كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

رؤى نقدية

 
 
 
 
 

جان جاك آنو يفتح قلبه في باري: روّضتُ الوحش الذي في داخلي!

المصدر: "النهار" - باري (جنوب ايطاليا) - هوفيك حبشيان

 

في أواسط التسعينات، أي قبل نحو عشرين عاماً، أنجز جان جاك آنو فيلم "أجنحة الشجاعة"، المتوسط الطول، بالأبعاد الثلاثة. في هاتيك الأيام، كانت هذه التقنية مغمورة، نادراً ما نرى مخرجين يلجأون اليها. النحو الذي استعمل به آنو هذه التقنية جعل فرنسيس فورد كوبولا وجيمس كاميرون يجريان أبحاثاً في هذا المجال. استقطب الشريط 7 ملايين مشاهد في الصالات الفرنسية. من هذه المحطة في سيرة المخرج الفرنسي الألمعي (72 عاماً)، اختار أن يبدأ الناقد ميشال سيمان "درسه السينمائي" في مهرجان باري (جنوب ايطاليا من 21 الى 28 آذار)، تظاهرة سينمائية انطوت على أهمّ حدث سينمائي لبداية هذه السنة في أوروبا. هذا الحدث جاء على شكل لقاءات مع مجموعة من السينمائيين لم يجمعهم أي مهرجان من قبل: جان جاك آنو، كوستا غافراس، ايتوري سكولا، ناني موريتي، مارغريت فون تروتا، آلن باركر وادوارد رايتز. في نهاية كل لقاء، كرّمهم اتحاد جمعيات نقاد السينما (فيبريسّي) بدروع تكريمية في ذكرى مرور تسعين عاماً على تأسيسه.

... مع ميشال سيمان.

نحن رسّامون ولسنا نحّاتين

روى آنو، مخرج "اسم الوردة" و"الدب" و"العشيق" "وستالينغراد" بحيويته المعهودة وحسن اختياره للكلمات، أنه ذهب في العام 1993، للعمل في شركة "كولومبيا" الأميركية. قبل فترة قليلة من ذلك، كان توجه الى تورونتو لمشاهدة مقاطع بالأبعاد الثلاثة وبالـ"أيماكس" بناءً على طلب من أحدهم، فأدهشه الاختراع الجديد. يقول آنو: "جودة الأبعاد الثلاثة كانت جد عالية الى درجة أنها شجعتني على أن ألجأ اليها في فيلمي التالي. آنذاك، كنت أعمل على قصة طيار فرنسي يتيه اثناء التحليق، استناداً الى نصّ جميل لسانت اكزوبيري. كان لديّ سيناريو جاهز ولكن كانت تنقصني مادة كافية تليق بفيلم من ساعة ونصف الساعة، ففكرتُ في أن اختزله الى فيلم من 50 دقيقة. أقنعتُ "كولومبيا" فأتاحت لي فرصة إنجاز أول فيلم روائي منذ الخمسينات بالأبعاد الثلاثة.

كثرٌ حاربوني لاعتقادهم أنه غير قابل للتنفيذ. في ذلك الحين، لم تكن هناك صالات مجهزة بالأبعاد الثلاثة. كان هناك واحدة فقط في فانكوفر. قررت "كولومبيا" إنشاء صالات سينما بهدف عرض "أجنحة الشجاعة". فوجدتُ نفسي أتنقل في أماكن مختلفة من العالم لجعل الناس يكتشفون متعة المشاهدة الثلاثية البُعد. لكني أريد أن أقول شيئاً: نحن السينمائيين كالرسامين، نبني داخل اطار محدد، ليس عندنا حقيقة أخرى غير تلك التي في داخل الكادر. العمل بالأبعاد الثلاثة مختلف تماماً: أنت لم تعد مخرجاً هنا بل نحات، وهذه ليست مهنتنا. عندما تصوّر لقطة مقرّبة (كلوز آب) لوجه بالأبعاد الثلاثة، لا يعود وجهاً كبيراً على شاشة كبيرة، بل وجه بحجم طبيعي أقرب من المُشاهد. حتى نوعية الانفعالات تتغير. خلافاً للفكرة السائدة، فالأبعاد الثلاثة فاعليتها أعلى في المَشاهد الحميمة. ولكن، كالعادة، عندما نخترع شيئاً ما، نميل الى الإكثار من استخدامه. هكذا كانت الحال في بدايات السينما الناطقة، عندما كان المخرجون يبالغون في استخدام الأغاني. عندي، أن كلّ فيلم هو قبل كل شيء حكاية. على التقنية ألاّ تُغرق السرد. المشكلة في الأبعاد الثلاثة أن بعض الناس يصابون بالصداع من جرائها، فينزعون النظارة عن عيونهم ليتابعوا الفيلم من دونها، ما يُفسد كل شيء.

آنو: السينما رؤية فردية لا جماعية.

أركن الى عواطفي

خاض آنو تجربة دولية عابرة للقارات والثقافات، قلة من السينمائيين الفرنسيين (أو غير الفرنسيين) خاضوا مثلها. أنجز أفلاماً في أصقاع الأرض كافة: صوّر "العشيق" في جنوب شرق آسيا، "اسم الوردة" في ايطاليا، "سبع سنوات في التيبت" في الأرجنتين، "الشقيقان" في كمبوديا، "جلالة مينور" في اسبانبا، "ذهب أسود" في شمال أفريقيا، "الذئب الأخير" في منغوليا. سأله سيمان "لماذا هذه الحاجة في التشرّد؟"، فقال: "يستهويني اكتشاف أزمنة مختلفة؛ أحبّ الذهاب للقاء حضارات أخرى. لا شيء يسعدني مثلاً أكثر من وجودي هنا الآن في إيطاليا، حيث صوّرتُ "اسم الوردة". آنذاك، غمرتني سعادة لا توصف، ولا أزال أحتفط بشيء من الروح الايطالية. ولكن هذا ليس إحساساً أريده لنفسي فقط، بل أحب أن أشارك المشاهدين الشعور الناتج من هذا الاكتشاف. السبب الآخر خلف هذا التجوال، أنني لم أكن أجد في فرنسا المال الذي أحتاجه لإتمام أفلامي. لحسن الحظ، بعد فيلمي الأول الذي كان فشلاً جماهيرياً ذريعاً في فرنسا، تلقفتني هوليوود بـ"أوسكار" أفضل فيلم أجنبي. فعرضوا عليّ في أميركا مشاريع عدة، وعندما قررتُ إخراج "حرب النار"، هوجمتُ في فرنسا، فاضطررتُ على اثره أن أوضب أمتعتي والرحيل. وجدتُ تمويلاً في الولايات المتحدة وبدأتُ أبحث عن أماكن تصوير في سكوتلندا وكينيا وكندا. هذه التجربة الإيجابية عززت عندي الرغبة في الذهاب الى أبعد من نهر السين. كنت بدأتُ أستمتع في التصوير مع طاقم لا يتكلم بالضرورة لغتي الأم، ما كان يؤكد هيمنة لغة اخرى هي لغة السينما. لذلك، عندما أنجز فيلماً لا أعرف مسبقاً مَن الذي أتوجه اليه، لكن أعرف أنهم من ثقافات مختلفة. أحاول دائماً أن أبني فيلماً بالركون الى عواطفي بدلاً من عقلي. لذلك، لا تشبه أفلامي دائماً ما اعتدنا مشاهدته في السينما الفرنسية". 

لولا افريقيا...

في صباه، قبل التحاقه بالجامعة، كان آنو حائراً بين علم الآثار والسينما. تسجل في حصص اللغة الاغريقية وتاريخ القرون الوسطى وهو يتابع دراسته في معهد السينما. اهتمامه بـ"اسم الوردة"، رواية أمبرتو إيكو التي أفلمها أفلمة بديعة، لم يولد فجأة، فهو كان مشغوفاً بالأديرة منذ صغره وكان يلتقط لها الصور، مع أنه يصرّ على أنه ليس متديناً ولا يؤمن بإله ما، لكنه يحترم كثيراً إيمان الآخرين ويعشق التصوير في المعابد.

أمام حضور ملأ مسرح بتروتسيللي بهندسته المعمارية المدهشة، حكى آنو أنه بعد إتمامه الدراسة، أُرسل رغماً عنه الى أفريقيا كي يدرّس السينما: "كنت أكره هذا الشيء لأنني كنت بدأتُ أنجز افلاماً دعائية وكان كلّ شيء على ما يرام. ولكن ما إن فُتح باب الطائرة، حتى وقعتُ في غرام هذه القارة. مذذاك، أزورها مرةً كلّ عام. أفريقيا غيّرت حياتي لأنها سمحت لي بأن انظر الى العالم من زاوية أخرى. أعتقد أنه لولا احتكاكي بهذه الثقافة المختلفة عن ثقافتي، لما أنجزتُ ما أنجزته من أفلام".

خلال الحديث، شبّه سيمان أفلام آنو بمغامرات تانتان، مؤكداً تلك النزعة الطفولية التي أبقت المخرج مراهقاً أبدياً. كان ردّ آنو أنه كغيره من المخرجين، ينجز دائماً الفيلم نفسه، ويموّهه بحكايات جديدة. "العمل في السينما يسلّيني. لا شيء أكثر من العطلة يبعث على الضجر. السينما لعبة رائعة. في داخلي، لا أزال بالحماسة التي كنت عليها عندما أتلقى هدايا العيد. طبعاً، يزداد الشعر خصلاً بيضاء، يمر الزمن ولا نلحظه، ومع الوقت تتجمع في داخلنا مشاعر متضاربة، أولها الخوف من التعثر، وهذا أيضاً متعة".

