كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

رؤى نقدية

 
 
 
 
 

أفلام الحرب .. شهادات وعناوين لتاريخ لم ينتهٍ

نديم جرجوره

 

لم تُكتب الحكايات كلّها المتعلّقة بالحرب الأهلية اللبنانية. 40 عاماً ليس رقماً بل حياة ممزّقة بين أنماط شتّى من الألم والبؤس والشقاء. أساساً، لم ينجل الغبار كي يُنظر إلى الواقع بهدوء وتأمّل. الواقع اللبناني قاسٍ: هذه حرب لم تنتهِ بعد. هذه مسلمة واضحة المعالم، تُعاش يومياً وبفظاعات كثيرة. لذا، لم تُكتب حكايات الحرب بعد، ومنها حكاية الأفلام اللبنانية المصنوعة عن الحرب وفيها. انعدام الكتابة ـ وهو ليس مطلقاً أبداً ـ جزءٌ من تاريخ السينما في لبنان أصلاً. جزءٌ من مساراتها المتناقضة والمرتبكة. أفلام الحرب الأهلية جزءٌ من تلك الحرب، وغياب نصّها المكتوب ـ باستثناء كتابات جدّية قليلة للغاية ـ جزءٌ من غياب النصّ التاريخي للبلد وحكاياته.

خلفيات
هل يُمكن للكتابة عن أفلام الحرب أن تبدأ من عشية اندلاعها؟ ألم يُقدّم سينمائيون لبنانيون عديدون أفلاماً متنوّعة، إلى بعض الريبورتاجات التلفزيونية، تتناول «فظائع» الحياة اليومية قبل جريمة بوسطة عين الرمانة، ومنها «فظائع» مؤدية إلى الحرب؟ من هناك تبدأ إحدى حكايات «السينما الحربية» إن جاز التعبير. من هناك؟ أي من تلك اللحظة الشاهدة على حراك مارون بغدادي وبرهان علوية وجان شمعون وكريستيان غازي وغيرهم. حراك متمثّل بالبحث عميقاً في بنية المجتمع اللبناني، عبر ناسه ومشاكلهم ويومياتهم، تلك المشاكل واليوميات المؤدية، إلى جانب أسباب أخرى أيضاً، إلى اندلاع الحرب في 13 نيسان 1975. كاميرا تلفزيونية، وريبورتاجات، ولقاءات مباشرة وحيّة مع أناس يعانون أنواعاً عديدة من المآزق الاجتماعية والسياسية والثقافية، تكشف هول المأساة المندلعة حروباً لا تتوقّف.

السينما مرافِقَة ومراقِبَة. قبل بداية الحرب الأهلية، كانت فلسطين طاغية على صناعة مرتبكة. عشية اندلاعها، كان البلد يهوي، فكانت أفلام وأعمال مرايا تعكس بعض ما يجري. مع اندلاعها، تُفرز السينما المرتبكة أفلاماً تقول فصولاً من الانهيار الفظيع في الدم والموت والخراب. يُقال إن «بيروت يا بيروت» (1975) لبغدادي أحد آخر الأفلام الملتقطة بيروت قبل دمارها. يُقال إن «بيروت اللقاء» (1981) لعلوية و «حروب صغيرة» (1982) لبغدادي أيضاً توغّلا في متاهة الحرب وخيباتها وانكساراتها، أو بالأحرى في خيبات السينمائيين نفسيهما ومجايليهما من مخرجين ونقاد وعاملين في الثقافة والفنون وغيرها. اللائحة تطول. لكن أفلاماً كهذه لا تخرج من كونها «شهادة» تقول بعض الواقعيّ. شهادة يعلو المضمون فيها على الشكل، خصوصاً أن الهمّ الأول لجيل السبعينيات، أو ما يُعرف بمخرجي «السينما البديلة» (المنتفضة على التجاريّ ـ الاستهلاكيّ المنبثق من هيمنة الرأسمال والعقل السينمائي المصريين، وعلى نمط إيديولوجي في مقاربة المسألة الفلسطينية)، كامنٌ في القضايا الأساسية، وإن حيكت قصصها عبر نماذج فردية بحتة. يُضاف إلى هؤلاء انغماس مخرجين وثائقيين بالهموم اليومية اللبنانية ـ الفلسطينية، أمثال جوسلين صعب ورندة الشهّال وجان شمعون متعاوناً مع زوجته المخرجة الفلسطينية مي المصريّ.

قبل «العودة» ثانيةً إلى بلاد الاغتراب منتصف ثمانينيات القرن المنصرم (من بين هؤلاء السينمائيين من بقي في بيروت طوال الأعوام الدموية للحرب)، بدا واضحاً أن هذا الجيل منكبٌّ على تفكيك حالة عامة لحظة حدوثها. هذا يدفع إلى استعادة مقولة معروفة ومتداولة: لا يُمكن إنجاز أفلام سينمائية مستوفية شروطها الجمالية المطلوبة شكلاً ومضموناً، طالما أنها تتناول الحرب الأهلية اللبنانية أثناء اندلاعها. إنجازٌ كهذا محتاج إلى مسافة زمنية تؤمّن للسينمائي قدرةً على التأمل الهادئ بما جرى، وبنتائجه. غير أن ما حصل هنا مختلفٌ تماماً: لم تنتهِ الحرب أصلاً في الذكرى الـ 40 لاندلاعها، ولم يكن ممكناً عدم إنجاز أفلام تكشف شيئاً منها، وتقول بعض حكاياتها، وتتوغّل في أسئلتها المختلفة. أميل إلى قناعة مفادها أن سينمائيي «السينما البديلة» أرادوا، قبل مغادرتهم بيروت، أن يُكملوا التزاماتهم الفكرية والثقافية والإنسانية المكتسبة من وعي معرفي خاص بهم (غالبيتهم الساحقة مائلةٌ إلى اليسار بأنواعه، من دون انتساب مباشر في أحزاب معروفة)، وأن يُترجموا بعض رؤيتهم هذه إزاء حالة غير واضحة المعالم، خصوصاً بعد انحراف الحرب ـ إثر «حرب السنتين» ـ عن خطوطها النضالية الأولى، في المعسكرين الأساسيين المتحاربين أحدهما ضد الآخر.

هواجس
لم يستطع هؤلاء أن يقفوا على الحياد، هم الذين يأتون إلى السينما من خلفيات فكرية وإيديولوجية وثقافية تُحتّم عليهم الانخراط في «صفوف الجماهير»، وفي مواجهة اليمين وارتباطاته «المشبوهة». أفلامهم الروائية الطويلة انعكاس لهواجس ألفوها وأرادوها. الصراع الطبقي حاصلٌ في «حروب صغيرة»، لكنه ليس النواة الوحيدة. تجاوز الطائفية والأديان حاضرٌ في «بيروت اللقاء»، لكنه ليس النواة الوحيدة. أفلام وثائقية عديدة مُنجزة في تلك الفترة غاصت في تشعّبات المسائل الاجتماعية ـ الثقافية ـ الحياتية، لكن الحرب ظلّت الواجهة والخلفية. أما السؤال النقدي فيظلّ أخفّ حضوراً: هذه أفلام مرتبكة سينمائياً، ومناضلة درامياً.

«العودة إلى بلاد الاغتراب» لم تُبعد كثيرين من هؤلاء عن الحرب المندلعة في بلدهم. الذهاب إلى مواضيع أوروبية مثلاً يمتلك خصوصية التسلّل إلى السؤال اللبناني. الذين بقوا توزّعت عناوين نتاجاتهم بين أنماط عديدة، معظمها منفضّ عن كل كلام على الحرب وتأثيراتها وأحوالها وحالات الناس المقيمين في جحيمها. هذا موضوع آخر. يعمّ التجاري ـ الاستهلاكي في ذروة الاحتدام العنفيّ، لأنه المنقذ ـ وإن الموقّت ـ من بلاغة الدم في تحطيم بلد وناسه. الأفلام الملتزمة جوانب أساسية من واقع الخراب لا تجذب من يعيش الخراب، ولا من لم يعشه. هذا الأخير رافضٌ لكل ما يُذكّره بالحرب، متناسياً أنه لا يزال لغاية اليوم يعيشها. هذه حالة موجودة أثناء الحرب، ولا تزال موجودة حالياً: لبنانيون كثيرون يتوافدون جماعات جماعات إلى صالات تعرض أفلاماً لبنانية توصف بالكوميدية، لأنها لا تقول شيئاً عن الحرب وعوالمها.

يستحيل اختصار حكاية «سينما الحرب اللبنانية» بمقالة كهذه. ما جرى بعد النهاية المزعومة للحرب في 13 تشرين الأول 1990 على مستوى تحقيق الأفلام المتعلّقة بالحرب محتاج إلى أكثر من قراءة وتعمّق. الأعوام القليلة الفائتة أفضل نموذج عن أفضل ما أُنجز في هذا المجال. الـ «قطيعة» الشبابية مع الحرب لم تحل دون قيام آخرين، من جيل ما بعد الحرب، بتحقيق أفلام منخرطة في البحث في أسئلة الذاكرة والتهجير والصراعات الطائفية والخطف والفقدان إلخ. 15 عاماً (1975 ـ 1990) غنية بعناوين كثيرة لا تزال معلّقة سينمائياً. 25 عاماً (1990 ـ 2015) يزداد فيها غنى العناوين المعلّقة. مراحل عديدة شاهدةٌ على ذهاب سينمائيين لبنانيين إلى الحرب. تماماً كما حصل أثناء اندلاعها. لم يشأ مخرجو أكثر من جيل في مرحلة السلم المنقوص والهشّ أن ينطلقوا في اشتغالاتهم السينمائية من دون أن يصنعوا سينمائياً شيئاً من حساسيتهم وتفكيرهم إزاءها. من سمير حبشي («الإعصار»، 1992) إلى رين متري («لي قبور في هذه الأرض»، 2014)، تنويعات بصرية مختلفة تُساق في الإطار نفسه: الذاكرة؟ لكن أيضاً التأثيرات النفسية والفكرية والثقافية لها على الناس والمجتمع والبيئات المتناحرة فيه. الذاكرة؟ لكن أيضاً المواضيع كلّها الملتبسة والغامضة المعالم والملامح.

