كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

رؤى نقدية

 
 
 
 
 

مسرحية داخل فيلم .. فيلم داخل مسرحية

د. رياض عصمت

 

حَفُلَ فيلم «الرجل-الطائر»(BRIDMAN) (2014) بمفاجآت من مختلف المعايير جعلت اقتحامه مسابقة الأوسكار أمراً لا يخلو من الغرابة. هذا فيلم إشكالي بامتياز، ينتمي إلى السينما المستقلّة أو البديلة، كما أن الجدل احتدم حوله قبل حفل «الأوسكار»، ولكن بالأخص بعده، عندما حاز أربع جوائز مهمة، هي: جائزة أفضل فيلم، جائزة أفضل إخراج، جائزة أفضل تصوير، وجائزة أفضل سيناريو أصيل. ربما يحسب لفيلم «الرجل-الطائر» أنه قَسّمَ الرأي العام، بل حتى النقاد، إلى جبهتين متصارعتين: هناك معجبون يمدحونه لدرجة إعطائه علامة «عشرة من عشرة»، وكارهون يهجونه إلى درجة إعطائه «واحداً من عشرة».

مما لا ريب فيه أن المخرج المكسيكي أليخاندرو غونزاليس إيناتورو دخل تاريخ السينما - وبالأحرى اقتحمه - بهذا الفيلم الغريب الذي تدور أحداثه في عالم الفن الدرامي وأجوائه. مكان فيلم «الرجل-الطائر» هو كواليس وخشبة مسرح «سان جيمس» في برودواي بنيويورك. في الوقت نفسه، يتمحور الفيلم حول بطل أفلام مغامرات من طراز الخيال العلمي الهوليوودية ما لبث أن اعتزلها بعد ثلاثة نجاحات ساحقة منذ عام 1992. مَنْ تراه يصلح لمثل هذا الدور أكثر من بطل بداية سلسلة أفلام «باتمان»، الممثل القدير مايكل كيتون؟ يلعب كيتون دور (ريغان)، بطل أفلام «الرجل-الطائر» الجماهيرية الذي تقدّم به العمر، ويسعى جاهداً للتخلّص من ماضيه الهوليوودي ليطرق باب المسرح الواقعي الجاد بمسرحية واقعية تدور عن إحباطات الحب، تنتهي بانتحار بطلها الكهل بطلقة مسدس بعد اكتشاف خيانة زوجته التي يحب. يتصدى (ريغان) لإخراج وتمثيل العرض، ليلج به دنيا المسرح الفني من أوسع باب، بعد أن اقتبسها عن كاتب قام بتشجيعه في مطلع حياته الفنية تعبيراً عن الامتنان والتخليد لذكراه. كما وضع (ريغان) كل ما جناه من مال مع شريك يدعى (جيك) مُراهناً على تلك المسرحية التي توشك أن تفتتح على أحد مسارح برودواي، والتي يراها تعويضاً عن كهولته، ورأباً لتصدّع العلاقة مع ابنته - أدت دورها إيما ستون، ورشحت لجائزة أوسكار أفضل ممثلة مساعدة - جاهداً لتخليصها من الإدمان على المخدرات. لسوء الحظ، يصاب الممثل المشارك في المسرحية قبيل البدء بالعروض التجريبية تمهيداً للافتتاح بحادث من برمن طرف ريغان، فيلجأ المنتجان إلى ممثل شاب لامع أول من، وإن كان صعب المراس، ليناسب الدور بسرعة خارقة. هكذا، يدخل البطل (مايك) - الذي أداه إدوار نورتون ببراعة - عالم العرض، ويقلب العلاقات الفنية والإنسانية فيه رأساً على عقب، مشتبكاً بسبب مهارته المهنية في علاقة تنافس مع «ريغان»، المهووس بالمسرحية كمشروعه الشخصي الذي يطمح إليه للتعويض عن انسحابه من عالم السينما التجارية وخوضه غمار فن المسرح السامي. تتعقد العلاقات في كواليس المسرح بعد أن يسحب الممثل الجديد البساط من تحت أقدام نجم السينما المعتزل، فيثور غضب «ريغان»، الذي ما زال الجمهور يذكره على أنه الرجل-الطائر، والذي نراه يتمتع طاقة باراسيكولوجي خارقة تمكنه من تحريك الأشياء عن بعد خلال سورات غضبه، بينما يظهر له الرجل-الطائر مُتجسداً كأناه العليا ليحاوره ويبث في نفسه الشكوك ويسدي إليه النصائح.

