في أن يقدّمه من زاويته الإبداعية الحرة. شرط ألا تطغى ذاتية الفنان على الموضوع ويسقط في خانق الرومانسية الذي يجعل الإنسان موغلاً في الذاتية واللاعقلانية والعاطفية والإبهام.

حدّد الباحث محمد حسن أربعة مميزات للواقعية وهي "النزول إلى الواقع الطبيعي والاجتماعي، وحيادية المؤلف، والتحليل والفنية الواقعية". ويقتضي النزول إلى الواقع الطبيعي أن يكون الفرد أنموذجاً نوعياً لا يؤمن بالغيبيات والخوارق والمصادفات. كما تشترط الواقعية التركيز على الجوانب السلبية في المجتمع كالتحلّل الأخلاقي، والفساد، والظلم، والإدمان على المخدرات والجريمة وما إلى ذلك. أما سمة الحيادية فإن المؤلف يجب أن يكون موضوعياً يثير المشكلة وينسحب منها تاركاً الحكم للقارئ الحصيف المسؤول عن مصيره ومصير مجتمعه، لكن ذلك لا يمنع الكاتب من اقتراح الحلول أو التنويه لها على الأقل.

ربما يكون التحليل هو السمة الأساسية في الواقعية لأن إيجاد الحلول لا يتم من دون دراسة الأسباب والدوافع الموضوعة قيد البحث. أما السمة الرابعة والأخيرة فهي الفنية الواقعية التي نستشف من خلالها السبب الذي فضّل فيه الواقعيون النثر على الشعر، ذلك لأن النثر هو اللغة الطبيعية للناس، بل هو لهجتهم العامية التي يتواصلون بها يومياً، أما الشعر فهو لغة الخاصة من الشعراء والأدباء الذاتيين الذين يؤمنون بالأوهام والأحلام وجنوح المخيلة التي تشتّط عن الواقع كثيراً. ولابد من الإشارة إلى أن الشكل يجب أن يكون تابعاً للمضمون وخادماً له على الرغم من تلاحمهما معا.

الواقعية في الأدب

قسّم الباحث محمد حسن الواقعية في الأدب إلى ثلاثة أقسام رئيسية وهي الواقعية النقدية، والطبيعية والاشتراكية، وحصر الأولى بنقد سلوك المجتمع وأفكاره مع التركيز على عناصر الشرّ والجريمة حيث يختار الكاتبُ القصةَ كوسيلة لبثّ الأفكار، كما يقترح الأديب حلولاً ويقدِّم أفكاراً جديدة تخدم المجتمع. أما الواقعية الطبيعية فهي تصوِّر العالم من الوجهة العقلانية وتنأى عن الغيبية والمثالية، وتعتمد على تطبيق مناهج البحث العلمي في الإبداع، كما تركِّز على محاربة الظلم والفساد والتفسُّخ الأخلاقي. يعرِّج الباحث على الواقعية الاشتراكية وهي القسم الثالث والأخير حيث يصبح العامل لأول مرة بطلاً في الأعمال الأدبية، وهي متفائلة جداً، وتسعى لتوعية العمال ودعم إيمانهم بروح الاشتراكية. كما تُعتبر الواقعية الاشتراكية مذهباً نقدياً شاملا.

يتوقف الباحث محمد حسن عند نشأة الواقعية وتطورها متتبعاً إياها منذ أفلاطون وأرسطو حتى الوقت الراهن، لكنه يخلص إلى القول بأنّ الناس قد ملّوا الرومانسية في النصف الأول من القرن التاسع عشر لأنها أوغلت في الخيال والأحلام واشتطت بعيداً عن الواقع الاجتماعي، وانصرفت عن معالجة قضايا الناس لذلك جاءت الواقعية كرد فعل قوي على الرومانسية ومن أبرز أعلامها بلزاك وفلوبير وتشارلس ديكنز وتولستوي ودستويفسكي.

الواقعية في السينما

لم نغص في تفاصيل الواقعية في الأدب والفن التشكيلي بغية منح الحيّز الأكبر للواقعية في السينما لأنها جوهر الكتاب ومادته الأساسية. يشير الباحث محمد حسن إلى أن الأخوين لوميير يُعتبران من مؤسِّسي التقاليد الواقعية في السينما حيث قدّما أفلاماً قصيرة تصوّر الحياة اليومية كوصول القطار إلى المحطة، وخروج العمال من المصانع، إضافة إلى تصوير الطبيعة المتمثلة بأمواج البحر وأوراق الشجر وما إلى ذلك.

نوّه محمد حسن إلى ظهور أفلام الشارع في العشرينات من القرن الماضي في ألمانيا بعد ظهور الأفلام التاريخية وأفلام الرعب، غير أن أفلام الشارع ارتبطت باتجاه جديد أُطلق عليه "الواقعية الجديدة" ذات النكهة الاشتراكية حيث تدفق المخرجون إلى الشوارع والساحات العامة لتصوير الناس، ورصد مشاعرهم وردود أفعالهم الآنية مرجِّحين المضمون على الشكل أو التقنية آخذين بنظر الاعتبار المحافظة على الاستمرارية المكانية للمشهد، وتفضيل اللقطات البعيدة، والإنارة السائدة، والميل إلى تجنب الزوايا المتعارف عليها، والتقاط المَشاهِد من مستوى زاوية النظر.

قسّم الباحث اتجاهات الواقعية في السينما إلى ستة اتجاهات رئيسة مستهلاً إياها بالواقعية الاشتراكية التي لا تختلف كثيراً عن قرينتها في الأدب والفن التشكيلي فهي تعبِّر عن تعاليم الثورة الاشتراكية، وتُسهم في بناء المجتمع الجديد، وتتبنّى أهداف الطبقة العاملة التي سوف تظهر في عدد كبير من الأفلام السوفيتية القديمة والمُنتجة بعد عام 1934، وهو العام الذي أعلنَ فيه ستالين أن الواقعية الاشتراكية هي الأسلوب الوحيد في الأدب والفن لنشر مفاهيم الثورة الاشتراكية التي تقوم بدور إيجابي وخلّاق في التغلب على السلبية والقدَرية والعبودية، إضافة إلى إشادتها بالأعمال البطولية في حياة الأفراد والشعوب.

يشير الباحث محمد حسن إلى أن الواقعية الملحمية هي الأسلوب الذي يأخذ طابعاً سردياً عريضاً ويتناول ملاحم الشعوب ومراحل نضالها بحيث تصبح الجماهير هي البطل ويسوق فيلم "التعصّب" لغريفيث ، وفيلمي "الإضراب" و "المدمرة بوتمكين" لسيرجي آيزنشتاين مثالاً حيث يُصور هذا الأخير انتفاضة الشعب الروسي ضد الحكومة القيصرية.

يُفرِّق الباحث في الواقعية الشاعرية بين السينما الشعرية والسينما الشاعرية، فالسينما الشعرية هي التي تتناول الشعر أو يتمحور موضوعها على قصيدة شعرية أو يكون الحوار في الفيلم هو الشعر بحد ذاته. أما السينما الشاعرية فهي أداة تعبير قادرة على إيصال الأفكار والأحاسيس إلى اللحظة العاطفية المستثارة. ويشير الباحث إلى أن الواقعية الشاعرية هي من ابتكار جورج سادول في الثلاثينات وقد تلمّس ملامح هذا الاتجاه في أفلام جان رينوار وفيلم "شاطئ الضباب" لمارسيل كارنيه.

يؤكد الباحث محمد حسن في حديثه عن الواقعية الرمزية على عدم وجود فيلم واقعي رمزي من بدايته إلى نهايته وإنما هناك بعض المَشاهد الرمزية في الفيلم الواقعي أو غيره من الأنواع، حيث يعتمد الرمز على الصورة التي قد تتمثل بالتكوين أو بالأشخاص أو اللون أو الصوت. ويستعين بتعريف فليب سبريج الذي يقول عن الرمزية بأنها "إدراك أن شيئاً ما يقف بديلاً عن شيئ آخر أو يحل محله أو يُمثلّه بحيث تكون العلاقة بين الاثنين هي علاقة الخاص بالعام أو المحسوس العياني بالمجرد". ويأتي ببعض الأمثلة من فيلم "القلب الشجاع" لميل غيبسون منها تشبيه وليم بالأسد، وتكرار ظهور المنديل لتسع مرات.