هذه ملاحظات عامة نابعة من رغبة في التوقّف قليلاً أمام الحرب في الذكرى الـ 40 لاندلاعها. ملاحظات تحاول أن ترسم شيئاً مما حدث بتبسيط لا يُلغي العمق الثقافي ـ الفني لنتاجات عديدة جاهرت بعدائها للتغييب المعتَمَد في مقاربة التاريخ اللبناني القريب. هذه ملامح لا تُلغي غير المذكور، ولا تشي بشمولية الاستعادة. كأنها مجرّد مقدمة لأبحاث يُفترض بها أن تؤسّس لتوثيق ذاكرة ما جرى ويجري، وذاكرة السينما اللبنانية أيضاً.

السفير اللبنانية في

14.04.2015

 
 

ريمون جبارة .. المتمرّد يصعد إلى السماء

صانع الأحلام

نديم جرجوره

إنها لحظة مدوّية بجحيم حكاياتها المعلّقة.

أهي صدفة أم قدر أم مسألة عادية للغاية، أن يرحل ريمون جبارة في اليوم التالي للذكرى الـ40 لاندلاع الحرب الأهلية اللبنانية؟ ليس مهماً التوقيت. هناك ما يحصل في راهن ما من دون أسباب أو نتائج. الغياب قاسٍ دائماً. ذكرى الـ «مَقَاتل» اللبنانية كلّها أيضاً. يغيب ريمون جبارة في لحظة اندهاش لبناني بأن ذكرى الحرب الأهلية لا تزال حاضرة، وبأن الذاكرة أقوى من أن يُغلّفها جحود التاريخ، أو النسيان.

لم أكن يوماً من روّاد مسرح ريمون جبارة. يحدث هذا في زمن سابق لعمــري. لكن الحياة تمنح لحظات جميلة أحياناً، وسط انهيار كل شيء. القراءة «عن» لا تنــفع كثيراً، مع أنها تمنح إذناً متواضعاً لتعارف مقبل، أو غير مقبل ربما. مع ريمون جبارة، يحدث الـ «مقبل» مراراً، ولعلّ أبرز اللحظات كامنةٌ في لقاء أول في «معهد الفنون الجميلة» في «الجامعة اللبنانية» (الفرع الثاني) بدءاً من العام 1984.

كما في لقاءات لاحقة على امتداد أعوام الحرب الأهلية، وما تلاها من سلم هشّ وناقص. مشاهدتان لمسرحيتين ليستا كافيتين، لكن لقاءات دائمة تُصبح نوعاً من تعويض، أو شيئاً من محاولة إلقاء نظرة عبر عينَي صاحب الاشتغالات. مسرحيتان؟ يتوارى تاريخ تقديمهما، لكن ذكرى المُشاهدة ومتعتها لا تتواريان. «صانع الأحلام» في نهاية الثمانينيات ربما. «شربل»، إعادة تقديم لعمل أقدم زمناً. كيف يُعقل أن يكون لـ «شربل» مكان في لائحة أعمال مخرج تتناقض أفكاره وأحكاماً جاهزة؟ لم تكن مسرحية «شربل» هكذا. الإيمان والتوبة والسعي الدائم إلى الغفران والمسامحة، دونها كلّها صعوبات العيش على الحوافي القاتلة للحياة. هذا دربٌ لمسرحيّ يُتقن تحويل المقدّس في الحياة إلى تطهّر أوليّ على الخشبة، والخشبة أشبه بتماهٍ إبداعي مع خلاص إلهيّ في قيامة ابن الربّ من على الخشبة أيضاً، إلى ما هو أبعد من الحياة نفسها. حسبي أن حياة ريمون جبارة كانت نوعاً يومياً من قيامة دائمة، على الرغم من الجحيم الأرضيّ كلّه.

أعوام طويلة في مسرح ما قبل الحرب الأهلية اللبنانية، وهذا يحتاج إلى إعادة نظر نقدية في أحوال المسرح والمجتمع والثقافة والحراك، في ستينيات منصرمة، واللاحق بها لغاية منتصف السبعينيات تحديداً. يستمرّ ريمون جبارة في العمل. الحرب لم تمنعه من قول ما يريد. هكذا يُعرَّف المسرحيّ، المؤلِّف والممثل والمخرج. تحويل روائع النصوص الأجنبية إلى متاهات الحالة اللبنانية «موهبة» مفعمة بعبقرية الانسلاخ من الآنيّ لمراقبته وتفكيكه. لكن الإسراف في الانشقاقات اللبنانية الداخلية، المتحرّرة من كلّ همّ ثقافي ـ فني بالمعنى الإبداعي، يضع كل شيء أمام عين ناقدة، لن تعثر لنفسها على مكان هنا الآن، في لحظة وداع يتمنّاها البعض، دائماً، مؤجّلة أو مغيّبة أو مفقودة.

«دولسينيا يا دولسينيا».

هكذا يهبط الصوت بعيداً في المنافي. ريمون جبارة يمرّ ذات أعوام في إدارة تابعة لسلطة. «تلفزيون لبنان» يحتاج مراراً إلى عيون أخرى، وحساسيات لا علاقة مهنية مباشرة لها بالشاشة الصغيرة. يحاول المسرحيّ أن يصنع من هذه اللغة مدخلاً إلى ابتكار شيء مختلف. هذا يحتاج إلى مراجعة نقدية. المسرحيّ يغادر الحياة. لم يعد للرثاء معنى. الموت هنا، أو هو مقبل لاحقاً. التاريخ جزءٌ من استعادة رحلات أناس يمارسون قناعات، أو يبوحون بانفعالات، أو يُقدّمون شيئاً من رؤية مستقبلية لحيوات لا تأتي.

«صانع الأحلام» ريمون جبارة؟ ربما. لكن أحلامه المنثورة على الطاولة، في لقاءات متواضعة وجميلة وهادئة، أجمل من أن تتحوّل إلى قصص يقرأها كثيرون. أجمل من أن تكون رثاءً لمسرحيّ يُتقن فن الحــياة، على الرغـم من فداحة التحدّيات وقسوتها.

ريمون جبارة .. المتمرّد يصعد إلى السماء

نيسان أقسى الشهور

اسكندر حبش

«نيسان أقسى الشهور».. لا أعرف إن كان مطلع قصيدة إليوت الشهيرة «الأرض اليباب» تصح لوصف هذين اليومين الماضيين المليئين بغيابات كبيرة.. هكذا يأتينا ـ مساء أمس ـ نبأ رحيل ريمون جبارة، المسرحي والفنان الذي نهض مع أتراب له منذ ستينيات القرن الماضي بالمسرح اللبناني ـ (بدأ كممثل مع منير أبو دبس في «أنتيغونا») ـ إلى آفاق جديدة، لتجعل منه رائدا يشار إليه في هذا المجال.

«نيسان أقسى الشهور»، وهو المولود في الأول من نيسان (العام 1935). في أحد الأفلام الوثائقية القصيرة التي صورت معه، وعنه، قال يومها ما معناه إن حياته ابتدأت بكذبة، فكيف يصدق نفسه؟ لكن العارفين بمجال المسرح لا يعتبرون أن ما قدمه كان «كذبة» بل عرف كيف يخط طريقا خاصا منذ مسرحيته الموسومة «لتمت دسدمونة» ليبدو رائد مسرح العبث المليء بقسوة خاصة كانت من نتاجه الخالص، بمعنى أنه وعلى الرغم من عمله مع آخرين وترجمته لبعض الأعمال المسرحية الغربية، إلا أنه وجد طريقا حاول أن يبقيه متفردا.

صحيح أنه انزاح قليلا عن هذه الفرادة حين سقط في بعض مسرحياته في الفخ السياسي اللبناني الصرف، ما أبعده عن مشروعه المسرحي الفعلي، إلا أنه عرف كيف يستعيد «توازنه» في أعمال لاحقة، ليخرج من الهمّ اليومي البحت، إلى آفاق إنسانية أرحب. أقول ذلك مشـــيرا إلى مسرحيتين قدمهما في مراحله الأخيرة، وهما «صانع الأحلام» و «من قطف زهرة الخريــــف». إن كــان في الأولى يقتبس دون كيخوته ليقدم لنا صراعا يشـــبه صراعنا مع الحرب في تلك الفـــترة التي بدت أشبه بمصارعة طواحين الهواء، نجـــده في الثانية وكأنه يرثي هذه الحـــياة التي مضت بدون معنــى. وفي المسرحيتين كانت هـــذه السخرية المريرة التي لا يجيد تقديمها سوى ريمون جبارة نفسه.

بالتأكيد لا تشكل هاتان المسرحيتان كل أعماله. لكن ثمة مسافة تفصلني عن أعماله المسرحية الأولى التي لم أعرفها إلا من «الذاكرة»، ذاكرة الآخرين التي توارثناها أو من خلال ما قرأناه عنه. ثمة أكثر من جيل بيننا لم نستطع ردمه بسبب هذا الفاصل الزمني، وبسبب الحرب التي كانت تفصل بين «المدينتين» (إذ كان من الصعب التنقل بسهولة)، ولولا بعض الحلقات التلفزيونية التي أعاد بثها «تلفزيون لبنان» ربما لم يتبقَّ لنا شيء من إرث ريمون جبارة الأول. حلقات تلفزيونية صورت على طريقة المسرح، لتكتشف معها ممثلا خارقا، ومعدا لنصوص مقتبسة تبدو كأنها مكتوبة رأسا بالعربية. وهنا أيضا تكمن فرادته، إذ كان كاتبا مسرحيا حقيقيا، له جملته الخاصة مثلما له مناخه الخاص.

غالبية مسرحيات ريمون جبارة جاءت في زمن الحرب. أربعون سنة ونحن نعيش في فضاءاتها التي لم تنتهِ. هو أيضا عاشها بكل مراراتها ودفع من جسده ثمنا لها. كأن القدر يلعب دوره أيضا، إذ يغادر في ذكرى هذه الحرب «المجيدة» التي نحاول الاعتقاد أنها مرّت، بينما في الواقع لا نفعل شيئا سوى استعادتها بشتى الوسائل.