تتصاعد حدة المتاعب والمخاطر أمام (ريغان) قُبيل افتتاح العرض الذي راهن عليه بكل ماضيه وحاضره، ومنها تفوق الممثل المشاغب، وإدمان ابنته وغرابة أطوارها، وجراح غير ملتئمة لعلاقات غرامية متآكلة، لكنه بالأخص يخوض تحدياً مع أقسى ناقدة مسرح في نيويورك حين يعلم أنها تستعد لالتهامه حياً وتحطيم مسرحيته تماماً. ذات مرة، يعلو (ريغان) سطح بناء أمام أعين الناس والجيران، ويلقي نفسه في الفضاء، فيحلق في سماء نيويورك. يستعيد (ريغان) ثقته بنفسه، وخلال ليلة الافتتاح، يرتقي أداؤه إلى مستوى غير مسبوق، يتمكّن معه أن يطغى على منافسه الممثل المسرحي المتمكن، ويبلغ مستوى من الإقناع الواقعي يشهر معه مسدساً حقيقياً في ختام المسرحية ويطلق النار على رأسه بالفعل ليسقط مضرجاً بدمائه وسط وقوف الجمهور مصفقاً بحماسة منقطعة النظير، في الوقت الذي تتسلل فيه الناقدة القاسية خارجة من المسرح.

لا يقتل (ريغان) بالرصاصة، بل يتشوه أنفه. تجرى له عملية تجميل نكتشف معه حين ينزع الضماد أن أنفه تحوّل إلى ما يشبه منقار الرجل-الطائر الذي كان يتقمصه سينمائياً في شبابه. تنشر الناقدة القاسية مقالاً ملؤه المديح والانبهار بالأداء التمثيلي الرفيع والمذهل في العرض. يصل (ريغان) إلى منتهى النشوة، وبأنه حقق حلمه وأعاد الاعتبار لنفسه بعيداً عن شخصية الرجل-الطائر، التي تخلّص منها إلى الأبد. يفتح (ريغان) نافذة غرفته في المستشفى، ويغيب عن الأنظار. تدخل ابنته وتبحث عن أبيها مُرتاعة. تفتح النافذة وتنظر إلى الشارع في الأسفل ظناً منها أنه أقدم على الانتحار، ثم ترفع عينيها إلى سماء نيويورك فترتسم على ملامحها الدهشة. من الواضح - دون أن يرينا المخرج ما رأت – أن والدها، بطل أفلام الرجل-الطائر، عاد ليحلّق عالياً في السماء.. سماء الفن الرفيع بعد أن وجد ذاته. 

فيلم «الرجل-الطائر» فيلم عميق، بل صعب. لهذا، نعزو سبب نفور شرائح من الجمهور من الفيلم إلى عدم فهمها له، أو عدم استساغتها لهذا النمط التجريبي من الأفلام. لكن عدم الفهم، في الواقع، لا يفترض أن يؤدي إلى النفور. من ذا الذي يستطيع الزعم أنه فهم قصائد ت. س. إليوت تماماً، أو اتضحت له المعاني التي قصد إليها صموئيل بيكيت، أو عكستها روايات وليم فوكنر، أو استنتجها من لوحات بيكاسو؟ إن الغموض هو إحدى ميزات الأعمال الفنية الطموحة والرائدة. قَدّمَ المخرج أليخاندرو غونزاليس إيناريتو فيلماً خاصاً من طراز فريد، بحيث يُذكّر ببعض روائع السينما الأوروبية في عصرها الذهبي. في الحقيقة، لم يتوانَ المخرج عن تضمين فيلمه عديداً من الإيحاءات والتلميحات والدلالات، من «ماكبث» شكسبير، إلى مسدس تشيخوف في «الخال فانيا»، إلى أسلوب وضع التيترات كتحية إلى المخرج الفرنسي جان لوك غودار في «بييرو المجنون». لكن التجديد ليس في حصاد فيلم «الرجل-الطائر» فحسب، بل في البذور، أي في أسلوب المخرج في الشغل عليه.