بعد عقد من السنوات وصلت الواقعية الجديدة إلى مرحلة الركود فظهرت الموجة الجديدة في فرنسا واستمرت لست سنوات (1958- 1964). ومن أبرز مخرجي هذه الموجة آلان رينيه، فرانسوا تروفو، لو مال وجان لوك غودار. أما أبرز خصائصها فهو الخروج على المألوف، واستعمال الكاميرا المحمولة التي تحتوي على جهاز تسجيل صوت، واستعمال معدات إضاءة خفيفة، والتصوير الحي، والارتجال، وعدم التقيّد بسيناريو، وتقديم نوع من العلاقة الجديدة بين الشكل والمضمون، وعدم الاعتماد على السرد والحبكة القصصية، واستعمال المونتاج القافز، واعتبار التوليف أكثر أهمية من الحوار. ويرى الباحث أن الموجة الجديدة قد أخذت من الواقعية الإيطالية الجديدة مسألة الارتجال واستعمال الممثل غير المحترف. وقد انتشرت هذه الموجة في إنكلترا وأسبانيا والبرازيل وبولونيا.

أما الاتجاه السادس والأخير فهو السينما الواقعية في بريطانيا أو السينما الحرة حيث يعد جون غريرسون،رائد الواقعية الوثائقية، الأب الروحي للسينما الحرة التي كانت في بدايتها تتجّه لصناعة أفلام وثائقية تعتمد على تسجيل اللقاءات الحية مع الناس الحقيقيين وتصوير الواقع بصدق وموضوعية. ويرى الباحث أن أول فيلم في هذا المضمار هو فيلم "غرفة فوق السطح" 1959 لجاك كليْتون. ويُعتبر فيلم "مساء السبت صباح الأحد" 1960 لكارل رايز أفضل نموذج  في السينما الحرة. أما أبرز سمات هذا الاتجاه فهي استعمال الكاميرا المحمولة، والصوت المباشر في أثناء التصوير، والأشخاص الحقيقيين، والعفوية في الأداء، والضوء السائد، واللقطات الطويلة، واللهجة المحلية التي تخلو من الحذلقة والتقعّر.

الأساليب الأدبية والفنية

ثمة تعريفات متعددة للأسلوب الأدبي نذكر منها أن الأسلوب "هو الطريقة التي يسلكها الأديب للتعبير عما في ذهنه من أفكار بواسطة اللغة". كما يشير معجم أكسفورد أيضاً إلى أن الأسلوب "هو الطريقة التي يكتب بها عادة شخص ما". بينما تذهب المدرسة الفرنسية إلى تعريف الأسلوب بأنه "دراسة طريقة التعبير عن الفكر من خلال اللغة". أما أحمد الشايب فيعرّف الأسلوب بأنه "طريقة الأداء، أو طريقة التعبير التي يسلكها الأديب لتصوير ما في نفسه أو لنقله إلى سواه بهذه العبارات اللغوية" والهدف منها هو التعبير عن المعاني قصد الإيضاح والتأثير. ويحدد الشايب ثلاث صفات للأسلوب وهي الوضوح والقوة والجمال. فالوضوح للعقل، والقوة للشعور، والجمال للذوق". ويعتقد الباحث محمد حسن أن هذا التعريف الأخير لا يزال قائماً حتى يومنا هذا.

أما تعريف الأسلوب في الفن فيرى الباحث أنه "طريقة الفنان في استخدام عناصر الفن للتعبير عن رؤيته تجاه الحياة وفق مرجعية فلسفية أو اتجاه فكري يحدد سمات أسلوبه".

إنّ ما يعنينا هنا أكثر من غيره هو الأسلوب في السينما الذي يختصره الباحث بـ "كيفية استعمال مفردات اللغة السينمائية وتوظيفها في إيصال الفكرة مع البناء الدرامي للفيلم السينمائي".

يستعين الباحث بمؤلفَي كتاب "السينما الهندية" راشيل دواير وديفيا باتل اللذين يؤكدان بأن "الأسلوب السينمائي يتألف من أربعة مكونات رئيسية وهي إخراج الحدث، والتصوير، والمونتاج والصوت". وفي السياق ذاته يقدِّم لنا الباحث رؤية الناقد رعد عبد الجبار الذي يقترح علينا أن نلتفت إلى هذه النقاط الأساسية الأربع في دراسة أسلوب المخرج السينمائي وهي "اللغة السينمائية، وأداء الشخصية، والتكوين وتعميق المعنى". ولكي نحدد أسلوب أي مخرج سينمائي فإن ذلك يقتضي منا دراسة ثلاثة من أفلامه على أقل تقدير دراسة دقيقة وواعية، والبعض جعلها ستة أفلام أو أكثر لتمييز أسلوب مخرجها ومعرفة كل التقنيات التي استعملها في أفلامه السينمائية. ثم يخلص الباحث إلى القول بأن "أسلوب المخرج هو الطريقة التي يكشف بها عن ذاته، وخبرته المتراكمة، وقدرته الفنية في استخدام المجال التعبيري لإيصال المادة الفنية من خلال الفكرة، ودقة المشاعر، وقوة الخيال عنده".

قبل أن نلج إلى الموجات الثلاث للواقعية الإيطالية الجديدة لابد لنا من تعريف الواقعية أولاً فهي تعني "التصوير الأمين لمظاهر الطبيعة والحياة، ومراعاة القيم الجمالية، والإجادة في العمل، وعرض الآراء والأحداث والملابسات دون نظر مثالي". وربّ سائل يسأل عن المرحلة التي سبقت ظهور الواقعية ومهّدت لها. ففي بداية السينما الناطقة برزت أفلام غنائية وعاطفية وكوميدية هابطة أو أنها كانت في أفضل الأحوال نسخة مشوّهة عن أردأ ما تقدِّمه السينما الهوليوودية التخديرية كما أن السلطة الفاشية الألمانية كانت تشجّع على إنتاج الأفلام الهروبية اللاواقعية التي أطلق عليها دي سيكا اسم "التليفون الأبيض" الذي كان يتواجد في غرفة نوم البطلة وهو رمز واضح لثراء البرجوازيين الذين يمتلكون أشياء لا يمتلكها المواطن العادي.

الموجة  الأولى للواقعية الإيطالية الجديدة

حينما أخرج أليساندرو بلازيتي فيلمه المعنون "أربع خطوات إلى السحاب" 1942 مصوِّراً فيه الحياة الريفية، كان يرسِّخ عن قصد الملمح الأول من ملامح السينما الواقعية الجديدة التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، لكن هذه الحركة السينمائية التي أُسست على يد روبيرتو روسيلليني وفيتوريو دي سيكا وسينمائيين آخرين كانت تقف خلفها جملة من الدوافع والأسباب اختصرها الباحث بثلاث نقاط وهي الأزمة الاقتصادية، وسرقة معدات مدينة السينما "تشينا شيتا" وتحويل أستوديوهاتها إلى مخازن للأسلحة والذخائر الحربية، والوضع الاجتماعي والنفسي لإنسان ما بعد الحرب الذي بات يعيش في واقع فاسد ويبحث عمّن ينتشله من هذا الواقع المزري.

لابد من الإشارة إلى أن  تدهور الوضع الاقتصادي الذي مرّت به أوروبا في أثناء الحرب العالمية الثانية هو الذي حرم المخرجين من استعمال الأستوديوهات ودفعهم للخروج إلى الشوارع حاملين كاميراتهم للتصوير في الساحات العامة والأماكن الحقيقية، فكانت إيذاناً بظهور الحركة الواقعية الجديدة التي اكتسبت المزيد من الموضوعية لأنها تعاملت مع الطبيعة البشرية على سجيتها من دون تصنّع أو افتعال. كما بدأ الناس يرفضون الأفلام الهوليوودية ذات الطابع التخديري اللاواقعي الذي يضطر فيه المخرجون إلى الهروب من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ويتجهون صوب المعالم الجسدية المثيرة التي تُخدّر المتلقين وتُنسيهم همومهم لبعض الوقت.