ربــما لم يعرف جيلنا كل أعمال هذا الفنان. لكن ما يعوض عنها هذه اللقاءات التــي كانت تجمعنا معه في بعض الأمكنة المتفرقة، وبخاصة في صالات المــسرح. كان يفاجئك دوما بصلابة وجهه، وبتلك السـيجارة التي لا تنطفئ في يده. لكن كما علّمنا المسرح، إن ما تراه ليس هو الحقيقة دائما. كان الرجل يخفي في داخله طفلا كبيرا، يرغب في التمرد دائما على أهــله. هكذا كان: ذاك المتمرد الذي حاول أن يشق طرقا كثــيرة في الوقت عيــنه. صحيح أنه حارب الكثير من الطواحين، لكنه بقي ثابتا في مكانه. صحــيح أن مصارع المانشا استسلم في نهاية المشوار، إلا أنه بقي موجودا في تاريخ الأدب. هكذا هو ريمون جبارة اليــوم يستــسلم للحياة، لكنه بالتأكيد سيبقى في تاريخ المسرح اللبــناني والعربي. لكن المشكلة الكبيرة التي لا بد من أن تطرح: أن يبقى بلد وأن تبقى ذاكرة.. لنتذكر.

ريمون جبارة .. المتمرّد يصعد إلى السماء

ضفاف متعددة

نضال الأشقر

ريمون جبارة واحد من البنائين الأوائل في المسرح اللبناني، وهو من الرواد الذين اختلف مسرحهم كليا بالشكل والمضمون. كان مسرحه مسرحا حديثا بالشكل ومعاصرا، أما النص الذي اعتمده كتابة أو ترجـمة، فكان يشبهه دائما بالمـرارة والسخرية والفكاهة.

حين يلتقي المرء ريمون جبارة ولا يعرفه من قبل، سيبدو له قاسيا، سيرى هذا الوجه المقفل الذي سينفرج عن ابتسامة ساخرة وحذقة على الدوام. وبعيدا عن هذه «الشخصية»، كان كاتبا بارعا، لا في المسرح فقط بل أيضا في ما كتبه في الصحف عبر تلك الزوايا الساخرة التي كان يكتبها عن المجتمع السياسي في لبنان.

عمل ريمون جـــبارة حتى آخر يوم في حـــياته، قام بأشياء كثيرة، لكن أهم ما قام به في حياته هو مسرحه اللبناني الذي تناول فيه عدة مواضيع، لكنه ضمنها هذه النكتة المختلفة، الذكية الممـتلئة بالمرارة. كان أيــضا ممثلا جيــدا ومخرجا مخــتلفا وكـــاتبا تحمله روحه إلى ضفاف متعددة.

في فترة من الفترات اهتم بمسرح لبناني، تناول فيه المشكلات والمواضيع اللبنانية والسياسية خلال الحرب. لم يكن هو المسرح الأهم في مسيرته على الرغم من أنه كان «ملتزما» سياسيا وكان مؤمنا بخط سياسي معين، لكن ليس هذا أهم ما قدمه. أهميته تكمن في مسرحه المختلف بالشكل والمضمون، ما جعله رائدا من رواد المسرح. جملته المسرحية أيضا كانت جملة فريدة ومميزة عن باقي الجمل المسرحية السائدة وبخاصة في مرحلة بناء البدايات.

عمل على عدة «أبنية» مسرحية مختلفة في أيام الحرب، انتقل من مكان إلى آخر في المسرح المعاصر الذي عمل فيه وأسسه، لكن حقيقته تبقى في تلك المسرحيات التي قدمها والتي جعلته رائدا بامتياز.

السفير اللبنانية في

15.04.2015

 
 

من صنّاع العصر الذهبي للمسرح اللبناني:

ريمون جبارة يصعد إلى السماء

بيار أبي صعب

المسرحي ريمون جبارة انطفأ أمس في مستشفى بحنّس. ستارة الفصل الأخير ــ المخمليّة الحمراء نفسها ــ أسدلت أخيراً على حياة فنّان خارج السرب، غير قابل للتصنيف، بعد معاناة طويلة مع المرض. لقد تعامل المعلّم مع هذا الوضع الصعب، منذ التسعينيات (إثر إصابته بفالج كانت نتيجته شللاً نصفياً حدّ من قدراته الجسديّة)، كما تحايل على الحياة نفسها: بمزيج من السخرية، والشاعريّة، والهذيان الواعي، والغضب المكبوت، والفطرة (القرويّة) الشعبيّة.

إنّه سرّ هذا الفنان العفوي الذي التفّ على الوجود، ليكتب مسيرته الاستثنائيّة التي لم يكن ليتنبّأ بها أحد. وحدها تلك الأداة الخارقة التي يسمّونها السليقة، وفي رواية أخرى الموهبة، نقلته من عالم إلى آخر مثل المصعد السحري في المسرح الاغريقي، وجعلت من ابن «البلانتون» (الحاجب)، الذي بدأ «موظّفاً في (دائرة) المساحة» ــ مثلما كان الشاعر ميشال طراد حارساً للقلعة ــ أحد كبار الثقافة اللبنانيّة في القرن العشرين. لذا كانت دائماً علاقة شخصيّاته بالوجود عموديّة ربّما: تخاطب السماوات، وتتحدّى الآلهة، وتهزأ من أصحاب السلطة والنفوذ، بكوات كانوا، أم قادة ميليشيا، أم رجال دين. «ما حاجتنا بالدين إذا لم يكن هدفه إسعاد البشر؟» يسأل الراحل زميله روجيه عسّاف في الفيلم الذي أنتجته «جمعيّة شمس» في اليوبيل الذهبي للمسرح اللبناني (٢٠١١).

«مسرحي مشكلته مع الله، مع نظام الوجود. المشروع الانساني نفسه. وهذه الأفكار هواجس منذ صغري، لا أعرف. ربما تربيتي وضعتني في هذا الاتجاه. ربما سنوات المرض في طفولتي المعذبة هي بئر عطائي»، يقول في حديث إلى سليمان بختي بعد مسرحيّته «من قطف زهرة الخريف؟» («النهار»، تموز/ يوليو ١٩٩٢). أما الأسياد الذين لم يفوّت فرصة للاقتصاص منهم، فقد نجد سرّهم عند «مسيو عسّاف» ربّ عمل والده الذي كان يمسّد شعره صغيراً بفوقيّته، وشفقته الجارحة، وودّه الكاذب. كان ريمون الصغير يقبل خاضعاً طبعاً، ويأخذ الإكراميّة من مسيو عسّاف. لكنّ تمسيد الشَعر بات بالنسبة إليه إهانة قصوى، تدجيناً وازدراءً وإذلالاً، رمزاً لخضوع «زردشت» (كميل سلامة) المثقّف والدكتور الجامعي الذي صار كلباً (على طريقة الأرجنتيني أوسفالدو دراكوني الذي استوحى منه رائعته «زرادشت صار كلباً» ١٩٧٧).

لن يشفى ريمون ــ لحسن الحظ ــ من حقده الطبقي، فقد أقسم في سرّه ألا يمسّد أحد شَعره عندما يكبر. ذات يوم، دخل إلى المسرح «بالمصادفة» كما كان يحب أن يردد بفضل منير أبو دبس، مستعيداً تجارب الطفولة والمراهقة في مسرحيّات الضيعة، ليجد هنا حصانته، ويهتدي إلى ذاته الحقيقيّة. فاجأ الجمهور ممثلاً أوّلاً، ثم «مؤلّفاً» بالمعنى الأشمل، أي مخرجاً ومؤلفاً ومصمّماً لأعمال هي اليوم علامات في سجل المسرح العربي. لن يخضع أحد، بعد ذاك، هذا الوحش المتمرّد الذي سيردّ بالمسرح على ظلم العالم، وخلله، وعيوبه، وصغائره.

انتقد السلطة السياسية والطبقية والدينية لكنه بقي في الدائرة التقليدية المحافظة
مسرح لامعقول، يجمع بين عبثيّة فرناندو أرابال الجنائزيّة، وغرائبيّة فدريكو فلليني، من دون أن ننسى الحزن الاحتفالي الذي يرشح من عالم البولوني تاديوش كانتور بين أشباح طفولة كئيبة، وأعباء الحروب، وأطياف الموتى، وطغيان رجل العسكر ورجل الدين. مسرح مزعج، يصعب تصنيفه في خانة، ولو أن صاحبه الذي انتقد رجال الدين، وأصحاب السلطة، والتقط غصّة المهمّشين والضعفاء، بقي في الدائرة الانعزاليّة، وانزلق إلى العنصريّة أحياناً، من دون أن يتخلّى عن تمرّده. تلك واحدة من المفارقات الإشكاليّة التي تصنع فرادته. أليس هذا تحديد الفوضوي اليميني؟

«ييي مات!» تصرخ (الراحلة) رضا خوري ممثلته الأيقونة، في «قندلفت يصعد إلى السماء» (1980، مستوحاة من «احتفال بزنجي مقتول» لأرابال). «ليش قديش كان عمرو؟» يسأل كميل سلامة. وبعدما يعرف الاجابة، يضيف هذا الممثل المميّز الذي جسّد جبارة طويلاً، وكان صنوَه و«قرينته» على المسرح: «يا حرام شو بيكون ضجر بحياته». هذا المشهد يأخذ اليوم بعداً آخر، مثل مشاهد كثيرة من أعمال ريمون جبارة حاضرة بشكل مدهش في ذاكرتنا. يا حرام ريمون جبارة؟ ليس تماماً. ليس للأسباب نفسها على الأقل. لعلّه، رغم عبء المرض، وانحسار الطاقة الإبداعيّة في السنوات الأخيرة، لم يجد وقتاً للضجر، هو الذي أمضى عمره يستفزّ معاصريه بمزيج من القسوة والرقّة، ويستهزئ بالواقع، ويتحدّى السائد من دون أي ادّعاء «ثوري» بالمعنى الذي يمليه الوعي السياسي. رائد المسرح العبثي في لبنان والعالم العربي الذي حيّا فيه الناقد والمنظر ميشال كورفان «ذلك الفنّان الفطري»، لم يدرس المسرح، ولم يأت الفنّ من الثقافة والمعرفة، بل من المخزون الشعبي، ومن طاقة إبداعيّة تشبه الينابيع الصافية. يقول ريمون إنّه تعلّم من مطر محمد فضيلة الصمت في المسرح. وهو يلتقي مع عازف البزق «الغجري» في تلك النزعة الفطريّة التي اكتسبت نعمة الخلق عن طريق «السماع»، وطوّعت القواعد بقوّة الوحي والموهبة والممارسة.