صَوّرَ إيناريتو الفيلم خلال شهرين في مسرح «سان جيمس» في برودواي، على مقربة من ساحة «تايم سكوير» في نيويورك. قام المخرج المكسيكي ببروفات مكثفة وطويلة مع الممثلين بصورة غير مألوفة في عالم السينما، وصوّر الفيلم بما يوحي أنه صوّر في لقطة واحدة، لأنه صوّره – وهذا تحدٍ نادر – بشكل متسلسل الأحداث. أحياناً، أجبر الممثلين أن يؤدوا 15 صفحة من السيناريو دفعة واحدة، بصورة تشبه المسرح تماماً. كثيراً ما استخدم مدير التصوير إيمانويل لوبيزكي كاميرا محمولة تحركت بشكل إعجازي في أروقة المسرح الضيقة وغرفة الممثل محدودة الاتساع. وقليلاً ما خرجت الكاميرا إلى الشارع، إلا في بعض المشاهد المحدودة. لم يستخدم المخرج – كما قِيل – أكثر من 16 قطعاً مونتاجياً واضحاً. لكن أروع ما في فيلم «الرجل-الطائر» هو التمثيل الواقعي المذهل الذي قدّمه جميع الممثلين الأساسيين في فيلم حافل بالخيال والواقعية السحرية، بأداء تمثيلي خارق في إقناعه وصدقه، قاده الثلاثي مايكل كيتون، إدوار نورتون، وإيما ستون. في الواقع، يستحق كل من هؤلاء الثلاثة (أوسكار) على التمثيل، لكن ربما من سوء حظهم أن صادفهم هذا العام بالذات من انتزع منهم الجوائز عن جدارة أيضاً. بالتأكيد، لا يمكن أن نقلل من شأن باقي الممثلين أو نغفله، وفي طليعتهم زاك غاليفياناكيس وناعومي واتس. لجأ المخرج إيناريتو إلى استخدام موسيقى تصويرية بالغة الغرابة، معظمها عبارة عن إيقاعات موسيقى الجاز، وضعها أنتونيو سانشيز، وزادت من التوتر مع الإيقاع السريع المماثل للانفعالات والتصورات الجامحة للممثل الهوليوودي الكهل الذي يريد التوصل إلى خلاص روحه في المسرح.

بقي أن نذكر أن فيلم «الرجل-الطائر» القاتم حَفُلَ أيضاً بعديد من لمحات الكوميديا، لعلّ ذروتها المشهد الذي يعلّق (ريغان) خلاله خلال عرض المسرحية خارج باب المسرح الخلفي، فيضطر إلى خلع الروب-دو-شامبر والهرولة بسرواله الداخلي وسط الجماهير في ساحة «تايم سكوير» ليدخل المسرح بين صفوف الجمهور ويكمل أداء دوره بروعة مذهلة. إنه مشهد ينتمي إلى طراز العبث، بحيث يجمع مزيجاً من الكوميديا والتراجيديا، ولعلّ هذا يمثل طراز الفيلم الغريب بأكمله. في الواقع، تأثر المخرج إيناريتو بمدرسة «الواقعية السحرية»، ذلك التيار الأدبي/الفني الذي اشتهر من أميركا اللاتينية عبر روايات غابرييل غارسيا ماركيز وإيزابيل ألليندي. وها هي الواقعية السحرية تطل بقوة في السينما عبر فيلم إشكالي سيخلده الزمن بلا شك، حتى ولو خسر إعجاب الجمهور العريض.

 

حبكة سياسية من تاريخ إسبانيا

عبد الكريم واكريم

رغم الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمرّ بها إسبانيا، والتي أرّخَت بسدولها على المجال السينمائي، إلا أن جيلاً جديداً من المخرجين الشباب ظهر في خضمها وهو يُثبت حالياً أنه ليس بأقلّ من الأسماء الكبيرة التي أنجبها بلد لويس بونويل، وبيدرو ألمودوفار وأليخاندرو أمينابار وكارلوس ساورا... من بين هؤلاء من هاجر للبحث عن آفاق أخرى، لكن آخرين فضلوا البقاء في بلدهم وعدم البحث عن جهات قد تكون أجزل مادياً، لكن لن تُعطي في الغالب سوى أعمال سينمائية تحت الطلب بنفس المقاييس الهوليوودية الكلاسيكية المعروفة، فيما هم لازالوا يشتغلون بأسلوب المخرج المؤلف وبرؤية مُغايرة تروم التأسيس لتيارات سينمائية جديدة انطلاقاً من أنواع وتوابل سينمائية قديمة. ومن بين هؤلاء خايمي روزاليس الذي يشتغل على أشكال سينمائية جد مُتقدّمة والحاضرة أفلامه باستمرار في مهرجان «كان»، وألبيرتو رودريغيز مخرج فيلم «الجزيرة المنخفضة» الفائز بعشر جوائز «غويا» 2015، (المعادل الإسباني لجوائز الأوسكار الأميركية والسيزار الفرنسية)، ودانييل مونسون الذي نافسه على هاته الجوائز بفيلمه «الطفل» (إل نينيو)، والذي التجأ فيه للحبكة البوليسية على خلفية اجتماعية وتتبع فيه مسارات شخوص إسبان ومغاربة مهمشين يلجؤون لتهريب المخدرات بعد أن تنسدَّ أمامهم سُبل العيش الكريم ليتم استغلالهم من طرف مافيات دولية لا ترحم من يشتغل معها لو أخطأ أو زلت قدمه.