يُعدّ ظهور فيلم "الوسواس" Ossessione لفيسكونتي أشبه بالضربة القاضية التي حطّمت تقاليد ظاهرة "التليفون الأبيض"، وقد اعتبر النقاد هذا الفيلم فيلماً خالداً لأنه يحتوي على جميع عناصر الواقعية الجديدة مثل استعمال الكاميرا الخفية واللقطات العامة والطويلة كي يظهر الممثلون وسط الشاشة. كما صوّر المناظر الطبيعية كاملة بواسطة رافعة ضمنت له تصوير لقطات قريبة ولقطات عامة شديدة الدقة والتأثير. ثم أنجز "الأرض تهتزّ" الذي يتحدث عن ثورة لعائلة الصيادين الصقليين ضدّ مستغليهم. ولم يعمل في الفيلم أي ممثل محترف. وقد عايش فيسكونتي الصيادين لمدة ستة أشهر كي يتشرّب أجوائهم ومناخات حياتهم اليومية. وقد حاز المخرج على الجائزة الأولى في مهرجان فينيسيا عام 1948. أخرج فيسكونتي فيلم "رائعة الجمال" 1951، و "حواس" 1954، و "الليالي البيض" 1954 الذي نال جائزة الأسد الفضي في مهرجان فينيسيا في العام ذاته. وقد احتفظ فيسكونتي بمخطط عام لهذه الأفلام وكان يترك فرصة الارتجال لممثليه في مواقع التصوير.

توقف الباحث محمد حسن عند المخرج روبيرتو روسيلليني الذي يحضر إلى مواقع التصوير من دون نص ويعتمد على الارتجال أيضاً. وقد ركزّ المخرج في فيلم "روما مدينة مفتوحة" 1945 على المقاومة الإيطالية ضد الاحتلال النازي وعلى التعذيب الوحشي المروّع الذي تعرّض له أعضاء المقاومة الإيطالية على أيدي النازيين الألمان. وبحسب النقاد السينمائيين فإن هذا الفيلم يحتوي أيضاً على بعض السمات الأسلوبية للواقعية الإيطالية الجديدة، إذ كان روسيلليني يتجنب المونتاج، ويتفادى اللقطات الكبيرة، ويفضِّل اللقطات الطويلة، ويبتعد عن الحيل السينمائية في الإنارة وحركة الكاميرا والمونتاج. كما استعمل روسيلليني الجثث الحقيقية في فيلم "پايزا" Paisà الذي يتألف من ست قصص تتسيّد فيها ثيمة رئيسة وهي انعدام التواصل بين الأشخاص بسبب الحاجز اللغوي. وقد وثق المخرج في هذا الفيلم  الأحداث اليومية ومنحها مزيداً من الصدق في التعبير. وهذه الصفة التوثيقية هي أحد سمات الواقعية الإيطالية الجديدة. ثم ختم الباحث حديثه عن فيلم "ألمانيا عام صفر" 1948 الذي يتحدث عن ضحايا العنف ومخلفات الحرب وقد قال روسيلليني عن الواقعية الجديدة "بأنها لا شيئ أكثر من الشكل الفني للحقيقة".

أشار الباحث محمد حسن إلى أنّ كاتب السيناريو والمنظِّر تشزري زافتيني كان يركز على تقديم الواقع وليس على إعادة تمثيله من جديد. وقد أهمل الحبكات التقليدية وأصرّ على ضرورة البحث عن التفوق الدرامي للأشياء. يرى الباحث أن الواقعية الإيطالية الجديدة متأثرة بالواقعية الأميركية والفرنسية حيث عمل تشزري مساعد مخرج مع المخرج الفرنسي جان رينوار في فلمي "ملاذ الليل" و "نزهة في الريف". ويرى المؤرخ والناقد السينمائي جورج سادول أن هناك تأثيراً سوفيتياً على الواقعية الإيطالية. كما تؤكد بسمة بطريق على التأثر بالمدرسة الأميركية والواقعية الشاعرية الفرنسية، وتحديداً بالتيار الذي تبناه جان رينوار مبدع "الوهم العظيم" و "قواعد اللعبة".

يُعدَ فيتوريو دي سيكا أحد روّاد الواقعية وقد وقف أمام الكاميرا وخلفها وأنجز العديد من الأفلام الواقعية الجديدة أبرزها "الأطفال ينظرون إلينا" 1944، و "ماسحو الأحذية" 1946 الذي تناول فيه مأساة أطفال الشوارع في روما الذين يقعون ضحية لرجال العصابات كما يستغلهم عناصر الشرطة الإيطالية. ثم أنجز رائعته الفنية "سارق الدراجة" 1948 حيث تسرق دراجته فيظل يبحث عنها في شوارع روما وحينما يعجز في الوصول إلى دراجته يضطر لسرقة دراجة فيُقبض عليه ولا تخلّصه سوى دموع ابنه الصغير. توالت أفلام دي سيكا المهمة من بينها "معجزة ميلانو"، و "إمبرتو دي"، و "ذهبْ نابولي"، و "السقف" 1956 الذي يعتبر آخر أفلام حقبة الواقعية الإيطالية الجديدة. الملاحظ أن نهايات أفلام دي سيكا مفتوحة، وتظل المشكلة قائمة وتريد حلاً.

حقق فيلما "صيد مأساوي" و "الرز المرّ" 1949 مكانة كبرى في السينما الإيطالية. وكان دي سناتس إلى جانب روسيلليني وفيسكونتي ودي سيكا وزافتيني البُناة الحقيقيين للواقعية الجديدة. يستمد دي سانتس غالبية موضوعاته من حوادث حقيقية نُشرت في الصحف الإيطالية. ويكفي أن نشير هنا إلى فيلم "روما الساعة الحادية عشر" الذي تدور ثيمته حول انهيار سلّم تقف عليه 200 فتاة يراجعن فيه مكتباً أعلن عن فرصة عمل. لا تجمّل أفلام دي سانتس الواقع وإنما تبرز بشاعته وفقره وبؤسه بخلاف ما تقوم به السينما الأميركية التي تجمّل الواقع وتمنحه بريقاً كاذبا.

يشير الباحث محمد حسن إشارة عابرة لأفلام خمسة مخرجين  وهم ألبرتو لاتوادا، لويجي زامبا، وألدو فيرغانو، ريناتو كاستلاني وألبيرتو جيرمي. أنجز ليتوادا قرابة أربعين فيلماً أبرزها "اللص" 1946 و "بدون رحمة" 1948حيث تتحول شقيقة البطل في الفيلم إلى مومس كي تؤمِّن هاجس العيش، بينما يرفض البطل في الفيلم مغادرة إيطاليا بسبب التفرقة العنصرية. أما لويجي زامبا فقد أنجز "العيش بسلام" 1946 و "النائب أنجيليا" و "السنوات الصعبة" من بين أفلام كثيرة قاربت الأربعين فيلماً.

لم يترك ألدو فيرغانو سوى بضعة أفلام أهمها "الشمس تشرق من جديد" 1946. أما ريناتو كاستلاني  فقد ركز الباحث على ثلاثيته المشهورة وهي "تحت شمس روما" 1947، "حلّ الربيع" و "أمل زهيد الثمن" وتتمحور حول الفقراء وما يعتمل في دواخلهم من مشاعر إنسانية عميقة. اختتم الباحث محمد حسن الموجة الأولى بالمخرج بيّترو جيرمي الذي تتوفر أفلامه على معظم سمات الواقعية الجديدة وعلى رأسها الانغماس في القضايا الاجتماعية التي تتعلق بالناس الصقليين البسطاء. ومن بين الأفلام التي توقف عندها الباحث فيلم "باسم القانون" الذي أنجزه عام 1946.

الموجة الثانية

استهلّ الباحث محمد حسن الموجة الثانية بالمخرج فيدريكو فيلليني الذي عمل مع روسيلليني عام 1946 وكتب معه عدداً من السيناريوهات أهمها سيناريو "روما مدينة مفتوحة" إلى أن أخرج أول أفلامه "الشيخ الأبيض" 1952 الذي حقق نجاحاً كبيراً. ثم توالت أفلامه "أنا فتيلوني"، "الطريق"، "الأوغاد"، "ليالي كبيريا" و "الحياة حلوة" وسواها من الأفلام الأخرى غير أن فيلم "الطريق" هو الذي قاد فيلليني إلى الشهرة والأضواء خصوصاً حينما عُرض في أوروبا وفاز بأوسكار أفضل فيلم أجنبي.

هناك منْ يحسب فيلليني على روّاد الواقعية الإيطالية لكن هذه الأخيرة انتهت في منتصف الخمسينات فيما وقعت أفلامه القليلة التي أخرجها في بداية حياته تحت تأثير الواقعية الجديدة.

