كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

رؤى نقدية

 
 
 
 
 

تافياني وإيغويان وأكين

صوّروا "الهولوكوست العثماني" العصيّ على التصوير

هوفيك حبشيان

 

عندما قدّم المخرج الكندي آتوم ايغويان "آرارات" في العام 2002، قال عن الفيلمين اللذين تصارعا داخل فيلمه: "هناك شريط ضخم عن الحدث الفعلي، أيّ المجزرة، يتواجه مع فيلم آخر ينفي حصولها". بات معلوماً اليوم أن عورات التاريخ ولحظاته الدموية، لا يصلحها فيلمٌ ولا ألف فيلم. في هذا السياق، لا يمكن النظر الى "آرارات"، تلك البدعة الذكية لحفيد مهاجر أرمني، كسوى اعتراف من مخرج باستحالة نقل فظاعة كهذه، فنجده يلقي بمسؤولية تشخيص الإبادة على عاتق "الفيلم داخل الفيلم"، انطلاقاً مما صوّره مخرج قدير لكن شديد الأكاديمية (شارل ازنافور). "لماذا نصوّر اذاً المجازر وكيف؟" - من رواندا الى كمبوديا فأماكن أخرى من هذا العالم - هذا هو تحديداً السؤال الذي تنطوي عليه الأفلام الثلاثة التي نستعرضها هنا عن الإبادة التي بلغت قرناً من العمر.

- 1 -

"مزرعة القبّرة" للأخوين الإيطاليين باولو وفيتوريو تافياني يُفتتح بمشهد دماء نازفة من مجهول على جدار أبيض. هذه الدماء المتدفقة هي بمنزلة إنذار، يأتي على شكل رسالة مشفّرة الى عجوز لاهث، على فراش الموت، قبيل رحيله بلحظات. ما إن يبدأ الشريط حتى يحبط الأسطورة الداعمة لفكرة أنه عندما تتحول الدماء الى كابوس، يتبدد احتمال أن يتحقق هذا الكابوس في الواقع.

مشهد الدمّ هذا هو أحد الفصول التأسيسية لأسلوبية الأخوين تافياني ("بادريه بادرونيه"، 1977  - "ليلة القديس لورنزو"، 1981) في هذا الفيلم. هنا، لا يجتمع الفعل وردّ الفعل في مساحة زمنية واحدة. اذ دائماً يتأخر المقلب الآخر في إظهار مقاومة ما. هذه المقاومة لن تأتي أبداً مهما ننتظر. هكذا كانت الإبادات، وهكذا هي إبادة الاتراك للأرمن في صيف 1915. لذا، نادراً ما نعثر على الجلاد والضحية تحت سقف واحد. بهذا الهوس من الصرامة الإخراجية، تُكتَب مرافعة الأخوين تافياني ضد أولى المجازر في عصر سيكون زاخراً بالتراجيديات. لعل ما يميز هذه المجزرة عمّا سبقها أو لحقها، تمسّك مرتكبيها بالإنكار، وإصرارهم على أنهم لم يكونوا هناك في ذلك المكان وفي تلك اللحظة. يأتي الفيلم ليقول العكس، بل ليُرينا خلاف تلك الادعاءات. لكنه يفعل ذلك بتريّث وغضب مضمر ورغبة في الإقناع واستدرار عواطف. وهنا لبّ العلّة، لأن الصراع الأصلي والحقيقي جلّه بين معسكرَي التاريخ والسينما. فما إن يتعزز حضور التاريخ المهيب حتى تضمحل حجة المخرجَين السينمائية، وتبهت حاجتهما الى التشخيص وتحويل الشنيع الى ميلودراما لربّات المنازل. يبتلي الفيلم بالآفة نفسها في كل مرة يتنكّب المخرجان مهمة تعزيز لغتهما بشيء من الباروكية المفتعلة التي تسير في مسالك متنافرة. وطبعاً قد يكون فيسكونتي يتقلّب في قبره، لكن لا بأس.

بالتأكيد، يستأهل الفيلم المشاهدة نظراً الى قدرته على تكريس فكرة، لمرّة نهائية ربما، مفادها أن لا وسيلة تعبير تقوى على إنصاف ضحايا المجازر، والأجدر بالسينمائيين أن ينقّبوا عن العدالة في أرض أخرى، أكثر خصباً، اذا استطاعوا. وكم يذكّرنا الشريط بكلام معبّر قاله ذات مرّة ستانلي كوبريك في "لائحة شيندلر"، رائعة ستيفن سبيلبرغ: "هذا ليس فيلماً عن ضحايا المحرقة النازية. إنه فيلم عمَن جرى انقاذهم من تلك المحرقة".

يتسلّح المخرجان المتحدران من عائلة كانت مناهضة للنظام الفاشي القائم سابقاً في ايطاليا، بالعناصر التي تتيح لهما أفلمة حادث تاريخي لم يلتفت اليه أحد لسنوات خلت، واستعادة تفاصيله التاريخية. لكن العمل يبقى نظيفاً لمّاعاً فيه الكثير من بريق معدّات التصوير والعدسات والفيلترات والموازنة التي تلوي ظهر المنتج في حال انتكاسة تجارية. ما ينجزه تافياني في "مزرعة القبّرة" هو صيغة إخراجية يعتمدها دكاترة "الفن الراقي" وجهابذته، مع بعض الخرطشات السينمائية والتلوينات هنا وهناك، وهي ربما اللحظات الأكثر امتاعاً في فيلم، كل رقعة منه وليدة حسابات، وليس ثمة فسحة خاوية يمكن أن نطل من خلالها على المستحيل والعصيّ. غريبٌ إيمان الأخوين وتشبثهما بالتقاط اللحظة واعتمادها كلحظة أبدية، كأن ما يصوّرانه هو الآني. نادراً ما يمنح فيلم عن مجزرة، براءة الذمة التي يوزعها الأخوان يمنة ويسرة على شخصيات حكاياته. لكلٍّ أسبابه وظروفه تجعله إمّا خاضعاً وإما مخضِّعاً. على رغم هذا كله، يبقى هذا الثنائي حرّيفاً من العيار الثقيل. إنهما إيطاليان حتى أصغر "بيكسل" من صورتهما.

- 2 -

في قصيدة عباس كيارستمي السينمائية، "طعم الكرز"، كان رجل عجوز تسكنه الحكمة يروي للبطل الذي يرغب في الانتحار، مزية فاكهة الكرز التي غاب عنه اليأس، بعدما تذوقها ذات يوم، فاستفاقت في أعماقه الرغبة في الحياة من جديد. في "آرارات"، لآتوم ايغويان، السينمائي الذي يضطلع بدوره شارل أزنافور اعتاد أن يتناول، يومياً، بذرة رمّان تعطيه، بحسب قوله، أمرين: الحظ وإمكان التخيّل.

هذه الفسحة التي تحتل مساحة شاعرية كبيرة في الفيلمين، ليست ثمار المصادفات. ذلك ان الفاكهة تجسد في كلا العملين "خشبة الخلاص"، التي يتمسك بها المرء عندما تسقط من حوله كل أشكال الايمان والأمل. بذور الرمان (علامة بامتياز للتفكك والتضامن)، حاول ايغويان زرعها في شريطه الذي سجل عودة المخرج الكندي الى أصوله الأرمنية، بعد سلسلة أعمال كانت وراء شهرته العالمية، ورسمت له خطة سينمائية لم يتطرق فيها الى موضوع جذوره وانتمائه الا جزئياً، ومن خلال بعض الإشارات والرموز والدلالات.

في هذا الفيلم الذي أنتجته ستوديوات "ميراماكس" الأميركية، ورافق كل مراحل تحضيره احتجاج السلطات التركية، واجه ايغويان قضية الإبادة على نحو مباشر، لاجئاً الى سيناريو "أعوج" متشعب، ومطعّم بتساؤلات سينمائية طرحها صاحب العمل على نفسه، أبرزها: ما مدى إمكان إعادة التجسيد السينمائي لإبادة غير معترف بها من جانب فاعليها؟ اذا استثنينا بعض الأعمال التي تناولت الإبادة كخلفية لها (هنالك فيلم كازان الشهير، "أميركا أميركا"، وفيلم هنري فرنوي عن سيرته الذاتية "مايريغ")، فينال "آرارات" صفة أول شريط روائي يستقي موضوع الإبادة كمفصل محوري له.

مع هذا الشريط الذي ينتمي الى "جانر" سينمائي اصطدم دوماً بـ"فخاخ إعادة التجسيد"، تلافى ايغويان أن يعيد إنتاج عمل يوازي "لائحة شيندلر" (ستيفن سبيلبرغ - 1994)، مستبدلاً ضحايا اليهود بضحايا الأرمن. فمقاربته التي ارتكزت على تركيبة سينمائية ذات "جوارير"، إذ نجد فيها متفرعات عدة، تهتم بإدخال المشاهد ضمن سيرورة فيلمية، ومتاهات، تسطّح الزمن لتجعل منه "شيئاً" قريباً من الذاكرة.

في مقابلة مع "لو موند" يقول ايغويان: "القضية هنا هي الاعتراف بوقوع المجزرة. إنما علينا أن نكون واقعيين لأننا نطلب ذلك من أناس بعيدين جداً عن الحقيقة. فالتركي الشاب نشأ في أيامنا هذه من غير شعور بالذنب حيال الأرمن. كما يصعب جداً بناء علاقة مع شاب من أصل تركي مولود في كندا. لذا أظهر "آرارات" أبعاداً مختلفة لـ"القضية"، أوّلها المخرج سارويان، الذي يؤدي شخصية جماعته لكنه عاد إليها أخيراً وصوّر فيلماً عن القضية الأرمنية وفاءً لذكرى والدته. لكني أعتقد أنه ليس السبب المثالي وراء تصوير الفيلم. ثم نتعرّف الى القضية عبر الشخصية التي تؤديها أرسينه، وهي ترغب في تعزيز الفن ومساعدة الفنانين في ثورتهم عقب المجزرة وإنجازهم التحف الفنية العديدة، وكان عملها هذا ثمرة لمسار زوجها المناضل المتطرّف. نصل أخيراً الى رافي، ابن أرسينه الذي عمل على فيلم سارويان وحرص على صدقه، ويعتبر أن أفضل طريقة لإنجاز فيلم ضخم هي السّفر الى تركيا والعودة بصورة حقيقية عن جبل آرارات. أما أنا فأعتقد أن القضية الحقيقية تتمحور حول أصالة الفيلم وتتعلق بحقيقة ما جرى فعلاً، فضلاً عن إمكان إظهار تلك الحقيقة وتجسيدها كما هي".