تدور أحداث فيلم «الجزيرة المنخفضة» سنة 1980 أثناء المرحلة الانتقالية من تاريخ إسبانيا، حيث لم يكن قد مضى على وفاة الديكتاتور فرانكو سوى سنوات قليلة، وحيث مازالت البلاد تتخبط بين تيارين، الواحد يريد الرجوع بها إلى الوراء والثاني يطمح لتكريس الديموقراطية والقطع تماماً مع كل الممارسات المرتبطة بالحكم السابق بمحاولة إرساء مبادئ حقوق الإنسان والحرية الفردية، خصوصاً أن ظِلّ الديكتاتورية العسكرية كان مازال جاثماً على الديموقراطية الوليدة، إذ لم تكن حادثة محاولة الانقلاب العسكري داخل البرلمان الإسباني ببعيدة آنذاك... وتبدو الفترة التاريخية التي تدور فيها أحداث فيلم «الجزيرة المنخفضة» شبيهة بما يقع الآن في إسبانيا، فالأزمة الاقتصادية كانت كما الآن ترخي بسدولها على البلد والاحتجاجات العمالية والقطاعية في كل مكان، وحركات سياسية راديكالية تتجاذب الساحة السياسية، الاختلاف فقط في غياب الهاجس الذي كان يشكله حضور حركة «إرهابية» مُتشدّدة كـ«إيتا»، والخوف من رجوع حكم العسكر، الذين لم يكونوا آنذاك قد عادوا تماماً لثكناتهم وكانت رغبتهم في استعادة الحكم وفي القضاء على التجربة الديموقراطية الوليدة مازالت قائمة، ويتم التعبير عنها علناً.

الفيلم يُمكننا من مستويين من القراءة، الأول أولي ومباشر، يتضمن الحبكة البوليسية المبنية على التشويق، مدعمة بخلفية اجتماعية وسياسية لفترة مهمة ومفصلية من التاريخ المعاصر لإسبانيا، والثاني فيه إحالة على الحاضر بتجلياته وأزماته وتحوّلاته الاقتصادية ونشوء حركات سياسية من رحم هذه التحوّلات.

تجري الأحداث في إحدى مناطق الجنوب الإسباني، على شواطئ نهر «الوادي الكبير» حيث يُزرع الأرز في مستنقعات مائية، إذ تختفي مراهقتان ليتم العثور على جثتيهما فيما بعد مقتولتين ببشاعة، ويُبعث بشرطيين من مدريد مختلفين في كل شيء ليقوما بالتحقيق في هذه الجريمة، وتتوالى الأحداث ليتم الكشف بالتدريج عن إمكانية وجود قاتل «متسلسل» يستهدف الفتيات القاصرات، لتتشابك الخيوط الدرامية بعد ذلك بين ما هو سياسي واجتماعي في مسار بوليسي يعتمد التشويق...

الشخصيتان الرئيسيتان شرطيان مغضوب عليهما، بُعثا في مهمة إلى هذه المنطقة النائية كنوع من العقاب أو الإبعاد الذي ينال المارقين والخارجين عن السرب. الأول يساري يطمح لترسيخ الديموقراطية المُهَددَة ويَمقُتُ الحكم العسكري، أما الثاني فتبدو شخصيته أكثر غموضاً وتتبدى بالتدريج مع تقدّم لحظات الفيلم، ففيما يُسر صحافي للشرطي اليساري أنه كان من ضمن من قاموا بالتصفيات الجسدية للمعارضين في عهد فرانكو، ينفي هو التهمة عنه بقوة، وبالمقابل نجده يحاول بكل ما أُوتي من جهد العثور على القاتل، ويغامر بحياته لإنقاذ فتاة مخطوفة ومهدّدة بالقتل ويتعاطف مع أم القتيلتين أكثر مما يفعل اليساري.. شخصية مليئة بالمتناقضات مكنت الممثل خافيير غوتييريث الذي أداها باقتدار من الفوز بجائزة «غويا» لأحسن ممثل لتنضاف لتسع جوائز أخرى حصدها الفيلم ليلة توزيع جوائز «الغويا»، شهر فبراير المنصرم، من بينها جائزتا أفضل مخرج وأفضل سيناريو أصلي، ولجائزتين لأفضل ممثل وأفضل تصوير بمهرجان سان سيباستيان.