آنو: التعامل مع غريزة الحيوان علمني كيف اتعامل مع الممثلين.

 كنا نذهب الى السينما أيام الأحد

الكلام عن بدايات الارتباط بالسينما يحملنا الى طفولة آنو، "العادية جداً في ضاحية باريس". يقول إنها كانت حياة مريحة ولكن مقلقة، وكأن كل شيء مخططاً سلفاً. في المقابل، كان الأفق مسدوداً والمجازفة غير ممكنة. كونه ابناً وحيداً، كانت متعته تقتصر على مرافقة أهله يوم الأحد الى السينما. ارتياد تلك الصالة المظلمة كان أشبه بالسفر الى كوكب مجهول ليس فيه أي شيء مما عرفه في الحياة اليومية. يتذكر: "كان اهلي من المولعين بالسينما الإيطالية وبفيتوريو دو سيكا. الفيلم الأول الذي شاهدته هو "سارق الدراجة". كنا نشاهد بشكل أساسي الأفلام الإيطالية. إيتوري سكولا؟ أعشقه عشقاً. كنت أحلم بأن أعيد الاعتبار إلى موهبته الفظيعة. إنها لمتعة خالصة أن أكون هنا مع آلان باركر وإيتوري سكولا وكوستا غافراس. باركر كان مدرسة في صناعة الاعلانات، وكان له تأثير كبير في عملنا جميعاً. كوستا غافراس أنتج فيلمي الأول، وسكولا اضطلع بدور أساسي في تكويني. شاهدتُ أفلامه عدداً لا يُحصى من المرات. أحببتُ عنده حسه الاستعراضي الموغل في أناقة بصرية. كنت أخرج من الصالة التي تعرض فيلمه وأتوجه الى كابينة الهاتف لأخبر أصدقائي أنني شهدتُ تحفة سينمائية جديدة لسكولا".

يحكي آنو أن الاشتغال في الدعايات علّمه منطق الاقتصاد في الكلام والاحتكام الى الصورة. "بالصورة كنت أخبر القصة وبالصوت كنت أعرّف عن المنتوج الذي نريد ترويجه. الطبقات المتعددة في السينما، هذا شيء فهمه السينمائيون الإيطاليون مبكراً. لسنوات، كانت الأفلام الإيطالية تدخل الحوارات الى المشاهد عبر الدوبلاج، أي في مرحلة ما بعد التصوير. هكذا كان يعمل فيلليني. أدركتُ هذا عندما عملتُ مع تونينو ديللي كوللي على "اسم الوردة"، فكان الرجل لا يتوقف عن الثرثرة أثناء التقاط المشاهد، ما كان يثير استياء شون كونري [يقلّد طريقة كلام ديللي كولي الانكليزية]. بعد أسبوعين من التصوير، قلتُ له: تونينو، عليك أن تسكت، نحن نصوّر الآن سينما ناطقة! فقال مهتاجاً كعادته: سينما ناطقة، سينما ناطقة... فيلليني أيضاً كان يصوّر سينما ناطقة، وربح ثلاث جوائز "أوسكار" وكنا نتكلم خلال التصوير. فعلاً، وللأمانة، تُصاب بذهول عندما تشاهد الدينامية التي تحتويها هذه الأفلام، لأن السينمائيين كانوا يحتكمون أولاً الى الإخراج ثم يأتي الحوار في المقام الثاني".

أنا مروِّض ممثلين أيضاً...

عندما يتحدث آنو عن ديللي كوللي، تستنفر عنده كل الحواس، فيقلّد المصوّر الكبير بلكنته الانكليزية الغليظة. يقول: "دققنا في الكثير من اللوحات مع تونينو عندما صوّرنا "اسم الوردة". أتذكر في أحد الأيام كنا نتأمل لوحة شهيرة لرمبرانت، فقلتُ له إن هذه هي الأجواء التي أريدها، فراح يصيح كالعادة: ليس هناك شبّاك، كيف يتسلل الضوء الى الداخل، من أين تريدني أن آتي بمصدر للنور اذا لم يكن هناك شباك... أين تريدني أن أضع الكاميرا؟".
أدار آنو خلال مساره ليس ممثلين فحسب بل حيوانات كذلك. دببة ونمور وخنازير وذئاب. كل هذه الحيوانات المفترسة عرف كيف يروّضها وتجده يعتبر نفسه مروّض ممثلين أيضاً. يقول بلا تردد إنه عندما يتسنى للمخرج التعاطي مع الدببة والنمور، هذا يساعده في فهم الحيوان الذي في داخله، فبدلاً من أن يخاف منه يحاول السيطرة عليه. عنده، هذا هو الدرس الذي تأتينا به الحياة: أن نروّض الوحش الذي يقيم فينا. عموماً، لم يعد يفرّق كثيراً بين أن يدير طفلاً صغيراً أو ذئباً، بين كومبارس من نابولي ونجمة من هوليوود. يقول: "علّمتني كيفية التعاطي مع غريزة الحيوان أن أتعامل مع الممثلين تعاملاً أفضل. الدبّ حيوان لا يفعل الكثير، ما يصعب تصويره، وهذا ما جعلني ألجأ الى المونتاج والى "تقنية كوليشوف"، أي أنه لا يهم ردّ فعل الممثل بقدر ما تهمّ الحالة التي يجد نفسه فيها. فالفرق صفرٌ في تعابير الوجه بين دبٍّ فرح ودبٍّ مستاء، لذا كان عليَّ أن أضعه إما في مواجهة شخص متعاطف معه وإما في مواجهة صياد كي نفهم الحالة النفسية التي هو عليها. هذا كان أيضاً درساً لي، لأن على المخرج في الكثير من الحالات أن يضبط فيض المشاعر والانفعالات التي يأتي بها الممثل. كان لدينا في فرنسا ممثل اسمه جان غابان، وغابان كان يفعل مثل الدبّ، أي أنه لم يكن يفعل شيئاً. وكنا نقول عنه إنه عبقري، كونه كان يُفّهِم المُشاهد ما يريد إيصاله. عندما يكون السياق متماسكاً، الباقي يأتي من تلقاء ذاته. شون كونري كان يقول دائماً: لا داعي أن أنفعل، الأهمّ أن أقود المُشاهد الى الانفعال".

إحدى أجمل اللحظات في الدرس الذي قدّمه آنو هي عندما قلّد شون كونري. قال: "هناك أشخاص لا تستطيع أن تديرهم الاّ بالمليمترات. هكذا كان كونري. كان يسألني أسئلة محددة جداً. وإياك أن تقول له "إفعل كما تشاء"، فهذا كفيل أن يصنّفك من الحمقى. في إحدى المرات، قبل ثلاثة أسابيع من بدء تصوير "اسم الوردة"، طلب مني أن يتمرن على أداء أحد المشاهد، فرضخنا لطلبه. في البلاتو، سألني: أين الشبّاك؟ كون الديكور لم يكن جاهزاً بعد وكنا نتظاهر بأنه موجود، قلت له: أخط ثلاث خطوات وتخيّل أنه هنا. فتمرّن كونري على أساس الخطوات الثلاث. بعد ثلاثة أسابيع، حان موعد التصوير: كان كلّ شيء كما خلال التمارين ما عدا الشبّاك الذي صار على بُعد خمس خطوات من شون بدلاً من ثلاث. قام شون بثلاث خطوات ووقف عاجزاً عن القيام بخطوة إضافية. عملي مع كونري كان بعكس عملي مع باتريك دوفير الذي كان يتفاعل مع الدور غرائزياً".

الفيلم هو رؤية انسان واحد

يذكّره سيمان بقول لأمبرتو إيكو: ليس مهماً ما يقوله الكاتب بل ما يقرأه القارئ. يُقر آنو بأنه لولا هذا التأكيد من إيكو لما أنجز الكثير من أفلامه. ففي نظره "كل صورة تخلق انفعالاً يكون ناتجاً من تأويل المُشاهد لها. فيلم "الدب" مبني بأكمله على هذا المبدأ، ويعتمد على مشاركة المُشاهد".
يتطرق آنو في اللقاء الى النحو الاشكالي الذي كانت أفلامه تُستقبَل فيه دائماً في فرنسا. يقول إن المهاترات حول أفلامه وعداء بعض النقاد لها ظاهرة محض فرنسية. "كوني لم أنجز أفلاماً فرنسية، فهذا كان يعطي الحقّ للصحافة أن تهاجمني باستمرار. لطالما شعرتُ نفسي أقرب الى السينما الايطالية منها الى "الموجة الجديدة"، حتى لو كنت من القلائل الذين ساعدهم فرنسوا تروفو في آخر حياته - وأستطيع القول إننا أصبحنا أصدقاء نوعاً ما. لذلك، بدلاً من البقاء في فرنسا، ذهبتُ للعمل في بلدان أخرى حيث حظيتُ بفسحة حرية أكبر، كوني كنت أعلم مسبقاً أن كل فيلم سأنجزه في فرنسا ستقابله كمية هائلة من السباب. فانتقلتُ بين عواصم العالم، من أميركا الى الصين. من الواضح أن الناس الذين يكتبون عن السينما في فرنسا ليسوا في معسكري. يلومونني أنني أصنع سينما أميركية في حين أن كل مراجعي اوروبية. عندما كنت صغيراً، لم أكن أشاهد الأفلام الأميركية قطّ؛ كان أهلي يقولون إن السينما الأميركية نموذج للغباء. بدأتُ أكتشفها عندما بدأتُ أعمل ناقداً سينمائياً. طبعاً، كنت أعرف أمثال جون فورد. أوروبا هي التي صنعتني، السينما التشيكية والبولونية والايطالية... فورمان، بولانسكي، الخ. اذا ذهبتُ الى الولايات المتحدة، فلأنني لم أستطع أن أموّل أفلامي في فرنسا".

