كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

رؤى نقدية

 
 
 
 
 

أربعون سنة من الحرب أربعون سنة على الشاشة:

هل استوعبنا الدرس؟

إبراهيم العريس

 

حين عرضت اللبنانية نادين لبكي في إحدى دورات مهرجان «كان» السينمائي الفرنسي قبل سنوات، فيلمها الروائي الطويل الأول «كاراميل» نظر كثر إلى الفيلم كأنه يختم على نهاية الحرب اللبنانية منتقلاً مرة واحدة إلى ما – بعد – الحرب من خلال حكاية صبايا وضعن تلك الحرب وراءهن وبدأن يجابهن الحياة كما هي. كانت تلك النظرة إلى لبنان الجديد يومذاك واحدة من عوامل نجاح الفيلم. ولكن، بعد ذلك بسنوات قليلة عادت لبكي نفسها إلى الحرب في فيلمها التالي «هلق لوين؟» مستنبطة في مسار الفيلم حلولاً – لا تخلو من سذاجة – بدت أشبه بتعويذة ضد الحرب التي بدت من خلال الفيلم متواصلة على عكس ما كان «كاراميل» قد اقترح.

الشيء نفسه يمكن قوله عن فيلمين متتاليين للبناني الآخر فيليب عرقتنجي هما «بوسطة» الذي بدا تعويذة ضد حرب انتهت، و «تحت القصف» الذي أتى لاحقاً عليه ليستعيد خطاب الحرب. كذلك، يمكن قوله عن فيلمين للثنائي جوانا حاجي توما وخليل جريج هما «البيت الزهر» الذي يعالج «هموم ما بعد الحرب»، ولاحقه «بدي شوف» الذي عاد يغوص في الحرب من جديد...

الحقيقة أن ما نود قوله هنا هو أن حرباً ما كانت تتواصل في لبنان ولو في غفلة لفترة عن السينمائيين اللبنانيين، متخذة أشكالاً وتنوعات، على الأقل منذ ما لا يقل عن أربعين سنة. بل يمكننا، في شكل أو في آخر، أن نتحدث عن أربعين عاماً بكل ثقة بالنظر إلى أن ثمة ذكرى تعبر في هذه الأيام «يحتفل بها اللبنانيون» تتعلق بالرصاصات والمتفجرات القاتلة التي ألقيت في عين الرمانة في ضاحية بيروت يوم 13 نيسان (أبريل) 1975 مسجلة بداية دخول لبنان الجدّي إلى جحيمه الذي يبدو متواصلاً على رغم هدنات ووقفات و «ضروب خداع» كانت هي ما أتاح فرصة للسينمائيين اللبنانيين الذين تحدثنا عنهم كي يحققوا أفلاماً تعطي الوهم بأن الحرب انتهت قبل زوال هذا الوهم.

الفن الأكثر إحساساً بالحرب

مهما يكن من أمر، وبغض النظر عن أي سجال سياسي أو تاريخي حول مثل هذه المسائل، فلا بد من العودة إلى الإشارة هنا إلى أن السينما كانت الفن الذي رافق تلك الحرب اللبنانية، في كل تجلياتها وحلقاتها و «طلعاتها» و «نزلاتها» طوال الأربعين عاماً «المحتفى» بها، بأكثر مما فعل أي فن آخر في تاريخ لبنان الراهن. بل في معنى من المعاني، يمكن القول أن السينما اللبنانية الحقيقية إنما كانت ولادتها الكبرى من رحم هذه الحرب، في تمييز لها عن تلك السينما الأخرى التي كانت تُصنع في لبنان من دون أن تكون لها علاقة حقيقية بلبنان ومجتمعاته، لتكون مرة على قياس لبنان مصغّراً على قياس طائفة أو بقعة، ومرات على قياسات أكثر اتساعاً كأن تكون مصرية أو تركية أو إيطالية أو سورية أو حتى فلسطينية... فهذه كانت تعبّر عن نفسها في لبنان من خلال عشرات الأفلام التي حتى وإن كانت تقطعها بين الحين والآخر أفلام لبنانية ما، كان لافتاً أن مخرجيها قد يكونون مصريين (ولو من أصول لبنانية - شامية كيوسف شاهين أو بركات أو يوسف معلوف) أو عراقيين (كاميران حسني أو حكمت لبيب) أو غير ذلك. أما السينما اللبنانية بالمعنى العلمي والاجتماعي للكلمة فكان عليها أن تنتظر اندلاع الحرب عام 1975 لتوجد حقاً كمتن متواصل وليس كعمل من هنا أو آخر من هناك. مع هذا، فإن توخينا الدقة فلا بد من أن نقول أن الأمر كان «تقريباً» على ذلك النحو.

هذه الـ «تقريباً» تتعلق في الحقيقة بمبدعين كانا من أوائل مؤسسي هذه السينما اللبنانية التي نتحدث عنها هنا: برهان علوية ومارون بغدادي. فهذان - وإن كانا مع نصف دزينة من رفاق لهما، المؤسسين الحقيقيين لسينما الحرب اللبنانية والاسمين البارزين في تحقيق تلك الشرائط التي واكبت الحرب خالقة جيلين أو ثلاثة من مبدعين سينمائيين مميزين - كانت بداية كل منهما خلال الأعوام القليلة التي استبقت الحرب، وليس مع بداية الحرب نفسها. غير أن هذا الواقع التاريخي لا يتعين أن يمنعنا من رؤية الحرب وبدايتها ماثلتين بكل معانيهما، بخاصة في فيلمي علوية وبغدادي الأولين الذين حُقّقا وعُرضا قبل الحرب. بل إن فيلم مارون بغدادي «بيروت يا بيروت» عُرض للمرة الأولى عرضاً خاصاً في صالة كانت تدعى «سينما بيروت» وتقع في منطقة البربير غير بعيد مما سيعتبر لاحقاً خط التماس القتالي بين شطري بيروت، يوم العاشر من نيسان 1975 أي قبل اندلاع الحرب بثلاثة أيام. بهذا المعنى، لم يكن الفيلم وليد الحرب، لكنه كان بموضوعه ونهايته وصراحته الطائفية والسياسية وخوفه على لبنان، أكثر من عمل يهجس بأن حرباً قاتلة متنوعة الأسباب والأشكال ستندلع قريباً جداً في بيروت ولبنان بالتالي. وربما لم يكونوا مغالين أولئك الذين اعتبروه تنبؤاً بها من دون أن نوافقهم كثيراً على ذلك!

أما فيلم برهان علوية المتزامن إلى حد ما مع «بيروت يا بيروت» فإنه حتى وإن كان يقف بموضوعه وإنتاجه خارج قضية لبنان بالنظر إلى أنه فيلم سوري الإنتاج عن حكاية جريمة ارتكبتها إسرائيل بحق الفلسطينيين في «كفر قاسم» – وهو حمل اسم هذه القرية الشهيدة على أية حال - كان أيضاً مقدمة لولادة السينما اللبنانية الجديدة، بل حتى سينما الحرب اللبنانية، بالنظر إلى أنه سجّل انخراط مخرج لبناني من النوع المناضل والمسيّس، في القضايا العربية كاستجابة لقدر سيلف كثراً من المبدعين اللبنانيين خلال الحرب كما لفّ مواطنين لهم قبلها. فالقضية الفلسطينية التي كانت أغرت، سينمائياً، مخرجين لبنانيين مثل غاري كارابديان وكريستيان غازي، قبل الحرب، ستجد في مبدع من طينة اللبناني جان شمعون فاعلاً نشيطاً في سينماها، تماماً كما فعلت اللبنانية هايني سرور بالنسبة إلى ثورة ظفار، أو جوسلين صعب بالنسبة إلى الصحراء الغربية، وكما ستفعل الراحلة رندة الشهال حين صورت فيلماً عن الخليج ونسائه وآخر عن مصر، أو زميلتها جوسلين صعب حين صورت فيلماً مصرياً، بل وصلت حتى إلى فيتنام في فيلم لها. فمن خلال هؤلاء وعلى رأسهم برهان علوية، عرف أبناء جيل الحرب خصوصاً في السينما اللبنانية كيف يعبرون عن التحام المثقف اللبناني بالهموم الفلسطينية والعربية... وكان هذا جزءاً أساسياً من تاريخ السينما اللبنانية بالتأكيد.

حكاية جيل وأكثر

من هنا، حين اندلعت الحرب في ذلك الأحد الدموي الذي احتفل به اللبنانيون قبل أيام مرددين المثل الشعبي «تنذكر ما تنعاد»، كان هناك عدد لا بأس به من سينمائيين لبنانيين جدد آتوا في معظمهم من معاهد التعليم السينمائي الفرنسي أو البلجيكي أو غير ذلك، ولكن أيضاً من النضالات السياسية اليسارية في زحام «أيار (مايو) 68» الفرنسي وحركات الشبيبة العالمية، والثقافة التقدمية الملتزمة، من دون أن يكون لهم أي ارتباط بما كان يمكن تسميته في ذلك الحين، مع كثير من التجاوز، «تراث السينما في لبنان»، بل إن بعضهم كان يرفض ذلك التراث كلياً... كان هناك طبعاً برهان علوية ومارون بغدادي، وجان شمعون ورندة الشهال وهايني سرور، ثم بعد حين جوسلين صعب. وكان هناك جان كلود قدسي وبهيج حجيج اللذان حتى وإن كانا وصلا لبنان في ركاب علوية وشمعون وبغدادي، فإنهما لم ينضما إلى القافلة السينمائية إلا بعد سنوات طويلة، ولكن هنا أيضاً في أفلام تنتمي إلى الحرب التي كانت تنتمي إليها سينما رفاقهم السباقين. أما على المقلب الآخر، سياسياً وأيديولوجياً، فكان هناك جورج شمشوم وأندريه جدعون بين آخرين...