لكن بقراءة أخرى للشخصيتين يمكننا أن نجد أنهما تمثلان أيضاً التيارين الرئيسيين الموجودين آنذاك، مع غياب شبه كلي لتأثير التيارات المعتدلة، كما هو الشأن الآن، حيث تتجاذب الساحة السياسية في إسبانيا تيارات يمينية فاشية وأخرى يسارية متطرفة.

ينطلق المخرج بالمشاهد في أحداث متتالية وبشكل لاهث، فالفيلم ليست به خواءات درامية، إذ إن كل لحظاته كُتبت بعناية وحرص على توظيف الدوافع النفسية للشخصيتين الرئيسيتين، والتي تتبدى من خلال أفعالهما وردود أفعالهما، خصوصاً شخصية الشرطي اليميني التي أداها خافيير غوتييريث. 

أجواء الفيلم مُوظفة بدقة وذات دور درامي وليست اعتباطية أو مجرد إكسسوارات أو ديكورات زائدة كما نجد في العديد من الأفلام الأميركية من هذا النوع. فمشاهد الأمطار والجو الكئيب كانت في خدمة السياق الدرامي المتوتر ولتعزيز السرد الفيلمي المبني على الغموض والتشويق، مع كونها تعبر أيضاً في كثير من لحظات الفيلم عن النفسية السوداوية للشخصيتين. أما مقاطع المستنقعات المصورة من فوق بـ«لقطة الطائر» فكانت عبارة عن فواصل انتقالية تَمّ توظيفها بعناية للانتقال من مرحلة إلى أخرى، وقد تَمّ تصوير هذه اللقطات من خلال طائرة مروحية وتمت معالجتها بالكمبيوتر لتعطي ذلك الانطباع بما يشبه المتاهة التي ضاع فيها الشرطيان...

فيلم «الجزيرة المنخفضة» من بين تلك النوعية من الأفلام التي لم يكن فيها النوع المطروق (البوليسي) سوى ذريعة لتناول تيمات أخرى سياسية واجتماعية بأسلوب مُوارب ومُتحكم فيه من طرف مخرج مُتمكّن، لا يتطرّق للأنواع السينمائية الكلاسيكية ليعيد إنتاج ما تم إنتاجه سابقاً فقط، لكن ليضيف من وجهة نظر مختلفة ومغايرة إلى كل ماسبق لنا رؤيته في هذا السياق...

بمثل فيلمي «الجزيرة المنخفضة» لألبيرتو رودريغيز و«الطفل» لدانييل مونسون، لم تعدْ السينما الإسبانية حاضرة فقط في العديد من المهرجانات الدولية المهمة، بل أيضاً قادرة على منافسة الأفلام الأميركية تجارياً، على الأقل في أوروبا وأميركا اللاتينية، اللتين وزع بهما الفيلمان وشهدا بهما إقبالاً جماهيرياً مهماً ومازالا.

 

رؤية الأم لأول مرة

مروة رزق

اختارت المخرجة البيروانية كلاوديا يوسا (م. 1976)، قريبة الكاتب البيرواني الأشهر ماريو بارجاس يوسا أن تصوّر فيلمها الثالث باللغة الإنجليزية هذه المرة، وليس بالإسبانية، كما في فيلميها السابقين «صنع في أميركا»، 2006 و«الصدر الخائف» (2009). كما استعانت بممثلين هوليووديين كبار كالحائزة على الأوسكار الأميركية جنيفر كونلي(نانا) والممثل الإيرلندي سيليان ميرفي (إيفان)، الذي عرفه الجمهور في فيلم BATMAN BEGINS والممثلة الفرنسية ميلاني لوران بطلة فيلم INGLORIOUS BASTARDS. وهو من إنتاج إسباني- كندي- فرنسي.