برحيل ريمون جبارة نخسر واحداً من كبار المسرحيين العرب ومن أهمّ رواد المسرح اللبناني الحديث الذي عرف أوجه في السبعينيّات عشيّة الحرب الأهليّة. فنان على حدة بأسلوبه، ونظرته إلى العالم، بكلمته اللاذعة وعبثيته، وتمرّده، وشعريّته، وجمعه بين الفجاجة السوقيّة والجماليّة المترفة. برز ممثلاً من الطراز الرفيع في إدارة مخرجين كبار مثل منير أبو دبس (كريون في «انتيغونا» سوفوكل، وراسكلنيكوف في «جريمة وعقاب» دستويفسكي، 1962) وأنطوان ملتقى (ريتشارد الثالث، شكسبير)، ولطيفة ملتقى («وصية كلب»)، وبيرج فازليان («لعبة الختيار»، «الزنزلخت» لعصام محفوظ)… لكنّه للأسف سرعان ما أقلع عن التمثيل ليقف من الجهة الأخرى. ابتداءً من عام ١٩٧٠، مع باكورته «لتمت ديسدمونة»، أبدع مسرحه الخاص، مسرحاً يشبهه في كل شيء، بعوالمه، وموضوعاته، ولغته، وصوره، وحواراته… يشبهه في التمثيل والإخراج، وتقشّف الخشبة التي تقوم على نصّ وممثّل ومناخات بصريّة أشرك فيها تشكيليين كباراً مثل الراحل ألفونس فيليبس. هكذا وضع جبارة نفسه في كل شخصيّاته، وفي كل ممثلاته وممثليه: رضا خوري التي كانت ملهمته (رحلت بفارق 4 أيام، ١٨ ابريل، قبل ١٤ عاماً)، الراحل فيليب عقيقي، كميل سلامة، رفعت طربيه، منير معاصري، موريس معلوف، جوزيف بو نصّار… ثم الجيل اللاحق غابرييل يمين، جوليا قصار، رندا الأسمر

أخرج خلال السبعينيات والثمانينيات أعمالاً أساسية قوامها العبث واللامعقول، مستعيداً ثيماته الأثيرة: الموت، الرغبة، القمع، العجز الجنسي، الفشل، اللعبة السلطويّة، القمع، الهوّة بين المثال والواقع، التفاوت الطبقي، التمرّد الفردي، الإحباط، تخبّط الافراد في المتاهة، وصاية رجال الدين والسلطة، قيود المجتمع المريض، وعبثية الوجود… أعطى جبارة المسرح العربي واللبناني بعض روائعه: «تحت رعاية زكور» (1972)، و«زرادشت صار كلباً» (1977)، و«دكر النحل» (1982)، و«صانع الأحلام» (1985)، إضافة إلى مسرحيتين تدوران في فلك الدين، على خلفيّة الحرب الأهليّة: «شربل» (1976)، و«محاكمة يسوع» (1979). انقطع سنوات عن المسرح قبل أن يعود مع «من قطف زهرة الخريف؟» في إعادة افتتاح «مسرح بيروت» (١٩٩٢). العمل المذكور كان فيه قدر كبير من المرارة والسوداويّة، واعتبره النقاد وصيّته… ثم جاءت «بيكنيك ع خطوط التماس» (1997) لتعكس وهناً واضحاً، لم يقض على النفس الساخر الذي وظّفه طوال السنوات الأخيرة في كتابة المقالات (المثيرة للجدل، مع سقطات مقلقة أحياناً) في الملحق الثقافي لجريدة «النهار». وكان آخر ما قدّمه للخشبة «مقتل إنّ وأخواتها» (2012)، ويتناول فيه بشكل غير مباشر انهيار العالم القديم ــ عالمه ــ من خلال تلك المواجهة العبثية كالعادة بين السمكري «محظوظ» (غابرييل يمين)، والأستاذ «مأيّر» (رفعت طربيه) المثقف المسكون بالمرارة والعقم والفشل والقطيعة مع الواقع. مواجهة تنتهي ــ على طريقة «فاندو وليز» مسرحية أرابال ــ بفعل القتل الرمزي، كوسيلة الاقتصاص والاحتجاج (والخلاص) الوحيدة المتبقية.

أبدع ريمون جبارة أعمالاً فلسفيّة قبل كلّ شيء. كل مسرحيّة له مانيفستو يطرح أسئلة جماليّة، أسئلة مسكونة بهواجس وجوديّة، وفرديّة، تواجه النظام القمعي بلغة هذيانيّة، بوعي متمرّد للعالم. إبداعه كان ثمرة تجربة حياتيّة تبدأ من الشخصي لتعانق العام، وتصبّ في الوجدان الجماعي لمعاصريه. وحكايته حكاية فريدة في تاريخنا الثقافي. بعد غدٍ الجمعة سنصفّق للنعش الخارج من الكنيسة، وسننحني أمام «صانع أحلام» استثنائي غيّر حياتنا، وقال أوجاعنا وتناقضاتنا وأحلامنا الضائعة.

* تقام مراسم الدفن عند الرابعة من بعد ظهر يوم الجمعة في «كنيسة الرسولين بطرس وبولس» في قرنة شهوان. وتقبل التعازي أيام الأربعاء والخميس والجمعة والسبت في 15 و16 و17 و18 نيسان (أبريل) من الحادية عشرة صباحاً لغاية السابعة مساء في صالون الكنيسة.

يمكنكم متابعة الكاتب عبر تويترPierreABISAAB@

«إن وأخواتها» آخر أعماله: ذاك اللقاء في «مسرح مونو»

روي ديب

صمت فوق خشبة المسرح اللبناني: مات ريمون جبارة. ذلك الصمت الذي أحبّه جبارة ومنحه أربع دقائق كاملة في خطوة اعتبرها بعضهم جنونيّة في مسرحيّة «لتمت ديسدمونة» (١٩٧٠). وكما قال لنا في آخر لقاء معه عام ٢٠١٢ في «مسرح مونو» خلال افتتاح عرض «مقتل إنّ وأخواتها» (الأخبار 13/12/2012)، فإنّه تعلّم هذا الصمت من عازف آلة البزق البدوّي مطر محمد. كما فعل أبوه، قام محمد بدفن سرّة ابنه داخل بزقه. وخلال العزف، كان يتوقف أحياناً ويضع أذنه على البزق ليستمع إلى سرّة ابنه.

اليوم نضع أذننا على خشبة المسرح صامتين لنستمع إلى أثر ريمون جبارة فوق تلك الخشبة، إلى جزء أساسيّ من تاريخ المسرح اللبناني، إلى أبي العبث اللبناني. خلال اللقاء الأخير إياه، تحدث جبارة عن فطرته في كتابة مسرحه: «لم أتعلم المسرح، لكن مثلما شعرت، فعلت. أنا بعمل مسرح لأتسلى». لم يكتب يوماً نصاً مسرحيّاً كاملاً، بل كان يلج التمارين مع الممثلين مع ورقة أو اثنتين. أمّا الباقي، فكان يلد على الخشبة. اختار العمل مع ممثلين محددين وثابر على العمل معهم، لأنه أحبّهم، وكان يكتب لهم الأدوار خصيصاً، منهم: جوليا قصّار، غابريـال يمّين، رفعت طربيه، رضا خوري، فيليب عقيقي، كميل سلامة، رندا الأسمر، ومادونا غازي...

صنع مسرحاً عن الإنسان، وهمومه وأوجاعه وأفراحه

الجميع حوله كان يعمل معه بحبّ وثقة عمياء. أحد أهم مؤسسي المسرح الحديث في لبنان، لم يعنه يوماً الهدف أو الرسالة في المسرح، بل صنع مسرحاً عن الإنسان، وهمومه وأوجاعه وأفراحه. صنع مسرحاً يخاطب جميع فئات الجمهور من النخب إلى العريض. اختار لغة بسيطة وساخرة يختزن فيها أسئلة عميقة عن الإنسانيّة، ما جعل مسرحياته حيّة ومعاصرة حتى اليوم. رغم معاناته من عوارض صحيّة في أواخر سنوات حياته، إلا أنه سخر من مرضه وتابع العمل، كتابة وإخراجاً. في أحد مقاهي قرنة شهوان، حوّل طاولة إلى مكتب يتابع فيه كتابة المسرح. وإن كانت بعض الكلمات تبدأ على الورق وتنتهي على الطاولة، بسبب الشلل النصفي الذي أصابه، إلا أن الممثل وصديقه العزيز غابريـال يمّين كان يعاونه على إعادة نسخ النصوص. في «مقتل إنّ وأخواتها»، ورغم حالته الجسديّة السيئة، أبى أن يغيب عن ليلة الافتتاح. أراد أن يرى الممثلين على الخشبة، هو الذي يعشق التمثيل ولطالما قال إنّ الممثل فيه يبقى أقوى من الكاتب والمخرج. يومها قال لنا: «أريد أن أتابع العرض كي أضحك على أخطاء الممثلين». ذلك الرجل عرف كيف يضحك، ويعشق المسرح، ويتسلى في خلق مسرحه. نصمت اليوم لفقدانك، ونسخر من الموت الذي ـ وإن خطفك منّا ـ لن يستطيع أن يسلبنا الإرث المسرحي الذي تركته لنا. يا «صانع الأحلام» وداعاً.

شهادة | بصمة الرفض والمعاناة والسخرية

جلال خوري*

كان دائماً يغرد خارج السرب، من البدايات حتى النهاية. في الكتابة، في المسرح، في الصحافة، في السلوك، في الحياة... فكانت أعماله تتمحور دائماً في دائرة خاصة به، بعيداً عن المفاهيم المألوفة. صعد على الخشبة، ونزل منها وحيداً، هامشياً. لم أنس تجسيده لشخصية راسكلنيكوف في مسرحية «جريمة وعقاب».

كما أتذكره جيداً في العديد من الأدوار التي دمغها بمقاربته الخاصة. فغالباً ما حملت أعماله بصمة الرفض والمعاناة والسخرية، هذه السخرية التي لم تفارقه لحظة... حتى عندما كنا معاً في طائرة تجنح يميناً ويساراً تحت تأثير العاصفة. تمكّن من جمع حوله نخبة من الفنانين القادرين الذين تعاونوا معه حتى لا أقول تفانوا من أجله، لنقل فنه الصعب إلى الجمهور الذي أراد: النخبة. وتبقى «تحت رعاية زكور» في نظري أكثر أعماله تأنقاً، وتميزاً وتعبيراً لرؤيته الخاصة.
*
مسرحي لبناني

شهادة | الإبداع من رحم الوجع

رندا الأسمر*

ريمون جبارة بطل، هو أب لا نظير له لكل شباب المسرح وطلابه، وكل الذين عملوا معه في المسرح. إنّه جبّار جبار عاش 26 سنة مصاباً بفالج، ولم يتوان عن العمل الفكري والإبداعي والكتابي والإخراجي، أكان في الإذاعة والجريدة والمسرح. لعل العزاء الكبير أنّه أكثر مسرحي كرِّم في لبنان في حياته.