كل واحد من هؤلاء كان يحمل مشروعه الخاص المتعلق بتحقيق أفلام روائية طويلة على شكل سيناريوات مكتوبة، غير أن «المفاجأة» التي شكلها اندلاع القتال وانفلات الأوضاع، وتقطّع الطرقات، مع الحاجة التي استشعرها المعنيون بالحرب إلى إيجاد شرائط سينمائية - تلفزيونية تواكب التعبئة السياسية، كان لا بد لها من أن تكون صاحبة الكلمة الفصل، فاندفع السينمائيون، مؤجلين مشاريعهم الخاصة التي كان جلها عبارة عن أفلام روائية، في تحقيق أفلام قصيرة أو متوسطة تقول الحرب ومآسيها وبطولاتها وتشرعنها حيناً لتندد بها في أحيان أخرى، بحيث إن هذا كله سرعان ما خلق متناً سينمائياً قد يبدو لنا اليوم متكاملاً، وأعطى السينمائيين الشبان – وقتذاك – فرص تمرّن على تنويع اللغة السينمائية والتعامل مع الواقع والالتحام بأنواع أخرى من الفنون والآداب، من شعراء وموسيقيين وقصاصين ومسرحيين ومصورين وما إلى ذلك. ولئن كان بعض هؤلاء قد أتى يومذاك من العالم التقليدي للإنتاج السينمائي والتلفزيوني اللبناني، فإنهم سرعان ما انخرطوا في اللعبة الجديدة انخراط الأحزاب اليسارية فيها دعماً وتمويلاً وعرضاً، وانخراط عدد من المبدعين السينمائيين الجدد في سينمات أخرى كالسينما الفلسطينية. والحقيقة أن هذا كله كان هو ما صنع الاختلاف البيّن للسينما الجديدة التي راحت تُصنع في لبنان. بخاصة للسينما الروائية التي سيكون برهان علوية ومارون بغدادي من جديد أول المبدعين في مجالها، في استلهام مباشر لتجاربهما مع الحرب أو مع الغربة أو مع الطائفية أو مع القطيعة المجتمعية، وكل وفق موقعه واجتهاده، ولكن هذه المرة من منطلقات ذاتية لا علاقة لها بالخلفيات السياسية أو حتى الأيديولوجية التي كانت تقف في الأصل في خلفية الأعمال الأولى. ففي فيلمين أولين هما «بيروت اللقاء» لبرهان علوية و «حروب صغيرة» لمارون بغدادي والاثنان يعودان إلى عام 1983، أو عُرضا فيه على الأقل، سنجدنا مباشرة أمام فكرانية لم تعد قابلة بأي تبرير للحرب أو شرح لها، منذ ذلك الوقت المبكر. ولعل في إمكاننا هنا أن نقول أن هذا يتناقض مع الكثير من التأكيدات المتكررة التي تحاول أن تقول أن الحرب لم يبدأ رفضها إلا من قبل الجيل التالي لجيل علوية – بغدادي. لأن الحقيقة هي أنه بعدما كانت هناك أفلام وثائقية أولى عبرت – كثيراً أو قليلاً – عن افتتان ما بالحرب وتبرير «وطني» و «قومي» لها، راحت الأفلام الروائية منذ وجدت، ترفض الحرب بحيث يمكننا القول أن سينما رفض الحرب التي سيعود ويحققها مبدعون مثل زياد دويري («بيروت الغربية») أو سمير حبشي («الإعصار») أو رندة الشهال («حروبنا الطائشة») ثم لاحقاً دانيال عربيد («معارك حب») ونادين لبكي («هلق لوين») وصولاً إلى فيليب عرقتنجي والثنائي حاجي توما - جريج، كي لا نذكر أعمالاً مميزة لميشال كمون أو لارا سابا تبدو أكثر ابتعاداً عن الحرب بكثير، أو أعمالاً لاحقة تغوص في ما – بعد – الحرب مثل «عصفوري» لفؤاد عليوان... سينما رفض الحرب هذه إنما هي الابنة الشرعية لما كان قد أسس عليه مارون بغدادي وبرهان علوية. حتى وإن كانت السبل قد تفرقت بهذين فرحل بغدادي عن عالمنا مأسوفاً على إبداعه وشبابه في وقت كان يستعد للعودة إلى «سينما الحرب» الذاتية اللبنانية في سيناريو كتبه مع صديقه الروائي المميز حسن داود تكشف قراءته كم كان مميزاً وأساسياً، فيما صمت علوية وسط آلامه ومرارته بعدما حقق فيلم «خلص» الذي ظُلم نقدياً وجماهيرياً في شكل يعصى على الفهم!

سينما لفضح الحرب

أجل منذ أفلام برهان علوية ومارون بغدادي المبكرة، وصولاً إلى أفلام عربيد – لبكي – عرقتنجي... إلخ، رفضت السينما اللبنانية الحرب وأدانتها وكشفت عبثيتها وهذيانها – كان برهان علوية يقول دائماً أن السينما الوحيدة التي يمكنها أن تقول الحرب اللبنانية هي سينما تغوص في الهذيان حتى النخاع - غير أن تلك الإدانة لم تخل من تعامل مع قضية الحرب ليس بصفة الحرب مفروضة علينا من جانب الآخرين كما تقول الفصاحة السياسية الساذجة أو الخبيثة التي رأت بعد الحرب، ولا يزال أصحابها يقولون حتى الآن، أنها فُرضت على اللبنانيين من الخارج. فهذا غير صحيح والسينما لا تفتأ تقوله، السينما من «حروب صغيرة» إلى «هلق لوين؟». وفي هذا السياق سيدهش المرء إن هو راح يدرس الأفلام السينمائية اللبنانية التي تحققت وعُرضت منذ فيلمي برهان علوية ومارون بغدادي اللذين شكلا ولادتهما الجديدة بعد سنوات الحرب، الأولى.

فالسينما التي حققها، بعد الجيل الأول، سينمائيون من طينة جان كلود قدسي وبهيج حجيج وغسان سلهب وميشال كمون وسمير حبشي وفؤاد عليوان وصولاً إلى دانيال عربيد ونادين لبكي ولارا سابا، ودزينة من أصحاب أسماء أخرى لا تقلّ عن هؤلاء أهمية، من دون أن ننسى عشرات الشرائط القصيرة والمتوسطة الوثائقية والروائية التي وصلت عروضها إلى أوجها عند بداية سنوات التسعين في تظاهرة مدهشة نظمها اللبناني مختار كوكش، وجالت على أكثر من مدينة في العالم بدءاً من بيروت، هذه السينما قالت في مجموعها، تلك الحرب وفي معظم الأحيان من منطلق الرفض والإدانة... غير أنها في قولها هذا، لم تخرج عن تلك الأسس التي وضعها «الآباء المؤسسون» الذين سيكون من الإنصاف من جانبنا وفي حقهم، أن نؤكد مرة أخرى أنهم لم يتوقفوا عن إدانة الحرب ورفضها، ولكن دائماً من دون الوقوع في فخ النظر إليها على أنها من صنع الآخرين... فهي كانت حربنا، شارك فيها آخرون وموّلها آخرون، أججها آخرون واستفاد منها آخرون... لكنها كانت أولاً وأخيراً الكارثة التي جررناها على أنفسنا والمذبحة التي كانت، بتفاصيلها وبعدها الطائفي المرعب ونتائجها التي أدت إلى نسف كل أحلام التقدم والحرية للبنان، اللعنة التي لم يفتنا في طريقنا أن نهديها ببؤسها وقذارتها إلى المجتمعات المجاورة خالقين مصطلح «اللبننة» الذي بات ينطبق على معظم الحروب والكوارث العربية مضفياً عليها أبعاداً عنفية وطائفية ومذهبية وما إلى ذلك.

كل هذا شاهده السينمائيون اللبنانيون باكراً... بل شاهده مـــارون بغــــدادي في الكثير من أفلامه القصيرة التي سبقت «حـــروب صغيرة» وعبّر عنه في زوايا مختلفة وشديدة الذكاء في أعمال نعرف أنه حققها يومــذاك لحساب أحزاب ومنظمات كانت تريد منه أن يمجّد الحرب ويبررها، فإذا به يصور الفراغ الروحي في آخر لقطات «تحية إلى كمال جنبلاط» وحزن «أم الشهيد ووحدتها القاتلة» بدلاً من تمجيد موت ابنها في «كلنا للوطن» ومأساة الجنوب والمذابح الطائفية فيه في «الجنوب بخير طمنونا عنكم»، بخاصة في أفلام كان مطلوباً منها أن تعبئ الجماهير من أجل الحرب العادلة، فإذا بلغة بغدادي السينمائية تقول غير ذلك... تماما!

شارليز ثيرون:

أستخدم كل أسلحتي في السينما... وأولها جاذبيتي

باريس - نبيل مسعد

لمعت الممثلة الجنوب أفريقية شارليز ثيرون في منتصف التسعينات من القرن العشرين بفضل الفيلم الأميركي «محامي الشيطان» إلى جوار النجم آل باتشينو مؤدية بعض المواقف الجريئة القوية التي جعلتها تنال لقب منافسة شارون ستون على عرش الإغراء الهوليوودي. ومنذ ذلك الحين، ومع أنها لم تزعزع مكانة غريمتها، توالت في حياة ثيرون الأدوار فوق الشاشة الفضية، إضافة إلى أنها أصبحت سفيرة أحد أبرز عطور كريستيان ديور. وها هي بطلة لفيلمين جديدين في صالات السينما العالمية، «أماكن مظلمة» للسينمائي جيل باكيه برينير، و «ماد ماكس: طريق الثأر» لجورج ميللر، وهو تتممة لفيلم «ماد ماكس» بأجزائه الثلاثة من بطولة ميل غيبسون، النازل في الثمانينات، وقد حل مكان غيبسون في النسخة الجديدة توم هاردي.

إن من يشاهد ثيرون الفارعة الطول (180 سنتيميتراً) البالغة من العمر الآن 41 سنة، فوق الشاشة، يتأكد على الفور من قدرتها التمثيلية الفائقة التي تجعلها تتأرجح بين كل الألوان بسلاسة هائلة، إلى درجة أن جاذبيتها الخارقة تهبط إلى المرتبة الثانية، وأكبر دليل على ذلك فوز الفنانة بجائزة «أوسكار» أفضل ممثلة عن دورها في فيلم «وحش» الذي تنكرت من أجله بشكل امرأة قبيحة المظهر وبدينة.

ولمناسبة قدوم شارليز ثيرون إلى باريس للترويج لفيلميها الجديدين، التقتها «الحياة» وحاورتها.

·        حدثينا أولاً عن فيلم «أماكن مظلمة».

- الفيلم من النوع البوليسي المثير، وهو مأخوذ عن رواية أميركية ناجحة ألفتها جيليان فلين وتحكي قصة صبية نجت من الموت، بينما اغتيلت عائلتها كلها في ليلة واحدة، وذلك في فترة الثمانينات، وصرحت للسلطات في ما بعد بأن أخاها الأكبر هو القاتل. وتنتقل الأحداث عقب ذلك إلى الزمن الحالي حيث كبرت الصبية وتجاوزت سن الثلاثين وتجد نفسها في موقف يجبرها على إعادة النظر في أقوالها السابقة والاستعانة بذاكرتها بهدف التأكد من كون أخيها هو فعلاً الفاعل أم لا، خصوصاً أن هذا الأخير لا يزال خلف القضبان بسبب هذه التهمة. وأنا أمثل شخصية المرأة المعنية وأعترف بأن الدور هو من أصعب ما تسنّى لي القيام به أمام الكاميرا بسبب الجحيم الذي تعيشه هذه المرأة منذ صباها أولاً، لأن عائلتها قُتلت أمامها، ثم لأنها دفعت أخاها إلى السجن.

·        ماذا عن فيلمك الثاني النازل قريباً جداً «ماد ماكس: طريق الثأر»؟

- أفلام «ماد ماكس» معروفة منذ أكثر من ثلاثين سنة، وقد تولى بطولتها أصلاً ميل غيبسون في دور الرجل الذي يعبر الصحراء الأسترالية فوق دراجته البخارية مطاردًا عصابات المجرمين الساعية إلى تدمير البشرية. وبما أن غيبسون تقدم في السن بعض الشيء في ما يخص القيام بأدوار تعتمد على إبراز العضلات فقد استُبدل بتوم هاردي، النجم الصاعد في هوليوود منذ أن تقاسم بطولة فيلم «هذا معناه الحرب» مع كل من ريز ويثرسبون وكريس باين. والطريف في الموضوع أن فيلم «ماد ماكس» الجديد أخرجه جورج ميللر الرجل نفسه الذي سبق أن تولى تنفيذ الأجزاء السابقة، علماً أن مثل هذا الشيء نادر الحدوث، خصوصاً إذا كان الجزء الجديد يصور بعد مرور 30 سنة على الأفلام الأصلية. ويتعرض سيناريو الفيلم الجديد إلى كون الشرطي ماكس قد تقاعد وغادر عالم العنف والمغامرات إلى حين وقوعه بمحض المصادفة في أيدي عصابة تطارد امرأة خطفت أثمن كنز يملكه زعيم المجموعة إياها، أي حريمه. ولا يعثر ماكس على حل سوى الفرار والتعاون مع الخاطفة من أجل القضاء على عصابة المجانين التي لا تتردد في ارتكاب أبشع الجرائم لاستعادة نسائها.