الفيلم رحلة بحث ثلاثية: لامرأة تضرّرت في الماضي وقرّرت أن تهجر ماضيها وترسم مصيرها من جديد لتعالج بموهبتها أشخاصاً بائسين؛ ولصحافية تنشد تقصّي قصة تعلم أن وراءها كثيراً من الألم والمعنى، وأخيراً لطفل أصبح شاباً أمضى حياته لا يعرف لماذا تركته أمه وحيداً وهجرته؟

يدور الفيلم في إطارين زمنيين مختلفين يتم الربط بينهما عن طريق (الفلاش باك)، أحدهما يدور في الحاضر والآخر يعود إلى 20 عاماً إلى الوراء، حيث كان البطل الصغير «إيفان» (سيليان ميرفي) يعشق تربية وصيد الصقور ويعيش حياة غاية في الصعوبة مع أم عزباء (جينيفر كونلي) وشقيقه الأصغر جالي، الذي يعاني من مرض لا شفاء له. تظهر الأم في الماضي وهي تطرق كل الأبواب كي تستطيع أن تنقذ ابنها الأصغر، حتى سمعت عن معالج روحاني يدعى (المهندس)، والذي يلعب دوره المثل المخضرم (ويليام شيميل)، والذي تستطيع أن تقابله بالصدفة. نرى الصقر الذي يربيه إيفان تمت الاستعانة به في جلسات العلاج التي تنتهى باكتشاف الأم لموهبتها الربانية في العلاج الروحاني. ثم يتعرّض الطفل الصغير لحادث فظيع فتختار الأم أن تهجر إيفان وتتركه وحيداً يعاني من عقدة ذنب ومعاناة فراق أمه للأبد والتي لم يتجاوزها قط. بينما تبدأ الأم في رسم مصيرها الجديد وحيدة بدون أن تتخلّص هي أيضاً من آلام الفراق.

وفي الزمن الحاضر، إيفان أضحى يافعاً، اكتسب شهرة من عمله مع الصقور، وبالرغم من انقطاعه عن والدته منذ 20 عاماً إلا أنهما الاثنان ما يزالان يشعران بمعاناة روحية رهيبة بسبب الفراق. وفي الوقت نفسه تجرى وراءه صحافية شابة (ميلاني لوران) على علم بما حدث في الماضي وترغب أن تتقصى أسباب الفراق بين إيفان وأمه التي أضحت من المشهورين في العلاج الروحاني للآخرين من شتى الأمراض، والتي لا تكترث لوجود ابن لها في الحياة يُكابد العذاب الروحى والجسدي. ينزعج إيفان من تطفل الصحافية وفضولها. ولكنه في النهاية يرضخ لفضوله الشخصي الذي يطلب مواجهة الأم ويرضى أن يرافق الصحافية في رحلة إلى مكان- لا نعلم إن كان في كندا أو في آلاسكا، فلا يهم المكان، حيث ستجري الأم جلسات علاجية. 

تتخلل الرحلة نحو مقابلة الأم في المدينة الجليدية مشاهد من الماضي لإيفان وهو صغير ولمعاناته التي تصل ذروتها في مشهد المواجهة بين الأم والابن مع نهاية الرحلة. وهو أقوى مشاهد الفيلم، حيث «إيفان» (سيليان ميرفي) بملامح وجهه المميزة والغائرة يكمل الدور بكل إتقان، كما لا يمكن إغفال جمال وجاذبية (جينيفر كونلي) في أدائها لدور الأم المكلومة ومحاولتها المستميتة الهروب من مصيرها المحتوم. كما أن (ميلاني لوران) عرفت جيداً كيف تجمع كل خيوط شخصية الصحافية الفضولية التي تلهث وراء قصة تعلم بفطرتها أنها تحوي أسراراً وغموضاً أعمق مما تبدو عليه. 

ويبدو أن مخرجة الفيلم كلاوديا يوسا لم تستطعْ أن تتخلّص من التأثيرات الأدبية وبالأخص ما يعرف باسم الواقعية السحرية في أفلامها الروائية التي تكتبها وتخرجها بنفسها. هذا التوجه نحو البحث عن كل ما هو غريب في الواقع التقليدي القاسي ظهر في أفلامها السابقة، وهو ما تبدى مستمراً في هذ الفيلم الذي اختارت له اسم (حلّق عالياً) لتعرض لنا رحلة مشحونة بالعواطف والانفعالات على خلفية بيضاء باردة من الثلوج والصقيع.