أخيراً، يشتكي آنو، الذي يبلّ يده في كل مراحل إنجاز الفيلم، مما يُسمّى عروض التجارب في أميركا وهي ممارسة مرعبة تخالف مبدأ الخلق. خلال هذه التجارب، تُطرح على المشاهدين أسئلة من نوع "ما هو المشهد الذي لم يلق اعجابك؟". عادة، تطال الأجوبة مشاهد تتسبب بالأسى، فيُطلَب من المخرج حذفها حتى لو كانت ضرورية للسياق الدرامي. يقول: "أحمد الله أن افلامي خرجت سالمة من تلك التجارب. الفيلم هو رؤية انسان واحد وليس رؤية جماعية. اذا بدأتَ تسأل هذا أو ذاك عن المكان المناسب للكاميرا وما إلى هنالك من أمور جمالية، يفقد الفيلم شخصيته. هناك مخرجون كبار اضطروا الى تعديل مشاهد من أفلامهم بعد ردود سلبية من مشاهدين. إحدى مآسي السينما الأميركية اليوم أن لجاناً تتولى كتابة سيناريوات، ثم يتحقق من "صحتها" مشاهدون يؤتى بهم من كل مكان في أميركا، والآن باتوا يسألون الصينيين عن رأيهم بهذه الأفلام. هذه المبادرات تنتج افلاماً باهتة لا تخاطب احداً".

hauvick.habechian@annahar.com.lb

النهار اللبنانية في

02.04.2015

 
 

مهرجان تطوان السينمائيّ الـ21..

هل السينما للترفيه أم لطرح القضايا فحسب؟

نديم جرجوره

بين 28 آذار و4 نيسان 2015، تُقام الدورة الـ 21 لـ «مهرجان تطوان الدولي لسينما بلدان البحر الأبيض المتوسّط». دورة جديدة لمهرجان يُراد له أن يكون واجهة مدينة مغربية تُعتبر «عاصمة الإبداع» في مقاطعة طنجة، وتوصف بأنها أكثر المدن المغربية «أندلسية». يواجه المهرجان تحدّيات جمّة، معظمها محليّ. الصراعات السينمائية في المملكة المغربية معروفة. حدّتها لا تقلّ قسوة عن أنماط أخرى من الصراعات. مع هذا، يجد مهرجان تطوان نفسه في موقع الـ «متشدّد» في تنظيم دورات سنوية له وإن في ظلّ احتدام الصراعات هذه، والساعي الدائم إلى امتلاك استقلالية ما، أو محاولة امتلاك استقلالية كهذه، تجنّبه مناكفات حُسّاد.

المهرجان بحدّ ذاته مُطالَب، على الرغم من الظروف الصعبة، بتطوير بنيته وآليات عمله واختياراته. الدورة الجديدة هذه تحاول أن توازن بين عروض ومسابقات وتكريمات، وأن تمنح للنظريّ مكاناً في نشاطاتها اليومية. التكريمات معقودة على شخصيات سينمائية فاعلة في المشهد المغربيّ أولاً، كما في المشهدين العربي والغربي. رحيل البعض يدعو المهرجان إلى إيجاد حيّز لمن يغيب: المخرج الإيطاليّ فرانشيسكو روسّي (15 تشرين الثاني 1922 ـ 10 كانون الثاني 2015) أبرزهم. الممثلان المصريان فاتن حمامة (27 أيار 1931 ـ 17 كانون الثاني 2015)، وخالد صالح (23 كانون الثاني 1964 ـ 25 أيلول 2014): «يعتبر المهرجان استحضارهم واجباً ومسؤولية تجاههم، هم الذين وضعوا ثقتهم فيه، وكُرّموا في دورات سابقة له، وهم الذين أثروا الخزانة السينمائية الإنسانية بأفلام وأدوار خالدة». أما من الأحياء، فهناك الفنانة المغربية ثريا جبران، والممثل المصري أحمد عزّ.

هذا كلّه حسنٌ. فعلى الرغم من عدم خروج فعل التكريم عن الصورة التقليدية له (كعرض أفلام للمُكرَّم)، إلاّ أن عملية اختيار المحتفى بهم تبقى نتاج مزاجية مسؤولي المهرجان ومنظّميه. اللافت للانتباه في الدورة الـ 21 هذه، اختيار موضوع الندوة. المهرجانات السينمائية العربية مولعةٌ بالندوات. تختار إداراتها عناوين تظنّ أنها جاذبةٌ لضيوفها وزوّارها، فإذا بالصالات المنعقدة فيها تبقى شبه خالية إلاّ من بعض الضيوف «المحرَجين» من مضيفيهم، غالباً. عنوان ندوة هذا العام في تطوان مهمّة: «السينما والمدينة والبيئة»، يُشارك فيها خبراء ومتخصصون: جورج أوراثيا (إسبانيا)، وجيل كوردير (فرنسا)، ولوتشيانو سيفيني (إيطاليا)، وفريد الزاهي وعبد الواحد المنتصر (المغرب). مدير المهرجان أحمد حسني يكشف نصّ ورقة العمل الأساسية المُعدَّة من قِبَل «أصدقاء السينما في تطوان» (الجمعية المنظِّمة للمهرجان). تقول الورقة إن السينما «لم تدر ظهرها يوماً للأخطار التي تهدّد مستقبل الأجيال المقبلة، بعد ارتفاع الأصوات في مختلف أنحاء العالم، مُحذّرةً سكّان كوكب الأرض من مغبّة استنزاف ثروات المعمورة، والاستغلال المفرط للموارد الطبيعية، والقضاء على الثروتين الحيوانية والنباتية». من هنا، «يبدأ الحديث عن السينما والبيئة، ويستحضر مفهوم التنمية المستدامة بأبعاده الثلاثة: العدالة الاجتماعية، والنجاعة الاقتصادية، والجودة البيئية». تُضيف الورقة: «لم تكن السينما قطّ مجرّد وسيلة للترفيه المجاني، بل إنها استنفرت وسائلها وفاعليها وجمالياتها وبلاغتها الخاصة بنشر الوعي البيئي والتحسيس بأهميته»، و»حرصت منذ بداياتها على التعبير عما يخالج النفوس من آمال ومخاوف في مختلف الحقب، بحيث طرحت نفسها أداة تأويل الواقع». تذكّر الورقة «أن السينما ظهرت إلى الوجود مع ميلاد المدينة الحديثة، وأنها ما انفكت تواكب تطوّرها العمراني بالرصد والتحليل، مساهمة بشكل أو بآخر في خلق نوع من الوعي السوسيولوجي».

كلامٌ كثيرٌ مذكورٌ في ورقة العمل. لكن أسئلة قليلة يُمكن طرحها، أولها متعلّق بربط السينما بالـ «قضايا» الكبيرة فقط، والتغاضي عن أنها، فعلياً، «وسيلة ترفيه مجاني» أيضاً. أهمية السينما كصناعة أفلام كامنةٌ، من بين أمور عدة، في قدرتها على تحصين نفسها من الوقوع في التنظير الإيديولوجي، لأنها فنّ وصناعة وتجارة وأعمال ووسيلة تسلية. أهمية السينما كامنةٌ أيضاً في ضرورة تحرّرها من المباشَرة في طرح الـ «قضايا» المتنوّعة. ورقة العمل انعكاسٌ لأحد المآزق الإنسانية العامّة، ومحاولة لقراءة مفهوم العلاقة بين السينما والبيئة والمدينة. السينما، هنا، لن تكون حكراً على نوع واحد، لأن أفلاماً وثائقية وأخرى روائية تغوص في أعماق هذه العلاقة، وتطرح أسئلتها. التشديد على الجماليات السينمائية أمرٌ حيويّ ومطلوب، يُفترض به أن يستكمل آليات المعالجة الدرامية للمسائل كلّها.