·        وما هو دورك أنت؟

- أنا المرأة التي تخطف النساء بهدف هز شخصية الطاغية ومحاولة زعزعة عرشه الديكتاتوري.

لا أحمل عبء الحبكة

·        هل تعتبرين هذا الدور بمستوى أهمية ذلك في فيلم «أماكن مظلمة»؟

- نعم، لكن في أسلوب مختلف كلياً، بما أنني في «أماكن مظلمة» أتولى البطولة المطلقة من أول الفيلم وإلى آخره، وإن كانت شخصيتي في البداية تظهر وهي طفلة صغيرة، إلا أن سرعان ما تنتقل الحبكة إلى الفترة الزمنية الراهنة وأحل مكان الصبية. وفي «ماد ماكس: طريق الثأر» أشارك البطل المغامرات التي يعيشها من أجل القضاء على عصابة الأشرار، لكنني وعلى رغم أهمية دوري لا أحمل عبء الحبكة على ظهري من دون شريك. والشيء الذي أثار اهتمامي أكثر من حكاية مستوى أهمية هذا الدور أو ذاك هو مدى الاختلاف الجوهري بين العملين من حيث اللون والتنفيذ، فبينما يتميز الأول بنمط بوليسي بحت، ها هو «ماد ماكس» يبعث نوع المغامرات في أسلوب مدهش وشبه جديد من المفروض أن يعجب الجمهور العريض المحب للحركة وللبطولات الخطرة.

·        أنت مثلت شخصية امرأة غير ناضجة في الفيلم الرومانسي الكوميدي «شابة بالغة» من إخراج جيزون رايتمان، وهذا لون مختلف كلياً بالنسبة إلى فيلميك الجديدين. فهل تعتبرين نفسك ناضجة عاطفياً أم إن شخصيتك السينمائية مستوحاة ولو بعض الشيء من شخصيتك في الحياة اليومية؟

- إنني بلا شك ناضجة أكثر من شخصيتي السينمائية في هذا الفيلم، وأما في شكل عام فيصعب علي الرد على مثل هذا السؤال، والأفضل ربما هو توجيهه إلى أشخاص من محيطي العائلي أو من أصدقائي، وعلى العموم فأنا أعتبر عملي في «شابة بالغة» تمثيلاً في تمثيل، لا أكثر ولا أقل.

·        كيف عشت شهرتك المفاجئة المبنية على الإثارة بسبب اللقطات الجريئة التي وافقت على تمثيلها في فيلم «محامي الشيطان»، والتي جلبت لك جمهوراً عالمياً يتكون أساساً من الرجال؟

- أنا فرحت حينذاك بالشعبية التي نالها الفيلم، حتى إذا كانت الشخصية التي مثلتها فيه جردتني بعض الشيء من الرومانسية ومن ثيابي. وعلى العموم لست ضد الأعمال الفنية التي تعطي صورة مختلفة عن المرأة بالنسبة إلى ما تعتاد هوليوود تقديمه، فالمهم في الحكاية هو العثور على فرصة لإثبات الكيان الذاتي ولفت الانتباه في شكل عام. وأنا أعتبر نفسي محظوظة لأنني انتهزت فرصة رواج «محامي الشيطان» وفرضت اسمي على مخرجين اقتنعوا في النهاية بأهليتي لأداء الكوميديا والدراما والعاطفة وكل الألوان الممكنة، بعدما كانوا يرفضون استقبالي في مكاتبهم إذا اتصلت بهم.

وبالنسبة إلى كون جمهوري الأساسي هو من الرجال فلم يزعجني الأمر أبداً في ذلك الوقت، لأنني كنت واثقة من قدرتي على إثارة اهتمام الجمهور النسائي العريض في يوم ما، وهذا ما حققته من خلال فيلم «وحش» الذي أنتجته وأديت بطولته مجردة في هذه المرة من أي جاذبية، بل مرتدية الماكياج الخاص الذي يجعل الملامح بشعة، حتى أشبه المرأة التي روى السيناريو حكايتها، والتي عاشت بالفعل.

مجرد ممثلة

·        أنت فارعة الطول وذات جاذبية بالغة، فهل لعب مظهرك الدور الأساسي في اقتحامك عالما الفن السابع؟

- نعم ولا، لأنني خارج أدواري لا أشبه الشخصيات التي أؤديها. فالذي حدث مثلاً بالنسبة إلى فيلم «محامي الشيطان» هو أنني استخدمت مظهري وأنوثتي لإضافة بعض الصدق إلى المشاهد المثيرة، لكنني أظل في النهاية مجرد ممثلة تؤدي دور امرأة شيطانية تلعب بجاذبيتها وبالرجال. وأنا عشت نجوميتي في الأساس بفرح شديد جداً وتخيلت نفسي ملكة فوق عرش السينما، ثم نزلت من فوق سحابتي لأكتشف أن الحياة ليست أسهل بفضل الشهرة، وأن الحفاظ على النجاح أصعب من الوصول إليه.

·        أنت امرأة طموح وعنيدة أليس كذلك؟

- أنا أجنبية في هوليوود، بما أنني جنوب أفريقية، ومثل أي فتاة في الغربة أتحلى بالصبر ولا أترك المصاعب تحطمني.

·        ماذا تفعلين بملايين الدولارات التي تكسبينها الآن؟

- أقتني ما يعجبني، وهذا واقع لا أنكره بالمرة، ثم من ناحية ثانية أساهم في نشاطات الجمعية الخيرية التي أسستها لرعاية الأطفال المحرومين في جنوب أفريقيا، مسقط رأسي.

·        أنت من ناحية تسعين إلى عدم الاعتماد على جمالك الشكلي في السينما، لكنك من ناحية ثانية سفيرة لأحد العطور الفاخرة، وهذه بالطبع مهمة لا تقدر على القيام بها سوى امرأة جميلة جداً لا تخاف من إبراز مفاتنها؟

- صحيح أنني ألعب بالنار وأسبب حيرة لجمهوري، لكنني ممثلة وبالتالي أستخدم كل الأسلحة المتوافرة لي كي أثبت شخصيتي، وأول هذه الأسلحة الجاذبية طبعاً، طالما أن هذه الأخيرة لا تتحول إلى علامة مميزة وتلتصق بجلدي نهائياً.

السينما في مملكة القضايا الشائكة

محمد موسى

صحيح أن الأمور لم تجر على ما يرام بالنسبة الى مهرجان اسطنبول السينمائي الذي توالت منه انسحابات العديد من المبدعين والنقاد احتجاجاً على الرقابة المتزايدة التي تمارس على المهرجان وتطاول بخاصة مسائل «حساسة» مثل القضية الكردية، فإن ما هو معروض فيه يشي أن السينما لا تزال في خير بإنتاجاتها على الأقل.

إذ يُعرض حالياً ضمن المسابقة الرسمية للمهرجان الذي تكتمل دورته الرابعة والثلاثون في التاسع عشر من شهر نيسان (أبريل) الجاري، أربعة أفلام (ثلاثة روائية وواحد تسجيلي) تقدم قصصاً عن السينما والحياة التي تنشأ من حولها، وعلاقتها بالطامحين للعمل في عوالمها. وهي العلاقة التي تبدو أحياناً كشغف مُتجذر وإنجذاب غامض لا يُفسر، وهاجس ثقيل أيضاً، يُمكن أن يستحكم على حيوات البعض، متحولاً أحياناً الى كوابيس تطارد وتفسد أيام المهووسين بها. تدور الأفلام بشكل او بآخر في فلك الصناعة السينمائية وكواليسها، وما تُمثله من حلم بعيد المنال لكُثر، طارحة سؤال الإبداع الأزلي، ومارة أحياناً على العلاقة العدائية التقليدية بين رأس المال والحرية الفنيّة، وإن كانت هذه الأخيرة تأخذ في الأفلام منحى مُختلفاً عما إعتادت هوليوود تقديمه.

في الفيلم الروائي «لماذا لا أستطيع أن أكون تاركوفسكي» للتركي مراد دوزكون أوغلو، هناك مُخرج (بهادر) يحلم بالإنتقال الى السينما الروائية الطويلة، بعد أن قضى سنوات عديدة في إخراج أفلام قصيرة ودعايات تلفزيونية، لكن الشاب التركي المهووس بالمُخرج الروسي الشهير أندريه تاركوفسكي، يكتشف سريعاً إن المثال الذي ينشده هو غاية من الصعب كثيراً إدراكها، وأن الواقع الفعليّ على وشك أن يلقيه بعيداً عن عوالم السينما وهو لم يخطو الخطوة الاولى بعد. يبدأ الفيلم بسلسلة مشاهد حلميّة لبهادر وهو يشرف على تنفيذ مشهد سينمائي شاعري، على غرار تلك التي كان يقوم بها تاركوفسكي في أفلامه الإيقونية. عندما يعود المخرج الى الواقع، يواجه تفاصيل عمل يومية ستغرقه سريعاً في اليأس. الى ذلك، يتعثر المخرج الشاب في محاولاته إيجاد المال اللازم لإنجاز فيلمه الطويل، كما تبدأ الشكوك تراوده اذا كان يملك حقاً شعلة المُوهبة.

تغلب الكوميديا السوداء على الفيلم الجيد هذا، التي ترتكز على إبراز التباينات الحادة بين واقع المخرج وأحلامه، اذ تبدو السينما التي يتطلع لصنعها، تشبه الأحلام التي تزوره في منامه في السرير الذي يواجهه بورتريت كبير للمخرج الروسي، عذبة لكنها تُخلَّف طعماً مُرَّا بعد إنقضائها. تحت طبقة الكوميديا تلك، هناك أسئلة غاية في الجديّة، عن السينما في تركيا (كمثال لدول عديدة). وعن إمكان إنتاج فن مُغاير يدير ظهره بالكامل لشروط السوق التجارية، وعن قيمة الفن اليوم. ورغم إن الفيلم يشطح أحياناً في إشاراته ولغته المُتخصصة، والتي ربما لا يفهمها سوى العاملين في السينما (كتلك عن صناديق دعم السينما الاوروبية وشروطها لإنتاج أفلام في دول مثل تركيا)، الا إن الفيلم يمكن قراءته أيضاً، كعمل يصور العثرات التي تواجه الطموحات البشرية بصورها العديدة، وكيف يمكن أن تصطدم هذه الطموحات والأحلام وتتهشم على صخور الواقع.