ما كان يتكابر على أي تكريم من أي مصدر أتاه. كان يفرح، ويفرح الناس بحضوره، وأعتقد بأنه بينه وبين نفسه كان وحيداً بامتياز. هذه الوحدة هي التي أبقت الفنان حياً فيه. حزن عتيق أبقى الفنان بداخله، لذا، كان يكتب ويقاوم كل شيء وكل بشاعة حوله، كان يجاهر فيه ويحاربه بكتاباته ومسرحه. كان إنساناً ثائراً على الحياة العادية التي يعيشها ويرضى بها الناس. كان يؤمن بأنّ الانسان يستحقّ حياة أفضل، يستحق أن يحلم ويحب ويعيش بكرامة، وبحرية، التي تعدّ أدنى الحقوق في البلاد المتحضرة. أما عن الجاه والمقامات، فكان متواضعاً جداً. لا ينسى رفاقه في أكثر لحظات مجده، بل يبرزهم ويشكر طلابه، وظلّ يتذكر رفاقه الذين رحلوا ويبكي عليهم. كان همّ ريمون الانسان المظلوم والفقير أينما كان. كان فنّه موجّهاً إلى هذا الإنسان.

كان زاهداً في الدنيا، ومتكابراً على الوجع وعلى سوء التفاهم، وكان عفوياً صاحب نكتة. كان في مرضه لا يتذمر ولا يتباكى على نفسه. في أيامه الأخيرة، كان يذهب إلى «جامعة الكسليك» على الكرسي المدولب، وكان طلابه يحملونه إلى الصف لإلقاء محاضرته ثم يعيدونه إلى السيارة. لقد عاش الحياة ببساطة فظيعة، حتى إنّه عندما نال وساماً فرنسياً في الثمانينات، قال إنّه أخذه كي يفرح والده! كان يتفاخر بأنه لا يحمل شهادات عالية ولا يخجل من ذلك لأنّه رأى أن الفكر والتأمل في الحياة وتفاصيلها هما ما يصنعان إنساناً مبدعاً وطبعاً هناك الوجع. كان دائماً يردد أنْ لا فن من دون وجع. فالوجع هو الذي يحوّل الفن إلى لحظة جمال وإبداع. وكان يردد دوماً أنّ الحياة نفق، وعلى الانسان الرأفة بأخيه في هذا النفق الدامس. أنا أفتخر بأنني كنت تلميذته وعملت معه، وعشت على عهده وعصره.

* ممثلة لبنانية

«جبارة» وثائقي يحفظ إرثه

«جبارة» هو عنوان الشريط الوثائقي الذي أنجزه نصري البركس عام 2013، تكريماً للمعلم اللبناني ريمون جبارة. في العمل نستمع إلى شهادات ممثلين وفنانين ونقاد عاصروا جبارة ورافقوا تجربته وأبرز أعماله، منهم أنطوان كرباج، رفعت طربيه، كميل سلامة، جوزيف بو نصار، مي منسى، غبريـال يمين، جوليا قصار، وأنطوان أبي عقل. على مدى 120 دقيقة، مقسمة إلى خمس حقبات، يتتبع الشريط تجربة جبارة المسرحية.

الحقبة الأولى تبدأ في الستينيات، مع قرار لجنة «مهرجانات بعلبك» تأسيس «معهد المسرح الحديث»، و«فرقة المسرح الحديث». التحق جبارة بهما، قبل أن ينتقل إلى «حلقة المسرح اللبناني» ثم «فرقة المسرح الحر» التي أسهم في تأسيسها. تنطلق الحقبة الثانية من بداية السبعينيات، لتتناول مرحلة ما قبل الحرب الأهلية وبداية التباينات الفكرية. حملت تلك الفترة انطلاق تجربته في الإخراج والتأليف مع باكورة أعماله ««لتمُت ديسدمونة»، وبداية تمارين «دكر النحل» التي قطعها اندلاع الأعمال العسكرية بداية الحرب الأهلية عام 1975. الحقبة الثالثة تمتد بين عامي 1975 و1986. تلك الفترة كانت الذروة الإنتاجية في مسرح جبارة. انجرّ كالآخرين إلى الأعمال المؤدلجة الخادمة للقضية، فقدّم «شربل» و«زردشت صار كلباً» و«محاكمة يسوع»، وصولاً إلى «دكر النحل» ورائعته «صانع الأحلام». تغطي الحقبة الرابعة (من 1987 حتى 1990) مرحلة التراجع في مسيرة جبارة المسرحية مع تعيينه رئيساً لمجلس ادارة «تلفزيون لبنان» واصابته بشلل نصفي أبعده عن المسرح. في الحقبة الخامسة، نشاهد مرحلة عودته المتقطعة بين 1993 و2013، مع «بيكنيك ع خطوط التماس»، و«يوسف بك كرم»، وصولاً إلى «مقتل إن واخواتها» عام 2012.

سيرة

بين ولادة ندم عليها، واختياره الفن الذي اعتبره خطأً لكنه لم يندم عليه، أكثر من 40 عاماً شكّلت مسيرة أحد أهم المسرحيين العرب، وأبرز رواد المسرح اللبناني الحديث. انطفأ ريمون جبارة (1935 ـــ 2015) أمس في «مستشفى بحنس»، تاركاً شيئاً منه في كل الأعمال التي قدمها على حد تعبيره. جدلية الفقير والمثقف والأحلام المحبطة، الموت، الرغبة، القمع، اللعبة السلطويّة، وصاية رجال الدين والله، عيوب المجتمع، وعبثية الوجود... كلها تيمات ارتكز عليها نتاج أحد روّاد المسرح العبثي في العالم العربي.

الممثل ثم المؤلف والمخرج اللبناني ولد في قرنة شهوان عام 1935. في مدرسة «راهبات القلبين الأقدسين»، اكتشف حبّ التمثيل، فدأب على المشاركة في المسرحيات التي كان يخرجها المختار وفق ما قال لنا في مقابلة سابقة (الأخبار 21/2/2011). بعد سنوات، انتقلت عائلته إلى بيروت حيث التحق بمدرسة «الحكمة» في الأشرفية، لكنه لم يكمل الشهادة الثانوية بسبب مرض والده الذي دخل «الدوائر العقارية حاجباً وخرج منها حاجباً فيما اغتنى آخرون». ظلّ حلم الخشبة يراوده من دون أن يصارح أهله به إلى أن أتته الفرصة عام 1961. ضمن أنشطة «مهرجانات بعلبك الدولية»، كان صديقه المسرحي منير أبو دبس يدير «معهد التمثيل الحديث» الذي سيصبح لاحقاً «مدرسة بيروت للمسرح الحديث». لعب هذا الفضاء دوراً أساسياً في النهضة المسرحية خلال ستينيات القرن الماضي، مع أسماء من أمثال أنطوان ولطيفة ملتقى، ورضا خوري، وميشال نبعة، وشكيب خوري، ويعقوب الشدراوي... في ذلك العام، أتاح له أبو دبس فرصته الأولى، فجسد دور «كريون» في مسرحية «أنتيغونا». لاحقاً، حين وقعت القطيعة بينه وبين أبو دبس، انضم إلى أنطوان ملتقى الذي أسس «حلقة المسرح اللبناني»، وأدى أدواراً رئيسية تحت إدارة ملتقى وبيرج فازيليان. تزامناً مع ذلك، بدأ بتدريس المسرح في «الجامعة اللبنانية» ثم «جامعة الكسليك» التي بقي فيها حتى أيامه الأخيرة. بعد تجاربه التمثيلية، خاض غمار التأليف لأنّه اعتبر أنّ الممثل هو أفضل من كتب للمسرح. هكذا، قدّم باكورته «لتمُت ديسدمونة» التي ألفها وأخرجها على مسرح بعلبك عام 1970 واعتبرها الأحب إلى قلبه لأنّ النقاد رأوا أنّه نسف فيها قواعد المسرح من أوله إلى آخره. بعدها، توالت أعماله مع حفنة من الممثلين البارزين: الراحلة رضا خوري، الراحل فيليب عقيقي، كميل سلامة، رفعت طربيه، جوزف بونصّار، والجيل اللاحق أي غابريـال يمين، جوليا قصار، رندا الأسمر… فقدم «تحت رعاية زكور» (1972)، «شربل» (1976)، «زرادشت صار كلباً» (1977)، «محاكمة يسوع» (1979)، «قندلفت يصعد إلى السماء» (1980)، «دكر النحل» (1982)، «صانع الاحلام» (1985)، «مَن قطف زهرة الخريف» (1992)، «بيكنيك ع خطوط التماس» (1997)، «مقتل إن واخواتها» (2012 ـ إنتاج "جامعة اللويزة" التي كرمته وأطلقت جائزة باسمه عام 2011)... حتى إنّه في آخر أيامه، كان يكتب مسرحية لكميل سلامة يلعبها بمفرده مع حذائه بعنوان «الصبّاط» وفق ما قال في مقابلته الأخيرة مع دنيز مشنتف (مجلة «الأمن العام») قبل أشهر. خاض جبارة أيضاً تجارب مرادفة عدة منها مثل برنامجه اليومي "ألو سيتّي" على إذاعة "صوت لبنان"، وعموده في ملحق «النهار» الثقافي وإدارته «تلفزيون لبنان» بين أعوام 1986 حتى 1990 التي خرج منها بشلل نصفي. لقد آمن هذا السوداوي والعدمي بأنّ النص والممثل هما العنصران الأهم في المسرح، وأنّ الفن ينطلق من حالات سوء التفاهم مع الله والناس والحياة، وبأنه لا إبداع من دون وجع، فـ«الإنسان الذي يعيش هذه الحالات يصبح فناناً. لكن المتَّفِق مع الله والناس والحياة يكون إما بطريركاً أو كاهناً أو شيخاً أو نائباً».