- 3 -

إبادة الأتراك للأرمن قضية لم تتناولها السينما الا نادراً، خلافاً لـ"منافستها" اليهودية التي أصبحت مادة لمئات الأفلام على مرّ التاريخ. فما بالك إذا انقضّ عليها مخرج تركي مثل فاتي أكين يريد تصفية حساباته مع ماضٍ ثقيل يشعر بعبئه، كما قال لـ"النهار" في المقابلة التي أجريناها معه في البندقية العام الماضي بعد العرض العالمي الأول لفيلمه "القطع". من الأشياء التي تحفّظ عنها بعض النقاد: كلاسيكية الفيلم. أغضبهم أيضاً أن الكل في "القطع" يتكلم لغته الأمّ، إلاّ الأرمن الذين يتكلمون الانكليزية بلكنة أرمنية. الفيلم اتُهم أيضاً بالإفراط في الميلودراما والعنف. بعضهم فاته ربما أن أكين لم يصوّر نزهة إكزوتيكية الى الشرق الأوسط، بل جريمة لا يزال أحفاد مرتكبيها ينكرونها. هذا فيلم ناضل أكين ولا يزال يناضل من أجل فرضه على الرأي العام التركي.

سبعة أعوام وهو يبحث عن الشكل المثالي لنقل الإبادة الى الشاشة. دول عدة شاركت في الانتاج، في مقدّمها فرنسا وألمانيا، ما أعطى العمل طابعاً دولياً. النتيجة مبهرة على أكثر من صعيد. أنجز أكين فيلماً جماهيرياً من النوع الرصين. أولاً، هذا من الأفلام التي لم تعد على الموضة (فكرة يؤكدها مارتن سكورسيزي في الملف الصحافي للفيلم)، لأسباب كثيرة، أبرزها أن السينما الحالية لم تعد تحبّ المساحات الشاسعة، وعبور القارات، ولم تعد تؤمن بسوى الحلول السيناريستية التي تغذّي الميل الى اللؤم. الملاحم لم تعد تجدي ولا تشبع حاجة الناس الى تجاوز الواقع والسخرية منه. أكين يسير هنا عكس التيار. فيلمه يتطلع الى العالم من الزاوية الواسعة. لم يقبل، هذا الحائز "الدبّ الذهب" في برلين (2004)، إلاّ أن يصوّر بالـ35 ملم والسينماسكوب. ليس هذا وحده ما يجعله يحذو حذو أحد الملهمين له في هذا الفيلم: سيرجيو ليوني. فالفيلم يحمل شيئاً من الوسترن، تدعمه الموسيقى التصويرية البديعة التي وضعها ألكسندر هاكه.

صرّح أكين في موازاة إنجازه للفيلم، بأن الشعب التركي الآن بات مستعداً للتحدث عن هذه القضية، ولكن ماذا عن الحكومة والدولة التركيتين؟ يقول: "أعتقد أن الدولة مستعدة منذ زمن بعيد. على الأقل، أتاحت المجال للآخرين كي يتكلموا عن الإبادة. بعد 2007، نشأت في تركيا حركة شعبية غير منظمة. هؤلاء بدأوا ينشرون الوعي حول ما حدث في العام 1915، من خلال الكتب واللوحات الخ. عاجلاً أم أجلاً، كان على السينما أن تلتحق بهذه الحركة الناشئة. في 24 من نيسان، يوم ذكرى الإبادة، يمكنك في تركيا اليوم أن تنظّم تظاهرة. صار هناك شيء من الانفتاح في هذا المجال. اليوم، صارت تصلني أولى المقالات التي كُتبت عن الفيلم في تركيا. قرأتها، وأنا سعيد بأنها تشيد بالفيلم، مع العلم أنها كتابات سياسية لا سينمائية. بعض الكتّاب قال إنه يجب عرض هذا الفيلم في تركيا. إبادة الأرمن شيء طاردني طوال حياتي، مذ كنت مراهقاً، ومذ سمعت عنها للمرة الأولى. الإبادة عبء عاطفي هائل، لأنها أُنكِرت وأُهمِلت. كونها تابو، جعلني أهتم بها أكثر فأكثر. وكلما كنت أطلع على تفاصيلها، كنت أدرك مدى كونها تابو. اليوم، لم أعد أذكر تحديداً المرة الأولى التي سمعتُ فيها عن الإبادة. كل ما أذكر أني لحظة سماعي عنها انحزتُ الى الأتراك لاشعورياً. كانت تلك المرة الأولى أشعر فيها بقوميتي التركية. كنا في المدرسة. وعندما عدتُ الى المنزل، قال لي والداي إن هذا كله أكاذيب اختلقها الأرمن وإن الإبادة لم تحصل، وطلبا مني ألاّ أتحدث عنها. بدلاً من أن أكتفي بتوصياتهما، ذهبتُ الى المكتبة. قرأتُ كثيراً عن القضية. ثم اكتشفتُ كتاب فرانتز فرفل، "الأيام الأربعون لجبل موسى". هكذا بدأ كل شيء. كان من الواضح أنني سأنجز فيلماً عن هذه القضية في يوم من الأيام. كانت مسألة وقت".

أنجز أكين "القطع" وفي باله أولاً المشاهد التركي، وليس فقط المثقف بل الجميع. كان يريد التوجه الى ناس في مثل حال والده: رجل من الطبقة الوسطى ينكر حصول الإبادة. حاول أن ينجز فيلماً يجد فيه نفسه، هذا المسلم الذي يصلّي خمس مرات في اليوم الواحد، يقول: "كنت أريده أن يهتمّ بمصير ربّ عائلة مسيحي يبحث عن ابنتيه. كل شيء في الفيلم موثّق ويرتكز على معطيات تاريخية لا يمكن التشكيك في صحتها. ذهبتُ عند تانر أكشام، وكان مصدر إلهام كبير لي. كتب أكشام كثيراً عما حصل. وهذه الأشياء التي أُريها في الفيلم حصلت فعلاً: بعضهم أُجبر على تغيير ديانته. وعندما كان أحدهم يعتنق الاسلام، أحياناً - وليس دائماً - كان الأتراك يتركونه حياً. هذا ليس فيلماً علمياً عن الإبادة، فللإبادة أوجه مختلفة وأسباب مختلفة، كانت الغيرة أحدها. أتكلم عن غيرة الأتراك من الأرمن. لهذا السبب وضعتُ مشهداً عن الغيرة في مطلع الفيلم. هؤلاء الذين اعتنقوا الإسلام يسمّونهم في تركيا "دومنيه". ليس عليَّ أن أقول هذا، لكنه معطى علمي: المحرقة كانت محض عنصرية، بمعنى أنه كان ينبغي محو اليهود من الوجود. بينما لم تكن رغبة الأتراك قتل كل الأرمن، بل التخفيف من حضورهم في بعض المناطق والتقليل من شأنهم في مناطق معينة. النازيون لم يكونوا يقبلون أن يتحول اليهود الى مسيحيين".

hauvick.habechian@annahar.com.lb

المخرج التركي فاتي أكين يروي لي تفاصيل "ذي كات"

عن ٢٤ ابريل ١٩١٥، وعن "تروما عميقة أحدثت شرخاً ولم نعالجها":

"هذه المجازر شيء طاردني طوال حياتي، مذ كنت مراهقاً. انها عبء عاطفي هائل، لأنها أُنكرت وأُهملت. كونها تابو جعلني أهتم بها أكثر فأكثر. وكلما كنت أطلع على تفاصيلها، كنت أدرك مدى كونها تابو. اليوم، لم أعد أذكر تحديداً المرة الأولى التي سمعتُ فيها عن الإبادة. كل ما أذكر اني لحظة سماعي عنها انحزتُ الى الأتراك لاشعورياً. كانت تلك المرة الأولى أشعر فيها بقوميتي التركية. كنا في المدرسة. وعندما عدتُ الى المنزل، قال لي والداي إن هذا كله أكاذيب اختلقها الأرمن وإن الإبادة لم تحصل، وطلبا مني ألاّ أتحدث عنها والا اكررها امام الآخرين. بدلاً من أن أكتفي بتوصياتهما، ذهبتُ الى المكتبة. قرأتُ كثيراً عن القضية. ثم اكتشفتُ كتاب فرانتز فرفل. هكذا بدأ كل شيء. 

بعدها بسنوات، خطر في بالي إنجاز فيلم عن الصحافي الأرمني التركي هرانت دينك الذي اغتيل في تركيا. كنا دخلنا مرحلة ما بعد 2007. جهزتُ السيناريو، لكن رفض الممثل الذي كنتُ أريد إسناد دور دينك إليه، وكنت كتبتُ الدور من أجله! حاولتُ مع أربعة ممثلين آخرين: رفض قاطع من الجميع. احترمتُ خيارهم، ولا ألومهم. فأنا أقيم في المانيا، أما هم فيعيشون في تركيا. كنت أسألهم: هل تعتقدون أن أحداً سيغتالكم بعد هذا الفيلم؟ كان الواحد منهم يقول إن هناك خطراً في ان يتعرف إليه احد عندما يكون خارجاً من حانة مثلاً، ويتعرض له جسدياً.

بصراحة أقول: أول مُشاهد في بالي كان المشاهد التركي، وليس فقط المثقفين بل الجميع. كنت أريد التوجه الى ناس في مثل حال والدي: رجل من الطبقة الوسطى ينكر. حاولتُ أن أنجز فيلماً يجد فيه نفسه. هذا المسلم الذي يصلّي خمس مرات في اليوم الواحد، كنت أريده أن يهتمّ بمصير ربّ عائلة مسيحي يبحث عن ابنتيه. لم أكن أريد أن أتحداه من منظور سينمائي، يكفي أنني أتحداه في مجالات اخرى.