يقسّم النقاد أفلام فيلليني إلى نوعين: الأفلام الواقعية، والأفلام الهجينة التي تجمع بين الواقعية والسريالية والسيرة الذاتية. صوّر فيلليني سيرته الذاتية في فيلم "أماركورد" وكذلك في "ثمانية ونصف" الذي تناول فيه سيرة حياته كمخرج سينمائي. تنوعت أساليب فيلليني إلى الدرجة التي تداخل فيها الواقعي بالانطباعي، والتشكيلي بالمسرحي كما في فيلم "ستاريكون". كما استعمل شخصية الراوي في فيلم "وأبحرت السفينة" 1983. يستمد فيلليني معظم أفكاره الأصيلة من خياله وسيرته الذاتية. كما أن غالبية ممثليه من غير المحترفين. فاز فيلمه ذائع الصيت "الطريق" بأكثر من خمسين جائزة في تسعة بلدان!

يعتقد بعض النقاد أن سينما فيلليني فلسفية يمتزج فيها الحلم بالجنون وهو يغوص داخل النفس البشرية ويبحث معها للخروج من المأزق كما يذهب الباحث محمد حسن. ويعتبر البعض أن فيلليني وأنطونيوني من الجيل الثاني للواقعية الجديدة حيث أخرج فيلليني فيلم "أنا فتيلوني" عام 1953، كما أنجز أنطونيوني فيلم "المنهزمون" في العام ذاته، وهو العام الذي أُعلن فيه رسمياً موت الواقعية الإيطالية الجديدة.

يعتبر الباحث محمد حسن أن "الصديق" هو أول فيلم طويل أخرجه مايكل أنجلو أنطونيوني عام 1954بينما يشير واقع الحال إلى أن أنطونيوني قد أخرج ثلاثة أفلام طويلة قبل هذا الفيلم. ثم يذكر فيلم "الصحراء الحمراء" الذي يهتم فيه باللون كثيراً ويتعامل معه بذات الأهمية التي يتعامل فيها مع الممثلين. يركز أنطونيوني على المشاكل الاجتماعية في أفلامه كما فيلم "الليل" الذي يتمحور على يوم في حياة زوجين غير مخلصين لبعضهما ثم تتدهور علاقتهما على حين فجأة.

يختم الباحث الموجة الثانية بتناوله لشخصية بيير باولو بازوليني الذي يعرّف نفسه بالشاعر والروائي والفيلسوف والكاتب المسرحي والصحفي والممثل والرسام والسياسي والمخرج السينمائي. عمل بازوليني مع عدد من المخرجين البارزين كما أنجز عدداً من الأفلام المهمة نذكر منها "أكاتون" 1961 الذي يعني المتسوّل. يروي الفيلم قصة سماسرة البغاء والمومسات واللصوص وقد اعتُبر هذا الفيلم من أفلام الموجة الثانية للواقعية الجديدة كما عدّه النقاد فيلماً مروّعاً ومثيراً للاشمئزاز. ثم أخرج فيلم "ماما روما" 1962 الذي يدور حول مومس تحاول أن تبدِّل مهنتها وتتخذ من بيع الخضراوات مهنة جديدة لها لكن الأحداث تسير باتجاه معاكس حيث يتجه ابنها للسرقة التي تفضي به إلى السجن. صوّر بازوليني هذين الفيلمين خارج الأستوديو معتمداً على ممثلين غير محترفين. يركز بازوليني على الطبقة الفقيرة ويرصد موضوعات السرقة والبغاء والسمسرة والخيانة الزوجية.

يشبّه البعض فيلم "سالو" 1975 بالجوهرة أو الفيلم المصقول فهو يحكي عن أربعة شبان فاشست يخطفون 18 طفلاً مراهقاً ويعرضونهم لأبشع أنواع التعذيب الوحشي. لا يستعمل بازوليني اللقطة المأخوذة عن بُعد بينما تتحدث شخصياته إلى الكاميرا مباشرة. يختم الباحث حديثه عن الموجة الثانية التي عُرفت بأفلام فيلليني وأنطونيوني وجديد فيسكونتي وبداية بازوليني وفتيريو تافياني وروزي وإليو بيتري وجيلو بونتيكورفو ودامياني وإيتوري  سكولا  وبرتولوتشي وغيرهم.

الموجة الثالثة

ظهر في بداية التسعينات جيل جديد من السينمائيين الإيطاليين الشباب الذين وصفهم الباحث بالأذكياء والمغامرين وقدّر عددهم بنحو ثلاثين مخرجاً من بينهم  بوبي أفاتي Pupi Avati الذي كتب سيناريو فيلم "سالو" لبازوليني. أما أهم أفلامه بحسب الباحث فهو فيلم "صديق الطفولة" 1994 و "درب الملائكة" 1999. ثم توقف عند جوزبي تورناتوره صاحب "السينما جنة" 1996 الذي نال جائزة الأوسكار و "مالينا" 2000 الذي يتحدث عن واقع المرأة الصقلية. أما بقية المخرجين فهم فرانسيسكو روسي الذي أخرج فيلم"نسيان باليرمو" 1989 الذي يتمحور على عدة أفكار من بينها تقنين المخدرات. والمخرجة روبيرتا توري صاحبة فيلم "تانو حتى الموت" الذي يتناول حياة قصاب وأخ غيور على شقيقاته الأربع حيث يتحول إلى رئيس عصابة مافيا صغيرة ويواجه مصيره المحتوم عام 1990. وفي السياق ذاته يشير إلى "الأفضل في الشباب" لماركو توليو جوردانا و فيلم "الحياة جميلة" لروبرتو بنّيني.

تنوعت أفلام الموجة الثالثة وشلمت موضوعات مختلفة توزعت بين الواقع الاجتماعي والمافيا والسياسة. ثم انتقلت من إيطاليا إلى بقية دول العالم حيث تأثّر المخرج البرازيلي المهم نلسن بيريرا دوس سانتوس الذي أنجز "الجوع للحُب" و "الضفة الثالثة للنهر". كما تأثر المخرج الهندي الشهير ساتياجيت راي بفيلم "سارق الدراجة" وأخرج على غراره ثلاثة أفلام وهي "أنين الممر"، "الذي لم يُقهر" و "عالَم آبو". كما تأثر بالواقعية الإيطالية الجديدة المخرج البوليفي أنتونيو أوغينو الذي تألق في فيلم "البحر المرّ". إضافة إلى المخرجَين الكوبيين توماس غوتيرّس آليّا وخوليو غارسيا أسبينوزا اللذين درسا في روما في بداية الخمسينات من القرن الماضي.

السينما والجنون !

أسامة صفار

يستطيع "المجنون" أن يُقدِّم من الخدمات ما لا يستطيع أن يقدمه العاقل لكل من السيناريست والمخرج, ذلك أن العاقل محكوم بمنطق وتاريخ شخصي ينبغي أن ينعكس داخل العمل وبالتالي قد لا يخبر أو يتسبَّب بمنعطف درامي بينما المجنون وهو الخارج عن المنظومة المجتمعية والمنطق يمكن أن يُحمِّله الكاتب والمخرج معا رسائل قد تبرِّر نقلة نوعية هائلة داخل العمل الدرامي من دون أن يقع في خطيئة ضعف السيناريو أو البناء، ولعل هذا هو السبب الرئيسي في استخدام تيمة الجنون وانتشارها في عدد كبير من أفلام السينما المصرية.
لكن ثمة سوء تفاهم شبه دائم بين الجنون والسينما المصرية, فصانع الفيلم يبدو متعاطفا مع " شخصية" المجنون في عمله بينما يقدمه من أجل فاصل كوميدي أو ميلودرامي من دون أن يتحرى الدقة في مفهوم الجنون وعلاقته بسلوك المجنون، وهو ما يسبب تصورا غير حقيقي لدي المشاهد, وذلك الأخير لا يحتاج إلي عوامل تزيد من سوء فهمه وقسوته علي "المجنون" ففي المجتمع المصري ينقسم المجانين - غالبا - إلي نوعين أولهما " عبيط القرية " الذي يطارده الأطفال بالحجارة فتراه دائما وقد انتشرت في جسده الجروح نتيجة إصاباته، وثانيهما "مجنون" المدينة المسكين الذي لم يمانع الكثيرون في دهسه بسياراتهم حين وجدوه يعتدي علي وقتهم الثمين من قلب الطريق دون اعتبار.