حَسرة على إسطنبول

تتقاطع ظروف المُخرج الألماني التسجيلي بين هوبكنز، مع بطل فيلم «لماذا لا أستطيع أن أكون تاركوفسكي»، لجهة أن كلاهما يرغب في الخروج من أسر الأُطر الإنتاجية التقليدية والتجارية المحدودة، والبقاء أوفياء لإحلامهما ومُثلهما. ولكن اذا كان الطريق مازال طويلاً أَمام الشخصية المُتخيّلة للفيلم الروائي التركي، فأن المُخرج الألماني قرر أن لا يُسلّم للواقع وإشتراطاته، فهو تمرد أولاً على المحطة التلفزيونية الألمانية الصغيرة التي أرسلته الى إسطنبول مع فريق فنيّ صغير وموازنة محدودة للغاية لإنجاز فيلم ترويجي عن الحاضرة التركية، ثم تمرّد على نفسه وفريقه، ليبقى هناك في المدينة وحيداُ لأكثر من ثلاثة أشهر، من دون أموال، باحثاً عن روح المدينة وعالمها السريّ، ماراً، بشاعرية شديدة الجمال، على أسئلة المدينة المُلحة، وكيف يتم دفعها ببطء بعيداً من تاريخها الطويل المُركب والمُعقد، نحو أحضان رجال المال والشركات العملاقة.

وعلى رغم إن الفيلم التسجيلي «حَسرة» (حصيلة الزمن الذي قضاه المُخرج في إسطنبول)، سيتناول كثيراً من القضايا الراهنة لواقع المدينة و يُحاول أن يستشرف مُستقبلها (يبحث في موضوعات: الأقليات الدينية والعرقية، الأحياء القديمة الأثرية التي تذهب اليوم حطباً لمشاريع إعمارية عملاقة، الفقراء المهمشين على أطراف المدينة الشاسعة، الإحتجاجات التركية الأخيرة)، الا أن العمل لا يفرط بهويته الفنيّة الخاصة لصالح المُقاربة النقدية الاجتماعية. فيوازن في النهاية بين المشهديات التي يخطف بعضها الأنفاس للمدينة، وبين وفائه لها ولتاريخها الطويل المُغيب، عبر نبشه المبتكر في الحياة اليومية هناك، وبحثه عن شخصيات غريبة وغير مهادنة، كالمؤرخ والكومبارس التركي، الذي يزعم أن موقع المدينة الحالي، كان مركزاً لمملكة القطط في العالم، وقبل أن يتسيد البشر الأرض، لذلك تلقى قطط الشوارع في إسطنبول معاملة رحيمة لا تنالها أي من قطط العالم المشردة. المؤرخ ذلك، زعم أيضاً أن روح المدينة تسلل الى زوارها اذا قضى هؤلاء تسعة وتسعين يوماً من الإقامة غير المقطوعة، عندها يتحول الزائر لـ»إسطنبولياً»، ليُصبح بعدها الفكاك من المدينة أمراً مُحالاً.

نجمة في روسيا

رغم غرابة وجنون قصة ومناخات فيلم «واقع» للمخرج الفرنسي كوينتين ديبكويس، الا إن العمل في مُجمله يبدو وكأنه تحية خالصة وصافية للسينما التجارية الأميركية المنخفضة التكاليف (B movie) وبالتحديد لفئة أفلام الرعب والخيال العلمي. يجمع المخرج شخصيات فيلمه في مدينة صغيرة غير واضحة الهوية، لكنها تضم إستديوات وفنانين من جنسيات متعددة. يتنقل الفيلم بين الواقع والحلم، لتشكل «السينما» الرابط الوحيد بين الحقيقة والخيال وبين القصص والشخصيات الغرائبية، الذين يعيشون جميعهم تحت ظلال الصناعة السينمائية. لكن، لعمل يريد أن يوجه تحية الى سينما ترتكز على التقنيات والتكنولوجيا، يبدو فيلم «واقع» فقيراً كثيراً بصناعته، ومشهدياته، كما كانت الكوميديا إعادة تدوير لما تعرضه شاشات التلفزيون وضاع كثير منها في الترجمة الى اللغة الإنكليزية (لغة الفيلم)، وإستهلكت في الربع الأول من الفيلم.

ومن روسيا يأتي الفيلم الرابع «نجمة» للمُخرجة لآنا ميلكاين، عن فتاة شابة تعيش في عالم موازٍ لذلك الذي يعيش فيه مُعظم أبناء بلدها، فعشقها للسينما والنجومية بنموذجها الهوليوودي، يبعدها وينجيها من الخوض في تفاصيل الحياة اليومية القاسية للكثيرين هناك، والتي تطبعها التغييرات الهائلة.

لكن «السينما» ذاتها ستقذف ببطلتها الى معتركات تلك «الحياة»، عندما تبدأ رحلتها للبحث عن نجومية في عالم الفن. عندها يتحول الفيلم الى دراسة تشريحية جديدة لأمراض الواقع الروسي، لكن من دون الحدة والأصالة والعمق التي ميزت أفلام روسية من السنوات الأخيرة. فشخصيات الفيلم تأتي جاهزة ومُحملة بكل العلامات والندوب، ولا تمر في أي من المسارات الدرامية المعتادة في السينما أو أفلام الهجاء بشكل خاص. كما يبدو الفيلم منفعلاً كثيراً ويتيه في محاولاته إيجاد مُقاربته الخاصة، لتغلب عليه في النهاية النمطية.

تشويق بوليسي على طريقة المغرب

الدار البيضاء - مبارك حسني

منذ البداية يبدو العنوان مثيراً ويذكّر المشاهد بعناوين السينما المصرية الكلاسيكية في أزهى أيامها بتسمياتها التي تحاول أن تجاور في جملة واحدة بين الإثارة والسرّ، وذلك بتجميع المتناقضات الكلامية، والتأكيد على ارتباط العواطف الطيبة بنزعات غير طيبة بتاتاً. لكن «غرام وانتقام» المغربي يروم غير ذلك، فهو يستلهم خصوصيات السينما الحركية التشويقية المتداولة كي يمنح شريطاً بمواصفات محلية تبغي النجاح لدى جمهور يجب تعويده عليها.

بين الشرّ والخير

فنحن هنا إزاء فيلم بوليسي يطبق بالحرف شبكة النوع السينمائي هذا بكل ما يتصف به من إيراد شخصيات/نماذج فيها اﻷشرار واﻷخيار، ومن تصاعد درامي يتضمن مفاجآت، ومن أجواء تحيل على عالم تتداخل فيه النوازع النفسية بالاندفاع الحركي المتعارف عليه.

كريم شرطي تحري يتعرض لهجوم جماعة من الملتحين ستؤدي به إلى البقاء في سرير المستشفى لفترة. الجماعة المعتدية حاضرة هنا كوظيفة لكي ينخرط المخرج في ريح العصر الذي تُشكل فيها هذه التكتلات لأفراد بإيديولوجية موحدة، أحد عوامل العنف الجديد في المجتمعات، وأيضاً لتأريخ الفيلم في الزمن الحالي كما هي الحال في هكذا نوع، بما أنه يريد أن يكون أيضاً شهادة على زمن ما بما يتصف به. داخل المستشفى تُعنى به ممرضة ما تلبث أن ترتبط به عاطفياً، لتصير زوجته بعد فترة معاشرة وإغواء لا بد منها. لكنها تعيش كوابيس ليلية تقض مضجعها، حيث تبدو فتاة مراهقة شاهدة على اغتصاب جماعي لصديقة لها من طرف فتيان من خلال صور استعادية يوردها الفيلم بشكل دوري في لحظات مختارة تغرق العمل في دوامة غموض من الواضح انه مبتغى لذاته. هؤلاء الفتيان صاروا شباباً لديهم مال ووظائف، ويقضون أوقات مرحهم في الملاهي الليلية عابثين رفقة مطربات وراقصات وفتيات هوى. لكنهم سيتساقطون قتلى الواحد بعد اﻵخر، جثثاً «مُشرملة» بحسب التعبير الشعبي الشائع حالياً الذي يعني التنكيل بالجسد سواء كان حياً أم ميتاً، الأمر الذي يكثف من رعب الجريمة، ويغلفها بالسر، كما هو معهود في الأفلام المشابهة، وهي تبدو هنا في شكلها المغربي على يد المخرج عبدالكريم الدرقاوي.

يدور الفيلم ما بين التحري للقبض على الإرهابيين والتحري لتعرف لغز القتل المتسلسل وتقفي تطور العلاقة الزوجية بين البوليسي والممرضة المتوترة بدون صراع ثنائي، لكن بسبب أحلام هذه الأخيرة وغيابها ليلا بالمصحة. في النهاية يبدو الفيلم تواتر لقطات كوابيس وللقطات سمر في الملاهي ثم مطاردة وعرض لأمكنة جرائم. هي سينما التشويق الملغز في فضاء مغربي مميز بنوطين ملامح نوع فني معروف. تلوح الدار البيضاء كمدينة كبيرة منذورة لتجاور الجريمة والعاطفة، أي تداخل البياض في السواد، الليل كمجال للتعقب في أماكن معينة كلاكورنيش جنب المحيط والحي التقليدي المهندس بجمالية خاصة. ثم الليل حاضنا للأسرة للعشق بأبطال عاريي الصدر كما أرست ذاك السينما اﻷمريكية من نفس الطينة.

الشخوص النماذج

ولتأكيد هذا الانخراط ركز المخرج على إظهار الشخوص الثانوية اللازمة لتحريك الوقائع جهة الحل. لأن الأحداث تظل في مجملها معروفة. سائق التاكسي الذي يقود الممرضة كل ليلة للمصحة مخافة تعرضها للصوص، وقد رسمه المخرج إنساناً متعاوناً راضخاً لكن بقدر كبير من الذكاء العملي وحسن التدبير في سلوكه كمخبر للشرطة ثم كمخبر لصحافي هو شخصية ثانوية ثانية. وهذا الأخير صُوّر متلهفاً لتحقيق السبق الصحافي، ولهذا الغرض فهو يطارد الشرطة لتلقف المعلومة الأمر الذي يعرضه لمواقف شد وجذب لا يملك معها سوى الرضوخ بشكل فيه الكثير من الحيلة وحسن التملص. يظهر بقبعته ودراجته النارية كما لو كان خارجاً من نفق رواية بوليسية (أميركية مرة أخرى لكن في قالب مغربي). شخص ثالث يسترعي الانتباه هو الشرطي المساعد بمعطفه الكولومبوي (نسبة إلى شخصية كولومبو المعروفة) والبريه على الرأس، والذي يقوم بالتقفي وتتبع الشخوص والإتيان بالمعلومات الثانوية اللازمة لرفد التحريات الأساسية. وأخيراً هناك مربية الزوجة الممرضة المقعدة على كرسي متحرك في مصحة خاصة.

ميزة هؤلاء الشخوص تمنح الشريط نفساً مرحاً وتجعله يتنفس أجواء لطيفة. وما يزيد من قوة أدوارهم، أنها أسندت إلى ممثلين متمكنين جداً، ولهم أسلوبهم الخاص المعهود في التشخيص. فهناك طارق البخاري سائق ألتاكسي، وعبدالغني الصناك في دور الصحافي، ونور الدين بكر في معطف التحري المساعد، وعائشة مهماه في شخصية لطيفة ومتقنة لعجوز مليئة بالحنان. وهكذا تكتمل دورة مغربة للفيلم البوليسي التشويقي كما يرى عبر عدسة المخرج عبدالكريم الدرقاوي.