التحدي كان الآتي: هل من الممكن أن أنجز فيلماً يتماهى والدي فيه مع الحكاية التي يطرحها، وفي الوقت نفسه يتيح للأرمن القول: نعم، هذا ما حصل؟ كان من الصعب جداً تقريب وجهات النظر حول صراع عمره مئة عام. كان عليّ أن أنقّب في الجانر السينمائي الذي تحبّه الطبقة العاملة: الملحمة، ديفيد لين، "لورنس العرب"... أبي يعرف جيداً أفلام لين، لكنه لا يعرف "أربعة اشهر، ثلاثة أسابيع ويومان" (ضحك).

كل شيء في الفيلم موثّق ويرتكز على معطيات تاريخية لا يمكن التشكيك في صحتها. ذهبتُ عند تانر أكشام، وكان مصدر إلهام كبير لي. كتب أكشام كثيراً عما حصل. وهذه الأشياء التي أُريها في الفيلم حصلت فعلاً: بعضهم أُجبر على تغيير ديانته. وعندما كان أحدهم يعتنق الاسلام، أحياناً - وليس دائماً - كان الأتراك يتركونه حياً. هذا ليس فيلماً علمياً عن الإبادة، فللابادة أوجه مختلفة وأسباب مختلفة، كانت الغيرة أحدها. أتكلم عن غيرة الأتراك من الأرمن. لهذا السبب وضعتُ مشهداً عن الغيرة في مطلع الفيلم. هؤلاء الذين اعتنقوا الإسلام يسمّونهم في تركيا "دومنيه". ليس عليَّ أن أقول هذا، لكنه معطى علمي: المحرقة كانت محض عنصرية، بمعنى أنه كان ينبغي محو اليهود من الوجود. النازيون لم يكونوا يقبلون أن يتحول اليهود الى مسيحيين.

هناك "تروما" عميقة أحدثت شرخاً ولم نعالجها. لم نتصارح. ماذا تفعل عندما تعاني من خلل نفسي؟ تذهب الى الطبيب. عليك أن تواجه المشكلة اذا أردت الشفاء منها. لماذا لم تعد البلدان الأوروبية تتقاتل بسبب ما حصل في الحربين العالميتين الاولى والثانية؟ لأنها قفزت فوقهما وأنجزت أفلاماً وكتباً عن تلك المرحلة. هناك سياسيون اجتمعوا وقرروا عدم العودة الى الوراء".

Rami Abdullatif

ولكن ما يزال المخرج التركي فاتي اكين منحاز لقوميته وعنصري في طرحه يحاول الهروب من المجازر بحق الشعب الأرمني والسرياني والآشوري والسوري والعلوي بان يعالج القضيه بقفازات من حرير

Hauvick Habéchian

لا رامي، هذا غير صحيح. ليس عنصرياً ولا يحاول الهروب. انه رجل شجاع وانساني.

النهار اللبنانية في

23.04.2015

 
 

سينما الستينات.. كوكبة من الممثلات الجيدات والجادات والجميلات

عصر صوفيا لورين وكلوديا كاردينالي والأخريات

بالم سبرينغز (كاليفورنيا): محمد رُضا

* ملصق الفيلم التاريخي «سقوط الإمبراطورية الرومانية» (أنطوني مان، 1964) يصوّر في العمق مدينة تحترق وإلى يسار الصورة رجل يحتضن امرأة وينوي تقبيلها لكنها تشيح بوجهها بعيدًا. ربما كان الملصق تصوير حالة واقعة بين بطلة الفيلم صوفيا لورين وبطله ستيفن بويد. فالممثلة كانت قد وافقت على فيلم من بطولة ريتشارد هاريس، لكن هذا اعتذر لأنه اختلف مع المخرج. ثم فرحت عندما سمعت بأن هوليوود تحث شارلتون هستون على القبول. عندما اعتذر هذا غير راض عن السيناريو ومفضلاً القيام ببطولة فيلم نيكولاس راي «55 يومًا في بيكينغ» أمام آڤا غاردنر، استغربت صوفيا لورين كونها وهستون قادا بطولة فيلم تاريخي أسبق هو «أل سيد» (من إخراج أنطوني مان أيضًا، 1961).

في الواقع ملصق فيلم «أل سيد» يصوّر كذلك رجلاً يحتضن امرأة، لكن الانسجام واضح في الصورة كما لو أن كليهما في حالة حب. بعد ذلك عرض الدور على كيرك دوغلاس الذي كان آنذاك وقع على فيلمين لعب في كل منهما دورًا عسكريًا هما «سبعة أيام في ماي» (جون فرانكنهايمر) و«في طريق الخطر» (أوتو برمنجر).

ستيفن بويد كان اختيارا أقل مما تطمح إليه نجمة أوروبية كبيرة ستحقق فيلمًا هوليووديًا. هو ممثل جيّد لكنه ليس النجم الكبير كحال هاريس وهستون ودوغلاس. لكن هناك مليون دولار تنتظر الممثلة الإيطالية إذا ما قبلت بهذا الفيلم وهو مبلغ لم يدفع سابقًا لممثلة باستثناء إليزابث تايلور التي قبضت المبلغ عن دورها في الفيلم التاريخي «كليوباترا» قبل عام واحد.

«سقوط الإمبراطورية الرومانية» كلف أقل من 20 مليون دولار بقليل، لكنه استرجع أقل من مليوني دولار في حصيلته. الممثل ستيفن بويد خسر ما لديه من شعبية (لاحقًا ما قال إن هذا الفيلم حد من مهنته) لكن صوفيا لورين لم تتأثر بسقوط الفيلم الذي يحمل الكلمة المخيفة في عنوانه.

* كلاهما في الثمانين

* في الواقع بقيت صوفيا لورين نجمة كبيرة كما كان شأنها منذ أواخر الخمسينات. لتقريب الصورة أكثر: هي ولدت قبل 80 سنة وأمّت السينما وهي في السادسة عشرة (أول فيلم لها كان «الصوت»، 1950). من ذلك الفيلم الأول وحتى 1954 لعبت أدوارًا ثانوية. قبل منتصف الخمسينات أصبحت وجهًا ناجحًا في أدوار أولى. في منتصف الخمسينات باتت نجمة وفي الستينات أيقونة.

* نجمات أوروبا الجميلات (والبعض يقول الفاتنات) تكاثرن في الستينات

* بينما كانت صوفيا لورين مشغولة بأفلام كوميدية وعاطفية وتاريخية تشمل، فيما تشمل، «ذلك النوع من المرأة» للأميركي سدني لوميت، و«المليونيرة» للبريطاني أنطوني أسكويذ، و«امرأتان» و«الزواج على الطريقة الإيطالية» وكلاهما للإيطالي فيتوريو دي سيكا، و«كونتيسة من هونغ كونغ» لتشارلي تشابلن، كانت بريجيت باردو، مثلاً، بدأت تشق طريقها بنجاح وسط أترابها من ممثلات السينما الفرنسية: كانت بدأت العمل سنة 1952 بفيلم عنوانه الفرنسي «مانينا» والعالمي «فتاة البيكيني» ثم تفرّعت عنه لأدوار عاطفية متعددة من بينها «مدرسة للحب» لمارك أليغريه (1955) وخبرت الفيلم التاريخي الأميركي سنة 1956 عندما طلبتها هوليوود للاشتراك في تمثيل «هيلين طروادة» (Helen of Troy) الذي أخرجه روبرت وايز.

لم يكن دورها هنا الأول، بل تم منح دور هيلين للإيطالية المولودة في مصراته في ليبيا روزانا بودستا التي وُلدت - للصدفة - قبل 80 سنة أيضا (ولو أنها رحلت عن عالمنا سنة 2013).

الأكثر من ذلك أن صوفيا لورين وبريجيت باردو تشتركان في ولادتهما في يومين متقاربين من شهر واحد في عام واحد. صوفيا ولدت في 20 سبتمبر (أيلول) سنة 1934 وبعد 8 أيام فقط وُلدت بريجيت باردو.

بعد 4 سنوات وُلدت كلوديا كاردينالي في مدينة تونس (في 15 أبريل (نيسان)، 1938) وبدأت التمثيل صغيرة (سنة 1958) ولعبت دور فتاة اسمها أمينة في فيلم للفرنسي جاك باراتييه ومن بطولة عمر الشريف عنوانه «جحا» (ولعب فيه الممثل المصري دور جحا وقام اللبناني غبريال جبّور بتمثيل شخصية اسمها سيد خميس).

كل واحدة منهن ظهرت في حفنة من الأفلام الأميركية. إلى جانب «سقوط الإمبراطورية الرومانية» و«أل سيد» وجدنا لورين في «أسطورة المفقودين» لهنري هاذاواي وكلوديا كاردينالي شاركت في بطولة «ذا بينك بانثر» أمام ديفيد لين وبيتر سلرز (إخراج بلايك إدواردز)، كما أن بريجيت باردو حطت في الغرب الأميركي في فيلم لإدوارد ديمتريك عنوانه «شالاكو» أمام شون كونيري وستيفن بويد.

* اختفاء الأنوثة.. شيء ما في تلك الفترة تفتقده السينما اليوم

* بالمقارنة مع صوفيا لورين وكالوديا كاردينالي وبريجيت باردو وأنا مانياني وروزانا بودستا وجينا لولوبرجيدا من بين أخريات، مع نيكول كيدمان أو سكارلت جوهانسن أو تشارليز ثيرون أو أنجلينا جولي أو جولييت بينوش أو ماريون كوتيار، يتبدّى واضحًا ما هو هذا الشيء.

رعيل الخمسينات والستينات من ممثلات السينما الأوروبية يختلفن عن رعيل الجيل الحالي من الممثلات بشيء تم اختزاله من عالمنا الفني والترفيهي سريعًا: الأنوثة.

يكفي أن نعرض شريطًا سريعًا لآخر ما قامت به بعض الممثلات الحديثات: نيكول كيدمان امرأة تكابد المشاق في «غريس موناكو» و«ملكة الصحراء». بعد قصّة حب وجيزة في هذين الفيلمين الأخيرين لها تتفرّغ لمواجهة متاعب سياسية وأمنية.