والجنون علي الشاشة السينمائية ليس ذاته الجنون في الشارع، ففضلا عن التشوه الذي يتعرّض له من خلال عدم التمييز الذي يقع فيه صانع العمل، فإن مجنون السينما قد يبدو أقل قدرة علي نشر الفوضى من عاقل مجرم ينظر إليه الفيلم علي أنه " عاقل الفيلم " بينما مجانين الحياة هم الأصدق علي الإطلاق، نظرا لكونهم يستجيبون لطبيعتهم من دون أدني اعتبارات مجتمعية أو حسابات !

والجنون مصطلح عام يشمل السلوكيات التي تعتبر منحرفة  ويعرف الانحراف ثقافيا، ويختلف بشكل ملحوظ من مجتمع لآخر، ورغم أن الأدلة تشير إلى ظروف متشابهة - تقريبا - للتجربة الإنسانية وبالتالي فإن هناك اتفاقا عاما يُحدِّد ملامح الجنون فإن ثمة اختلافات ثقافية تخصّ المفهوم علي المستوى المجتمعي، أما طبيا فالأمر محسوم للعلم الغربي.

وتكمن الخطورة الحقيقية للمجنون في كونه خطرا علي النظام الاجتماعي، لذا نجد نموذج المجنون بكل تنويعاته مغريا للمبدعين سواء في السينما أو الأدب وخاصة الرواية نظرا لطموحهم الدائم بشأن تجاوز النظام الاجتماعي.

وقد أوردت الموسوعات الطبية والاجتماعية تعريفات شتي للجنون يمكن تلخيصها بشكل مركز في كون الجنون هو عدم القدرة على السيطرة على العقل أو هو مجموعة من السلوكيات الشاذة التي يقوم بها أشخاص بدون وعى وإدراك ورغما عن إرادتهم، وتؤدي هذه السلوكيات إلى انتهاك المعايير الاجتماعية وقد يصبح هؤلاء الأشخاص خطرا على أنفسهم أو الآخرين, في لحظة معينة، وقد تستمر عدم القدرة على السيطرة على العقل فترة طويلة. و"عدم القدرة على السيطرة على العقل" هو المفهوم الوحيد للجنون عند مناقشة الأمراض النفسية بشكل عام.

أما المفهوم القانوني للجنون فهو رائع بالنسبة لأولئك الذين يريدون التخلص من شخصية داخل فيلم بدون عقاب للقاتل أو يريدون إحراق مبني أو حتي مدينة كاملة بدون إلقاء المسؤولية علي أي طرف داخل العمل الفني، وذلك لامتناع المسؤولية الجزائية عن المجنون. وعلى ذلك فإن الجنون حالة عقلية تتصّف بفقدان ملكة الإدراك (أو العقل أو الوعي)، وما يرافقها من اختلال وضعف في الوظائف الذهنية للدماغ، وزوال القدرة على المحاكمة وتوجيه الإرادة.

المجنون إذن شخص لا يميِّز بين الخير والشر وهو خطير على المجتمع وينقسم إلى نوعين:
مجنون تماما (أي أنه مصاب بهذه العلّة منذ ولادته إلى الآن) نتيجة عدم اكتمال تكوين دماغه أو جهازه العصبي.

مجنون جزئيا (أي أن الجنون لديه وجد حديثا أو أنه يتناوب أي يأتي ويذهب على شكل نوبات مؤقتة) ويطرأ عليه أثناء حياته نتيجة مرض أو حادث يصيب دماغه، فيختلّ توازنه العقلي، وتضطرب ملكاته الذهنية، ويفقد القدرة على الربط المنطقي في العمليات العقلية، فلا يفقه القول ولا يقوى على الفكر، ولا يعود قادرا على التحكم بتصرفاته الخارجية.

ويلحق بالجنون الأمراض العقلية والعصبية التي يفقد المصاب بها الإدراك أو القدرة على توجيه الإرادة. ومن هذه الأمراض الصرع، والهستيريا، والذهان، والوسواس الجنوني، وازدواج الشخصية أو انفصام الشخصية (الشيزوفرينيا)، وتسلُّط الأفكار الخبيثة، واليقظة أثناء النوم ..

وبزاوية أخري للنظر فإن الجنون هو افتقاد المعني بينما العقل هو اكتساب المعني, وفي السينما - كما في الحياة - إن لم يكتسب السلوك معناه, ويحيل فاعله و مشاهده إلي نص كوني أكبر من وجوده، فإنه يصبح فعلا بلا معني ولا مدلول وبالتالي لا يعني إلا ذاته كفعل بيولوجي مثلا, و المعني المقصود هنا ليس مطلقا فالمقصود به هو ذلك المعني الذي يُجمع عليه المجتمع وله معايير خاصة به نابعة من منظومة قيمية لها معايير محددة، وبالتالي فكون الفعل بلا معني هو نسبي ويخص الثقافي أكثر مما يخص الفلسفي.

ولعل تأثُّر المشاهد بفيلم معين أو حدث أو مشهد دون غيره في العمل السينمائي هو ما يفسر قبضه علي المعني المحدد لهذا المشهد بينما يتأثر مشاهد آخر بمشهد آخر من دون أن يؤثر المشهد السابق عليه فهو لا يجد له معني.. إذن المعني هو علاقة تبادلية بين ما نشاهد علي الشاشة وما يكمن داخلنا من قيم ومعان وذكريات، وهو هنا شغف يتحقق عبر فنون السينما المختلفة علي الشاشة.. إنه جنون من نوع مختلف.. جنون المعرفة والاكتشاف.. إنه المنتج الحصري لتلك البهجة التي يشعر بها مشاهد الفيلم السينمائي.

سيد الجنون في السينما

السينما هي ذلك الاشتغال التفصيلي علي السوسيولوجي، والجنون بقدر ما يرتبط بالفرد فإنه مرتبط بالمجتمع بل في أحيان كثيرة يكون نتاجا لتناقضاته الحادة و يكون جنونا بتعريف المجتمع بنفسه له, لذلك يبقي الجنون ظاهرة سينمائية بامتياز في أحداثها وحدوثها ومعالجتها. وإذا كان المجنون واحدا من أهم المُلهمين للسينمائي فان ذلك السينمائي قد يوصم بالجنون من دون أن يمتلك المجتمع نفسه تلك القدرة المعروفة علي قمعه، ولعل الأمثلة الواضحة لذلك علي المستوي العربي هي يوسف شاهين الذي أُطلق عليه العبقري المجنون وهو لقب لا يعني في هذه الحالة المدلول الطبي بقدر ما يعني المدلول المجتمعي للجنون بما فيه من خروج علي المألوف.

ويبقي "رومان بولونسكي" هو ذلك المخرج الذي عاش بين مساحات الجنون والعبقرية في حياته وعبّر عنها في أفلامه كما لم يفعل أحد، وقد خُصّصت مجلة بوزيتيف الفرنسية عدد أغسطس 2009  لـ "السينما والجنون". وكان من الطبيعي أن يحتلّ المخرج العالمي الكبير "رومان بولنسكي" مقدمة المشهد ومن خلال قراءة أحد كبار المتخصصين في تراث بولنسكي السينمائي وهو "ألكسندر تيلسكي" الذي قام بتفكيك  خيوط الجنون في منجز بولنسكي، اعتمادا على آليات فلسفية ودلائلية.

والمعروف أن  مصطلح "جنون" كان دائما مرتبطا بأفلام بولنسكي وبالحكايات عن حياته وقد تحول المخرج نفسه إلي واحد من الوجوه الدالّة على إخراج الجنون في السينما.

وينضم إلي بولونسكي كل من لويس بونويل، إنجماربيرغمان، إيليا كازان, وستانلي كوبريك، وشابرول وزولافسكي، ووودي آلن وسكورسيزي وديفيد  لينش.

و بالنظر إلى الحياة الصاخبة لبولنسكي نراه يستخدم بثراء كبير العلامات الأكثر جنونا، وهو نفسه كان يشك في صحته العقلية الخاصة، ويتكلم عن ذلك في سيرته الذاتية.