مواقفه السياسية

شكّل «ملحق النهار» منصة أساسية لآراء ريمون جبارة السياسية التي صنّفته مع اليمين المسيحي المتطرف. أخذت عليه مواقف وصلت إلى حد العنصرية ضد الشعبين السوري وخصوصاً الفلسطيني، حين عمم أنه لا وجود لبريء واحد بينهم. أما رؤيته النموذجية إلى الوطن، فكانت "بلداً علمانياً". تغيّر لبنان كثيراً بالنسبة إلى المسرحي اللبناني. كان ينتظر خروج شعب جديد من الحرب الأهلية، إلا أنه صار يؤمن بعدها بأن حسنات الحرب تتمثل في «أنّ الآدمي أصبح أكثر آدمية، والأزعر أكثر زعرنة». كان يردد دائماً: «كنت أفضل أن تحكمني أم شهيد على أن يحكمني شخص قلبه من حجر»

الأخبار اللبنانية في

15.04.2015

 
 

ريمون جبارة صانع الأحلام يلتحق بأحلامه (1935 - 2015)

غياب - كان تائهاً في اللقاء الأخير

مي منسى

كان يتأمّلني ولا يراني، كواقف على مفترق دروب ضلّ الاتجاه الذي ينبغي له أن يتخذه. قلت في نفسي أيكون ريمون صنع مسرحاً ليهرب من حقيقة الحياة؟ أيكون بعبثيته الساخرة صنع "أحلاماً" من مادة الخمائر الموجعة المعتّقة في خوابي عمره، حتى إذا أحس بالحياة تهرب منه، تاه بنظراته عنها ولم يسعه التقاطها لينجو من براثن الموت؟

لعل القلم في يدي أعاده إليّ، هو الذي اعتاد حضوري في كلٍّ من أعماله، وكان يدعوني الصديقة "الكرونيك" في مقابلاتي معه. استفاق وأنا أسأله: هل من أمر أسفت عليه في حياتك؟ فأجاب بصوت نائص: إني ولدتُ. هالني ما سمعته، وكأني طوال عمر، وأنا في هذا الادمان لمسرحه، أستقي من نبوغه رؤى جديدة للمسرح الحديث، وحرية في الكتابة والإخراج والتمثيل لا تشبه إلاّه، لم يمل عليّ فكري أن وراء هذا النبوغ جرحاً نازفاً أبداً لا يندمل. "من قتل زهرة الخريف" كانت ربما السؤال الذي ظل يساور شكوكنا، وكان يكذّب افتراضاتنا كلما دللنا عليه. كان يومذاك شبه مقعد، على كرسي جرّار، يرفض الانكسار. كبرياؤه كانت تطمئن أصدقاءه الذين كوّنوا على مرّ الزمن فرقته، أما نحن فكنا الأحباء، لا نفوّت فرصة نراه فيها ونستفقد عافيته. إلى أن جاءني صوت جمانة ابنته على الهاتف. أدركتُ أن ريمون ألقى سلاحه ولم يعد قادراً على المقاومة. اللقاء لم يكن كما اعتدناه. أدركتُ أنها زيارتي الأخيرة له. أيكون ريمون جبارة المولود من رحم المسرح، من أوهامه وسحره وطقوسه، ريمون الكاتب والمخرج والممثل، الذي سطع اسمه وارتفع عاليا في عالم، توأم ذلك الصبي الشبه المتكتّم في لباس المسرح، لا عمر له ولا هوية، كان عليه أن يبدّل جلده بجلد إنسان المسرح ويتّسم بطلاسم ابطاله وينصبغ بصباغ مصائرهم وانتحال أسمائهم تعويضاً عن أحلامه الضائعة. فعلى هذه المساحة المركّبة من ديكور وأدوار وحزمات ضوء، وجد ريمون جبارة مبتغاه. بين رفاق شقّوا الدرب معه، كان في كل مسرحية متنسّكاً بالمعنى الفعلي للتنسّك، على قدر الرسالة التي يود إيصالها. كيف سيكون الفراق بعد اليوم وقد أنسنا لجلساتنا معه، ولو بصوته الخافت، حتى لا يسمع جسده المتعب ما في روحه من عطش للعودة إلى الخشبة، إلى ذلك البيت الذي شيّده بأحلامه ومواهبه؟ في هذا اللقاء الأخير وددتُ أن أتخطى شبح الموت المهيمن فوق جبينه الشاحب، فأتلقى منه ولو كلمة تبقى لي ذكرى من بعده. لكن الكلمات جاءت على ورقتي مكسّرة، فهمتُ منها أنه في صدد كتابة رواية كانت دوماً حلمه الكبير. هذا التائه بين الهنا والهناك نسي في هذا الضياع لهفته التي أدمنت السيجارة. أشياء كثيرة باتت الآن من دونه، أهمها المسرح، هذا الإثم الذي كان يقترفه باللذة الموجعة حتى لا نقول بالوجع اللذيذ. وداعاً يا صديقي "الكرونيك"!

may.menassa@annahar.com.lb

نضال الأشقر: موهبته تفوق الوصف

فاقت موهبة ريمون جبارة إمكان وصفها. رجلٌ مختلف في نصوصه، بمرارتها وسخريتها وتسبّبها باللذع. تناول في مسرحه إشكاليات المجتمع والسياسة بالاختلاف الذي يملك. رائد روّاد المسرح، كاتب، صحافي، حرٌّ، ومؤلمٌ بالسخرية. يجعل الموضوع العادي مزيجاً من العمق والتفاصيل الدقيقة. إنسانٌ طيّبٌ جداً. روحه طرية. ناضل ليروّض الحياة فلا تكسر عزيمته. وعلى رغم مرضه ومعاناته، علَّم وأخرج وأثبت حضوراً هائلاً في الحياة اللبنانية. موارب بسخرية، يرميها في أحيان ويترك لنا أن نتلقّفها. جوّه غير تقليدي وإنسانيته عظيمة. لم يسخر بغرض السخرية. سخر ليتغلّب على كلّ علّة. المرض والجسد والحياة والحرب والمأساة الإنسانية. اشتداد أوجاعه وحاجته الى الاستراحة، لا يلغيان ألم الحزن على رحيله. أحزنُ عليه كما أحزنني رحيل يعقوب الشدراوي. كلاهما أعطب الروح وخلخل أعمدة المسرح.

شكيب خوري: لم يُحارب موته

أنجز ريمون جبارة ما تمناه. أعتقد أنه رحل أمس من غير أيّ إحساس بالندم. توقَّع رحيله لأنه في الآونة الأخيرة راح يألفه. عاش هذا الرحيل قبل أن يحلّ. لم يحارب ريمون جبارة موته. رافقه اقتناعٌ بأنّه بلغ من الحياة ما أراد. ونال حقّه. أكمل أيامه الأخيرة بصمت. بالصمت البليغ البالغ الهيبة. موته، على رغم "بديهيته" في هذه الحال، أشعرني بالتعب، وبأنّ ضغطي راح يرتفع وأعصابي توتّرت. لا يُكتَب في أمثاله الرثاء. هو حيٌّ. بأعماله وهالته على المسرح. وهو الخالد في ذاكرة المجتمع. تتواصل الروح مع الروح لتزفّ الى السماء رجلاً من تركيبة نموذجية نادرة. صاحب حضورٍ لا يهتزّ. تتفق مناسبة رحيله مع القيامة. والقيامة أبدية. لذلك لا ذهاب له. فكَّر في لحظات الانفعال أنّ الحياة لا تساوي شيئاً. وظلّ متمسكاً بالنضال، وبقدرة الانتصار على كلّ عقبة. ريمون جبارة أكثر من شخصية. وأكثر من ذات. أذكر أنه كتب ذات مرة في "ملحق النهار" قصيدة لم أقرأ مثلها. أفتُتنت به منذ تلك اللحظة.

رندا الأسمر: تعلّمنا منه الكثير

ريمون جبارة لا يُنسى. دائم الوجود ولو غاب الجسد. أرفع له الصلاة كلما زرتُ الكنيسة. وسأظلّ أفعل. جبّار. عاش بشلله الجسدي من غير أن يتذمّر. شامخ الرأس يرفض الهزيمة. لقّننا الدروس من دون قصد. منه تعلّمنا عدم الرضوخ للحياة بانكساراتها ومآسيها. وتعلّمنا منه أن نحارب طالما في القلب نبض. ونُبقي السعي نحو الأفضل، بالفن وحده، وبتفريح ذاكرة الناس وحضّهم على التحلّي بالأمل مهما اشتدّت الظلمة. مات ريمون جبارة، وأنا التي مراراً آلمني الموت حدّ الكيّ. لحظة الموت هي لحظة الفراق الأبدي حيال مَن نحبّ. علينا تقبّلها، ولا خيار آخر. ريمون جبارة في الذاكرة، معلّماً ومخرجاً ورفيقاً وكاتباً عظيماً، ولا شأن لذلك بوجود الجسد أو بزواله. له فَضلٌ لا يُقدَّر على ممثلين جعلهم أصدقاءه، وشكرهم على كلّ خطوة. مثال التواضع. اشتدّ عودنا لأنّه درّبنا على التحمُّل. الأساتذة من أمثاله خالدون. لا تنفكّ كلماته في البال: "أحدٌ لا يأخذ مكان أحد. الدنيا بتساع الكلّ، والفرصة بتجي لحالها". رحل أمس رجل يختزل الإنسانية في فكره. استمرّ يردد أنّ الحياة نفق، له بداية ولا ندري متى نصادف نهايته. ثم يضيف: "وإنما بين البداية والنهاية ثمة إنسان يحتاج الرأفة. إنه أخونا في الرحلة عينها مهما قسا عليه الدهر ونال منه". كم أحبّ الناس حتى آخر نَفَس. أحبّهم حدّ إبقاء روح الدعابة على رغم الصعاب وتعب العُمر. تلك الروح التي بها قَلَب المأساة ابتسامة لنُكمل المشوار.