على أية حال لا يتعين البحث في هذا الفيلم عن مقومات سينما أخرى غير تلك التي وجدت لترفد قاعات السينما. والحق أن الفيلم يندرج في خانة المنتوج الفليمي المتكاثف. ومن هنا يمكن تقدير قدرة المخرج على الالتزام أخيراً بـ»صنع» أفلام مستغلاً في ذلك تجربته الطويلة في المجال برفقة أخيه المبدع المعروف مصطفى الدرقاوي، وعبر كل المحطات التي مر بها قبل أن يستقر مخرجاً خصيباً حالياً. سينما للوقت وللتشويق ولترسيخ فن يحتاج إلى الديمومة كي يستمر.

الحياة اللندنية في

17.04.2015

 
 

شيرلي ماكلين تقدم نفسها ممثلة وفيلسوفة في فيلم 'فريد وإلزا'

العرب/ أمير العمري

الفيلم يحمل في طياته الكثير من المشاعر الانسانية التي تدفع المرء إلى التأمل في مسار حياته ويحثه على عدم التخلي عن رغبته في الاستمتاع بالحياة مع تقدمه في العمر.

ربما لا يكون الفيلم الأميركي “فريد وإلزا” للمخرج الإنكليزي مايكل ريدفورد -صاحب الفيلم البديع “البوسطينو” أو “ساعي البريد” 1994- فيلما عظيما، في مستوى الفيلم الفرنسي “حب” مثلا، الذي أخرجه النمساوي مايكل هانيكه 2012، فالقاسم المشترك بينهما ينحصر في كونهما يعتمدان على شخصيتين رئيسيتين من كبار السن: رجل وامرأة، وهو ما يعد بمقاييس السينما السائدة، مغامرة إنتاجية ما لم يكفل السيناريو من البداية، أساسا جيدا متينا لإثارة مشاعر الجمهور من خلال المباراة التي ستنشأ بالضرورة بين الممثلين (الاثنين) اللذين سيلعبان الدورين، ولا بدّ أن يكونا من المخضرمين الكبار في مجال التمثيل.

“فريد وإلزا” للمخرج الإنكليزي مايكل ريدفورد هو إعادة إنتاج لفيلم أرجنتيني أسباني ظهر عام 2005 من إخراج ماركوس كارنيفال، أي أنه ليس عملا أصليا، لكنه يستمد أصالته من قدرته على الإقناع، وإثارة المشاعر والفكر، وبما أننا أمام شخصيات حقيقية من لحم ودم، فإنه يمكن أن نصادفها في حياتنا، بل ويمكن أن نراها إلى جوارنا في القطار دون أن نلحظها عادة، لأن الاعتقاد السائد هو أن “العجائز″ غير موجودين، أي أنهم أصبحوا خارج منظومة المشاكل الحياتية اليومية، لأنهم قد “عاشوا بما فيه الكفاية”.

ولذلك يكون من حسنات السينما الأميركية أن تعود إلى تصوير مثل هذه الشخصيات اليوم في سياق كوميدي خفيف، يحمل داخل طياته الكثير من المشاعر الإنسانية التي تدفعنا جميعا إلى التأمل في مسار حياتنا، التي نعرف جميعا أنها ستنتهي حتما بالموت، وأن علينا بالتالي أن نعيشها ونستمتع بها، كما نحب، بل وكما يجب.

الحياة الحلوة

شخصية إلزا، التي تؤديها ببراعة كبيرة الممثلة الكبيرة شيرلي ماكلين، هي شخصية فيها من التلقائية بقدر ما فيها من الغرابة، فهي تعيش وحيدة بعد أن انفصلت عن زوجها، في مسكن مجاور لشقة سيقطنها رجل متقدم في العمر كثيرا، لكنها تحافظ على علاقتها بولديها، أولهما، وهو الأصغر، يبحث عن تحقيق نفسه في مجال الفن التشكيلي دون نجاح يذكر، والثاني، الأكبر، رجل ناجح ومتزوج، يعمل في مجال البنوك وشركات المال.

وإلزا تحاول، أو بالأحرى، تتحايل، لكي تحصل من الثاني لكي تعطي الأول، وهي تصنع عالمها الخاص الذي يمنحها السعادة والتفاؤل من خلال إدمانها اليومي على مشاهدة المشهد الشهير من فيلم “الحياة الحلوة” (لادولشي فيتا) لفيلليني، الذي تدور تفاصيله في ما يعرف بـ”نافورة الحظ” وسط روما التاريخية، وهو المشهد الذي نرى فيه الممثلة أنيتا أكبرغ تسبح في مياه النافورة، وتنادي على مارشيللو ماستروياني أن يلحق بها، فيسبح الاثنان بملابسهما معا، ويتعانقان وكأنهما يولدان من جديد.

أما الجار الجديد الذي انتقل إلى الشقة المجاورة لإلزا، فهو فريد الذي يؤدي دوره الممثل كريستوفر بلامر وهو رجل فظ، عنيد، عازف عن الحياة، يريد أن يترك في حال سبيله، يفضل الرقاد في الفراش، ويكره الخروج خصوصا التنزه في الحدائق، كما يقول ردا على كل من يقترحون عليه الاستمتاع بالطقس البديع في الحديقة المجاورة.

إلزا امرأة تبحث عن تحقيق الحلم، ولو في اللحظات الأخيرة الباقية، قبل الرحيل الأبدي عن العالم

طعم الحياة

ما يحدث بعد ذلك قد يكون متوقعا ومفهوما، فإلزا تتعرف على فريد، وتشده إلى عالمها بل إلى العالم الحقيقي الواسع المليء بالصخب، ولو من خلال اختلاق عشرات القصص الكاذبة عن نفسها، إلى أن تنجح في إخراجه من عزلته ومن اكتئابه وعزوفه عن الحياة، لكي يشعر أخيرا ربما للمرة الأولى، بروعة الحياة ويصبح قادرا على الاستمتاع بها، بل إنه يصل في النهاية إلى حد تدبير رحلة إلى روما صحبة إلزا، لكي يمنحها الفرصة لاستعادة مشهد النافورة الشهير في فيلم “الحياة الحلوة” بشكل عملي معه كما أرادت وكأنها تتحدى الزمن نفسه.

ويصل المشهد إلى ذروته ونحن نراهما يسبحان معا في مياه “نافورة الحظ” في تقاطع مع اللقطات الأصلية من فيلم فيلليني الشهير، في تحية مباشرة للمخرج الإيطالي العظيم الراحل.

بطبيعة الحال يريد الفيلم أن يقول لنا إننا لا يجب أن نتخلى عن رغبتنا في الاستمتاع بالحياة مع تقدمنا في العمر، بل ولا يجب أن نعتبر الوقت قد تأخر على الوقوع في الحب مجددا، واستعادة علاقتنا بالجنس الآخر رغم كل إحباطات الماضي التي يجب أن نتخلص منها، فالتجارب لا تعيد إنتاج نفسها بالضرورة، إلاّ إذا سمحنا نحن لها بالتكرار بسبب كسلنا وتقاعسنا عن البحث عن الجديد الذي يثير الذهن ويشعل الخيال، حتى لو كان معنى هذا صنع بعض الأكاذيب التي لا تضرّ أحدا.

كما قلت من قبل، في فيلم كهذا، يصبح الأداء هو الفيلم، خاصة عندما يكون الحوار مكتوبا بحيث يبدو شديد التلقائية والبساطة، بل ونحن نستقبله كما لو كان صادرا حقا عن الممثلين اللذين يؤديان الدورين بعبقرية تستحق الإشادة.

كريستوفر بلامر (85 سنة) صاحب الأدوار المشهودة في عالم السينما، بدأ التمثيل في 1958، ولعب أدوار الكثير من الشخصيات التاريخية أشهرها دور الكاتب الروسي تولستوي في فيلم “المحطة الأخيرة” (2009)، لكن لعل أشهرها لدى الجمهور العريض وأكثرها بقاء في الذاكرة، هو دور الضابط المتزمت والد البنات السبع في فيلم “صوت الموسيقى” (1965) أمام جولي أندروز.

بلامر يقوم هنا بدور فريد، منتقلا ببراعة من التزمت الجاف إلى التفكير والتشكك في ما يفعله، ثم إلى التسامح مع العالم، بل وزيارة قبر زوجته التي لم يمض على وفاتها سوى بضعة أشهر، ويطلب منها المغفرة على ما شاب علاقتهما من مشاجرات، وبعد هذا المشهد مباشرة، نراه يترك العنان لمشاعره أن تنطلق، ويفتح أبواب قلبه الموصدة للحب؛ فالــوقت لم يفــت بعدُ رغـــم تراكم سنـين العمر.

فريد يتنقل ببراعة من التزمت الجاف إلى التفكير والتشكك في ما يفعله، ثم إلى التسامح مع العالم

أما شيرلي ماكلين (إلزا) فهي المعجزة الحقيقية في الفيلم، ماكلين التي تجاوزت الآن الثمانين من عمرها، تؤدي دور عمرها هنا، دور إلزا المشاغبة التي تبدو حينا كما لو كانت شبه مختلة، أو متآمرة، أو كاذبة محترفة، ثم كامرأة صاحبة فلسفة خاصة في الحياة، لا تعترف بفوات الوقت، ولا بما يتراكم على الجسد من هموم وأمراض عضوية ستؤدي كما يحدث في النهاية إلى الموت، بل تبحث عن تحقيق الحلم ولو في اللحظات الأخيرة الباقية، قبل الرحيل الأبدي عن العالم.

صاحبة الفلسفة

شيرلي ماكلين المتفلسفة، تكاد تعبر أيضا عن شخصيتها الحقيقية في الفيلم، أي شخصية الإنسانة صاحبة الفلسفة الخاصة، فهي صاحبة الكتاب الشهير “ماذا لو..” الذي صدر عام 2013، وأثار ضجة هائلة في الولايات المتحدة، وفيه تعترف بأنها على قناعة بأنها ولدت وعاشت في الماضي السحيق، في “أطلانطا” تلك القارة “المفقودة”.

وتؤمن بوجود الأجسام الغريبة القادمة من الفضاء، بل وتصل في كتابها المثير للجدل، إلى حدّ مسّ “عقيدة الهولوكوست” عندما تتساءل “أليس من الممكن أن يكون ضحايا الهولوكوست من اليهود يدفعون ثمن جرائم ارتكبوها في الماضي، عندما كانوا جنودا رومانيين يقتلون المسيحيين، أو صليبيين يقتلون الملايين باسم المسيحية، أو جنودا في جيش هانيبال، أو غزاة للشرق في جيش الإسكندر؟”.

وبلغت تساؤلاتها الغريبة أيضا حدّ التساؤل عمّا إذا كان عالم الفلك البريطاني ستيفن هوكنغ، قد سبب لنفسه دون أن يدري، الإصابة بمرض الأعصاب الذي تسبب في شلل عضلات جسمه، لكي يجعل عقله متحررا من الجسد، بحيث يضمن تركيزا كاملا عقلانيا في الأمور الكونية؟

ماكلين التي تجاوزت الثمانين من عمرها، مازالت نشطة، تظهر في المناسبات الرسمية، تصرح لأجهزة الإعلام، تمثل في السينما والتلفزيون (ثلاثة أفلام جديدة من بطولتها قيد الإنجاز).