سكارلت جوهانسن مشغولة، في «لوسي» بالتحوّل إلى امرأة فوق طاقة كل رجل على التحمّل والدخول في معارك رجالية في فيلمها المقبل «المنتقمون: عصر ألترون» كما فعلت في «كابتن أميركا» (2014).

تشارليز ثيرون سنجدها في الصحراء الأفريقية تصارع المخاطر لجانب توم هاردي في «ماد ماكس: طريق الغضب». وكنا وجدنا جولييت بينوش تموت بعد حين قصير من بداية «غودزيللا» وتكابد ظلم الكنيسة في «كاميل كلوديل 1915» (من أعمال 2014) بينما انصرفت ماريون كوتيار للبحث عن سبيل تحتفظ عبره بعملها في الفيلم البلجيكي «يومان وليلة».

هل طار الفرح والرغد من على الشاشة بالنسبة للممثلات على الأخص؟ هل صار من الصعب البحث عن ممثلة مشكلاتها هي عاطفية بحتة؟ الفترة التي تمتعت بها ممثلات الأمس الأوروبيات على الأخص كانت مثالية في هذا الصدد. لا يعني ذلك مطلقًا أنهن ابتعدن عن الأدوار الشائكة، لكنهن - حتى في تلك الأدوار، مثل سيلفيانا مانجانو في «الرز المر» (1949) أو آنا مانياني في «روما، مدينة مفتوحة» (1945) أو صوفيا لورين نفسها في «أسطورة المفقودين» (1957) كن يمثّلن شخصيات تصر على أن تكون أنثوية أولاً بصرف النظر عن الموضوع أو الشخصية وما عليها أن تخوضه.

طبعًا الغالب من الأفلام كانت محض عاطفية وكوميدية ودرامية خفيفة تحفل بذلك العنصر الذي كان أكثر من مجرد سبب لنجاح الممثلات المذكورات وانتقال نجاحهن من عقد لآخر، كان السبب في أن الجمهور أحبهن جميعًا وارتبط عاطفيًا مع كل واحدة على حدة.

باستثناء بريجيب باردو، أقلهن موهبة في الأداء، اعتبرن من قِبل البعض وعلى نحو غير منصف، بأنهن ممثلات إغراء (الاعتبار ذاته الذي عايشته ممثلة أخرى في الفترة ذاتها هي هند رستم)، لكن معظم الذين تحلقوا حول ما قمن بتمثيله كانوا أفضل إدراكًا: كن ممثلات جيدات وجادات وجميلات.

مفكرة

* قبل التصوير:

* إيما واتسون (من سلسلة «هاري بوتر») وإيما تومسون ولوك إيفانز في الأدوار الثلاثة الأولى من «الجميلة والوحش» القائم على فانتازيا موسيقية كتبتها للمسرح ليندا وولفرتون اقتباسًا عن رواية وضعتها الفرنسية جان - ماري دو بيومونت. المخرج هو بل كوندون والتصوير بدءًا من الصيف المقبل.

* في التصوير:

* بعد تأخير انطلق المخرج كونتين تارانتينو لتصوير «الثمانية الكارهين» (The Hateful Eight) مع شانينغ تاتوم وكيرت راسل وسامويل جاكسون وتيم روث ومايكل ماسدن في البطولة. كلهم ظهروا في أفلام لتارانتينو سابقًا باستثناء شانينغ تاتوم.

* بعد التصوير:

* انتهى المخرج البريطاني غاي ريتشي من تصوير «رجل من أونكل» (The Man From U.N.C.L.E) الذي هو «تفليم» للمسلسل الجاسوسي التلفزيوني السابق. هيو غرانت، وهنري كافيل، وأرني هامر وأليسا فيكنادر في عداد الممثلين.

شاشة الناقد

* (3*) A Most Violent Year

* إخراج: ج س شاندور، تمثيل: أوسكار أيزاك، وجسيكا شستين، وديفيد أويلوو (الولايات المتحدة)

ج س شاندور من أفضل المواهب الجديدة في ساحة العمل السينمائي اليوم و«سنة بالغة العنف» هو ثالث أفلامه. في عام 2011 قدّم فيلمه الأول «نداء هامشي» في عداد العروض الرسمية في مهرجان برلين. ثم أخرج بجدارة «كل شيء ضاع» (فيلم شاندور الثاني، 2013) الذي هو بالتأكيد أفضل من فيلم مغامرة بحرية، آخر، ظهر قبله بأشهر قليلة هو «حياة باي» لآنغ لي. وفي مطلع هذا العام عرض فيلمه الثالث هذا: حكاية رجل يخوض بمفرده معركة بقاء مسلحًا بأخلاقياته فقط.

«سنة بالغة العنف» دراما معمولة على نسق أفلام آلان ج. باكولا وسدني بولاك وجورج روي هيل، تلك الاجتماعية ذات الطروحات السياسية من دون أن تعيق تلك الطروحات نصاعة الأسلوب بصريًا أو دراميًا. يختص بالحديث حول محنة أميركي من أصل لاتيني هو آبل موراليس (أيزاك) آمن بالحلم الأميركي وسعى إلى تحقيقه. ها هو، مع مطلع الفيلم، على حافّته يكاد يناله. الأحداث بعد ذلك ستباعد بينه وبين ذلك التحقيق لبعض الوقت. ستضعه وسط خطورة أن يخسر كل شيء لأن هناك من يريد إزاحته. بطل الفيلم لاتيني يعمل في مهنة تقاسمها إيطاليون ويهود (البترول). لا يخاف المنافسة لكنه يطلبها شريفة. زوجته (شستين) تخبره بأنها على استعداد لطلب حماية والدها (المافاوي) بعدما تكاثرت سرقة شاحناته لأجل تفريغها من حمولتها من النفط، لكنه يرفض. محاميه (ألبرت بروكس رائعًا) يريده أن يوافق على طلب رئيس النقابة بتسليح سائقيه. يرفض أيضًا.

في النهاية يقول للمدّعي العام «في كل الأمور هناك سبيل واحد هو أكثر صحّة». لقد اكتشف هو هذا السبيل: السعي لتحقيق الهدف بالطرق الأخلاقية. في عالم كالذي نعيش، حيث تتبدد الأخلاق المهنية تحت الرغبة في الوصول، تبدو العبارة موجهة لكل منا في أي مجال عمل.

ما يجعل من حكاية موراليس قصّة ذات صدى إيجابي هو عدم خوف المخرج من نهاية إيجابية. موراليس لا يزال، في ختام الفيلم، على بعد، ولو طفيف، من تحقيق الحلم الأميركي، لكن ما يدور عنه الفيلم هو حق كل أميركي (مهاجر أو مستوطن) في السعي لتحقيق هذا الحلم الذي لا يزال يتوهج في النفوس. إخراج متين التنفيذ. تشويقي النفس لكن بلا تنازل وتمثيل راق من الجميع.

DVD

 (4*) The River 

* إخراج: جان رنوار، وتمثيل: باتريشيا وولترز، وتوماس برين، وآرثر شيلدز (1951)

في عام 1951 وصل المخرج الفرنسي جان رنوار إلى الهند ومعه سيناريو كتبه بنفسه عن رواية لرومر غودن (الذي وُلد في الهند) حول 3 بنات غربيات يتحلّقن حول جندي أميركي حط الرحال في البيت المجاور. كل منهن ستمنّي النفس بالتعرّف إليه وبأن يختارها كشريكة حياته. الحبكة بسيطة وقيمة أفلام رنوار هي حبكاته البسيطة تلك وأسلوبه الحميمي في تنفيذها على هذا النحو. يستمد من النهر الحالي بالقرب من موقع الأحداث أبعادًا عميقة كونه يمثّل «الحياة نفسها» كما تقول إحدى الشخصيات. المخرج الهندي ساتياجيت راي كان حاضرًا ليقوم بمهام مساعد المخرج.

(1*) لا يستحق - (2*) وسط - (3*) جيد - (4*) ممتاز - (5*) تحفة

المشهد

تقنيات عدّة وجمهور واحد

* آنغ لي (مخرج «حياة باي» و«بروباك ماونتن» من بين أخرى)، يصوّر فيلمه الجديد «نصف مسيرة بيلي لين» بسرعة 120 كادر في الثانية. كلنا نعلم أن السرعة المعتمدة منذ أيام الأبيض والأسود الصامت هي 24 ثانية، لكن هناك اتجاهات تقنية حديثة باتت توفّر خروجًا عن التقليد لمن يرغب، وآنغ لي يرغب.

* يقول: «توفير سبل أفضل لمعايشة مشاهد المعارك الحربية كما تُدار اليوم وكما يختبرها الجنود أنفسهم». ويضيف أنها «المرّة الأولى التي يتم فيها استخدام هذا النظام كاملاً في فيلم»، مما يعني أن هناك أفلاما استخدمت النظام في مشاهد دون أخرى.

* الكاميرا من نوع Sony F65 التي تستطيع تصوير الحركة بنظام مرتفع النسبية. ومن اللافت أن محاولة الفكاك من النظام القديم لها سابقة في جزأي بيتر جاكسون من فيلم «ذا هوبيت» (2011 و2013) فهو استخدم نظامًا قوامه 48 كادرا في الثانية بكاميرات ديجيتال من نوع Red Epic وZeiss Ultra Prime.

* كثير من الأفلام الأخرى تميل إلى كاميرات ديجيتال تستطيع تأمين تلك المعايشة باستخدام النسبة التقليدية (24 كادر في الثانية) ومنها مثلاً Zeiss Super Speed. لكن المشاهد معه حق إذا لم يأبه لما إذا كان الفيلم تم تصويره بسرعة 24 أو 48 أو 120 كادرا في الثانية، لأن ما يبغيه هو فيلم جيّد في ترفيهه على الأقل.