جلال خوري: مَسْرَحَ نهايته

جمعنا مقعد واحد في مدرسة الحكمة. وبعدما غاب عني سنواتٍ، التقيته به مجدداً عندما كان يعمل مع أنطوان ملتقى. ترددتُ الى رشانا حيث مهرجان رشانا المسرحي، وهناك شاهدته على الخشبة للمرة الأولى. أذكر كم كان مميزاً آنذاك. كانت مسرحية "الجريمة والعقاب" بداية إعجابي برجل لا يتكرر. ثم جمعتنا الصداقة وسافرنا معاً مرات عدة. في الستينات طلبتُ إليه ترجمة مسرحية كتبتها باللغة الفرنسية. ولّدت الأيام بيننا علاقة، فكنّا نلتقي في المناسبات وخارجها. وتابعتُ نشاطه منذ البداية، وأجد أنّ "تحت رعاية زكور" واحدة من أهم مسرحياته على الاطلاق. رائعة. ريمون جبارة كإنسان مارس السخرية بكثيرٍ من الاحتراف. سافرنا ذات مرة للمشاركة في مؤتمر بألمانيا، فهبّت عاصفةٌ مخيفة ونحن في عمق السماء. لم يتوقّف للحظة عن ممارسة السخرية. محبٌّ وساخر، جمع حوله نخبة من الممثلين تفانوا من أجله. قدّم أمثولة المسرح "الهامشي" المميز بالهامشية في ذاتها، غير الخاضع للأصول المألوفة. أغلب الظنّ أنّه أراد مسرحاً للنخبة، فإذا بها تعطيه ما يشاء. حتى إنّه في مكان ما، راح يعتبر المسرحية الناجحة شعبياً "فاشلة". أعماله واحدة، في الكتابة الصحافية أو المسرح أو التمثيل أو في تعامله مع الآخرين. عظيم في كلّ هذا. حتى يتراءى أنه مَسْرَح نهايته. رجلٌ "شببلك" وقلق في آن واحد. يخشى الوحدة، وظلّ يجابه مصائب الحياة بسلاحه المفضّل: السخرية.

وافته المنيّة بعد "مقتل إن وأخواتها"

رنا سرحان

لن يستيقظ ريمون جبارة المخرج ثانيةً من سباته ليمسك سيجارته وينادي مالا لتحضير فنجان النسكافيه في الخامسة صباحاً، لا نكايةً، كما كان يقول، بتركيا، ولا بالعروبة، ولا لأن مالا تمزج النسكافيه بالحليب الذي يخفف أضرار القهوة التركية – العربية، بل لأنه صعد مع قندلفت إلى السماء.

توقف قلم ريمون جبارة الإعلامي، ولن يذهب بعد اليوم إلى إحدى الكافيتريات في بلدته ليكتب مقالته، بحماسة أو بلا حماسة، لينشرها في الصحافة المكتوبة، هو الذي كان صاحب زاوية أسبوعية في "ملحق النهار". ربما "حازوقته" قد شهقت معها أنفاسه الأخيرة وخطفته، تلك التي كانت تشرّفه يومياً بدءاً من الساعة الحادية عشرة صباحاً حتى التاسعة مساء والتي لم يعرف لها الأطباء سبباً طبياً، وبها استجابه القدر، فلن يعود أدراجه عبر إذاعة "صوت لبنان" ليقول "ألو ستي"، لأنه اليوم بقرب جدته في حياته الثانية.

أمس، رحل ريمون جبارة، ممثل الستينات الذي التحق بمعهد المسرح الحديث وفرقة المسرح الحديث وحلقة المسرح اللبناني، والذي ساهم في تأسيس فرقة المسرح الحر (1960 - 1970) حيث لمع نجمه على خشبات المسارح وأصبح من أبرز الممثلين الموهوبين وأكثرهم براعة. بدأ جبارة تجربة الإخراج والتأليف العام 1975، فكان أول أعماله المسرحية "لتمت دسدمونة"، ثم "تحت رعاية زكور"، وبداية تمارين مسرحية "دكر النحل" التي قطعها اندلاع الأعمال العسكرية.

فترة الذروة الإنتاجية في مسرح ريمون جبارة، على الرغم من زمن الحرب، كانت ما بين 1975 و1986 حيث قدّم "شربل"، و"زرادشت صار كلباً"، و"محاكمة يسوع"، و"قندلفت يصعد إلى السماء"، و"دكر النحل"، ورائعته الفنية "صانع الأحلام" التي نالت جوائز في مهرجانات عربية وتقدير النقّاد على السواء.

عُيِّن جبارة مديراً عاماً ورئيساً لمجلس إدارة تلفزيون لبنان بين العامين 1987 و1990، وهي مرحلة انصرف خلالها إلى عمل إداري أنهكه وأبعده قسرياً عن المسرح، وأدى في النهاية إلى إصابته بعارض صحي خطير كانت نتيجته شللاً نصفياً حتّم مرحلة صراع قاسية في حياته.

كما عمل ريمون جبارة أستاذاً جامعياً بدأ التدريس في معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية بعد افتتاحه، ولعب دوراً بارزاً في إعداد أجيال من الممثلين والمخرجين المسرحيين.

مرحلة العودة المتقطعة إلى المسرح كانت بين 1993 و2013 حيث قدّم في فترات متباعدة مسرحيتي "من قطف زهرة الخريف"، و"بيكنيك على خطوط التماس"، وأعاد عرض "زرادشت صار كلباً" و"شربل" مع جيل جديد من الممثلين، كما أخرج مسرحيات للكاتب أنطوان غندور هي "يوسف بك كرم" و"طانيوس شاهين" و"نقدم لكم وطن"، إلى العام 2012 حين أبى إلا أن يستمر في الكتابة والإخراج المسرحيين ليتحفنا بـ"مقتل إن وأخواتها"، العمل المسرحي الأخير له الذي أثار جدلاً كبيراً لجرأة ذلك الثمانيني في المسرح اللبناني.

رفعت طربيه: دونكيشوت يُلاحق أحلاماً لا تتحقّق

أستطيع الآن أن أقول إنّ المسرح اللبناني أُصيب بجلطة. كما حلّ المرض في جسد ريمون جبارة وأقعده، ها الشلل يصيب الكيان المسرحي اللبناني برحيله. لا أذكره إلا "أبو الريم". عشنا الحياة معاً بهدوئها وصخبها. سريع البديهة، من النظرة يفهم. نادرٌ جداً. لا يحلّ مكانه أحد. سُعدت برحيله، فكفاه معاناة. نستطيع الآن مراسلته من السماء حيث لا تسير الأمور هناك على ما يرام. ريمون جبارة أراد هذا الرحيل منذ مدة. قرّر أن يذهب. أفرط في التدخين على رغم تحذير الأطباء لأنّ الحياة تراءت له غاية في العبثية. لا يعني ذلك استسلاماً لليأس، ولا رفضاً للإنتاج على رغم ظروف الجسد. لكنّ ريمون جبارة ملّ "المشورة" بعينيه. تاق للمشي على قدميه. يشبه دونكيشوت حين يلاحق أحلاماً لا تتحقق. خانه جسده وجعله يتعب. زرته قبل ساعاتٍ من رحيله وأخبرته أنّ شابات جميلات يسألن عنه. ضحك. أجزم أنّه كان في ذروة وعيه. لعلّها سكرات الموت والصفاء الأخير. أفقد أباً وأخاً ومعلّماً لا يُعوَّض. ريمون جبارة عُمر. منذ العام 1973 وهو في أبهى حضوره فيّ. مَن غادروا هذه الأرض أكثر من الباقين عليها. في إمكان ريمون جبارة أن يعيد المجد إلى المسرح. يكفي أن يقرر فيفعل.

كميل سلامة: "نيّالنا"!

لو كنت من القائلين إنّ ريمون جبارة لم يعد بيننا لما كتبت. فأنا لست بارعاً في تنميق الأحاسيس. بالنسبة إلينا، نحن مَن رافقنا ريمون جبارة، لن نستسلم للذكريات بل سنغرف منها ذلك الفرح الذي غلّف كل لحظة من لحظات المسرح معه. فعل "كان"، لن يعنون أيّ جملة عن ريمون. ريمون ليس ذكرى بل هو حياة ، ليس ماضياً بل هو مستقبل. كلّ مَن يريد أن يعرف ريمون جبارة علينا أن نقول له: أنظرْ في عيوننا، راقِبْ كيف نعمل، تعلّم كيف نحبّ مَن سيعمل معنا. هذه كلّها إشارات واضحة تجيب عن كلّ سؤال له علاقة بما عشناه معه. "نيّالكن قعدتو معو، نيّالكن اشتغلتو معو". قولوها باستمرار، فلن نضع خرزة زرقاء، بل سنضحك ونضحك لأنّه بالفعل "نيّالنا"!

النهار اللبنانية في

15.04.2015

 
 

رحيل الساخر ريمون جبارة «صانع الأحلام» ورفيق المهمشين

يوارى الثرى عن 80 عامًا غدًا بعد 5 عقود من معانقة المسرح

بيروت: سوسن الأبطح

يوارى المخرج والكاتب والممثل المسرحي اللبناني ريمون جبارة الثرى غدًا، طاويًا معه جزءًا من تاريخ المسرح اللبناني الحديث في نهضته الثانية بكل عنفوانها وحيويتها النابضة بالتغيير والتمرد.

ثمانون عامًا، لم تكن سهلة على الرجل الذي رفض أن تكون الخشبة غير امتداد صادق لمعاناته، بكل ما حملته له من ظلم وفقر وإجحاف، استحق منه سخرية سوداء، وعبثية مريرة. من منزله البائس الذي عاش تحت سقفه المعدني الذي بالكاد يحمي رؤوس ساكنيه من الزمهرير والقيظ في «قرنة شهوان»، إلى مستشفى بحنس التي لفظ فيها أنفاسه الأخيرة، رحلة شاقة وجبارة ومثيرة في وقت واحد. هو ابن الحركة المسرحية اللبنانية في عزها، منذ ستينات القرن الماضي، وأحد صناعها والمشاركين فيها، والنشطين ثقافيًا، والمؤثرين أكاديميًا من خلال تعليمه في «معهد الفنون» في «الجامعة اللبنانية»، وجامعة «سيدة اللويزة».

ابن موظف حكومي بسيط وكادح، لكنه تعلم في مدرسة الحكمة، وعشق المسرح منذ كان صغيرًا، حيث لعب أول أدواره في قرنة شهوان التي ولد فيها، في منطقة المتن عام 1935، تحت إشراف مختار القرية. لكن المسرح، كما يقول، بقي مثل «الحب المحرم» الذي يمارسه في «الخفاء». أصيب بالملاريا صغيرًا ولم يشف منها إلا في الخامسة عشرة من عمره. بعد ثلاث سنوات قرر الهجرة إلى البرازيل للعمل عند أحد أقاربه في سان بولو، لكنه لم يصمد هناك أكثر من شهرين، وعاد، كما يقول، منكسرًا كما لم يعرف من قبل معنى الانكسار، ليعيد النظر بكل ما كان حوله، وليبدأ رحلة مع الكتابة التي لم تكن يومًا جزءًا من حساباته.