النقاش النقدي والسجاليّ ضروريّ. التنقيب في جوهر العلاقة وأعماقها وأسئلتها أيضاً. لكن الأهمّ كامنٌ في السؤال التالي: هل المطلوب من السينما أن تحرّض مشاهدي نتاجاتها على التحرّك من أجل هذه القضية أو تلك؟ ربما نعم. لكن، في حالة كهذه، يُطرح سؤال ثانٍ: إلى أي مدى تستطيع السينما، حقّاً، أن تحرّض على مواجهة التحدّيات المختلفة؟

«حتى تنقطع أنفاسي» للتركية أمنه بالجه.. صوت القاع المكتوم

زياد الخزاعي

بوجه شاحب وعدائي وكئيب، تضمر الشابة سراب، بطلة فيلم «حتى تنقطع أنفاسي» للمخرجة أمنه أمال بالجه، ضغينة شخصيّة ضد محيطها المدجج بالشحناء والرياء وكمائن النفاق. ابنة جيل دولة الرئيس رجب طيب أردوغان، العميقة القائمة على سياسة «ثواب وعقاب»، والضامنة سيطرة حزب أصولي على مؤسّسات ناهضة، كرّست لاحقاً وبشكل مباشر نفوذ زعيم سلطويّ، وانغمست في لُعب إقليمية وحروبها الجديدة (سوريا، العراق، ليبيا). بيد أن هذه الفورة قامت على خرائب قطاعات مهنية مقصيّة، تساوم نضالاً يومياً شرساً في تأمين استحقاقات قُوتها وكرامتها. سراب ابنة قطاع من «مستعبَدين» في مصانع تُنتج بضائع تكميلية ـ في حالتها مشغل خياطة ـ بساعات طويلة وليرات بخسة، لتصبح أجيرة من دون مستقبل أو أمان قانونيّ. تعلن سراب نفيرها لحرب اجتماعية ضد تفشي القهر في بلاد تصل فيها معدلات البطالة إلى 10،5 بالمئة، وضحاياها 3 ملايين و64 ألف مواطن تركي، إلى 9 ملايين آخرين فقدوا الأمل في الحصول على فرصة عمل، بحسب تقارير «هيئة الإحصاء التركية».

تتحوّل سراب، كاسمها، إلى كائن طاف وبطيء في هلام إنتاجي محموم، يعتبرها عورة اقتصادية، وبلا مهارة أو دوافع لاكتساب كفاءات جديدة. لن تلتفت البطلة إلى متطلبات مستقبلها المهني، فهي مغمومة بمصيبة أكبر: تأمين مال كافٍ لاستئجار شقة تضمّها ووالدها السائق المتغيّب دائماً. صوّرت بالجه (1984) وساوس صبيتها كشرّ مطلق لا ينعكس على وجهها، بل نراه ملتصقاً بجسدها الضئيل الخالي من الأنوثة. لذا أبقت كاميرا القدير مراد تنجيل تصوّرها من الخلف طوال أوقات جولانها بين المشغل الكئيب والضاغط وشوارع الضواحي الفقيرة لإسطنبول، تورية إلى أن الآخرين لا يرونها ككائن ذي مقام، بل كروح منهزمة. وهو ما تساير مع جور يمارسه بعسف ذكوري زوج شقيقتها، الذي يلمّح مراراً إلى شكوكه حول «ثروتها من الليرات» المخبّأة في مكان ما، قبل أن يفرض عليها «تفتيشاً» عُنفياً، يحمل صبغة بوليسية، لجيوبها وحقيبتها.

كائنات سراب الأخرى ليست أقلّ هواناً منه. فوالدها (رضا أكين) يُصادر (وهو فعلٌ أقرب إلى السرقة) مدّخراتها الثمينة، ويخسرها في رهان غير منطقي. فيما يصبح لاحقاً حبّها المتواري للشاب الوسيم يوسف وزراً، حين تكتشف أن صديقتها المقرّبة ديلبير (كِزَام دينزجه) تسعى إلى الإيقاع به، فتنتقم منها بلؤم أصفر، بأن تشي بها إلى رقيبة العمل سلطان (سيما كيجك) فتُطرد من العمل. لن يكتمل نفير سراب في حربها الشخصية، إذ عليها أن تسنّ حرابها ضد خساراتها وعزلتها وعوزها وغضبها والأكاذيب حولها وخيبة أملها، مسلّحة بصمت دهريّ، يجعلها شبه خرساء لا تقول الا أدنى كلام. نصّ المخرجة بالجه سلّعها كجزء ممّا يُصطلح عليه في العُرف السياسي التركي اليوم بـ «عادة اجتماعية»، حيث التورط في الفساد يتحوّل من مذمّة وعار إلى إلزام حياتي وسلوكيات ذات مسوّغات لتأمين رفاهية سريعة. وهو موقف سينمائي انتقادي نامٍ، تسعى عبره مجموعة من السينمائيين الأتراك إلى التنديد بـ «ظلم مؤسّسة حاكمة»، وتخريبها علمانية دولة راسخة، وحصار رعايا تعصف بهم غايات سياسية لنافذي حزب «السلطان البارّ»، إذ يتهكّم المخرج القدير أونور أونلو في «دعونا نرتكب خطيئة» (2014) على أحجية جريمة غامضة تقع داخل جامع إسطنبولي شهير، تُوِرّط إمامه الشاب وتحوّله إلى محقق بوليسي، ليكتشف أن مؤذن الجامع أرمني مسيحي، وأن القتيل متورّط في لغز حكومي. أما نصّ مواطنته ييشم أوسطا أوغلو «أعراف» (2012)، فيحيل خطيئة حمل البطلة الشابة بسفّاح من سائق شاحنة عابر إلى تحامل مسيّس بشأن فقدان جيل بلا حماية مجتمعية لبراءته. فيما يُشاكس المخرج ليفنت سوي أرسلان حيتاناً ماليّين جدداً في «أو. ه. أ.»، عبر حكاية النافذ علي وكدّه المحتدم إلى إنشاء متروبوليس اقتصادي عند شواطئ البحر الأسود. ولن نغفل اشتراك شريطي المخرجين غوتلوغ أتمان «حمل»، وكان مودجي «سيفاس» (كلاهما إنتاج العام 2014) في مقاربة البطريركية الحاكمة في نسيج ريفي عنفي.

ترى المخرجة أمنه أمال بالجه أن «سراب» جناية ظروف جائرة لنعرة سياسية قومية متصاعدة تنادي بالعزّة، لكنها تعرِض بقصد متحزّب عن تمايزات طبقية وتفاوتات أخلاقية وليدة، تنال بغلاظة من أرواح بشر «تجمّدت أصواتهم في حناجرهم»، كما يختم عزيز نيسين قصته الأثيرة «مزحة حمار».

السفير اللبنانية في

02.04.2015

 
 

الكنيسة الكاثوليكية والسينما المصرية

العرب/ أمير العمري*

الفاتيكان كمؤسسة رسمية ترعى الفكر الكاثوليكي في العالم، لا تقيم مهرجانات للسينما، بل ويصدر عنها الكثير من بيانات الإدانة لكثير من الأفلام التي تعتبرها خارجة عن منهجها الأخلاقي.

لا أحد في مصر ينكر فضل ودور الباحث والمؤرخ الراحل فريد المزاوي (1913- 1988) الذي يعد أحد رواد الثقافة السينمائية في مصر، فهو صاحب فضل كبير على أبناء جيل كامل من المثقفين والسينمائيين المصريين.

وكان المزاوي قد أسس مكتبة سينمائية متميزة، وكان أيضا وراء تأسيس مركز ثقافي كامل تابع للكنيسة الكاثوليكية في مصر، تحت اسم “المركز الكاثوليكي لوسائل التعبير الاجتماعي” بمشاركة القس بطرس فرانذيدس الفرنسيسكاني سنة 1949.

وكان المزاوي أول من حاول وضع قائمة للأفلام المصرية (فيلموغرافيا) بنى عليها الكثيرون فيما بعد.

كل هذه أمور معروفة وراسخة ولا مناقشة فيها. ولا شك أن العلاقة بين “مركز وسائل التعبير الاجتماعي” -ومن بينها السينما- وبين الكنيسة الكاثوليكية في مصر التي تتبع للفاتيكان في روما، هي علاقة عضوية عميقة، فلا ينفصل الاهتمام برصد حركة التعبير الفني والأدبي والاجتماعي عموما عن دور الكنيسة الكاثوليكية في نشر الدعوة المسيحية، والترويج للقيم والأفكار التي تتسق مع أسس العقيدة الكاثوليكية.

وقد يكون هذا من حقها، خاصة وأن القانون يكفل لها ممارسة مثل هذه النشاطات التي لا تتعرض للجانب السياسي.

ومع ذلك فطموح هذا المركز الذي يطلق عليه البعض “المركز الكاثوليكي للسينما” إلى القيام بدور في توجيه النشاط السينمائي المصري، هو أمر يدعو إلى التساؤل، في ضوء المهرجان السنوي للأفلام المصرية الذي ينظمه المركز الكاثوليكي ويشرف عليه القس بطرس دانيال. واللافت أن هذا المهرجان لا يفتح باب مسابقته لجميع الأفلام المصرية التي تنتج خلال العام السابق على إقامته، بل يضع شروطا لقبول الأفلام، تتعلق بتوجهها الأخلاقي ورسالتها الاجتماعية حسب المعتقدات الكاثوليكية، وهو بالتالي يمزج على نحو ما، بين الدين والفن، وبين الأخلاق والسينما، خاصة وأن الجوائز تذهب عادة -ليس إلى الأفلام الأفضل فنيا- بل تلك التي تمتلئ عادة بالحِكم والمواعظ الأخلاقية الساذجة، وتميل فنيا في اتجاه الميلودراما التقليدية.

وليس من الممكن بالتالي أن يعتد المرء بقيمة تلك الجوائز، ولا بالأفلام التي تحصل عليها.

ومن المثير للدهشة أن الفاتيكان كمؤسسة رسمية ترعى الفكر الكاثوليكي في العالم، لا تقيم مهرجانات للسينما، بل ويصدر عنها الكثير من بيانات الاحتجاج والإدانة لكثير من الأفلام التي تعتبرها خارجة عن منهجها الأخلاقي.