 

يتحدّى السياسة والإيبولا

مروى بن مسعود

منذ تأسيسه عام 1969، تبوأ مهرجان فيسباكو، عبر دوراته التي تُقام مرة كل سنتين في الأسبوع الأول من مارس/آذار، مكانة مهمة باعتباره أعرق المهرجانات الشعبية والمُشعّة في القارة السمراء. ولسنوات عديدة دأب السينمائيون الأكثر شهرة في القارة الإفريقية؛ كالسنغالي عثمان سيمبين مُؤسِّس الفيلم الإفريقي، والكاميروني جان بيير بكولو على حضور هذه التظاهرة السينمائية الإفريقية، التي لا يُفوّت السكان المحليون فرصة مواكبة فعالياته وورشاته وندواته، التي تُنظّم على هامش المهرجان في واغادوغو، المدينة ذات العلاقة الخاصة والدائمة مع السينما.

انعكست الأحداث السياسية والاجتماعية في جميع أنحاء القارة الإفريقية في السنوات القليلة الماضية على الأفلام المشاركة، إذ اُفتتح المهرجان بفيلم للمخرج البوركيني سيكو تراوري «عين العاصفة»، وهو من تمثيل كل من ميمونة نداي، فارجاس أسانديه وعابدين ديوارييه. وقصته تجري في بلد إفريقي يُعاني من حرب أهلية، حيث تتكلّف محامية شابة بالدفاع عن متهم بارتكاب جرائم حرب، فتنشأ مواجهات بين المحامية المثالية والمتهم المُتمرّد، الذي حمل السلاح منذ طفولته. إضافة إلى العديد من الأفلام المشاركة من دول شمال إفريقيا، التي يتناول معظمها موضوع الثورة والاضطرابات السياسية. ففي فئة الأفلام الطويلة، كان فيلم المخرج التونسي رجاء العماري بعنوان «الربيع التونسي»، الذي يستمد قصته من ثورات الربيع العربي في سنة 2011. كما انعكست الأوضاع السياسية على الأفلام الوثائقية في كل من فيلم «غناء السلاحف» للمخرج المغربي جواب غالب وشريط «فراعنة مصر الجدد» لجيهان الطاهري. وكذلك الفيلم المغربي «هم الكلاب» لهشام العسري، الذي يتطرّق إلى الاحتجاجات التي عرفتها البلاد سنة 1981، والفيلم فاز بجائزة المهرجان الخاصة بأحسن تصوير. 

لكن فيلم «كابتن توماس سانكارا» لكريستوف كيبلان كان أفضل فيلم وثائقي في نظر الجمهور البوركيني، فشخصية توماس سانكارا راسخة في الذاكرة الحياتية للبوركينابيين؛ فالرجل الذي حكم بوركينافاسو منذ 1983 حتى اغتياله في 1987 هو من غَيّرَ اسم بلاده من الاسم الاستعماري القديم «فولتا العليا» إلى «بوركينا فاسو» أي «بلد المستقيمين»، كما غَيّرَ بلاده في غضون أربعة أعوام من بلد فقير يعتمد على المساعدات إلى بلد مُستقلّ اقتصادياً ومُتقدّم اجتماعياً. ونجد سانكارا من جديد كبطل مُلهِم، ضمن الأفلام المحلية المشاركة، كما في الفيلم القصير (TWAAGA) للمخرج البوركيني سيدريك ايدو.

في اختتام المهرجان فاز فيلم «حمى» (فيفر FIEVRES) للمخرج المغربي هشام عيوش بجائزة «مهر يينينغا» الذهبي للفيلم الطويل، وهي المرة الرابعة التي يفوز فيها المغرب بالجائزة الكبرى لهذا الموعد السينمائي الإفريقي، إذ سبق أن تُوّجَ بجائزة «مهر يينينغا» الذهبي في ثلاث دورات سابقة، الأولى سنة 1973 بفيلم «ألف يد ويد» لسهيل بنبركة، والثانية سنة 2001 بفيلم «علي زاوا» لنبيل عيوش، والثالثة سنة 2011، بفيلم «البراق» لمحمد مفتكر.

ويحكي فيلم «حمى» قصة الطفل «بنجمان»، الذي كان يعيش رفقة والدته الفرنسية، في حي مليء بالجرائم والعنف وبعد دخول الأم إلى السجن بتهمة الدعارة يضطر إلى الانتقال للعيش رفقة والده المغربي، الذي لم يسبق له أن تعرّف عليه، وبعد صِدام اللقاء الأول بالأب يحاول بنجمان التأقلم على العيش رفقة والده وجدته وجده وسط أجواء من العنف والاضطرابات الاجتماعية داخل البيت وفي الحي الذي تقطن فيه العائلة.