وقد منحت كتابها “ماذا لو..” عنوانا فرعيا يعكس حيرتها، بل وجرأتها هو “حياة كاملة من التساؤلات، التكهنات، التخمينات المعقولة، وبعض ما أعرفه عن يقين”.

'نساء خارج القانون' يزاوج بين قساوة الكاميرا ورهافة الكائن

العرب/ محمد أشويكة

فيلم يميط اللثام عن أوجاع الأمهات العازبات جراء رفض المجتمع التعاطف معهن والتسامح مع أخطائهن مما يقود بعضهن إلى الارتماء في أحضان الإدمان.

ينطلق الفيلم الوثائقي “نساء خارج القانون” للمخرج المغربي محمد العبودي بخطاب مكتوب على خلفية سوداء، مفاده أن بعض المجتمعات تنعت المرأة بالبغية إذا لم تفقد بكارتها من قبل زوجها، ترفضها عائلتها والمجتمع معا، وتعيش متخفية مجهولة الاسم.

الوثائقي “نساء خارج القانون” لمحمد العبودي رصد تقلبات ومواجع الشابة هند ذات الأصول القروية، والتي تعرضت للاغتصاب في الخامسة عشرة من عمرها، هددتها أسرتها بالقتل وطردتها خارج البيت، فحاولت أن تكسب قوت يومها كراقصة في الأعراس، رغم أن مثل هذا النوع من المهن لا يدرّ دخلا كبيرا على ممتهنيه، فضلا عن الرؤية الدونية والاحتقارية التي يضمرها لها أفراد المجتمع، وفي المقابل يبدو ذلك أقل خطورة من ممارسة الدعارة، التي لن تجد مفرّا إلى اللجوء إليها في بعض الأحيان.

لم تستطع هند أن تحصل على الأوراق الضرورية لإثبات هويتها الإدارية والقانونية، لأن الأسرة ترفض منحها كنش الحالة المدنية متنكرة لعملها الشنيع، والمرفوض جملة وتفصيلا.

الكاميرا مرآة

تمّ تصوير الفيلم بمدينة وزان المغربية التي تقع على الشريط الجنوبي لجبال الريف، وذلك بداية فصل الربيع من سنة 2010، حيث تنتقل الكاميرا من لقطات كبيرة تبرز الفتاة أثناء مزاولتها للرقص على إيقاع أغنية شعبية، تتحدث كلماتها عن ذئبويّة الأصدقاء، وكأننا أمام خطاب فلسفي يعلن انتماءه إلى النزعة المتشائمة التي أعلنها توماس هوبز معتبرا أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان.

ثم تسلط الكاميرا الضوء على تفاصيل حياة الشابة، وترصد أسلوب عيشها البسيط، حيث تقطن في بيت شبه خرب رفقة صديقها الشاب وبرفقتهما قط وكلب.

تتأمل الفتاة حال بيتها والمطر يتساقط وكأنها تطهّر نفسها من القلق وثقل الوجود، الذي ينتابها وهي المرفوضة والمهمشة، وسرعان ما تنخرط في الحكي عن قلة ذات اليد في مثل هذه الظروف المناخية الصعبة، إذ تضطرّ للتحايل بغرض الحصول على حاجياتها اليومية المتمثلة في قارورة مشروب غازي، وما تحتاجه لإعداد “طاجين” بسيط، وجلب ما تدخنه من نبات القنب الهندي، وهي مرتاحة رفقة معاشرها بلال الذي يتقاسم معها ما يحصل عليه، ويرغب في مساعدتها للعودة إلى بيت أسرتها.

المجتمعات التقليدية تتستر على الظواهر المنبوذة وتتركها تنتعش في الظل، فالكل يعرفها، والجميع يتواطأ ضدها

يطرح الفيلم مشكلة بعض الفتيات اللائي يتحولن مع مرور الوقت، إلى أمهات عازبات أو في وضعيات صعبة، إذ يمقت المجتمع إدماجهن، ويرفض التعاطف معهن والتسامح مع أخطائهن مما يقود بعضهن إلى الارتماء في أحضان الإدمان، والعيش على هامش المجتمع، والاشتغال في ظل ظروف استغلالية حَاطَّة من الكرامة الإنسانية. وهي ظواهر ذات طابع إنساني خالص، إلاّ أن المجتمعات التقليدية المنغلقة على ذاتها تتستر على مثل هذه الظواهر وتتركها تنتعش في الظل، فالكل يعرفها، والجميع يتواطأ ضدّها.

ومن هنا تكون السينما وما شابهها من فنون وإبداعات قادرة على إخراج تلك الأصوات إلى العلن، مع كل ما يتطلبه ذلك من جرأة الطرفين: المخرج والفاعل (المعني بالأمر- الممثل)، وما عليهما إلاّ أن يصمدا في وجه الرافضين لمثل هذه الاعترافات الجسورة، وهذا التعرّي الذي يفضح هشاشة المدافعين عن طهرانية المجتمع، ورهافة الكائن.

تتحوّل الكاميرا في هذا الفيلم إلى مرآة تجلو حقيقة بعض الهوامش: هامش فردي، جماعي، حضري، إنساني، جنسي، نوعي، والغرض من ذلك الكشف عمّا يقع في الأطراف والضواحي، كي يخرج إلى بعض المراكز: عاصمة، مقام، قرار، برلمان، حكومة، سلطة، خاصة وأن بعض جمعيات المجتمع المدني قد دقت ناقوس الخطر منذ مدة، وظلت تحتضن ما استطاعت من الحالات وتساهم في التوعية كي يتحمل الجميع مسؤولياته.

تسافر الشابة بمعية أنيسها، حيث تقطن أسرتها، المطر يبلل الأرض ويغسل القلوب، تعانق حكيمة -اسمها الحقيقي إلى أن يظهر العكس- أفراد عائلتها بشوق عفوي عميق، تحكي حكايتها بتلقائية ساذجة وأمها تراقب أقوالها- اعترافاتها بعينين دامعتين، في حين يترصدها الأخ بمكر، وهي تتحدث عن ابنتها بقلب أمومي مبتهج.

ستحدث مواجهة كلامية بين أفراد العائلة حول أحقية مغادرتها للمنزل وعودتها، وفجأة ينقطع التيار الكهربائي؛ ويا لها من وضعية!

تعود الفتاة إلى مدينة وزان رفقة أليفها الذي قدمته لأسرتها كخطيب لها، ستلتقي رفيقاتها الراقصات في الفرقة الغنائية اللواتي سيلتئم شملهن للحديث بإحدى المقاهي بعد اقتناء أحزمة جديدة للرقص، وهناك ستعترف لهنّ ولنا بأن الإقامة مع الأسرة ستحرمها من تناول الشراب وتدخين النبتة العجيبة، كما تقرّ بعدم قدرتها على الاعتراف لذويها بابنها الأول، الذي تجهل ما فعله به الأب الذي تبخر هو الآخر، وهنا نستحضر حكاية فيلم “الطفل” (2005) للأخوين داردين، حيث يضطرّ الأب لبيع صغيره قصد الحصول على المال؛ ويا لها من قساوة!

تضاعف الهموم

تزداد المأساة حين ترفض المرأة التي ربّت طفلتها تسليمها إياها، وذلك بدعوى أداء ثمن سنوات العناية والتربية. وستتضاعف الهموم حين يختفي خلّها في غياهب السجن بعد أن حرق بعض محتويات إحدى غرف أسرته بما فيها أثاث نديمته، لأنه أحس باستصغار شقيقته له، وهو في حالة سكر، لأنها رفضت أن تقدّم له بعض المال أسوة بإخوته الآخرين؛ ويا لها من أخوة!

من ضمن أعضاء الفرقة الموسيقية سنكتشف الاعترافات الصادمة لراقصة أخرى، وهي تتحدث بنبرة حزينة ورافضة لوضعها وتصب “الويسكي” في كأسها، ستطلعنا الكاميرا التي حققت مع ألفة خاصة ومع أعضاء الفرقة رغم بعض التصنع، على تعدّد أشكال العنف اللفظي والضعف الإنساني، ستُجرح الأنا الفردية المتعالية، ستنحط العواطف وتتخشب الأفئدة.

وستتضاعف المأساة حينما نلاحظ أن نقطة دم البكارة الحمراء المفتضّة ليلة العرس تواري خلفها سوأة مجتمع بدوي نجهل عنه الشيء الكثير، وقد يتطلب منا الأمر سنوات مضاعفة لفك كافة أشكال العزلة عنه: عزلة الجهل، عزلة التوعية، عزلة المرأة، عزلة الطفولة، عزلة الطبيعة، عزلة التاريخ…

ترافق مربية البنت الأم الحقيقية هند أو حكيمة للعودة إلى القرية، حيث سينتقل الأبوان لتسليمهما شهادة الميلاد، وتسلم الأم البيولوجية للأم المربية شهادة التزام واعتراف قصد التكفل بابنتها، ولعل الموقف البريء والصادم هو ذاك الذي ستعبر عنه الصبية الصغيرة، حين تعترف بأمها التي ربتها عوض أمها الحقيقية.

 تنقلات الكاميرا في الفيلم حيوية إلى درجة مفارقة، حيث تطرح سؤال: كيف نبحث عن جمالية الفن أمام مثل هذه القسوة؟

تريد حنان حسب الوثيقة الرسمية التي تسلمها لمالك معصرة الزيتون أن تغير مسارها وتندمج في عمل مختلف عما كانت تقوم به من قبل، وهنا سنكتشف محنة نساء يشتغلن في ظروف قاسية، إذ سيحل فصل الشتاء من سنة 2011، وسنرى بأن البطلة حامل من جديد.

يدخل فصل الربيع من نفس السنة، وتضع الأم ابنة جديدة وستلتحق بأميْن عزباوين، إلاّ أنه مع توالي الحديث ستصرح هند أو حنان بأن جشع أمها وطمعها في الهجرة إلى أسبانيا، كانا من بين أسباب تبدّلات حياتها التراجيدية.

بعد إجراء طقوس التسمية سينتهي الفيلم على وقع انتظار خروج الأب المفترض للبنت سوسن من السجن، وهو المحكوم بعشرين سنة. رغم ذلك، تواجه الأم الحياة بكل شجاعة وأمل وضعف أيضا، إذ سنرى بأنها تسير حاملة رضيعتها ضمن المتظاهرين المطالبين بإنهاء الفساد، وإقرار العدالة والمساواة، والتقليص من الفقر والفوارق الطبقية، والعمل على تنمية المدن المهمشة؛ وهي أمور أظهرها الفيلم الذي غطى فيه الطابع المأساوي عن كل الجماليات المتعلقة بالكتابة والإخراج والتصوير، وكانت فيه تنقلات الكاميرا أكثر حيوية إلى درجة مفارقة: كيف نبحث عن جمالية الفن أمام مثل هذه القسوة؟

نتذكر من خلال بطلة هذا الفيلم عدة مغربيات جسدن أدوارا جريئة لصالح السينما، وبهذا يكون الفن السابع مدينا لجرأتهن. وهنا لا بد من ذكر الشابة رجاء بنسالم التي لعبت بطولة فيلم “رجاء” (2003) للفرنسي جاك دوايون، ونساء فيلم “العيون الجافة” (2003) لنرجس النجار، وصوفيا عصامي التي جسدت بطولة فيلم “على الحافة” (2011) لليلى كيلاني.