وللفاتيكان في ذلك سوابق مع روائع من السينما الإيطالية من أفلام بازوليني وبرتولوتشي وأليو بتري وغيرهم.

وفي المقابل يستمر المهرجان الكاثوليكي بفضل حماس الكثير من السينمائيين المصريين الذين يجدون المشاركة فيه تأكيدا لقيم الوحدة الوطنية بين العناصر المختلفة للأمة.

وهذا كل ما يهم الآن، أما ممارسة الرقابة الأخلاقية على الأفلام بدعوى عدم اتساقها مع “القيم الاجتماعية” فسيبقى موضوعا مؤجلا.

*كاتب وناقد سينمائي من مصر

العرب اللندنية في

02.04.2015

 
 

المهرجان الدولي للفيلم الشرقي في جنيف

“مُواجهة الحِقد بالحب.. والعُنف بالفَن.. والهمجية بالشعر

جنيف –  ياسمين كنونة

هذا هو الشعار الذي رفعه المهرجان الدولي للفيلم الشرقي بجنيف في دورته العاشرة التي امتدت هذا العام من 20 وحتى 29 مارس، وتجاوزت فعالياته حدود مدينة كالفان لتشمل 20 موقعاً توزع بين فيرسوا، ولوزان، وبعض المدن الفرنسية القريبة.

كدأبه منذ تأسيسه، ومن خلال باقة متنوعة تزيد عن 100 فيلم مشارك، سعى المهرجان الدولي للفيلم الشرقي في جنيف في دورته العاشرة إلى استكشاف تنوع المجتمعات الشرقية، ومَد الجسور، وتعزيز الروابط الثقافية بين الشرق والغرب، والتعرُّف على الوجه الآخر لهذا الجزء من العالم، بعيداً عن الصور النمطية والأفكار المُسبقة.

إفتتاح المهرجان خُصّ للشاعر السوري الكبير علي أحمد سعيد أسبر المعروف بـ “ادونيس”، الذي اختير كضيف شرف لهذه الدورة من خلال الفيلم الوثائقي “أرض الغياب، لقاء مع ادونيس” للمخرج الايرلندي جون البار يانسن.

وكما في الأعوام السابقة، سَجَّلَت دول شمال أفريقيا حضوراً قوياً في قائمة الأفلام المشاركة، تقدمتها تونس بـ 21 فيلماً، تبعتها الجزائر بـ 9 أفلام، ثم المغرب بـ 8 أفلام. ومن الشرق الأوسط كانت حصة الأسد للبنان بـ 14 فيلماً، وشاركت مصر بـ 10 أفلام، وكل من سوريا والأردن بـ 4 و3 أفلام على التوالي. كما شاركت إيران، وتركيا، وإسرائيل بـ 3 أفلام. وتصدرت فرنسا قائمة الدول الغربية المشاركة بـ 20 فيلماً، تلتها ألمانيا بـ 9 أفلام، وسويسرا بـ 4 أفلام. وشهد المهرجان أيضاً مشاركات من بلجيكا، والولايات المتحدة، وبريطانيا، وهولندا، وأستراليا، وكندا، والدانمارك، ودول أخرى من آسيا وأفريقيا.

أفلام وندوات وورش عمل

يُمكن القول أن المهرجان سبر أغوار الشرق بكل حالاته، من خلال مجموعة متنوعة من الأفلام التي لاقت صدى واسعاً سواء في وسائل الإعلام، أو من خلال مشاركتها في مهرجانات دولية أخرى. وكان شعار الحب هو القاسم المشترك لمعظم هذه الأعمال السينمائية، التي تناولت بشكل خاص الرؤى النسوية ودورها الإجتماعي والسياسي الجوهري في تاريخ هذه المنطقة، وهو ما بدا جلياً في مضامين الأفلام المشاركة، والعدد الكبير من المُخرجات النساء. كما تم تسليط الأضواء على قضايا الهجرة، والإندماج، والإختلاف، وثقافات الأقليات، وتفشي أعمال العنف وغيرها من الملفات التي تعجّ بها هذه المنطقة.

المهرجان تناول أيضا موضوع “النظرات المتقاطعة: سويسرا والشرق” الذي تضمن عروضاً لأفلام من إنتاج الغرب حول الشرق وبالعكس، مُسلطاً الضوء على غِنى التأثير الثقافي المتبادل. كما أولى أهمية خاصة لأفلام سويسرا الحاضنة للمهرجان، حيث يُقيم ويعمل العديد من المخرجين الوافدين من الشرق.

وبالتوازي مع العروض السينمائية، نُظِمت العديد من النقاشات والندوات التي تناولت عدداً من المحاور مثل “حرية الإهانة أو إهانة الحرية”، التي ناقشت وجهات النظر المختلفة بين الشرق والغرب حول مسألة حرية التعبير. وبغية عكس صورة “الآخر” لفئة الشباب، إهتم المهرجان أيضاً بِعَرض عدد من الأفلام التي تعالج قضايا هذه الشريحة للطلاب في مدرستين في جنيف، كما لم يُغفل إقامة معرض فني، وبرامج تعليمية، وورش عمل.

 المرأة في “فتاة المصنع

تَجَسَّد موضوعا المرأة والحب في فيلم “فتاة المصنع” للمخرج المصري محمد خان، الذي كان ضمن الأعمال الثمانية التي تنافست في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة. ويتناول الفيلم الذي “يعكس صورة المرأة المصرية العاملة في الطبقة المُهمشة من المجتمع” وفقاً للمخرج، وضع المرأة التي تعمل منذ صغرها لمساعدة أسرتها، من خلال نَقلِه تفاصيل حياة فتيات يَعمَلْن في مصنع للخياطة. وهو يروي قصة حب محكوم عليها بالفشل المُسبق بين إحدى العاملات والمشرف على المصنع، في ظل مجتمع يرفض علاقات الحب، وينصاع للشائعات، ولا يسمح بتجاوز الفوارق الطبقية حتى ضمن الطبقة نفسها.

ويركز الشريط الذي حصد غالبية الجوائز الأساسية في المهرجان القومي للسينما المصرية، ومهرجانات أخرى، على المرأة القوية المكافحة، وتمسكها بالأمل رغم القهر والفقر، وهو ما يبدو جلياً مع نهاية الفيلم، التي أبى فيها المخرج إلاّ أن يستبدل صورة الفتاة الجريحة بأخرى انتصرت على جراحها، بأن جعل بطلة الفيلم تخلع “طرحتها” وترقص في حفل زفاف من أحبّته “في دلالة على تحررها من محنتها وهي أكثر قوة وإصراراً على حقها في الحياة”، كما قال محمد خان.

التعاطي مع الإختلاف في “غدي

وفي مسابقة الأفلام الطويلة أيضاً، شارك الفيلم اللبناني ‘غدي’ للمخرج أمين درة، الذي “يطرح موضوع تعامل المجتمع مع ‘الإختلاف’ بكل أنواعه إبتداءً من الجسدي ووصولاً إلى عدم تقبل الآخر، مما يؤدي إلى الحروب بالنتيجة”، وفقاً لجورج خباز، مؤلف الفيلم، والقائم بالدور الرئيسي فيه. ويحكي الشريط قصة أب يدفعه حبه لولده المصاب بمتلازمة داون إلى اللجوء إلى حيل وطقوس غريبة، بغية إقناع سكان الحي الذي يقيم فيه بتقبل إبنه الذي كان يُزعجهم بصراخه المتواصل، إلى درجة تصميمهم على رفع شكوى لإلحاقه بمؤسسة لذوي الإحتياجات الخاصة. وفي مناخ من الكوميديا السوداء لمنطلقة من واقع مرير، ينجح الأب في إقناعهم أن ابنه ‘غدي’ ما هو إلّا الملاك الحارس للحي بعد أن كان سكان الحي يعتبرونه شيطاناً وعقوبة من السماء.

ويحمل الفيلم الذي حصد عدداً من الجوائز العالمية في طياته أكثر من رسالة، إبتداءً من تمسّك الأهل بولدهم المعاق في ظل مجتمع عنصري متناقض يحاول تهميش كل ماهو مختلف، وانتهاءً بتسبب هؤلاء “المختلفين” بالذات في تغيير هذا المجتمع نحو الأفضل.

وحول السبب في لجوئه إلى الكوميديا قال خباز:”إن نظرة العالم [العربي] نحو المختلف مضحكة بالفعل، وقد وجدتُ أن الكوميديا هي أفضل وسيلة لإيصال رسالة الفيلم إلى القلب والفكر”.

الموسيقى كلغة للتعايش

وفي سباق الأفلام الوثائقية، يسلط الفيلم التركي “موسيقى وتعايش” لمخرجه أوسيلي حنا الضوء على العمل الشجاع لمجموعة من الموسيقيين الذين يعملون مع أعدائهم المزعومين، في محاولة لرأب الإنقسامات العرقية والثقافية والدينية، وكسر الحدود والأساليب التقليدية في التفكير، في ظل ظروف وقيود إجتماعية وسياسية بالغة الصعوبة.

الفكرة راودت المخرج كما يقول إثر حضوره حفلاً موسيقياً في برلين لأوركسترا “الديوان الغربي الشرقي” التي أسسها المُفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد والموسيقار الإسرائيلي دانييل بِرِنباوم في عام 1999، والتي تضم موسيقيين من مصر، وإيران، وفلسطين، والأردن، ولبنان وإسرائيل، وسوريا، وآخرين من أصول أسبانية.