كانت بدايته الحقيقة مع المسرح حين عاد منير أبو دبس إلى لبنان من فرنسا، راغبًا في تأسيس فرقة مسرحية، فاجتمع حوله ريمون جبارة، وأنطوان ولطيفة ملتقى ورضى خوري وأنطوان كرباج وميشال نبعة. ومع تأسيس «معهد التمثيل الحديث» التابع للجنة «مهرجانات بعلبك» فتحت الأبواب أمام هؤلاء الرواد، وبينهم جبارة، ليس فقط في لبنان؛ وإنما خارجه أيضًا.

ريمون جبارة، بدأ ممثلاً في أعمال طموحة، فقد لعب دور «إجيست» في مسرحية «الذباب» لسارتر، ودور «كريون» في مسرحية «أنتيغون»، و«ديب» في مسرحية «لعبة الختيار»، و«سعدون» في «الزنزلخت» من كتابة عصام محفوظ وإخراج برج فازليان.

تجربة الفرق المسرحية استهوته، فأسس فرقة «المسرح الحر» مع برج فازليان ومادونا غازي وآخرين، قبل أن يقرر الانتقال إلى الكتابة والإخراج معا عام 1970 متسلحًا بتجاربه التي قطفها مع كبار المسرحيين في ذلك الوقت. وكانت بواكير مسرحياته «لتمت دسدمونة»، التي نهلت من المسرح الإغريقي وشكلت أحد الأعمال الطليعية وقتها. ورغم أن المسرحية لم تجد صدى شعبيًا يذكر، فإنها استقبلت بحفاوة كبيرة من المثقفين، وأسالت حبرًا كثيرًا، ووصفت بأنها «مختلفة» و«لا تشبه غيرها من الأعمال».

هكذا بدأ ريمون جبارة يشق طريقه إلى الكتابة والإخراج؛ حيث استطاع أن يضع على الخشبة ما يقارب 15 مسرحية، وهو المؤمن أن الأدب لا يصلح لوضعه على المسرح، بل هو شيء آخر. لذلك كتب ما يليق بنبض المسرح، وما يخاطب روح المتفرج، مبتعدًا في أعماله كليًا عن المباشرة والتعليمية والنصح المقيت. هازئا، ساخرا، سوداويا، ما بين فقر الطفولة والمرض، ومن ثم معاناة الحرب والخراب، وحساسيته الشديدة للطبقية الاجتماعية، بدا جبارة قادرًا على ابتكار عالم قاس، جارح، يأخذ المتفرج إلى حافة الاستفزاز الموجع، بأسلوب نقدي ينتزع الابتسامة انتزاعًا.

بقدر ما يحب ريمون جبارة الشكوى والتململ، والتعبير عن الحيرة، والحالات الكابوسية، لا بد من الاعتراف بأنه كان محظوظًا فنيًا منذ مسرحيته الأولى؛ حيث عرضت على «مسرح بعلبك»، المكان الذي يتمنى الوصول إليه كثيرون ولا يحققون مرادهم. في بعلبك أيضا عرض «تحت رعاية زكور» كما كانت له صولات وجولات على «مسرح كازينو لبنان» حيث عرض «قندلفت يصعد إلى السماء» و«ذكر النحل» و«شربل». كان محظوظًا أيضا حيث تمكن من السفر والعرض في بلدان كثيرة، ومثل لبنان في مهرجانات مختلفة منها «مهرجان شيراز» في إيران في سبعينات القرن الماضي، ونال جوائز كثيرة تقديرًا لإبداعاته.

عشق لعبة المسرح داخل المسرح، واللعب على التناقضات، وتوليف الإيقاعات، والاعتماد على الصراع جوهرا لأعماله. لم يؤمن يومًا أن مخاطبة المشاعر الفياضة هي وحدها التي تشكل العمل الجيد، بل إدخال المتفرج في خضم معركة إنسانية تتصارع فيها الإرادات والنزعات، وتتولد الانفعالات الممزوجة بالأمل والخيبة واللامبالاة أحيانا. شكسبيري على طريقته اللبنانية، رغم أنه بقي طوال حياته عاتبًا على هذا اللبنان، متشكيًا أنه ولد في هذا المكان بالذات الذي لم يتمكن من هجره أو التخلي عنه. ومع ذلك مات ريمون جبارة راضيًا، قانعًا، عالمًا بأنه بلغ ما أراد، وأن المسرح اللبناني سيبقى يتذكر «صانع الأحلام» التي نالت جوائز في مهرجانات عربية وحظيت بتقدير النقاد، و«من قطف زهرة الخريف» و«جرائد وأناشيد»، وأن حبه للتفاصيل، وقدرته على اكتناه الأغوار بعمق ومرارة شديدين، تركت أثرًا لا يمحى في متفرجيه وطلابه.

عين مديرًا عامًا ورئيسًا لمجلس إدارة «تلفزيون لبنان» بين عامي 1987 و1990، غرق في العمل الإداري وأصيب بعارض صحي.

منذ التسعينات، أعاد تقديم مسرحيات، مثل «من قطف زهرة الخريف» و«زردشت صار كلبًا»، و«شربل» مع ممثلين جدد، مما أرجعه إلى الخشبة وأتاح الفرصة للجيل الشاب للتعرف على أحد رواد المسرح الحاذقين. كما قدم «بيكنيك عَ خطوط التماس» عام 1997. أما آخر ما شاهده محبوه على المسرح فهي «مقتل إن وأخواتها» عام 2012.

لم يهجر ريمون جبارة المسرح ولا الحياة الثقافية، حتى بعد أن أصابه شلل نصفي في تسعينات القرن الماضي، بقي يجوب المسارح على كرسيه المتحرك، وسيجارته في فمه، ليتابع كل مستجد، مصرًا على الاستمرار، عزيمته شدته لاستعادة أعمال وكتابة أخرى.. حبه للكتابة بقي يقظًا، وظلت روحه الساخرة في مقالاته التي واظب على نشرها في «ملحق النهار» وفي برنامجه «ألو ستي» عبر إذاعة صوت لبنان.

رحل رفيق المهمشين، صديق الضعفاء، المتمرد على كل أنواع السلطة، والمحارب للقمع، وبقيت لنا منه بريختيته، وخشبته المتقشفة الممتلئة بمناخاتها الجريئة والشاعرية في آن.

الشرق الأوسط في

15.04.2015

 
 

5 ألعاب إلكترونية تحولت إلي أشهر أفلام هوليوود

خاص ـ «سينماتوغراف»

عندما بدأت صناعة الألعاب الإلكترونية في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، لم يكن أحد يتوقع أن تتوسع هذه الصناعة وتصل لمثل هذه الطبقة العريضة من المستخدمين في جميع أنحاء الكرة الأرضية، بل وتقترب من منافسة أقوى الصناعات في العالم بأرباح تصل إلى 27 مليار دولار أميركي، مبيعات ضخمة تحققت بسبب قوة الألعاب التي صدرت، وأبطالها الذين حققوا أمتع الأوقات وجعلوا اللاعب يعيش أصعب اللحظات إثارة، وفيما يلي استعراض لأشهر 5 ألعاب فيديو تحولت لأفلام سينمائية كبيرة وحققت نجاحاً رائعاً.

1 ـ Silent Hill  (صمت هيل)

من أنجح الألعاب الإلكترونية التي تحولت لفيلم سينمائي، فقد احتفظ الفيلم بطابع اللعبة الأساسي وهو الرعب، والبيئة الكئيبة الغامضة والملابس النابضة بالحياة، وقدم بعض التغييرات الطفيفة التي زادت من إثارته، كما نقل بعض أجزاء اللعبة بشكل متقن مثل بطلة اللعبة وهي تشق طريقها وسط الممرضات، ويعتبر الفيلم من الأعمال التي تم اقتباسها باحترافية شديدة وحافظ على إثارة عاشقي اللعبة.

2 ـ Tomb Raider (تومب رايدر)

قيام النجمة أنجلينا جولي بدور البطولة في الفيلم السينمائي كان الاختيار الأمثل لبطلة اللعبة «لارا كروفت»، حيث تشابهت معها النجمة الأميركية في الملامح والحركات وحتى قصة الشعر التي ظهرت بها في الفيلم، واستحوذ العمل السينمائي على إعجاب اللاعبين والنقاد معاً، كون قصته تتعلق بالحضارات القديمة والأسرار الغامضة مما جعله يحصل على جزء ثاني في عام 2003، وينتظر قدوم الجزء الثالث خلال العام المقبل.

3 ـ Resident Evil (الشر المقيم)

مع صدور أجزاء من سلسلة العاب «الشر المقيم»، استطاعت شركة «كابكوم» اليابانية أن تكون جماهير عريضة للسلسلة في إصدارتها القديمة، وكان من الطبيعي تحول اللعبة في عام 2002 لفيلم سينمائي من بطولة النجمة الأوكرانية «ميلا جوفوفيتش»، وحقق مردوداً واسعاً مع احتفاظه بعناصر اللعبة من رعب وأكشن وأحداث علمية مثيرة، ووصلت السلسلة إلي الفيلم الخامس.

4 ـ Prince of Persia: The Sands of Time (أمير فارس: رمال الزمن)

سلسلة ألعاب «أمير بلاد فارس» استطاعت أن تقود جيلاً كاملاً من الألعاب خلفها، كونها أول من استخدمت أسلوب اللعب المبهر في التسلق والقفز، بالإضافة للقصة المتقنة وتعلق اللاعبون بالشخصية الرئيسية، واستطاع الممثل«جايك جيلنهال» أن يبهر المشاهدين في دور الأمير «داستان»، الهارب باحثاً عن طريقة لإيقاف عمه من استخدام سلاح زمني قد يتسبب في دمار العالم، ويتم حاليا إعداد جزء ثاني للفيلم، للصدور خلال نهاية عام 2016.

5 ـ Hitman (القاتل)

اسم العميل 47 الذي يقتل ويختفي كالشبح، ولا يترك خلفه دليلاً، قليل الكلام، حاد الطباع، حليق الرأس، وتلك هي سمات أحد أشهر الشخصيات في عالم الألعاب، شق طريقة إلي عالم السينما، وتورط مع مجموعة سرية تعرف باسم «المنظمة»، وضعته بمهمة سياسية ليجد نفسه وحيداً في مواجهة الإنتربول والجيش الروسي، وحقق الفيلم شهرة طيبة ولفت نظر الجمهور إلي تلك السلسلة التي يجرى الإعداد حاليا لتجهيز أعمال عنها مستقبلا.

سينماتوغراف في

15.04.2015

 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2014)