وكل هذه البطلات اختلفت آلامهنّ في الحياة وعلى الشاشة، لكن قوتهنّ على قول الحقيقة وتقمصها لا تضاهيها قوة، رغم كل النعوت التي طالتهنّ من قبل دعاة التستر وإن بدرجات مختلفة.

فمهما كان ثمن ظهورهنّ على الشاشة، لن يكون إلاّ بخسا أمام إحراجهنّ الإنساني لنا، وتقديرا لمدى قدرتهنّ على الإفصاح والإحراج، والتذكير بالمأساة الإنسانية المتجددة في مجتمعاتنا.

إماراتية تبتكر نمط عيش جديد للنساء في 'سماء قريبة'

فيلم إماراتي يرصد حياة فاطمة بنت علي الهاملي وهي أول إماراتية تقتحم عالم مزاينة الإبل ميدانيا ويبهر الجمهور العالمي بما حمله من احترافية عالية.

العرب/ أبوظبي - عرض في مهرجان هونغ كونغ السينمائي الدولي في دورته الـ39، الفيلم الوثائقي الطويل “سماء قريبة” للمخرجة الإماراتية نجوم الغانم، والذي فاز العام الماضي بجائزة أفضل فيلم غير روائي في مهرجان دبي السينمائي، حيث كان من المتوقع بالنسبة إلى النقاد والسينمائيين تأهله إلى المحافل العالمية، نظرا للحرفية الشديدة التي طالت عملية إنجازه.

في فليم “سماء قريبة” للإماراتية نجوم الغانم حاولت مخرجته عبر الدراما أن توثق سيرة شخصية إنسانية تمتلك من الخصوصية والتميز ما جعلها بطلة رئيسية فيه. لقد تناولت حياة فاطمة بنت علي الهاملي “أم محمد”، وهي أول إماراتية تحضر بشكل ميداني في مزادات وسباقات مزاينة الإبل، ما جعلها تحظى بصيت ذائع على الصعيد المحلي والإقليمي أي بين دول الخليج العربي، في فترة زمنية وجيزة، وتنال أهمية كبيرة بين المهتمين بالمزاينات والقائمين عليها لدورها وريادتها.

ويعرف عن نجوم الغانم سعيها الــدائم نحو الشخصيات ذات الشخصية الإشكالية، أو بمعنى آخر تلك التي تعيش حالة من الصراع الذاتي أو الاجتماعي، من موقعـها الذي يؤهلــها لتكون شخصية فاعلة ومتميزة بين شريحة واسعة من الأفــراد، وكل هذا ينطبق فعـــلا على الشخصية البطلة في الفيلم.

ركزت الغانم على الصعوبات التي واجهت فاطمة بنت علي الهاملي في بداية طريقها نحو هذه الهواية -إن استطعنا تسميتها هكذا- على المستوى القبلي. لكنها لم تتراجع عن قرارها أبدا ورفضت التخلي عن حلمها وتقديم أية تنازلات في مجتمع لا يعترف إلاّ بقوة وتحكم الرجال.

وبالتالي ومن خلال إصرارها على المضي قدما في أن تكون أول إماراتية تقتحم عالم مزاينة الإبل عن كثب وبقوة.

ولعل هذا يفسر عنوان الفيلم الذي يدل على إمكانية تحقيق الحلم مهما كان بعيدا وصعب المنال.

استوطنت مشاهد “سماء قريبة” في الصحراء الإماراتية، فبرز سحرها الخاص ضمن مجموعة من العناصر الرئيسية في هذه البيئة، والتي تخدم فكرة الفيلم المهتم برصد تفاصيل حياة امرأة “أم محمد” لديها شغف عال بالإبل ذات المواصفات الجميلة على وجه الخصوص، وكأنها تبتكر وسيلة جديدة للنمط المعيشي للنساء في مجتمعاتنا العربية، تختلف عن تلك التي طالما اعتدناها بشكل يومي.

كما أسفرت المشاهد عن لقطات جميلة مذهلة وباهرة، ساعدت على تفعيلها بشكلها الذي وصلت إلينا فيه؛ المواقع والمناظر الطبيعية المختارة أثناء التصوير، من جهة، وتقنية الصورة العالية إلى جانب الاختيار الصحيح للكوادر من جهة أخرى.

وللقطات الفيلم قدرة واضحة على أن تكون كل واحدة منها لوحة تشكيلية أو صورة فوتوغرافية فنية في حدّ ذاتها. الأمر الذي قدم لنا العمل ضمن صيغة تقنية احترافية وجمالية أيضا في الوقت نفسه.

وإن إطلالة “سماء قريبة” على الجمهور العالمي بما يحمله من تفاصيل تبرز التراث الإماراتي وترسم ملامح هوية دولة الإمارات بعادات شعبها وتقاليدهم ولباسهم. هو أمر هام فعلا ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار، حيث أنه يؤكد حالة التنامي الحاصلة التي تشهدها صناعة السينما الإماراتية.

العرب اللندنية في

17.04.2015

 
 

ثلاثية الأب الروحي .. سيرة ذاتية لزعيم مافيا

محمد ماهر بسيوني

نحن أمام ملحمة سينمائية في ثلاثة فصول تضاهي تراجيديات شكسبير الكبرى. وإذا كانت شخصية "فيتو كورليوني" التي أداها العظيم "مارلون براندو" قد جذبت الاهتمام في جزئها الأول، واشتعلت كشمس حجب ضياؤها نجومية باقي الأبطال، الذين بدوا بجواره نجوما باهتة؛ فإن شمس "آل باتشينو" كانت تتوهج منتظرة لحظة انطفاء شمس "مارلون براندو"؛ لتملأ الفصلين التاليين حرارة ولهيبا.

على الرغم من أن الفيلم لم يكن مخططا له أن يكون مكونا من أجزاء؛ فإن النجاح  الساحق لجزئه الأول، إذ كان أول فيلم أمريكي تتخطى إيراداته حاجز الـ 100 مليون دولار، الذي جعل من إنتاج أجزاء أخرى له ليس فقط إمكانية، بل ضرورة ملحة تضغط الشركة المنتجة به على مخرجه وكاتب الرواية التي أخذت عنه الثلاثية، وشاركه المخرج في كتابه السيناريو الخاص به.

واجه الفيلم مشكلات ضخمة لم تكن لتسمح له بالخروج لعالم السينما، فالشركة المنتجة لم تكن متحمسة لإنتاجه؛ فقد كانت لديها اعتراضات على مخرجه الشاب وقتها "فرانسيس فورد كوبولا"، وكانت تميل لمخرج مخضرم "إيليا كازان" الذي كان يجيد التعامل مع بطله "مارلون براندو" الذي كان في طور أفول فني نتيجة تحاشي الشركات المنتجة للعمل معه؛ نظرا لما يثيره من مشاكل في مواقع التصوير، كما أن "آل باتشينو" لم يكن اختيارا مناسبا من وجهة نظر شركة الإنتاج، فلم تكن قدراته كممثل قد ظهرت بعد، كما أنه فشل – وياللعجب – في اختبار الممثل لدور "مايكل كورليوني" الابن الأصغر لزعيم المافيا "فيتو كوليوني".

حكاية تحول

يمكن اعتبار الثلاثية حكاية لكيف تحول مايكل كورليوني الشاب الوديع الجامعي، المتطوع لخدمة بلاده في الحرب العالمية الثانية والحاصل على وسام التضحية العسكرية لآلة قتل قاسية لا ترحم، وكيف استطاع وهو القادم من خارج المشهد أن يصير محرك الأحداث في عالم الجريمة المنظمة ويتسع باستثمارات عائلته من حدود أمريكا على اتساعها لدول أخرى والعالم أجمع.

فكبطل تراجيدي يتم دفعه إلى مصير لا يتمناه ولا يريده، يتم دفع "مايكل كورليوني" إلى عالم الجريمة، فكما لم يختر أوديب – مثلا - أن يقتل أباه ويتزوج أمه، كذلك لم يختر مايكل كورليوني (قام بدوره: آل باتشينو) أن يصبح أكبر زعماء عائلات المافيا في عصره، وتبدو محاولاته للهرب من مصيره عبثية وغير جدية، بعد أن تشوهت روحه وفقدت براءة البدايات.

يحكي الجزء الأول سيرة مايكل كورليوني الشاب، والجزء الثاني سيرته رجلا، والجزء الثالث سيرته شيخا هرما فقد كل شيء: سطوته وقوته وحتى عائلته؛ بحيث يمكن النظر إلى الثلاثية في مجملها باعتبارها سيرة ذاتية له باعتباره زعيم عائلة مافيا، وهذه السيرة الشخصية تتضمن - إلى جانب التطور على المستوى الشخصي لمايكل كورليوني - تطور مدى قوة وتأثير عصابات المافيا في السيطرة على أمريكا واتساع نطاق تأثيرها باضطراد حتى تشمل العالم كله، بل وتدخل في شراكة مع الكنيسة الكاثوليكية في روما في الجزء الثالث!

برع السيناريو في إيجاد الدوافع المنطقية لتحول كورليوني ودخوله لعالم الجريمة المنظمة، فمحاولة اغتيال أبيه الفاشلة أثرت على صحته، واغتيال أخيه الأكبر المرشح لوراثة زعامة العائلة وعدم صلاحية الأخ الأوسط للزعامة قد جعلت رئاسته للعائلة حتما مقضيا، خاصة بعد أن تورط في عملية اغتيال بنفسه لشرطي فاسد، وزعيم آخر من زعماء المافيا حامت حوله الشبهات في اغتيال والده، بعد رفض الأب لعرضه بالإتجار في المخدرات التي اعتبرها "كورليوني الأب" تجارة غير أخلاقية لا ينبغي التورط فيها!

هذا التخطي للأخوة الأكبر – إلى جانب تأثيره النفسي على الأخ الأوسط؛ مما يدفعه للتحالف مع أعداء العائلة في الجزء الثاني؛ الأمر الذي لا يغفره له مايكل، ويحكم على أخيه بالقتل، مؤخرا التنفيذ لما بعد وفاة والدتهما- يتلاقى مع ما هو قار في الميثولوجيا التوراتية أحد مكونات الثقافة الغربية الحديثة؛ فنحن نجد في التوراة هذا التخطي دائم الحدوث؛ فقابيل يتم تخطيه لصالح هابيل، وإسماعيل لصالح إسحق؛ وعيسو لصالح يعقوب، وهارون لصالح موسى، بل وعلى المستوى الرمزي نجده في تخطي الإله التوراتي إبليس – الابن البكر رمزيا - لصالح آدم: الابن الأصغر رمزيا للإله! كما يتلاقى مع مثيله في تاريخ منطقتنا العربية في نظم الحكم الاستبداية الجمهورية، التي تورث للأبناء؛ فبشار الابن الأصغر لحافظ الأسد تم الإتيان به من خارج المشهد السياسي السوري ليتولى الحكم باعتباره من عائلة – نفس الاسم الذي يطلق على عصابات المافيا – الأسد، بعد مصرع أخيه باسل، الابن البكر الذي كان يتم إعداده لتولي الحكم باعتبار الحكم ميراثا عائليا!