وفي بحثه عن حالات متشابهة، ينطلق حنا في رحلة حول العالم يتعرف المشاهد فيها على عدد من الفرق الموسيقية مثل “هارت بيت” في القدس، حيث يعزف ويغني مجموعة من الشباب الفلسطينيين والإسرائيليين بالعربية والعبرية، ومروراً بفرقة “آركيتكتس” من الصرب والألبان، الذين تضطرهم الضغوط السياسية والمشاكل الإجتماعية في ميتروفيتسا التي يقيمون فيها إلى تأليف موسيقاهم عبر الإنترنت، وإقامة حفلاتهم في إيطاليا، وإلى برلين حيث يُطرب المشاهد مع تنوع موسيقي غني فريد من نوعه مع فرقة “أغاني الإخوة” التي تعزف موسيقى الأناضول وبلاد ما بين النهرين، وتغني بالكردية، والأرمنية، والآشورية، والزازاكية، وغيرها من اللغات المختلفة لهذه المنطقة التي مُنِعَت في تركيا بعد تأسيس الجمهورية، في خطوة شجاعة لإظهار إمكانية التعايش السلمي واحترام الآخر.

سويسرا وتحديات الإندماج

مسابقة الأفلام القصيرة عرفت مشاركة المخرج السويسري /المصري كريستوف صابر مع فيلمه “التأديب”، الذي كان مشروع الدبلوم والتخرج للمخرج الشاب من كلية الفن والتصميم في لوزان.

تدور أحداث الشريط في محل بقالة في لوزان يديره مصريان، عندما يفقد أب صبره مع إبنته المشاكسة ويلجأ في لحظة غضب إلى تأديبها بضربة خفيفة، الأمر الذي تستهجنه إحدى الزبونات [السويسريات] التي تتدخل لتعطيه درساً حول التربية السليمة. ويحتدم النقاش مع تدخل كل الموجودين في المحل، والإختفاء التدريجي لأي أثر للكياسة، ليتفاقم الأمر بسرعة إلى عراك لا يستثني أحداً.

الفيلم الذي حصد العديد من الجوائز داخل وخارج سويسرا، إعتمد أسلوب المبالغة والكوميديا، لتسليط الضوء على سوء الفهم الذي قد ينتج عن الإندماج السيء للثقافات المتعددة. وتعمد المخرج زَج مزيج من اللهجات واللغات في الحوار كاللهجة المصرية، والجزائرية، والفرنسية، والسويسرية الألمانية، في إشارة إلى التنوع اللغوي والثقافي السائد اليوم في سويسرا.

وحول سبب اختياره هذا الموضوع لفيلمه، أعرب صابر عن اعتقاده بأن التعددية الثقافية لا تُناقش بما يكفي في السينما السويسرية وأضاف: “أجد أن سويسرا منقسمة بعض الشيء من الناحية السياسية، الناس مثلاً غير متفقين في مسألة الهجرة، ولبعضهم مواقف معادية للأجانب، وكنت أريد أن أظهِر هذه المواقف المتناقضة في التفكير في فيلمي”.

للتذكير، أشرفت على هذه المسابقات لجان تحكيم مؤلفة من شخصيات معروفة في عالم الفن، والأدب، والصحافة من الشرق والغرب، مثل المخرج السوري محمد ملص، والكاتبة والناشطة الدولية فوزية أسعد، ومحمد قبلاوي مدير مهرجان مالمو (السويد) للسينما العربية، وسهام بن سدرين، الناشطة التونسية في مجال حقوق الإنسان، وآسيا الريان، مديرة مهرجان سينما المرأة العربية في هولندا، وغيرهم.

سبعُ مسابقات

شهد مهرجان الأفلام الشرقية في دورته العاشرة (من 20 إلى 27 مارس 2015) 7 مسابقات تضمنت الأفلام الروائية الطويلة، والأفلام الوثائقية، والأفلام الدولية والسويسرية القصيرة، وجائزة محمد بيومي، فضلاً عن مسابقتين مدرسيتين.

من ضمن الأفلام الثمانية التي تنافست في مسابقة الأفلام الطويلة، كان الفيلم الإيراني “كم هو الوقت في عالمك” لصافي يازدانيان، الذي فاز بجائزة المهرجان الذهبية للأفلام الطويلة، والفيلم المغربي/ الفرنسي “حمّي” لهشام عيوش، الذي تحصل على الجائزة الفضية.

شارك في مسابقة الأفلام الوثائقية 10 أشرطة، من بينها الفيلم الفرنسي “هذه أرضي” للمخرجة تمارا إيرده الذي فاز بالجائزة الذهبية للأفلام الوثائقية، والفيلم المصري “يهود مصر” لأمير رمسيس، الذي فاز بالجائزة الفضية.

وعرفت مسابقة الأفلام القصيرة الدولية مشاركة أفلام مثل “مول لكلب” للمخرج المغربي كمال لزرق، الذي فاز بجائزة المهرجان الذهبية للأفلام القصيرة، والفيلم التونسي “سلمى” لمحمد بن عطية الذي فاز بالجائزة الفضية. وتضمنت مسابقة الأفلام القصيرة السويسرية، فيلم “رماد البركان” للمخرجة ماريا نيكولييه ثرو، الذي فاز بالجائزة الذهبية لهذه الفئة من الأفلام.
وفي مسابقة جائزة محمد بيّومي المخصصة لتكريم رواد السينما العربية، كان الفوز من نصيب الفيلم الجزائري “سينما شكوبي” للمخرجة بهية علواش.

جسر ثقافي للتقارب بين عالمين

أعرب الطاهر حوشي، مدير مهرجان الفيلم الشرقي في جنيف عن ثقته بنجاح الجهود المبذولة من قبل التظاهرة السينمائية لِمَد الجسور بين الشرق والغرب، وما تحقق من نتائج إيجابية منذ تأسيسه قبل 10 أعوام. وكما قال: “المهرجان هو مبادرة متواضعة نُظهر فيها من خلال الأفلام وجود تاريخ أبدي من الحب والمشاركة بين الشرق والغرب، وتدل متابعة المهرجان من قبل أكثر من 7000 شخص على جمالية فكرة التقارب بين هذين العالمين”.

لا يُنكِر حوشي أن المهرجان مازال يواجه العديد من المشاكل الموضوعية الناتجة عن عدم الإهتمام. “مع ذلك، سوف نواصل مسيرتنا كالقطار الذي ليس له سوى وجهته النهائية. لكن الأهم من هذه الوجهة هو المشوار بحد ذاته، الذي نتشكل، ونتعلم، ونصلح أخطائنا من خلاله لنَكبَر بالنتيجة. ومع أن المهرجان بأعوامه العشرة مازال حديث العهد، لكننا تحصلنا على الكثير من الخبرة، وأصبحنا حدثاً لازماً يتمتع بمستقبل في سويسرا الروماندية (أي المتحدثة بالفرنسية)”، كما قال.

شارك في دورة المهرجان لهذه السنة أكثر من 100 فيلم، وحضره أكثر من 100 مدعو. وفي عام 2014، زاد عدد متابعي المهرجان عن 7000 شخص.

المصدر: swissinfo

موقع (سينما العالم الثالث) في

02.04.2015

 
 

فيلم "حياة آديل".. الحب والجنس والحرية باللون الأزرق

وفاء السعيد*

"لا شك أن تبادل الحب بين امرأة وأخرى أقوى وأشد من الحب المتبادل بين الرجل المرأة. ومعرفة المرأة للأماكن الحساسة في جسدها تجعلها أبرع في مداعبة رفيقتها عند الإجابة لنداء العاطفة"،.

هكذا وصفت "سيمون دي بوفوار"، الفيلسوفة الوجودية الفرنسية والأديبة الشهيرة، العلاقة المثلية بين النساء في كتابها "كيف تفكر المرأة".

دراما عن الحياة وبقدر الحياة

كان خيار المخرج الفرنسي من أصل تونسي عبد اللطيف كشيش، أن يعتمد على الأدب كمادة للعمل السينمائي؛ فنجد في بداية فيلمه "آديل" الطالبة المراهقة التي تدرس الأدب الفرنسي تجلس في صفها بينما يطلب المعلم من زملائها أن يقرأوا مقاطع من "حياة ماريان" النص الروائي غير المكتمل للأديب الفرنسي بيير دي ماريفو، ويؤكد على الفتاة التي تقرأ بأن تمنح لكلماتها "الصدق" والحرارة، فهي تتلو حياة امرأة تروي قصتها، هي قصة حقيقية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

وليست مصادفة أن يحمل النص الروائي والفيلم السينمائي ذلك التشابه في الاسم، إذ كشف لنا كشيش– وهو مشترك في كتابة النص السينمائي أيضًا-  أوراقه مبكرًا، ليعلن بكل تلك البساطة، أن فيلمه عن "حياة" ككل حيوات البشر العادية، لها تقاطعاتها وتشابكاتها المختلفة والمثيرة مع القدر الذي يلعب بها ويحرك مصائرها. انعكس ذلك في مدة شريط الفيلم الممتدة لثلاث ساعات كاملة، فهي فعلًا دراما بقدر الحياة واتساعها وتواتر أحداثها وإيقاعها البطئ أحيانًا. يختم المعلم درسه بسؤال هو المحور المحرك لكل ما سيليه من أحداث، تلك المصادفة القدرية التي تجمع بين اثنين تبادلان من خلالها نظرات سريعة في الطريق، كالحب من أول نظرة، ماذا يترك ذلك الشعور في القلب؟!