* طبعًا لن يرضى الجمهور بالعودة إلى أيام الكاميرا التي كانت تشبه صندوق «البويجي»، لكن بقوائم. لكن بفضل تلك الكاميرا الأولى صار لدينا مخزون كبير من الثروة السينمائية، فكل الأفلام الصامتة وما بعد صوّرت بالطريقة نفسها وألهبت حماس المشاهدين آنذاك، ولا تزال تثير إعجاب وتعجب الجمهور الذي يعيد اكتشاف السينما الصامتة وسينما الثلاثينات والأربعينات.

* الحاصل منذ ذلك الحين أن الرغبة في تطوير السينما لم تتوقف. هناك أفلام صامتة تعود إلى العشرية الأولى من القرن الماضي لوّنت باليد. وبل هناك من تلك الحقبة أفلام، ولو قليلة، تم تصويرها بصحبة تسجيل صوتي، ثم تم عرض الفيلم وشريط الصوت معًا لكي يأتي مطابقًا (تحديدًا فيلم «سيرانو دي برجيراك» للفرنسي موريس كليمنت سنة 1900).

* في الخمسينات بدأت نزعة التصوير بالأبعاد الثلاثة، وفي الستينات تم استخدام «السينما سكوب»، وازداد الطلب على التصوير بحجم 70 مم، ثم تم اختراع السينيراما، حيث 3 آلات عرض تعرض الفيلم الواحد في 3 اتجاهات: يمين، ويسار، ومنتصف. النتيجة على شاشة شبه مقوّسة بحيث تشعر كما لو كنت وسط ما يدور على الشاشة.

* شاشات IMAX ما زالت آخر إنجازات العروض السينمائية لجانب الأبعاد الثلاثة. مشاهدة فيلم على تلك الشاشات يدلف بك لتجربة تختلف عن تلك التي اعتدت عليها. الأبعاد الثلاثة هي وهم بصري يريدك أن تعيش الفيلم من خلال البعد الثالث، فتجد أن النار الخارجة من فم التنين تخرج أيضا من الشاشة أمامك وتكاد تصل إليك. طبعًا تستطيع خلع النظارة وإيقاف الوهم أو أن تشاهد الفيلم ذاته بالبعدين التقليديين، وأحيانا ما يكون الاستمتاع مضاعفًا بعد كسر حدّة الوهم التقني.

الشرق الأوسط في

23.04.2015

 
 

جيل جديد من بطلات السينما المصرية فى الطريق إليك

سجن النساء بوابة عبور ريهام ونسرين وثراء وأمينة جاءت بخطة بديلة

تحقيق ــ محمد عدوى:

منذ وقت طويل لم تشهد السينما المصرية عملية احلال وتجديد فى دماء بطلاتها فلم يكن هناك جيل حقيقى من الممثلات المصريات بعد جيل منى زكى وحنان ترك وغادة عادل وياسمين عبدالعزيز ومنة شلبى، يبدو أن هذا العام سوف يشهد انطلاق جيل جديد من الممثلات تسعى اليهن السينما كبطلات وتعطيهن فرصا مهمة، جيل الممثلات قادم فى اغلبه من شاشات الفضائيات وسبق أن حقق نجاحا كبيرا فى عدد من المسلسلات، الشروق تلقى الضوء على عدد من جيل البطلات الجدد اللاتى يستعدين لاحتلال شاشات السينما.

من ميلانو الايطالية إلى سجن النساء رحلة طويلة استغرقتها الفنانة الشابة ريهام حجاج لتثبت انها قادرة على ان تكون فى الصفوف الأولى سينمائيا، ريهام التى عاشت لفترة طويلة فى ايطاليا عادت إلى القاهرة لتشارك فى بطولة الفيلم السينمائى سفارى لكن على ما يبدو ان رحلتها داخل الصحراء فى هذا السفارى لم تكن مقنعة لكنها وبعزيمة حقيقية استطاعت العودة مجددا من السفارى إلى شاشات الفضائيات وشاركت فى عدة اعمال تليفزيونية كان لها تأثير كبير فقد شاركت فى اعمال أزمة سكر وكاريوكا فى دور سامية جمال وشاركت ايضا فى مسلسل النجمة يسرا شربات لوز ونجحت فى ان تترك بصمة مهمة فى مسلسلات رقم مجهول واسم مؤقت مع النجم يوسف الشريف وعرفها الجمهور اكثر فى مسلسل هبة رجل الغراب ونقطة ضعف لكن يبقى تأثيرها الأقوى فى الدراما التليفزيونية فى مسلسل سجن النساء والذى حققت من خلاله طفرة نوعية فى ادوارها جعلتها محط أنظار عدد كبير من مخرجى السينما وبالفعل نجحت فى ان تكون عنصرا فعالا فى فيلم نجم كوميدى ونجم شباك بحجم محمد هنيدى وتتقاسم البطولة النسائية مع روبى وتحقق نجاحا ملحوظا وهى الآن تستعد لفيلم جديد سوف يعرض قريبا وهو فيلم كرم الكينج أمام محمود عبدالمغنى.. ريهام سوف نراها ايضا فى العديد من الاعمال الدرامية مستقبلا.

زينات

من بوابة سجن النساء أيضا جاءت زينات أو نسرين أمين التى أثنى كل من شاهدها فى دور زينات بمقدرتها وموهبتها الكبيرة لتعلن عن وجودها الفنى وأنها سوف تكون رقما مهما فى العملية الفنية، بملامح مصرية خالصة وبموهبة حقيقية بدأت نسرين أمين حياتها الفنية سينمائيا ايضا من خلال فيلم «احكى يا شهرزاد» للمخرج الكبير يسرى نصر الله، ومن تأليف وحيد حامد وفى مشاهد معدودة استطاعت نسرين ان تسطر لنفسها اسما حقيقيا فى عالم التمثيل بدأته بأجندة عاقلة فلم تنجرف إلى العديد من الأدوار التى رشحت لها واستطاعت ان تختار اعمالا ذات تأثير مهم بداية من شربات لوز ونكدب لو قلنا مبنحبش وذات والسبع وصايا وحتى درة اعمالها التليفزيونية حتى الان مسلسل السبع وصايا الذى خرجت منه إلى رحاب السينما ومازالت تبحث عن شواطئ اخرى بعد زنقة الستات الذى حقق جماهيرية كبيرة عند عرضه وحققت نسرين من خلاله نقلة مختلفة تؤهلها قريبا للاشتراك فى موضوعات اخرى سينمائيا وتليفزيونيا حيث ستشارك فى اعمال مثل تحت السيطرة.

أمينة

ترفض امينة خليل الصورة التقليدية التى يحاول صناع الدراما ان يضعوها فيها، الفتاة الرقيقة الارستقراط التى تعتمد على جمالها اكثر من موهبتها وتخرج من دائرة الدراما إلى براح السينما بخطة بديلة وضعتها لنفسها دون الاعتماد على أى من تلك الاشياء التى يحاولون فرضها عليها فتراها مثلا فى طرف تالت مختلفة تماما عن نكدب لو قلنا مبنحبش أو شربات لوز أو صاحب السعادة، أمينة ايضا تراها فى فيلم مستقل مثل عشم نال العديد من الجوائز وتراها ايضا فى فيلم اكثر بساطة هو فيلم المهرجان تناصر فيها نجوم غناء المهرجانات سادات وفيفتى، ثم تراها أخيرا مع خالد النبوى فى خطة بديلة محكمة تحقق من خلالها تمددا سينمائيا محسوبا لها، ومؤكد سيتعرف الناس قريبا على نجمة سينمائية جديدة هى امينة خليل.

ثراء

ربما تملك من اسمها شيئا فبالفعل تملك الفنانة الشابة ثراء جبيل ثراء فنيا كبيرا فهى مذيعة وسيناريست وممثلة مسرحية وتليفزيونية وسينمائية كانت العام الماضى افضل ممثلة شابة فى اكثر من استفتاء واستطاعت ثراء ان تخطو خطوات واسعة نحو النجومية بأداء راق ومميز فى مسلسل سجن النساء وكان اداؤها مع روبى مباراة ينتظرها عشاق المسلسل الذى يعتبره كثيرون بوابة عبور لكثير من نجمات المستقبل ومنهم بالطبع ثراء التى سبق وان شاركت فى اعمال مثل صديق العمر ونكدب لو قلنا مبنحبش، تستعد لمغامرة سينمائية جديدة مع المخرج أحمد رشوان بعنوان فورما سوف يبدأون تصويره قريبا وهى ايضا عنصر مهم فى مسلسل طريقى ومسلسل الكابوس.

الشروق المصرية في

24.04.2015

 
 

مخرج لبنانى يستعين بـ«المهندس» و«حليم» فى فيلم تسجيلى

كتبت ــ آية رفعت

استعان المخرج اللبنانى أكرم الزعترى بمشاهد مصورة من أجزاء من الفن المصرى فى فيلم «28 ليلا وبيت من الشعر» وعلى رأسها مسرحية «أنا فين وانتى فين» للفنان الراحل فؤاد المهندس، حيث بدأ فيلمه بأغنيته الشهيرة «رايح أجيب الديب من ديله» وأغنية «تخونوه» و«أحلف بسماها وبترابها» لعبدالحليم حافظ مما شكل أداء جذب كبير للجمهور.. حيث قال الزعترى انه تعمد فى فيلمه عدم وجود حوارات لاشخاص حقيقيين وذلك لرصد فكرة تطور مجال التصوير والميديا منذ بداية الفوتوغرافيا وحتى ظهور الإنترنت والوسائط المتعددة. و قال إنه قرر أن يكتفى بعرض الاغانى ومقاطع الصوت والفيديو فقط بدلا من أحاديث الكلامية وذلك لجذب انتباه الجمهور خاصة أن لديه فكرة محددة فى تقديم الأعمال التسجيلية التى يرفض أن تكون تقليدية فى تناولها للموضوع.