وقبل ظهور فيلم: " نفور"  سنة 1965 عرضه بولنسكي على طبيب نفسي ليعتبره هذا الأخير عملا فنيا لمخرج في كامل توازنه النفسي وسلامته العقلية وكانت مفاجأة غير متوقعة بالنسبة لبولنسكي الذي كان مقتنعا بأنه "مجنون". والحقيقة أن المخرج عرف كيف يتحكم ويصور - بدقة - الجنون على الشاشة.

وفي  الفيلم " طفل روزميري" يعتني بولنسكي بوضع فيلمه في سياق  واقعي بحيث يدفع القدامى بخساراتهم إلى اللاحقين، ولا يعرف المشاهد هل لعنة الجنون التي صارت (ميا فارو) ضحية لها واقعية أم متخيلة. ويدور فيلم "الفتاة الشابة والموت" في بلد غير محدد، خارج لتوه من الديكتاتورية في أمريكا اللاتينية ، تنتظر باولينا اسكوبار زوجها المحامي الشهير الذي عهد إليه برئاسة لجنة كلفت بمحاكمة جلادي الأمس في السلطة البائدة. لكنه لم يأت وحده، جاء رفقة رجل اغتصبها وعذبها قبل سنوات خلت. لم تر أبدا وجهه من قبل لكنها تعرفت إليه من خلال صوته، فقررت احتجازه واستنطاقه. الحكي له فعل ماكر على أعصاب المتفرج يتأرجح بين الحقيقة والكذب، بين الأمل والألم. ويؤكد بولنسكي من خلال هذا الفيلم أنه خبير بالوجه الخفي للطبيعة البشرية.

وفي فيلم " المشتري " نرى تريلكوفسكي عاملا صغيرا من أصل بولوني يشتغل في عمارة انتحرت صاحبتها الأصلية عبر النافذة. تحالف كل الجيران ضده الشيء الذي جعله يغرق في الجنون. الجيران في الفيلم أشباح ساديّون. تتخلل الفيلم صور مرعبة تقويها موسيقى غريبة بواسطة آلة الهارمونيكا.

ويصعب تناول الجنون والسينما بشكل عام من دون المرور علي فيلم "عقل جميل" الذي قدّمه ريدلي سكوت عن قصة العالم الحاصل علي جائزة نوبل "جون ناش" والذي قدم إمكانية فريدة لمقاومة الهلاوس السمعية والبصرية تنبع من المريض ذاته كما قدم نموذجا للدعم المجتمعي لا يقارن.

السينما المصرية

لا تنفصل النظرة السينمائية في مصر عن النظرة الشعبية, فكلاهما يحمل ملامح التعاطف مع المجنون نظريا لكنه يتعامل معه بقسوة لا حد لها. فأقلّ ما يعانيه " المجنون " في مصر هو تلك العزلة التي تساهم في ازدياد حالته المرضية فضلا عن القسوة في كافة التعاملات التي تتطلب احتكاكا مباشرا حتي من أقرب الأقربين إليه، و الطريف أن "وصمة الجنون" كما يراها المجتمع انتقلت إلي الطبيب النفسي في الواقع وفي السينما !

و الحقيقة أن أزمة تناول الجنون في السينما المصرية من بداياتها لا تتعلق بفهم المرض النفسي ولا بأسلوب السرد السينمائي، ولكنها تتعلق ببدايات تعيسة ظلت تعمل علي تقليد الغرب لسنوات طويلة حيث يتم تمصير الفيلم السينمائي أو المسرحية لتتم صناعة مجتمع لا يشبه المجتمع المصري إلا في اللهجة، وحين يتم الاجتهاد في موضوع مثل الجنون يلجأ صناع العمل إلي المفاهيم الشعبية غير المنضبطة علميا .

وقد صُوِّر فيلم "إسماعيل يس فى مستشفى المجانين"، بصورة أقرب إلي الدراويش أو المجاذيب وإن بدت الحاجة الملحة لدي المخرج إلي فقرة كوميدية لا فرق بين أداء المجانين خلالها وأداء السكارى, وتدور أحداث الفيلم حول طعمة ووالدها الذى يستدين من معلمى الحارة الذين يرغبون في الزواج بابنته، ويعد كل من يقرضه المال بتزويج طعمة له، ويدور الصراع بين حسونة الفطاطرى "إسماعيل يس" الذى يقع فى حب طعمة وفى نفس الوقت يقع فى حبها علوة التمرجى فيحدث الصراع بين حسونة وعلوة والأب الذى يدخل حبيب طعمة مصحة الأمراض العقلية، والتى يستطيع فى نهاية الفيلم وفى يوم زفاف طعمة الهرب من المستشفى وكشف الحقيقة.

وتعامل مع كل من يقبع داخل مستشفى الأمراض العقلية، التي دخلها حسونة عنوة بفعل غريمه، على أنهم مجاذيب فاقدين لعقلهم وكان أبرزهم الدكتور شديد والخواجة بيجو، وكذلك ظهر الأطباء المعالجون لهم بصورة مشابهة لصورة هؤلاء المرضى، حتى أصبح "حسونة" الذى دخل المستشفى وهو في كامل قواه العقلية، يتعامل مع زملائه داخل المستشفى بنفس الصورة التي يتعامل بها المجاذيب مع بعضهم البعض.

أما تشويه الطبيب النفسي فقد ظهر في المشهد الأخير من فيلم "مطاردة غرامية" بطولة فؤاد المهندس وشويكار، والذى أدّى خلاله الفنان الراحل عبد المنعم مدبولى، دور طبيب نفسى ذي أفعال جنونية، يعالج مرضاه بطريقة بهلوانية، على طريقة " أنا مش قصير قزعة.. أنا طويل وأهبل".
ومن أبرز الأفلام المصرية، التي عالجت المرض من جميع جوانبه بشكل جيد، هو فيلم "آسف على الإزعاج"، بطولة الفنان الكوميدى، أحمد حلمى، حيث أظهرت صورة إيجابية لمريض نفسى، لم يتقبل فى بداية مرضه فكرة أنه مصاب، إلا أنه اقتنع مؤخراً بضرورة الذهاب إلى المستشفى للعلاج، بمساعدة طبيب نفسى، ظهر بصورة لم نجدها فى السينما من قبل.

الرعب والجدية

 وتدور قصة فيلم "آسف على الإزعاج" بطولة أحمد حلمي ومنة شلبي ودلال عبد العزيز، حول قصة شاب يدعى "حسن"، ويعمل مهندس طيران متميز ومخلص جدا في عمله لدرجة أنه ليس لديه من الوقت ما يمارس من خلاله حياته الاجتماعية، وحلمه أن يقدم مشروعه لرئيس الجمهورية وهو مشروع لتخفيض تكلفة الوقود للطائرات.

يرتبط حسن بوالده الطيار ويتمنى على الدوام أن يكون مثله، ويتعايش البطل مع والده "محمود حميدة" الذى نُفاجأ في منتصف الفيلم أنه ميت وأن حسن يتخيل أن والده حي يرزق، ولا يفيق حسن من هذا الوهم إلا بعدما صدمته والدته "دلال عبد العزيز" بالأمر الواقع وعرضت عليه الذهاب للمستشفى للعلاج، وبعدما كان حسن يرفض في الماضي أي تشكيك في سلامته النفسية.

يبدأ بالمرور على أولى خطوات العلاج، وهى الاقتناع بأنه مريض، ومن ثم يذهب إلى المستشفى، التي يظهر فيها الدكتور النفسي في صورة رجل هادئ متوازن، ومثقف لديه قدرة على محاورة المريض وإقناعه، إلى أن يتم شفاء حسن في النهاية ليعود كما كان من قبل.

ويعد فيلم "البيت الملعون" أيضاً من أهم الأفلام التي تناولت قصة المرض النفسي، فى إطار سيناريو فيلم مرعب، حيث تعيش أسرة مديحة (ماجدة الخطيب) في جو عائلي يغلب عليه السعادة والمحبة برفقة زوجها "سمير صبري" وابنتها، إلا أن سعادتها تلك لا تدوم طويلا عندما تفاجأ مديحة بظهور أشياء وأشخاص داخل فيلتها، يحاولون قتلها. تخبر مديحة عمتها التي تكشف لها أن والدتها قتلت بتلك الفيلا، واتهم والدها بقتلها وأصيب بمرض نفسى أودع على إثره مستشفى الأمراض العقلية مما كان سببا في انتحاره. يحاول الزوج مساعدة زوجته مديحة فيطلب من الطبيب صلاح "كمال الشناوي" علاجها، فيكتشف أنه كان يحب والدتها وهو القاتل الحقيقي، يسعى الزوج لإنقاذ مديحة من براثن ذلك الطبيب صلاح ويطلق عليه النار فيرديه قتيلا ويعم جو الصفاء والمحبة إلى الأسرة من جديد.