إن تبادل النظرات بين "آديل" و"إيما" تلك الأخيرة اللغز المغري بتتبعه واكتشافه بشعرها الأزرق المتوهج اللافت للنظر تحيط بذراعها فتاة أخرى تعبران الطريق، في تلك الساحة التي التقيا فيها بغير ميعاد، سوف تشتعل بينهما علاقة الغرام بمباركة قدرية دفعت كل منهما في حياة الأخرى دون أي ترتيب مسبق. بيد أن "آديل" لن تكتفي بتلك الصدفة التي زارتها بعدها "إيما" في أحلامها الجنسية، بل سوف تذهب بخيارها الحُرّ للبحث عنها في مقهى للمثليات، فقد انتابتها حالة من الصراع النفسي الداخلي لتحديد ميولها الجنسية، وستقطع علاقتها بالشاب الذي أقنعت نفسها لوهلة أنها تستطيع أن ترتبط به ومارست معه الجنس هروبًا من حالة الهيمنة التي فرضتها "إيما" على مخيلتها، لكنها سرعان ما شعرت بالافتعال في علاقتها بالشاب وعدم الصدق في مشاعرها نحوه ، فقد حسمت أمرها.

فيلم عن الحرية

الفيلم قدم دعوة مكثفة للحرية تلخصت في فكر "إيما" المستمد من "الفلسفة الوجودية" للفيلسوف الفرنسي "جان بول سارتر"، في أول لقاء جمعها بـ"آديل" بعد لقاء المقهى فسرت لها فلسفتها في الحياة التي استمدتها من جاذبية أفكار سارتر لها، والذي رأته قد بدأ ثورة فكرية غيّرت وحررت جيلًا كاملًا بأفكاره التي يمكن تبسيطها في أن الإنسان يولد ويوجد، ثم أفعاله هي التي تحدد ماهيته، وتلك الفكرة تضع على عاتق الإنسان مسؤولية كبيرة، فالإنسان هو مَنْ يحدد حياته، فعندما لا يوجد مصدر أعلى للقيم يصبح كل إنسان مرجعية ذاته، ويحدد لنفسه معايير الصواب والخطأ،  ومن ثم تتشكل ماهية وجوده من إرادته واختياراته الحُرّة.

استطاع كشيش أن يجسد، من خلال مقارنته الواضحة بين عائلتي الفتاتين، مدى اتساع الهوة بين فكر الطبقتين المثقفة والعاملة في فرنسا وطريقة تعاطي وتقبل كل منهما لفكرة ميول ابنتهما الجنسية. في مشاهد مائدة الطعام تفاصيل كل شئ، المائدة الأولى لدى عائلة "إيما".. الرسامة التي تنحدر من عائلة منفتحة متحررة حيث تستقبل الأم صديقة ابنتها بترحاب وهي على علم بطبيعة العلاقة بينهما.

اللوحات المعلقة على جدران المنزل تنم عن شغف تلك الأسرة بالفن والثقافة وهو ما سينعكس في اختيار "إيما" التي ستصبح رسامة ، يعزز زوج الأم حرية "آديل" في اختيار ما تحب أن تعمله في المستقبل ومدحه لها على تحديد هدفها ورسم طريقها، فهي تعرف جيدًا ماذا تريد، تطبع "إيما" قبلة على خد "آديل" أمام أسرتها في حرية دون خوف، نوع الطعام المقدم كان نوعًا غاليًا من السمك والنبيذ الأبيض الفاخر الذي احتسوه جميعًا في نخب "الحب". بينما مائدة أسرة "آديل" بسيطة تخلو من الترف، مقدم عليها طبق من الباستا بسيط والنبيذ الأحمر المحلي الموجود على مائدة كل الأسر الأوروبية البسيطة.

لا يعني الفن للوالدين كثيرًا فالمهم هو كيف ستستطيع "إيما" أن تدفع فواتيرها، وإذا أرادت أن تصبح فنانة فعليها أن تجد لها من يلبي احتياجاتها المادي، فالفن في نظرهما مهنة غير مستقرة لن يجني صاحبها من ورائها ربحًا. نجد لهذا التفكير التقليدي صداه المؤثر في تفكير "آديل" في بحثها عن العمل الروتيني المستقر الذي سيوفر لها راتبًا شهريًا يؤمن لها متطلباتها، ما جعل الفتاتين تختلقان كذبة مؤداها أن "إيما" لها صديق، رجل أعمال.

وقد تبع كل مشهد من مشهدي مائدة الطعام لدى كل من الأسرتين، مشهد جنسي، واستطاع المخرج بحق أن يبرز بأدواته، من إضاءة وزوايا الكاميرا، حجم الاختلاف بين الأسرتين، فبعد لقاء "آديل" بأسرة "إيما" تمارس الاثنتان الحب في مشهد مضئ على فراش باللون الأزرق –اختير من البداية كلون الحب والدفء والحرية طبقا للعنوان الفرعي للفيلم "الأزرق هو اللون الأكثر دفئًا" ، بينما بعد المائدة الثانية تمارس الفتاتان الجنس في منزل "آديل"، في حجرة مظلمة، في مشهد محفوف بالخوف تحاول كل منهما كتم نفس الأخرى خشية أن يصل صوتهما إلى الوالدين المتحفظين، وتضحكان على اعتقاد الأم الواهم بأن "إيما" تنام بمفردها في حجرة أخرى.

الحرية السياسية

الفيلم الذي انحاز لقضية الحرية من البداية نجد في أثنائه مظاهرتين، الأولى تخرج فيها "آديل" تهتف ضمن الجموع المتظاهرة مطالبة الحكومة بإلغاء قرارت الخصخصة، والثانية تخرج فيها الفتاتان في مظاهرة للمثليين تتبادلان القُبَل ونظرات الحب، فاقترنت بذلك الحرية السياسية بالحرية الجنسية في شخص "آديل" التي كانت تتوق للحرية. وسنجد في مشهد المظاهرتين الإضاءة مبهرة أثناء النهار في ساحات عامة، والموسيقى صاخبة تضج بالحياة، وابتسامة "آديل" الطاغية على الشاشة لا تستطيع سوى أن تقع في غرام برائتها، فهي تبتسم دائمًا، عندما تحب، وعندما تتظاهر، وكأن الحرية لديها هي فعل ابتسام.

الفيلم عبّر أيضًا عن قضية حرية الفن والتعبير، عندما اختارت "إيما" أن توجه لوحاتها لرسم الأوضاع الجنسية المثلية، ونجدها في مشهد تتجادل على الهاتف حول شخص لا يريد إقامة معرض لها، فقط لأنه يحمل نزعة عدائية ضد المثليات، وتؤكد في هذا المشهد أن لها كامل الحرية في اختياراتها الفنية. وقد عبرت سيمون دي بفوار في كتابها "الجنس الآخر" عن فكرة اضطهاد المجتمع لكل مَنْ يخالف تصوراتهم عن المرأة – إذا ما اتفقنا مع وجهة النظر القائلة بأن المرأة المثلية هي امرأة متحررة مستقلة في مجتمع ذكوري تريد أن تتحرر من خضوعها له – إذ تقول: "الناس يعتبرونه طبيعيًا بالنسبة للأنثى أن تجعل من نفسها امرأة بكل معنى الكلمة كما يعرفها المجتمع، فلا يكفيها أن لا تولع سوى بالجنس الآخر أو حتى أن تكون أمًا لكي تحقق صورة المرأة المثالية، بل إن المرأة الحقيقية ليست في الواقع سوى منتوج اصطناعي صنعته الحضارة السائدة. وإذا ثارت المرأة على هذه المفاهيم أو شعرت بنقصها فاختارت أن تكون فردًا كاملًا، فإنها تعد متحررة عن مجتمعها وجنسها ،واتهمها الناس بالاسترجال ،لأن الطبيعة الأنثوية في عرف المجتمع تعني النقصان والخضوع."

فيلم عن الحب

لم تنمُ علاقة الفتاتين في غرف مظلمة، بل اختار المخرج الحدائق المفتوحة على الشمس والهواء والنسيم والطبيعة بكل مكوناتها، ومفتوحة كذلك على الحياة والحرية، فكانا كجزء لا يتجزأ منها في لقاءاتهما الأولى، وبينما كانت تحرك الرياح أغصان الأشجار، كانت أيضا تحرك قلبيهما.

وكأي علاقة يعتريها التغير وتتخذ أشكالا من منحنيات الصعود والهبوط، نشاهد في النصف الثاني من الفيلم "إيما" تغير لون شعرها إلى الأشقر البارد معلنة بذلك انتهاء "الحقبة الزرقاء" في علاقتهما الحميمية، وتبدأ "إيما" تستعمل "آديل" كموديل يوحي لها برسم لوحاتها. يستخدم المخرج المونتاج بطريقة جعلتنا نستشعر ذلك التحول والتبدل وكأن شريطه انشطر إلى نصفين، وأن مرحلة جديدة في العلاقة قد تشكلت، فتستعرض لنا الكاميرا جسد "آديل" العاري الممدد على شيزلونج، وتعلو عينيها نظرة باردة خالية من التعبير، بينما تخط "إيما" على لوحتها منحنيات جسدها البارد المستلقي، فأصبحت مجرد مادة للوحاتها، وبدت كأنها علاقة قائمة على المنفعة ولم يعد للولع والشغف الأول مكانًا بينهما، ويسود الملل والفتور والروتينية التي سوف تقود "آديل" في النهاية للشعور بالوحدة والخيانة ثم الانفصال.