ولكننا نجد ميزة أخلاقية لعائلات المافيا لا نجدها في تلك النظم الجمهورية العائلية؛ فبينما لا نجد في تلك النظم من تقاعد من حكامها وتنازل عن الحكم لوريثه في حياته؛ نجد ذلك قد حدث من "فيتو كورليوني" لـ "مايكل كورليوني" في حياته، كما تكرر ذلك من "مايكل" لـ ابن أخيه الأكبر غير الشرعي "فينسينت".

كما برع المخرج في العديد من المشاهد في إيجاد المعادل الموضوعي للتحولات الطارئة على شخصية "مايكل كورليوني"؛ فلحظة دخوله عالم الجريمة كانت مصاحبة للكمة تلقاها من شرطي فاسد أصابت وجهه بالتورم والتشوه؛ كأنها معادل موضوعي لما أصاب شخصيته من تشوه عالم الجريمة، ونجد مشهد التعميد لحفيد "فيتو كورليوني" متزامنا مع مشاهد الاغتيالات التي يجريها "مايكل" لزعماء العائلات المنافسة، كأن تعميده أبا روحيا يتم بدم ضحاياه!

الجزء الأول

يمكننا اعتبار الجزء الأول إذن رحلة صعود – أو سقوط – "مايكل كورليوني"؛ حتى يجلس على كرسي الأب الروحي مثبتا بجرائمة جدارته بهذا المقعد، كما يمكن اعتبار الجزء الثاتي بحثا في جذور العائلة، وقصة صعود "فيتو كورليوني" – قام بدوره شابا في هذا الجزء الممثل "روبرت دي نيرو" - حتى تحول من طفل يتيم مات والده نتيجة تحديه لزعيم المافيا في بلدة كورليوني الصقلية، ومات أخوه الأكبر وهو يحاول الثأر للأب، وماتت أمه وهي تحاول حمايته من بطش زعيم المافيا، وهاجر إلى أمريكا وحيدا؛ إلى زعيم مافيا واسع النفوذ، ولكن هذا ليس السبب الوحيد، بل هو محاولة ترينا الفرق في الأساليب ما بين الأب والإبن؛ فالأب لا يلجأ للعنف إلا في أضيق الحدود ولأسباب يمكن التعاطف معها رغم عدم قانونيتها – كقتله زعيم المافيا الذي قتل عائلته – بينما يبدو القتل هو أول الحلول وأيسرها عند الابن، بحيث لا يمكن التعاطف معه.

الجزء الثاني

الجزء الثاني من الثلاثية يبدو لنا كمرايا متجاورة لحياة كل من كورليوني الأب والابن؛ إن احتفاظ الأب بقدر من الأخلاقية في قصة صعوده، ضمنت له بقائه أبا محبوبا لعائلته، حتى ولو قُتل ابنه الأكبر؛ فإن له حفدة يقضي معهم شيخوخة هادئة وموتا في سلام، أما "كورليوني الابن" فلا يهتم في قصة صعوده بالحفاظ على زوجته ولا رابط الدم بينه وبين أخيه، وهو وإن بدا قويا في نهاية الجزء الثاني، وقد حرم زوجته من أبنائهما أو وهو يعطي الأوامر بقتل أخيه؛ إلا أن الجزء الثالث يرسمه لنا شيخا مريضا مهدما يملؤ قلبه الشعور بالإثم ويفتك به الألم، ويبحث عن التكفير والغفران وإضفاء شرعية على ثروة آل كورليوني؛ تلك الأمنية التي وعد زوجته بتحقيقها في خلال خمس سنوات من تزعمه العائلة، ولم تتحقق قط.

الجزء الثالث

في الجزء الثالث تبدو حرفية السيناريو إذا تذكرنا أن الثلاثية لم يكن مخططا لها أن تكون سوى الجزء الأول فقط؛ فقد أخذ السيناريو تفصيلة بسيطة جدا من الجزء الأول وهي علاقة غير شرعية بين الأخ الأكبر لمايكل وبين فتاة عابرة؛ أخذ السيناريو هذه التفصيلة وجعل منها خيطا دراميا فائق العذوبة؛ فقد تخيل أن تلك العلاقة نتج عنها طفل غير شرعي، وأبت المقادير إلا أن يكون هذا الطفل هو الوارث لزعامة العائلة بعد أن صار شابا يافعا وحاز على ثقة عمه مايكل بعد أن أنقذ حياته من محاولة اغتيال؛ فقد اختار ابن مايكل حياة الفن ونجح فيما فشل فيه مايكل في شبابه، وهو الابتعاد عن عالم الجريمة وعدم التورط في صراعات المافيا.

ولا يمكن ألا نكون قد أدركنا المفارقة؛ فالعائلة التي بحثت طوال عمرها عن العمل بأساليب شرعية يرثها في النهاية ابن غير شرعي!

لقد صار "مايكل كورليوني" عالما بفداحة الثمن الذي دفعه في بحثه الوحشي عن السطوة والنفوذ بالقتل والتعذيب وشراء ذمم البوليس والقضاء ورجال الكونجرس، لذا فقد تنازل عن زعامة العائلة لابن أخيه وحاول أن يجمع شمل أسرته مرة أخرى، ولكن رصاصة قتلت ابنته الوحيدة قضت على حلمه بشيخوخة هادئة يلعب فيها مع أحفاده ليموت بينهم كما مات والده؛ فمات محطما نفسيا دون أن يكون قربه سوى جرو صغير.

ثلاثة أوجه لعملة واحدة

"فيتو" (مارلون براندو) .. "مايكل" (آل باتشينو) .. "فينسينت" (آندي جارسيا)؛ ثلاثة أجيال تزعمت عائلة "كورليوني" وجلست على كرسي "الأب الروحي"، ولم تكن قد اختارت هذا المصير أو سعت إليه.

يبدو هذا المصير مفاجئا وغير متوقع، ودخيلا على اختياراتهم الحياتية الأصلية وبراءة البدايات (في حالة: "فيتو"، و"مايكل") أو تلوثها (فنسنت، كونه طفلا غير شرعي لبكر "فيتو" والأخ الأكبر لـ "مايكل").

في تتبع المسارات الحياتية للأبطال الثلاثة؛ سنجد بدايات لا تبشر أو حتى تنذر بالخواتيم:

"فيتو" الطفل الهارب من بلدته الصقلية "كورليوني" إلى العالم الجديد (أمريكا) في مطلع القرن العشرين بعد مصرع عائلته على يد زعيم مافيا محلية، يصير هو نفسه زعيم عائلة من عائلات المافيا في العالم الجديد.

"مايكل" أول شاب في عائلته يحصل على الشهادة الجامعية، والبطل الوطني الحاصل على وسام لشجاعته في الدفاع عن وطنه أمريكا في الحرب العالمية الثانية، والحريص على عدم التورط في نشاطات عائلته المشبوهة؛ يصير هو دون إخوته الأكبر منه وريث والده على كرسي الأب الروحي.

"فنسنت" الابن غير الشرعي لـ "سوني" ابن "فيتو" البكر، وشقيق "مايكل" الأكبر، يصير هو وريث "مايكل كوليوني" والأب الروحي للعائلة.

تبدو مسارات الثلاثة متطابقة أيما تطابق، تحكي في جوهرها آلية واحدة لسلطة تقوم ببسط سلطانها بالقوة وتوسع رقعتها بالدماء.

كانت إراقة الدماء لكل منهم نقطة تحول في مسيرتهم في عالم الجريمة المنظمة، كانت تعميدا بالدم تجعل من استحقاقهم للقب "الأب الروحي" أمرا مفروغا منه.

وبينما تختلف دوافع كل منهم لإراقة الدماء؛ فإن النتيجة واحدة، وما يذيقونه للآخرين يذوقون هم أيضا مرارته.

يمتلك "فيتو" مفهومه الخاص عن العدالة، ولذا لا يعتبر نفسه خارجا على القانون، بل يعتبر نفسه منفذا للعدالة كما يراها، ولذا حين يقتل زعيم مافيا منطقته وهو شاب، أو يعود للثأر ممن قتل عائلته في مسقط رأـسه؛ فإننا نتعاطف معه ولا نجد في تصرفه ما يشين؛ لأنه يتبع ذلك القانون الطبيعي الذي مرت عليه البشرية يوما، وهو وإن كان يهدد بالقتل وهو ما سماه: "العرض الذي لا يمكن رفضه"؛ فإنه لا يلجأ للقتل إذا كانت هناك سُبُل أخرى؛ فهو يرفض طلب "بوناسيرا" الحانوتي أن يقتل شابين عذبا ابنته وكانا يريدان اغتصابها، ورأى أن قتلهما ليس عدالة؛ لأن ابنة "بوناسيرا" لم تمت.

وعلى الرغم من أن "فيتو" ابنه البكر، تعرض لاغتيال في حرب العصابات التقليدية، ولكنه يحظى بتقاعد مريح وشيخوخة هادئة، ويموت وهو يلعب مع حفيده. ولم يمر بمرحلة الندم والشعور بالذنب التي مر بها "مايكل" في شيخوخته، بعد أن تسممت حياته بالكامل؛ لقد ورث كرسيا مخضبا بالخطايا، تعمد بالدم، وارتكب خطيئة قتل الأخ، ولعل محاولته شراكة الفاتيكان هي محاولة أخيرة للتطهر، واعترافه للبابا بذنوبه هي محاولة أخيرة لطلب الغفران، لكن ميراث الدم لا يمكن أن تبدده صلاة استغفار واحدة.

لقد اتخذ "مايكل" قراره بالصعود للقمة بكل الوسائل دون أن يعبأ بتأثير ذلك على حياته وعلى عائلته؛ فتوالى عليه الفقد؛ ففقد زوجته الأولى التي أحبها من أول نظرة، في تفجير استهدفه هو وكانت هي ضحيته، ثم فقد زوجته الثانية التي أفقدته ابنا ثالثا حين أسقطت جنينها بعد أن قررت فراقه؛ لأنه لم يعد الشاب البريء الذي أحبته يوما، وفي النهاية فقد ابنته التي قتلت في محاولة اغتيال كانت تستهدفه هو، وذلك بعد أن تصور أنه من الممكن أن يدير عنه هذا الكأس الدموي بأن يتنازل عن كرسي الأب الروحي لابن أخيه غير الشرعي "فينسنت"، الذي بدا مستعدا لدفع ثمن ذلك الجشع للقوة والنفوذ بأن يتنازل عن حبه لابنة عمه "مايكل"، وذلك رغم تحذير عمه له، من أنه متى دخل اللعبة فإنه لن يستطيع الخروج منها.

وتبدو المفارقة الختامية لتلك الملحمة السينمائية، أن الحفاظ على العائلة ومصالحها بالعنف والقوة؛ قد أدى بدلا من ذلك إلى تدميرها، وهو مسار لا يبرأ منه "فيتو"؛ فهو واضع مسار الالتجاء للعنف كخيار أخير، فجاء من بعده من جعله الخيار الأول.

لقد قال مخرج الثلاثية "فرانسيس فورد كوبولا" متحدثا عنها قائلا: لقد اجتمع لي في هذه الثلاثية أفضل فريق عمل يمكن أن يحصل عليه مخرج، وحين سُئل: وماذا فعلت أنت إذن؟ قال فخورا بنفسه: أنا الذي اخترتهم.

وقد صدق فيما قال، وحُقَّ له أن يفخر بنفسه.

عين على السينما في

17.04.2015

 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2014)