ويأتي آخر الأفلام التي أبحرت في الجنون من خلال الكاتب أحمد مراد الذي قدم الرواية والسيناريو لفيلم "الفيل الأزرق" الذي عُرض في العام الماضي بمصر وحقق نجاحا ملحوظا علي المستويين النقدي والتجاري.

ويطرح الفيل الأزرق حالة لأكثر من مريض أحدهما طبيب والآخر مريض بالفعل، فبعد أن يبدأ الفيلم بالدكتور يحيي الذي أوشك علي استلام قرار فصله من مستشفى الأمراض النفسية والعصبية الذي يعمل به بسبب الغياب والتأخر في تحضير رسالته للدكتوراه، فإنه يُمنح فرصة أخيرة عبر نقله إلي عنبر 8 غرب المعروف بكونه عنبر المرضي الذين يمثلون خطورة كبيرة علي أنفسهم وعلي الآخرين .

وهناك يلتقي صديق عمره المتهم بقتل زوجته الحامل و المصاب بحالة جنون لتبدأ حالة من الهلاوس السمعية البصرية تحتلّ نحو ثلثي الفيلم وتشمل استعراضا نفسيا دقيقا اتضّح خلاله الجهد الكبير الذي بُذل في الدراسة والاستعداد للعمل بشكل علمي، لكن النهاية تأتي صادمة حيث تم توظيف كل هذا الجهد العلمي والسينمائي لصالح الخرافة والسحر بالاستناد إلي كون كل ما حدث من جرائم داخل العمل إما بفعل السحر أو بفعل  المخدرات !

الجزيرة الوثائقية في

12.05.2015

 
 

«حراس الوقت الضائع» على ناصية الحياة

بانة بيضون

بيروت التي تأخذنا إليها ديالا قشمر في «أرق» الحائز جائزة لجنة التحكيم في «مهرجان دبي السينمائي» (2013) هي تلك التي تعيش في مخيلة الذين يقيمون على هامشها في زواريب حي اللجا الذي يقع تماماً خلف شارع مار الياس، رغم أنّ الهوة بين المكانين شاسعة. حي اللجا هو بمثابة الحي الشبحي الذي يتجنبه أغلب سكان مار الياس لسمعته السيئة بسبب ما يسمونهم «زمرة زعران» أو قبضايات حي اللجا الذين يفتعلون دوماً المشاكل.

لكن هنالك نوع من التضخيم والمبالغة في توصيف الحي يبدو نابعاً من مكان آخر، هو طبقي على الأغلب. من يتوغّل في نسيجه حقاً، سيكتشف حياً شعبياً لا يختلف عن غيره سوى ــ للطرافة ــ أحد محال الحلويات المشهور بالصفوف هناك، وبالطبع بقبضاياته الذين تستكشفهم قشمر، مفكّكة حتى صورة القبضاي عن نفسه. اللعبة الأساسية والمثيرة للاهتمام في الفيلم هي الصراع على السلطة بين قشمر والقبضايات. في البداية، يرفضون الانصياع لسلطتها، فكيف بمن لا يعترف حتى بسلطة القانون، أن يتقبل سلطة مخرج وبالأخص امرأة ضمن هذا المحيط الذكوري كما يقولون ذلك بمفرداتهم في الفيلم؟ لكن المخرجة تنجح في إدخالهم في لعبتها وتقودهم بسلاسة نحو مساحة البوح الذاتي مستغلة بشكل إيجابي توقهم لأن يسمعوا ويروا. تستحيل عدسة الكاميرا نافذتهم إلى العالم الخارجي الذي يعيش فيه الأشخاص «الطبيعيون» بحسب تعبيرهم الذين لا يعدون أنفسهم بينهم.

هؤلاء الذي يعيشون في النهار ويعملون ثم يذهبون لشرب القهوة في أحد المقاهي ويجلسون متسمرين أمام حواسيبهم، كما يقول لها أحدهم ساخراً. أما كيف يمضي القبضايات أوقاتهم أو كيف مضت حياتهم حتى الآن؟ فعلى البقعة ذاتها من الرصيف، يجتمعون كل يوم في انتظار أن يحدث شيء ما أو ربما في انتظار الوقت نفسه، أو كما تصفهم المخرجة في العنوان البديل للفيلم بالإنكليزية بـ «حرّاس الوقت الضائع». الوقت أيضاً هو الأرق، ذلك الأرق الذي تحوّل إدماناً كما يفسر لها أحدهم سبب تورطه الدائم في المشاكل: «أنا بحب القلق». من خلال أسئلة المخرجة، يسقط تدريجاً قناع «القبضاي» المسيطر والمستقوي ليتبين لنا جانباً أكثر هشاشة. نلمس شعورهم الداخلي بالدونية، فهم ليسوا بغفلة عن نظرة المجتمع كما عندما تسألهم المخرجة أي نوع من الموسيقى يستمعون إليها، فيجيبها أحدهم: «يعني بالعربي المشبرح، منسمع نوري». وعن سؤالهم عن الحب، يقولون: «يعني مين يللي بدها تحبنا، يا بدها تهج، يا تروح سكتة قلبية». بدهشة أيضاً، نكتشف قدرتهم على التحليل الذاتي التي تقودهم إليه المخرجة: يتناقشون في ما بينهم عمن يقع اللوم في ما أصبحوا عليه، إلا أنّ أحدهم يصرخ منهياً الجدل بما معناه: «نحن الذين دمرنا أنفسنا». نقطة قوة الشريط هي بورتريه «القبضاي» النمطي الذي تنجح المخرجة في تفكيكه وترتكز إليها في سردها أكثر منها اللغة السينمائية المتفاوتة في درجة ابتكارها. لكن ذلك قد يخضع أيضاً لظروف التصوير ومشقاته التي اعترضت المخرجة في هذه المنطقة. يبقى أنّ هناك جانباً إنسانياً، تنجح قشمر في تحييده وإبراز جماليته خارج الهوية الطائفية أو السياسية للمكان أو قاطنيه. أمر تستحق الثناء عليه، ويبرز كضرورة في السينما الوثائقية اللبنانية اليوم.

الأخبار اللبنانية في

13.05.2015

 
 

«أرق» للّبنانية ديالا قشمر.. سينما الشكل والمضمون

نديم جرجوره

التوغّل في مفهوم السينما الملتزمة قضايا الفرد، وعبره الجماعة، جزءٌ أساسيّ من صناعة جديدة للفيلم الوثائقي اللبناني تحديداً. «أرق» (2013)، أو «حرّاس الزمن الضائع» بحسب العنوان الإنكليزي، أحد أهم الأفلام الوثائقية المصنوعة في الأعوام القليلة الفائتة، المندرجة في الإطار هذا. ديالا قشمر تضع، لتحقيق الفيلم، 3 أعوام من اشتغالات متنوّعة ومُضنية. تحاول، فيه، أن تقول شيئاً من راهن مدينة وبلد وجماعة وأناس. تحاول، عبره، أن تساهم في رسم ملامح بيئة اجتماعية ـ دينية ـ طائفية ـ مذهبية، مفتوحة على سياسة واجتماع واقتصاد وتربية وأنماط حياة يومية، خاصّة كلّها بشريحة واضحة: شبابٌ شيعة، في «مقرّ» جغرافيّ محدّد ومعلوم: «حيّ اللجا» في بيروت.