ويثير الفيلم قضية الفارق الثقافي في العلاقة العاطفية التي تجمع بين فنانة بكل تقلبات شخصيتها، وفتاة متوسطة الحال والثقافة تعمل بعد ذلك مدرسة في حضانة، فلم تقبل "إيما" عدم حماس "آديل" تجاه مستقبلها وتحثها على أن تنشر ما تكتبه في خواطرها ولو في شكل قصص قصيرة، ربما لأن "إيما" شعرت بالخزي عندما قدمت شريكتها لأصدقائها المثقفين ولم تستطع "آديل" مجاراتهم في مناقشاتهم، وظهرت بمظهر الخادمة التي تقوم بأعمال الطهي وتقدم الطعام والشراب، وهذا ما أثار في نفس "إيما" الخجل من رضاء "آديل" وتسليمها بحياتها. كل الحميمية والحرارة ستختفي، ونجد "إيما" تضن على شريكتها بقبلة صادقة وتعتذر لها عن ممارسة الحب معها بدعوى أن لديها الدورة الشهرية وبدأت هوة تباعدهما تتسع.

الفيلم مفعم بالمشاهد الحميمية ما يثير التساؤل، هل كشيش ينتمي لمدرسة الإيروطيقا السينمائية وقدم لنا فيلمًا برنوغرافيًا؟!. على الرغم من طول مدة الفيلم لا تستطيع أن تضبط المخرج متلبسًا بتهمة الملل أو التكرار، فكل مشهد كان ضروريًا وموظفًا لصالح الفكرة. وعلى الرغم من امتداد مشاهد الجنس على الشاشة التي بلغ أقصاها تقريبًا مدة الست دقائق، إلا أن مشاهد الجنس كانت رائعة بقدر روعة الفيلم، وامتدادها لم يكن استطرادًا بلا معنى، وإنما ليبين مدى التناغم الجسدي بين البطلتين، الذي لن تجده بعد ذلك "إيما" وسوف تفتقده مع رفيقتها الجديدة مثلًا بعد انفصالها عن "آديل" التي أصبحت حياتها خاوية وروتينية، ومشهد عزوف "إيما" عنها في الفراش بعد كل المشاهد التي سبقتها في النصف الأول من الفيلم يعطي مؤشرًا عن التحول الذي اعترى العلاقة الجسدية والعاطفية معًا.

استطاع الفيلم أن يقدم شخصيات مفعمة بالحياة، وكان الأداء صادقًا. فالممثلة ذات الحادية والعشرين عامًا "آديل أكزاركوبولوس" والتي كان دفعها والداها دفعًا وهي طفلة لدروس التمثيل كي تتغلب على خجلها، انفجرت على الشاشة تؤدي بحرارة وتلقائية لم نألفها من قبل في السينما الهوليوودية أو غيرها، فأعطت درسًا في التمثيل استحقت عليه كل ما نالته من جوائز دولية؛ إذ قدمت لنا دورًا من أصدق وأجرأ الأدوار، حتى في مشاهد البكاء كان المخاط يسيل من أنفها ممتزجًا بدموعها. لقد أعطت كل ما في وسعها أن تعطي لمخرج رفع من البداية شعار الصدق وانحاز له كخيار فني حتى أنه كان يصور "آديل" في أوقات نومها الحقيقية. كما أنها مارست علاقات جنسية حقيقية على الشاشة سواء مع زميلها الشاب في بداية الفيلم، أو في علاقتها المثلية اللاحقة مع "إيما" الممثلة المبدعة "ليّا سيدو" التي لم تبخل بكل إمكاناتها وطاقاتها الفنية كدور مساعد أن تلهم وتساعد البطلة الرئيسية في أداء مشاهدها بصدق، فلم تظهر ذرة افتعال في أيّ من أدائهما الذي جعل من هذا الفيلم حالة نوعية فريدة.

نهاية الفيلم كانت هادئة، مضت "آديل" تحمل بين جنباتها الحب الخائب تاركة وراءها مشروع الحبيب المحتمل، مضت في طريقها لا تلوي على شئ، ربما إلى حياة أخرى جديدة.

نجح الفيلم في توظيف الأعمال الفنية من أدب وفن تشكيلي وإدماج كل الفنون ليؤكد على خصوصية الفن السينمائي وعبقريته وقدرته على استغلال وتوظيف أدوات التعبير المستمدة من روح فنون أخرى يستطيع أن يمتزج بها ويتقاطع معها ويستمد بعض مادته منها، إلا أنه مفارق لها وله خصوصيته وجماليته وسحره الخاص.

من اللافت أيضًا شريط الصوت المصاحب لشريط الصورة، فقد عمد المخرج إلى "الصمت" أحيانًا كمؤثر صوتي، كذلك اختار أن يتوقف شريط الصوت في المشاهد الحميمية ليعلو صوت اللهاث والأنفاس المحتدمة لينجح في تجسيد الواقع بكل تفاصيله دون زيادة عليه.

اعتمد الفيلم على قصة الفيلم من كتاب كوميكس ناجح لمؤلفته وراسمته "جولي مارو" وكتب نصًا سينمائيًا رائعًا وهب الحياة وبثها في الشخوص الكارتونية فنجح في أن يقدم لنا فيلمًا عن الحب والحياة والحرية باللون الأزرق، الأكثر دفئًا.

* ناقدة وصحفية من مصر

وفاة أكبر مخرج سينمائي عرفه العالم عن 106 عاما

لندن- "عين على السينما"

توفي يوم الثاني من أبريل 2015 المخرج السينمائي البرتغالي الكبير مانويل دي أوليفيرا عن 106 عاما، أي أنه ظل المخرج الأقدم والأكبر في تاريخ السينما في العالم، وبوفاته أسدل الستار على مرحلة حافلة من تاريخ السينما في بلده والعالم، بعد ان ظل يواصل إخراج الأفلام منذ عام 1931 حتى قبل ثلاث سنوات من وفاته، فقد أخرج آخر أفلامه وهو فيلم "غيبو وظله"Gebo and the Shadowعام 2012 وعرض هذا الفيلم خارج المسابقة في مهرجان فينيسيا السينمائي في ذلك العام.

أوليفيرا من مواليد 1908. وقد أخرج أول أفلامه عام 1931، وكان فيلما تسجيليا صامتا عن عمال النهر القريب من مسكنه في مدينة بورتو البرتغالية التي ولد ونشأ وتوفي أيضا فيها.

وقد أخرج دي أوليفيرا فيلمه الروائي الطويل الأول عام 1942 إبان الحرب العالمية الثانية، إلا أن شهرته العالمية لم تتحقق سوى في الثمانينيات بعد ان كان قد تجاوز السبعين من عمره برصيد لا يزيد عن ستة افلام قصيرة وثمانية أفلام روائية طويلة. ومنذ منتصف الثنانينيات وهو يخرج بمعدل فيلم واحد تقريبا سنويا.

وقد أصبح منذ ذلك الوقت ضيفا دائما على معظم مهرجانات السينما العالمية الكبرى، وأقام له مهرجان فينيسيا السينمائي تكريما ومنحه مرتين جائزة الأسد الذهب عن مجمل مسيرته الطويلة في العمل السينمائي، ككاتب سيناريو ومخرج للأفلام الفنية، والمدهش أنه أصبح أكثر غزارة في الانتاج بعد أن بلغ الثمانين من عمره.

في الستينات من القرن الماضي عاش أوليفيرا أوقاتا صعبة ولم يلق الاعتراف والتقدير خلال حكم الديكتاتور سالازار للبرتغال  كما اضطر للتوقف عن الاخراج بسبب تعنت الرقابة وتزمت النظرة الى السينما، وبعد وفاة سالازار عام 1970 وتغير نظام الحكم في البلاد، واجه أيضا اتهامات بالميل الى النخبوية وصنع الافلام المتعالية على الجمهور العام، من جانب الاشتراكيين الذين تولوا الحكم. وكان دي أوليفيرا يلقى تقديرا خاصا من جانب نقاد السينما الفرنسيين، وأصبح يخرج أفلامه من الانتاج الفرنسي وارتبط ببعض المثلين الفرنسيين الذين كان يعمل معهم باستمرار، على رأسهم كاترين دينيف وميشيل بيكولي.

لم تكن تبدو على دي أوليفيرا آثار التقدم في العمر، وكان حريصا على حضور عرض أفلامه في المهرجانات السينمائية الدولية، وكان آخرها مهرجان فينيسيا 2012. وقد بلغت الأفلام التي أخرجها 30 فيلما، وكان آخرها الفيلم القصير "رجل عجوز من بيلم" الذي عرض بمهرجان فينيسيا الأخير 2014، في الدورة التي لم تشهد حضور أوليفيرا. ولكنه صرح في آخر مقابلة تليفزيونية أجريت معه قبل خمسة أشهر من وفاته بأنه يخطط لإخراج فيلم روائي طويل جديد.

أفلام أوليفيرا تطرح تساؤلات أخلاقية وسياسية، كما تتميز بايقاعها البطيء وبنائها المسرحي، وتعتمد كثيرا على أعمال أدبية أو أصول مسرحية,

عين على السينما في

02.04.2015

 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2014)