وقال الزعترى إنه قد استعان بالمصور الكبير هشام المدنى صاحب اشهر استوديوهات التصوير الفوتوغرافى فى مدينة صيدا اللبنانية والذى أعطى له نيجاتيف لأهم ما صور منذ الستينيات وحتى الآن تعبيرًا عن التطور الذى مر به المجتمع العربى بأكمله.. بالإضافة إلى إظهاره الاختلاف بين الأعمال التى تم تقديمها مسبقا وبين النسخة الجديدة لها من خلال اختلاف الثقافات والزمن حيث استعان بأغنية للمطرب الكبير ملحم زين والتى تم إعادة تقديمها فى الألفية بدويتو ساخن بين رامى عياش وهيفاء وهبى، بالإضافة إلى المفارقات بين غناء حليم لأغنية «أحلف بسماها» وبين غناء ماجدة الرومى لها أمام مبارك ونجليه فى أحد الحفلات فى التسعينيات. وقد حصل الفيلم على جائزة فوروم من مهرجان برلين الدولى لهذا العام كما حصل على جائزة أفضل فيلم فى أيام بيروت السينمائى.

روز اليوسف اليومية في

24.04.2015

 
 

العفن يضرب جزءاً من أرشيف أكبر ستوديو إنتاج في العالم العربي بسبب تقصير الحكومة اللبنانية

خليل حنون

أرسل بنك إنترا عام 2010 رسالة إلى وزارة الثقافة اللبنانية يعرض عليها تسلٌم أرشيف ستوديو بعلبك، ولكنه لم يلقَ جواباً 

يبدو ستوديو بعلبك، بأبوابه المفتوحة وشبابيكه المخلعة في بولفار 166 بمنطقة سن الفيل في بيروت، كمكان فاقد للحياة منذ زمنٍ طويل. ولكن إن كان أكبر ستوديو إنتاج في العالم العربي قد لفظ أنفاسه الأخيرة قبل أعوام عديدة، فقد ترك إرثًا ذهبيًا وتسجيلات صوتية وأرشيفاً من الأفلام تشكّل مدعاة فخرٍ لكل اللبنانيين. تسجيلات شملت شهرتها العالم العربي كله، من أربيل إلى عمان، مروراً بدمشق والقاهرة، ولكن الإهمال جعل العفن يضرب جزءاً منها في مستودعات رطبة تحت الأرض بسبب تقصير الحكومة اللبنانية.

"سوف أعلمه بالأمر، لكنني لا أفهم ما هي العلاقة بين بعلبك والسينما اللبنانية!" هذا ما قالته مساعدة وزير الثقافة روني عراجي عندما اتصلنا بها لطلب لقاء معه منتصف نوفمبر الماضي. العلاقة؟ لا رابط بين ستوديو بعلبك ومدينة بعلبك اللبنانية، غير أن ستوديو بعلبك هو ذاكرة السينما اللبنانية، وحتى أكثر من ذلك، ففي ستوديوهاته تم تسجيل العديد من الأعمال الفنية، بدءاً بأغاني وأفلام فيروز وصولًا إلى مئات الأعمال الموسيقية لفريد الأطرش وعبدالوهّاب وصباح وغيرهم من نجوم الساحة العربية.

بداية واعدة

إن كان أول فيلم لبناني صامت قد تمّ تصويره في ثلاثينيات القرن الماضي على يد جوردانو بيدوتي Jordano Pidutti، فلم تشهد السينما اللبنانية انطلاقتها الفعلية إلا بعد بضعة أعوام من الاستقلال. "في الخمسينيات، قرر بعض المخرجين والكوميديين من عالم المسرح الانخراط في تجربة السينما وأبرزهم جورج قاعي وميشال هارون” يقول هادي زكاك، مخرج ومؤرخ للسينما اللبنانية.

لقد كانت الألمانية هيرتا جرجور Herta Gargour أوّل من أسس شركة للانتاج السينمائي في لبنان هي “شركة لومنار فيلم” Lumnar Film في ثلاثينيات القرن الماضي وذلك في منزلها الخاص. تبعها في العام 1952 “ستوديو الأرز” الذي أسّسه جورج قسطي، أوّل مدير تصوير في لبنان، ثم ظهر ستوديو هارون وستوديو صوت الشرق الأدنى Near East Sound Studio لريمون عوّاد واستوديو موديرن Studio Moderne الواقع آنذاك في الضاحية الجنوبية لبيروت.

"لم تكن هذه الستوديوهات لتقارن بـ"ستوديو مصر" في القاهرة. كانت تتألف بشكل أساسي من شققٍ خاصة وحمامات تم تحويلها إلى مختبرات. لكن كان لـ"بديع بولس" حلم كبير، وهو تأسيس مدينة للسينما في لبنان على غرار "السيني سيتا" Cinecittà في إيطاليا، وقد نجح في تحقيق قسط من هذا الحلم".

كان بديع بولس على رأس الشركة اللبنانية للتسجيلات الفنية، عندما أسّس مع يوسف بيدس، مؤسس مصرف إنترا، ستوديو بعلبك في حزيران 1962، وهو تاريخ تسجيل الشركة في الجريدة الرسمية. يقول هادي زكاك: "كان ستوديو بعلبك من الاستديوهات القليلة في لبنان ورمى إلى إطلاق السينما اللبنانية. لقد شكل جزءاً من الإرث السينمائي والموسيقي للبنان، كما لعب دورًا بارزًا في التأسيس للهوية اللبنانية، لكونه شهد العديد من الأفلام اللبنانية والعربية والأجنبية في الفترة الممتدة ما بين الستينات والتسعينات من القرن الماضي. يمكننا اعتبار هذا الستديو متحفاً حقيقياً للسينما اللبنانية".

شهدت السينما اللبنانية تطورًا سريعًا مستفيدةً من تأميم السينما المصرية على يد عبدالناصر وذلك عن طريق توجه المنتجين والمخرجين المصريين إلى لبنان لتصوير أفلامهم في ربوعه. يعود الممثل "منير معاصري" أثناء لقاءٍ معه عام 2012 بذاكرته إلى عام 1967 أيام تصوير فيلمه "الأخرس والحب” Le Muet et l’Amour ويقول: "كان موقع التصوير يعج بالحركة. كان الستوديو مجهزًا باحدث التقنيات ونظام الصوت فيه رائعًا. كل المعدات متطورة من الإضاءة إلى المونتاج إلى الدوبلاج والكاميرات. كما أن القيّمين عليه حينذاك كانوا على مستوى عالٍ من الحرفيّة".

في تلك الحقبة، كرّس 52 موظفًا وقتهم للعمل في الستوديو على مدار الساعة. بحسب "نيكولا طرابلسي"، الذي كان يعمل مهندس صوت في الستوديو من العام 1965 حتى العام 1990 “جميع الفنانين كانوا يقصدون الستوديو لتسجيل أغانيهم... كان تسجيل أغنية واحدة أحيانًا يتطلب 15 يومًا من العمل، إذ إنّ المونتاج لم يكن متطورًا كأيامنا هذه".

نهاية عصر ذهبي

اليوم، تحول الستوديو إلى مكانٍ فاقد للحياة. النباتات ملأت حديقته، ومع أنّ السياج الحديدي مغلق، فإن بابه الرئيسي ترك مفتوحًا، كجروحه. الأبواب الخشبية، الجدران العازلة للصوت، أجهزة الإضاءة، كلها اقتلعت. أمّا قطع الأثاث النادرة التي نجت من السيول، فقد تكدّست على المدخل. على الأرض، بعض "الصور السالبة" الملقاة بين نفايات مختلفة. في الدور السفلية، وفي المختبرات، لا أثر للحياة، سوى هيكل عظمي يعود على الأغلب إلى كلب. عند منعطف الرواق تقبع بعض معدات التصوير والإضاءة، الثقيلة جدًا على من يريد نقلها، تصارع النسيان والزمن. ففي العام 2010، كاد يختفي كل شيءٍ جراء عملية الهدم المقررة من قبل مالكي الستوديو، بنك إنترا، إلا أن العملية توقفت بموجب قرارٍ من وزارة الثقافة صدر بتاريخ 29 أبريل 2010، قبل أن تحال المسألة لاحقًا إلى المحاكم.

لم يتغير مكتب "غازي مرعي" الذي لا يزال يشغل منصب مدير ستوديوهات بعلبك، في الطابق الثالث من بنك إنترا، منذ العام 1960. لا يتردد غازي في استحضار ذكريات الستوديو: "بعد نهاية الحرب الأهلية في العام 1993، قمنا بإعادة فتح الستوديو تحت رعاية السيدة الأولى حينذاك منى الهراوي، وقد أعربت السفارة الفرنسية عن استعدادها لتمويل عملية شراء معدات جديدة، إلّا أن وزارة الثقافة لم تتابع الموضوع. سريعًا، تكبّد بنك إنترا الخسائر جرّاء الستوديو، لذلك قررنا إغلاقه في العام 1995 ومن ثم هدمه في العام 2010".

قبل أشهرٍ على الإغلاق الرسمي للستوديو، اكتشف المخرج هادي زكاك المكان لأول مرّة: “شعرت أنني أدخل كهف علي بابا، وكأن المكان قد توقف فيه الزمن. شعرت بأنه عجوزٌ يعيش في ذكرياته، ولكن عندما حاولت المعدات العمل، أعلن الصمت وفاة ذلك العجوز”. في شباط 2010، حصلت مجزرة في الذاكرة اللبنانية، يقول زكّاك “وكأننا قررنا الدوس على قبر ذلك العجوز. تدمير الستوديو، أشبه بحذف فصلٍ من تاريخ هذا البلد".

مع نهاية فبراير 2010 تولى فريق محترف إخلاء المكان وبيع المعدات من أجهزة إضاءة وكاميرات وأدوات مكساج وأرشيف وأثاث وغير ذلك. لاحظ القيمون على إخلاء المكان اهتمام المشترين الذين كانوا بأغلبهم من الوسط الثقافي اللبناني، لذلك وصل الأمر بعمال النقل إلى إحضار قطع أثاث من محال الأدوات المستعملة، وإيهام الشارين أنها من الستوديو.