السينما حاضرةٌ فيه بشدّة وجمالية تُحسبان له، تصويراً وتوليفاً وإضاءة وسياقاً حكائياً، بالإضافة إلى حنكة ما في «استدراج» الشخصيات إلى البوح، بل إلى مزيد من البوح، عبر تشييد عمارة متماسكة من الثقة والصراحة بين «حرّاس الزمن الضائع» هؤلاء والمخرجة نفسها. متعة المُشاهدة، معطوفة على صلابة سينمائية في مقاربة الحكاية، دافعان إلى الغرق في عالم محصّن ومنغلق، لكنه ـ عبر اشتغالات ديالا قشمر ـ مفتوح على ألف همّ وسؤال وحكاية. اللغة السينمائية متماسكة، خصوصاً على مستوى مقاربة الموضوع الأساسي (حكايات هؤلاء الشباب القابعين في عزلاتهم وأحيائهم الصغيرة وعالمهم الخاص بهم) واللقاءات والبناء الدراميّ. الحوارات مع الشباب ـ الذين يجدون أنفسهم في الخطّ الفاصل والملتبس بين تاريخ وراهن ومقبل من الأيام ـ تبدأ بالذاتيّ الحميميّ، لكنها تخرج من الفردية إلى بقاع أوسع في جغرافيا الروح والتفكير والتأمّل والسلوك. الخطّ الفاصل والملتبس هذا يجهلون هم كُنهه وسببه، لكنهم يستمرّون في الضحك والتحايل عليه، بخبث إنساني رائع. خطّ يريدونه غائباً في يومياتهم، لكنهم يتفنّنون في تجاهله، بل في تجاوزه من أجل بلوغ لحظة صفاء ما يفتقدونها ويريدونها. ديالا قشمر تُدرك هذا. لذا، فهي تُتقن كيفية مرافقتهم في «جيالاناتهم» داخل أروقة الروح، وفي مسارب الانفعال، وعبر محطّات الكلام، وبين أسطر وأقوال وبوح، مع وعي معرفيّ جميل لديهم بمآلات وتحدّيات. ديالا قشمر تعلم مسارب بلوغ الشخصيات المختارة تلك، ومفاتيح ولوج عالمهم المنغلق والمفتوح، والمتألّم والمرتاح، والملتبس/ الغامض والعاجز عن أن يكون واضحاً تماماً.

«أرق» إضافة نوعية إلى لائحة الأفلام الوثائقية اللبنانية والعربية الجديدة، بارتكازه على ثنائية الشكل والمضمون. إضافة تدخل معقلاً اجتماعياً جَمعياً يكاد يكون مستقلاً بحدّ ذاته عن الجغرافيا المحيطة به، وتكشف هواجس شباب قابعين في زواياهم الخاصّة. شبابٌ لم يبلغ أكبرهم سنّاً 30 عاماً عند تصوير الفيلم والاشتغال معهم عليه، يمتلكون حساسية شفّافة وإن غلّفوها بـ «واقع حال» سياسي ـ مذهبي يرتضونه من دون أن يغفلوا وقائعه ومصاعبه وحصاره إياهم في لحظة يبدو كأن الزمن يتوقّف فيها بالنسبة إليهم. شبابٌ يستمعون إلى أسئلة تُصيب بلداناً ومجتمعات وسلوكيات، لكنها معنية بهم أساسـاً، فإذا بأجوبتهم تخوض ما يُشبه «معركة البقاء».

السفير اللبنانية في

13.05.2015

 
 

بطولة توم هانكس.. ويتناول الحياة العصرية والدور الهائل للإنترنت

«إيمج نيشن أبوظبي» تموّل الفيلم العالمي «ذا سيركل»

المصدر: أبوظبي ـــ الإمارات اليوم

أعلنت «إيمج نيشن أبوظبي» عن اتفاق جديد تقوم من خلاله بتقديم تمويل كامل للعمل السينمائي الجديد الذي يتولى إخراجه جميس بونسولت، والمأخوذ عن رواية «الدائرة» (ذا سيركل)، للمؤلف والكاتب ديف إيغرز. وتتولى «إيمج نيشن» تنفيذ العمل بالتعاون مع شركة «باركس ماكدونالد برودكشنز».

وكان المخرج جيمس بونسولت قد تولى مهمة كتابة نص الفيلم وسيعمل على إخراجه أيضاً، فيما سيقوم بإنتاجه توم هانكس وغاري غوتزمان من شركة بلايتون، وأنتوني بريغمان من شركة لايكلي ستوري، وبونسولت.

وسيقوم بأدوار البطولة في الفيلم الممثلة أليشيا فيكاندر (إكس ماشينا)، إلى جانب الممثل العالمي توم هانكس. كما يتم حالياً اختيار ممثلين لثلاثة أدوار مهمة في الفيلم، وسيتم الإعلان عن أسماء الممثلين لاحقاً، على أن يبدأ التصوير في أغسطس 2015 في ولاية كاليفورنيا الأميركية.

وتحكي الرواية التي كتبها المؤلف ديف إيغرز قصة امرأة شابة يتم اختيارها لوظيفة مهمة في لعبة «مونوبولي» على الإنترنت، يطلق عليها اسم «الدائرة»، تعمل على الربط بين المستخدمين، وعناوين البريد الالكتروني الشخصية، ووسائل التواصل الاجتماعي، والحسابات المصرفية، وعمليات الشراء مع نظام تشغيل عالمي، ما يؤدي إلى تقديم هوية إلكترونية واحدة وعصر جديد من الشفافية.

وتعد الرواية من نمط التشويق المعاصر، وتحكي عن مخاطر الانتشار الكبير للإنترنت والمعلومات الرقمية، التي يمكن أن تعمل على جمع البيانات الشخصية والخاصة وتستخدمها في الرقابة دون أي احترام للخصوصية.

ويعد هذا الفيلم ثاني عمل سينمائي يشهد تعاوناً ما بين توم هانكس والمؤلف ديف إيغرز، إذ سبق لهما أن عملا معاً في فيلم «إي هولوغرام فور ذا كينغ»، الذي تولى إخراجه توم تيكوير.

وقال الرئيس التنفيذي في «إيمج نيشن» مايكل غارين، «يحكي فيلم (ذا سيركل) عن الحياة العصرية والبراقة مع تسليط الضوء على الدور الهائل الذي يلعبه الإنترنت، وعلى معلوماتنا الخاصة في الوقت الذي نشهد فيه الكثير من الاهتمام بمسائل الخصوصية والشفافية. ونحن في (إيمج نيشن) سعداء بالعمل مع فريق شركة بلايتون، وشركة لايكلي ستوري، والمخرج جيمس بونسولت في هذا الإنتاج السينمائي العالمي المقبل».

وأضاف: «نحن نسعى من خلال المشروعات التي تنفذها (إيمج نيشن) العالمية إلى المساهمة في تطوير صناعة السينما المحلية هنا في أبوظبي وعلى مستوى المنطقة، وذلك من خلال توفير الفرص لأصحاب المواهب على المستوى المحلي للعمل في مشروعات عالمية، وبالتأكيد فإن هذا الفيلم السينمائي سيتابع هذه المهمة».

وسبق للشركتين أن تعاونتا معاً في صناعة الفيلم الوثائقي المنتظر «سماني ملالا» للمخرج ديفيس جوجنهايم الحائز على جائزة الأوسكار، والذي تتولى شركة فوكس سيرتشلايت إطلاقه حول العالم في 2015. ويستعرض هذا الفيلم قصة الناشطة ملالا يوسف زي، التي تعرضت للإصابة خلال هجوم نفذه مسلحون من «طالبان» أطلقوا فيه الرصاص على الحافلة المدرسية التي كانت ملالا موجودة فيها مع أصدقائها في منطقة وادي سوات في باكستان.

«زنزانة»

تسعى «إيمج نيشن» لتأكيد حضورها من خلال الإنتاجات التلفزيونية والسينمائية المحلية، وعملت أخيراً على صناعة فيلمها المقبل «زنزانة»، الذي يعد أول عمل للمخرج الإماراتي الموهوب ماجد الأنصاري. ومن المفترض أن يتم إطلاق هذا الفيلم في موسم الخريف في الإمارات وعلى المستوى الإقليمي.

وثائقيات

تتضمن قائمة الأعمال الوثائقية التي نفذتها «إيمج نيشن»، فيلم «حتى آخر طفل»، الذي تولى صناعته المخرج العالمي توم روبرتس الحائز على الجوائز. ويحكي الفيلم قصة خمسة أشخاص خلال أزمة مرض شلل الأطفال التي تعانيها باكستان في الوقت الحالي. وتستعد شركة زيتجيست فيلمز لإطلاق فيلم «حتى آخر طفل» في الولايات المتحدة الأميركية بتاريخ الثالث من يونيو، وكان الفيلم قد قدم أخيراً ضمن عرض خاص خلال مهرجان هوت دوكس الدولي للأفلام الوثائقية في كندا.

الإمارات اليوم في

13.05.2015

 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2014)