سباقٌ مع الوقت لنجدة الأرشيف

كانت "جمعية أمم للتوثيق والأبحاث" في عداد الأوائل الذين أعربوا عن رغبتهم في شراء موجودات الستوديو. خلال مرور لقمان سليم، المؤسس الشريك للجمعية، بالقرب من فندق كارلتون، لفتت نظره شاحنات محمّلةً بالأوراق تخرج من الفندق القديم العائد إلى العصر الذهبي اللبناني. اكتشف سليم عشرات الآلاف من ملفات الأرشيف التي كانت في طريقها للتلف، فقرر نقلها إلى مقر جمعية أمم في منطقة حارة حريك في الضاحية الجنوبية. في 27 فبراير 2010 أبلغ العمّال الذين تولّوا إخلاء فندق كرلتون سليم بأنهم سيهدمون ستوديوهات بعلبك.

تقول "مونيكا بورغمان" المؤسسة الشريكة الثانية للجمعية: "قررنا عندئذ شراء الأرشيف من اللفائف إلى المستندات الورقية ودفعنا ثمنها مبالغ باهظة. عندما وصلنا إلى المكان كانت مستندات الأرشيف منتشرة في كل أرجائه. اللفائف كانت في الخزائن، وقد أخذنا كل ما استطعنا أخذه، حتى ما كان في سلال النفايات".

غنيمةٌ قيّمةّ تلك التي حصلت عليها الجمعية. أوراق لا تقدر بثمن والعشرات من المصنّفات التي تحتوي على معلومات عن جميع الأفلام التي تم إنتاجها في الستديو: “بدوية في باريس”، “شوشو والمليون”، “بنت عنتر”، “كلّنا فدائيين”، “بنت الحارس”، وغيرها من الأفلام. من بين المستندات أيضاً مراسلات بين المخرج يوسف شاهين والكاتبة أندريه شديد وبديع بولس، وبرقيات متبادلة مع شركة غومومن Société Gaumont ورسائل احتجاج على التأخير ولوائح بالمشتريات ورسائل من المنتج الهوليودي وينتروب Weintraub، أحد كبار منتجي شركة بانافيزن Panavision، ولوائح بأسماء موظفي الستوديو وملاحظات للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وغير ذلك.

إضافةً إلى هذه المستندات، احتوى الأرشيف على حوالى 800 لفيفة من الأفلام الروائية إلى المسلسلات والأفلام الوثائقية ونشرات الأخبار وحتى الأفلام الدعائية. إنه كنز ينتظر التمويل في شقة في بدارو. تقول بورغمان: "إننا في سباقٍ مع الزمن. إنه لمن الرائع أن نستطيع إنقاذ هذا الأرشيف ولكن المسألة بالنسبة لنا مسؤولية كبيرة. نحن لسنا ملّاك هذا الأرشيف بل نحن نعتني به. لا بد من أن نحوّله إلى أرشيف رقمي قبل أن يتعرض لضررٍ أكبر. أملي الوحيد اليوم هو الحصول على التمويل اللازم لإرساله للخارج. فالمعدات المتوفرة في لبنان قد تلحق الضرر به".

على الرغم من أنّ بعضًا من الأرشيف غير قابل للقراءة، فإن البعض الآخر يخفي مفاجآت. في العام 2011، كان فريق يعمل على اللفائف في الشقّة التابعة للجمعية في محلة بدارو، عندما طرق الباب جارٌ من الشقة المقابلة يهتم بالأفلام القديمة. كان هذا الجار "فيليب عرقتنجي"، المخرج اللبناني لفيلمي “البوسطة” و”تحت القصف”. اقترح عرقتنجي نقل خمس لفائف إلى باريس وترقيمها، فنجا منها ثلاث فقط، من ضمنها صور غير منشورة بالأبيض والأسود للبنان، التقطها ألماني من على متن منطاد في العام 1972.

غياب واضح لوزارة الثقافة

لم يعلم غازي مرعي من بنك إنترا عن هذا المشروع إلا في شهر يوليو أثناء تصفحه جريدة "الأخبار" اللبنانية: "لا أعلم كيف استطاعوا الحصول على هذ الأرشيف! فذاكرة ستوديوهات بعلبك لا تتجسد بالمبنى بل بأرشيفه". يتوجّه إلى رف مخصص لستوديوهات بعلبك ويجذب رسالةً يعود تاريخها إلى 8 مارس 2010 مرسلة إلى وزارة الثقافة، وتفيد أنّ بنك إنترا يرغب بتقديم الأرشيف ومعدات الستوديوهات إلى الوزارة. "أنتظر جوابًا من الوزارة منذ أربع سنوات. إذا ما أتى أحدٌ من الوزارة، فسأعطيه الأرشيف الذي أملك"، يقول مرعي.

في الأدوار السفلية للمصرف يقبع إرث ستوديوهات بعلبك. مئات اللفائف الصوتية والصور تُتلف. تحت طبقات الغبار صورٌ لعظماءٍ كوديع الصافي وفيروز وصباح. إلى اليوم، لم يقم أحد بإحصاءٍ دقيق لمعرفة موجودات أرشيف مصرف أنترا، الذي ليس المالك الفعلي لكل الأرشيف. إن كان غازي مرعي يحتفظ بنسخة عن كل ما تم تسجيله في تلك الستوديوهات، فلا تحتوي مستودعات المصرف اليوم إلّا القليل منها.

بحسب المستندات التي حصلت عليها جمعية أمم، يتّضح أنه في 19 فبراير 1976، طالبت الشركات التي صورت أفلاماً فلسطينية في ستوديو بعلبك من القيمين على الستوديو إرجاع كل ما تم تصويره فيه. يقول منير معاصري: "في تلك الحقبة، لم يكن لدى المنتجين أماكن ذات حرارةٍ مناسبة لحفظ الأفلام، لذا كانوا يحفظونها في الستوديوهات، وكان في ستوديو بعلبك مستودعان. الأول كان محروسًا أيام الحرب الأهلية من قبل الجيش السوري الذي احتل المكان. في سبيل التسلية، كان الجنود يرمون اللفائف من أعلى بولفار سن الفيل ويراهنون على أي من اللفافات تصل إلى نهاية الشارع أولاً. لحسن الحظ كان المستودع الثاني معزولًا في الطابق الأوّل ومموهًا، مما جعل العثور عليه صعبًا لمن لا يعرفه. ومع نهاية الحرب، طلب ملّاك الستوديو من أصحاب اللفائف القدوم لاسترجاعها".

بقي حوالى ألف لفيفة في الأدوار السفلية للمصرف، لا يُعرف من هم مالكوها. وهي مشكلة تواجهها جمعية أمم أيضاً. تقول بورغمان: "لا نعلم من يملك اللفائف التي بحوزتنا، مما يصعّب عملية تبنيها من قبل المؤسسات الحكومية كالمعهد الوطني للمرئي والمسموع في فرنسا. ولكن إذا ما سعينا وراء أصحابها، سيكون الوقت قد فات على هذه اللفائف التي من الممكن أن تتحلل. لذلك لا بد من استجماع جهودنا للحفاظ على هذا الإرث".

الجهات الحكومية بعيدة كل البعد عن إظهار اهتمامها بإرث ثقافي كهذا، فالذاكرة الموسيقية والسينمائية اللبنانية لا تهم السلطات. في غضون شهرين من السعي، كان من المستحيل الحصول على موعد مع الوزير المعني أو الحصول على تفسيرٍ بسيط من اللجنة العامة للآثار. إنها لا مبالاة تستدعي القلق. بحسب غازي مرعي، ربح مصرف إنترا الدعوة ضد الدولة بسهولة منذ سنتين. وهو اليوم حر في التصرف بمبنى سن الفيل بالطريقة التي يراها مناسبة. “ستوديو بعلبك لم يعد موجوداً. أما عن أرشيفه، فلن يتغيّر شيء، لأن اللبنانيين غير معنيين بتراثهم”.

الـ FaceBook في

24.04.2015

 
 

“IloIlo”: وقائع منزلية

محمد صبحي – التقرير

 قبل عامين، أثار المخرج السنغافوري الشاب (أنطوني تشان Anthony Chen) إعجاب العديد من النقاد بعد عرض فيلمه الأول “إيلو إيلو” في مهرجان كان السينمائي، والذي نال عنه جائزة الكاميرا الذهبية لأفضل عمل أول، ومن يشاهد الفيلم -الذي استمد عنوانه من منتجع إيلو إيلو الفلبيني- لن يجد صعوبة في معرفة السبب الذي يكمن في بساطة الفيلم وعذوبته وأصالته في الوقت ذاته. استمد تشان قصة فيلمه من تجربة شخصية عندما قدمت خادمة فلبينة إلى بيتهم في الفترة من عام 1988 إلى 1997، وقد حضرت الخادمة الحقيقية في العرض التجاري الأول للفيلم. ويجب الإشارة للتشابه الواضح بين الفيلم وأسلوب تصويره والفيلم الياباني Nobody Knows (2004) للمخرج هيروكازو كوريدا.

يبدأ الفيلم بشاشة مظلمة مصحوبة بمجموعة من الأصوات: أطفال يلعبون، بوق حافلة وأصوات أناس بالغين. في باكورته الإخراجية يعيد تشان تمثّل سنغافورة -أثناء الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالاقتصاد الآسيوي في العام 1997- من خلال الذكريات في بيوجرافيا فضفاضة لا تتشكّل بإعادة التمثيل الأركيولوجي؛ بل باستعادة انطباع عام من الطفولة يتم التعامل معه بحساسية تفصيلية واضحة.

يتحرّك الفيلم بين أحاسيس عابرة وأحداث ترقم ذاكرة أصحابها، من خلال تركيزه على وجهة نظر جيالي (JiaLerKoh)، طفل شقي ومشاغب ينشغل عن دروسه بقصّ أرقام اليانصيب الفائزة والتمعنّ فيها على أمل فك شفرتها، عادة ما نشاهد صورًا في إطار ما مع قضبان نافذة، حقيبة مدرسة، شاشة زجاجية، أو من خلال تصوّرات نصف متخيلة ناتجة عن ملاحظات جيالي الخاطفة لعالم الكبار من حوله.

(كوه) يؤدي الدور بأصالة مدهشة، بتجسيده لذكريات تشان وذلك الارتباك الداخلي لطفولة متأخرة تصبح واعية بتناقضها الذاتي؛ الطفل المزاجي والمشاغب هو نفسه السخي والوفي والمخلص. “إيلو إيلو” يستحضر واقعية الذاكرة المفرطة بمحاكاة المواقف التي تستدعي التجربة، يتجاهل المخرج اللقطات الطويلة (استخدمها في فيلمه القصير السابق) وعوضًا عنها يصور بكاميرا محمولة كادراته المشرقة بتفاصيل تعلن عن نفسها بوضوح. لقطات أولى لأذرع جيالي العارية في بيجامة تتصدّرها رسوم كارتونية تدعو المشاهد للتشبّع بتمثيلات ما يراه: سرير قطني نظيف، زي مدرسي زاهي البياض، أرضيات رخامية براقة، طبقة بلاستيكية على مفرش المائدة الدانتيل.

يلتقط مدير التصوير (بينوا سوليرBenoit Soler) كلًا من رطوبة سنغافورة اللزجة ووداعتها في ليل داكن الزرقة ويعرضهما من خلال ضبابية مريحة تحجب أحيانًا رقة اختيارات الفيلم اللونية. كما أن تصوير سولير الطبيعي واستبعاد تشين للموسيقى التصويرية والصوت الذاتي (أغنية واحدة تُلعب في نهاية الفيلم مؤشرة على انتهاء الاستدعاء) كانا حاسمين في إغفال الفيلم للعاطفية التي تقدّم نفسها هنا بوصفها ذاكرة وليست حنينًا.

الفيلم أيضًا يتعرّض لتجربة جيالي في التعرّف على نفسه من خلال إخضاعه لنظام هيكلي شديد الصرامة يضبط العاطفة والمودة. تيري (الممثلة الفلبينية AngeliBayani) خادمة فلبينية تنتقل إلى منزل إحدى عائلات الطبقة المتوسطة السنغافورية-الصينية، لرعاية ابنهما المزعج والذي منذ وصولها يرفضها ويثور عليها، ومن ناحية أخرى تبدأ هذه الوافدة الغريبة في اكتشاف الفواصل العاطفية التي تعزل كل فرد من أفراد العائلة في منطقة محصورة ومحصّنة أيضًا من الحوار أو الإفصاح وبحرية عن أزماتها المتراكمة. عدم الاستقرار المالي للأسرة يوتّر الأبوين: الأب تيك (Chen Tian Wen) يلتحق -سرًّا- بوظيفة حارس ليلي بعد تسريحه من عمله كموظف مبيعات، ويعكس الممثل جزعه واضطرابه النافث كبركان ينتظر لحظة الانفجار. والأم هوي (الممثلة الماليزية YannYann Yeo) الحامل في طفلها الثاني تظهر حنانها وازدراءها وأحيانًا حقدها في محاولتها لدفع إعيائها واستعادة مكانتها الأمومية والحفاظ على وظيفتها كموظفة عمومية. السياسات الاقتصادية والطبقية تجد مكانًا لها على مائدة مشاكل الأسرة الصغيرة ولديها القدرة على التمكين أو الحدّ من التعبير عن الحبّ بين أفرادها: عندما يسخر أحد زملاء جيالي في المدرسة بقوله إن تيري تظهر له الحبّ فقط؛ لأن أمه تدفع لها، فإن جيالي يدفعه بقوة ليرتطم بالجدار ولاحقًا يتم طرده من المدرسة تقريبًا. تراقب الكاميرا وجه جيالي من خلال ستائر داكنة يتمتم بكلمات العهد الوطني السنغافوري، يمشي على خشبة مسرح قبالة زملائه الجالسين في قاعة المدرسة بزيهم المدرسي، وبينما تقوم مديرة المدرسة بالقاء خطبة عن النظام وضرورة الالتزام به؛ نرى وجه جيالي وقد اكتسته الحمرة والدموع بفعل الضرب بالعصا من أحد مدرسيه الذي -وللمفارقة- كان سببًا في فوزه بإحدى جوائز اليانصيب الكبرى.

الربط السياسي بين الشخصي والعام ينعكس من بداية الفيلم، حيث نتابع الكاميرا المحمولة تتجوّل بين منازل ملوّنة مكوّمة بجوار بعضها وأسواق ضاجة ووجوه حميمة وإيماءات تتخلّلها لقطات بانورامية ساكنة لميناء سنغافورة وأفقه المجدب. يتقابل الفضاءان حين يقوم جيالي بأخذ تيري لسطح منزلهم المؤسس من قبل مجلس التنمية والإسكان (HDB)، ونرى وجودهما الفيزيائي (الجسد) كجزء لا يتجزأ من الطبوغرافيا الحضرية في لقطة مقربة وأخرى بعيدة. من هنا، فإن فحص المخرج للأحداث الهامة -ولكن القليلة- من الحياة المنزلية التي تحتل المساحة الأكبر من ذاكرة الطفولة يستكشف العلاقات البينية والتوترات التي تبرز من خلال الفضاءات بين وحول مثل تلك البنى الهيكلية. يؤطّر المخرج بدقة التفاعلات الجسدية الهادئة لممثليه حين تقوم شخصياتهم بوعي وبدون وعي بالتلقى والاستجابة، أحدهم مع الآخر. هناك عناية خاصة بالديناميكية الداعمة لعلاقة الأم والخادمة واللتين تقودان توافقات مربكة ومعقدة لصورة الأم عند جيالي. يحاكي تشين الإدراك اللاحق للطفل من خلال تفاعلات مختارة بعناية وعذوبة مثل دجاجة عيد الميلاد المقلية التي ندخل حكايتها في البداية من خلال برنامج تليفزيوني يعرض مجيء كتاكيت صغيرة للعالم بعد فقس بيضها، يختلط ذلك مع لقطة لظهر جيالي من وراء زجاج مضبب يعيدنا إلى مشهد الفيلم الافتتاحي وينبهنا لاحقًا في مشهد إزالة الجبس عن ذراع جيالي المكسورة. ومثل ارتباط جيالي العاطفي بالدجاجات الصغيرة من أول نظرة حين يقدمها والده كهدية عيد الميلاد، توضّح الكاميرا المضببة حركة الأجسام حول مائدة الطعام في انعكاس واضح لمشهد قدوم تيري إلى المنزل، فإن النفور من تيري يتحوّل مصدره من الطفل لأمه.

جزء من قيمة الفيلم هو نزاهته النادرة بالتركيز على تيري كخادمة فلبينية بدون تاريخ معروف. بياني تقوم بأداء أدوار تيري المتناسبة مع أفراد الأسرة الثلاثة والنساء الفلبينيات الأخريات اللواتي تقابلهن في سنغافورة كخادمة الشقة المقابلة، وفي عملها الثاني -غير الشرعي- كحلّاقة في أحد صالونات التجميل، ومع ذلك أثناء مكالماتها التليفونية لذويها في الفلبين ومع سعيها لمعرفة أخبار ابنها، يمكن للمشاهد الشعور بتعقيدات مشكلة تأجير الأرحام التي تربض تحت سطح الأحداث. تتكشّف تيري كشخص براجماتي يبحث عن نجاته الخاصة ويمتلك ماضيه أيضًا، ولكن روح الفيلم الذاتية لا تنجرف وراء الأحكام المجانية. في واحد من المشاهد الرقيقة والثقيلة في آن، يكسر المخرج النظام الواقعي لفيلمه حين يسقط حامل الغسيل في الشارع وتسرع تيري لإعادته لتفاجأ بشخص يسقط منتحرًا بقربها، واحد من سكان البناية ذاتها التي تسكنها العائلة. وفي لقطة تالية مقربة، نرى الخادمة وهي تعاين معصمها الذي تنطبع عليه آثار محاولة سابقة لها مع الانتحار، في إشارة ذكية من المخرج اختصر فيها تاريخًا من العذابات في لمحة عابرة، ولكن امتدادها الجارح يبقى، كذلك تتخلى كاميرا سولير عن واقعيتها وتدخل في “نوبة بصرية” لتدخلنا في تضاريس تيري الذهنية التي يتجاور فيها الموت والحياة، الطمأنينة والفزع.

حين يبتعد الفيلم عن كونه “ذاكرة” يفقد بعضًا من وهجه وفعالية سرده، ومع ذلك ينتعش الفيلم مع نهايته الحسّاسة التي تنقل شعورًا قاسيًا بالنضج الذي يحدثه الفراق. جيالي بلباس الكبار يجلس رفقة والده في المستشفى بانتظار استكمال عملية توليد أمه، يشارك سماعات الأذن مع والده لنستمع إلى أغنية تشاركتها تيري سابقًا مع جيالي ولم تعجبه. الآن نسمع الأغنية المصحوبة بلقطات فيديو تظهر ولادة حقيقية للطفل. إدراج الفيديو المنزلي يؤطّر الفيلم كمعارضة أدبية للذكرى؛ حيث الانطباعات الممتدة التي تنظم الفيلم تبدو كحكايات موروثة تشابه عملية تذكّر ذكريات شخص آخر. عن النجاح النقدي الكبير للفيلم، تحدث المخرج عن أمله بأن يؤثر ذلك على تغيير نوعية الأفلام المنتجة في سنغافورة (حيث معظم الإنتاج السينمائي إما كوميدي أو رعب)، ويشجع القطاعين العام والخاص على الاستثمار في إنتاج أفلام أقل تجارية وتنحو إلى التجريب والفنية. وصف تشان فيلمه بأنه يقوّض الكثير من التوقعات عما يمكن وما لا يمكن فعله في سنغافورة،ولكنه ينجز فيلمًا سنغافوريًا بامتياز،باستدعائه لأحاسيس محددة وتضفيرها بالراهن المحلي وتعقيداته، ومقاربته لتقاطعات النظم الاقتصادية والطبقية مع التجربة الذاتية والعلاقات الشخصية، وكأن الفيلم يأخذ ذاكرة سنغافورة الموروثة ويقدّمها لجيل جديد. جاذبية الفيلم الزائدة تأتي من اتصاله وتركيزه على أصداء عادية ومألوفة لتجربة الطفولة في دورة تذكُّر انطباعية تجعلنا نحن كمشاهدين سنغافوريين أيضًا.

التقرير الإلكترونية في

24.04.2015

 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2014)