فوز الفيلم كان مفاجئاً، خاصة أنه لم يحظَ بمشاهدة جماهيرية كبيرة في المهرجان. فيما رأى المتابعون أن تغلُّب فيلم «حمى» لهشام عيوش على أفلام أخرى منافسة ومن ضمنها فيلم المخرج الموريتاني عبد الرحمن سيساكو (تمبكتو TIMBUKTU) الذي رُشِحَ لجوائز الأوسكار (87) وفاز بسيزار (40) أفضل فيلم وأفضل مخرج، كان بسبب مخاوف من أن يؤدي تتويجه إلى هجوم مُسلح على المهرجان، خاصة أن فيلم «تمبكتو» كان قد سُحِبَ لفترة من العرض في المهرجان.

تنفس المهرجان هواء السياسة، وبدت عليه مظاهر التقشف ونقص التمويل في أعقاب أوضاع هشة بعد الأحداث التي عرفتها العاصمة البوركينابية وغادوغو. كما سببت المخاوف الأمنية والصحية تراجع حجم الإشعاع الذي حققته دورات المهرجان السابقة، بالإضافة إلى نقل حفل الافتتاح من ساحة الملعب الوطني إلى قصر الرياضة المغلق لأسباب استثنائية نتيجة تغيُّر الوضع السياسي في بوركينافاسو في أكتوبر/تشرين الأول الماضي بعد فِرار الرئيس كومباوري إلى المنفى عقب احتجاجات شعبية وإحراق مقرّ الجمعية الوطنية والمباني الحكومية.

هكذا، وعلى الرغم من مجابهة الفقر والحاجة، تستمر بوركينا فاسو في التمسك بالفعل السينمائي من خلال مهرجان فيسباكو، الذي ما كان لينهار بعد انهيار النظام السياسي ومخاض انتقال عسير وهش. ربما تبقى السينما واسطة عقد بين ماضٍ قريب ومستقبل يصل الذاكرة بأفق الإصلاح والاستقرار والتنمية المنشودة والتشبث بالحياة؛ ففي وضع أمني هش، وهواجس فيروس الإيبولا لم يكن القلق على نجاح المهرجان بقدر ما كان على سلامة الجمهور والمشاركين وهذا كان التحدي الأمثل والرسالة الإنسانية للفعل السينمائي رغم كل المخاطر سواء من الإيبولا أم الإرهاب.

 

«حكاية بريّة».. عن كائنات وأقنعة

أحمد شوقي

في الأفلام الخمسة المتنافسة على أوسكار أحسن فيلم أجنبي خلال فبراير/شباط الماضي، كانت السمة الروائية هي الغالبة على معظم الأفلام المُرشحة، وروائية هنا ليست تصنيفاً لنوع الفيلم، ولكن للاتجاه العام المُسيطر على شكل السرد فيه: السياق الاجتماعي والتاريخي المُعقّد، الشخصيات المُبطنة التي تمتلك تحت السطح ما هو أكثر بكثير مما يظهر على الشاشة، والحكاية تتوازى فيها قيمة الحدث مع المشاعر مع الأفكار، ليكون الناتج فيلماً ممتازاً ذا حسّ روائي واضح، وأبرز مثال هو الفيلم الذي تُوِّجَ في النهاية بالجائزة «إيدا» للبولندي بافيل بافلوفسكي، وكذلك منافسه الروسي «ليفياثان» لأندري زفياجنتسيف الذي تُوِّجَ قبلها بجائزة السيناريو في مهرجان كان السينمائي.

من بين المرشحين الخمسة، وقف الفيلم الأرجنتيني «حكايات بريّة» أو «WILD TALES» للمخرج داميان زيفرون ممتلكاً حسّاً سردياً خاصاً، يمكن اعتباره أكثر إخلاصاً لسينما الحدث: الشخصيات هي أفعالها التي تواجه بها ما تتعرّض له من أحداث، والمعروض للمشاهد يبرز بوضوح التقلبات الراديكالية التي تدور داخل نفوس بشر قرّر المخرج أن يعرض لحظات تخليهم عن إنسانيتهم، واتخاذهم لقرارات تجعلهم أقرب للحيوانات البريّة التي نرى صورها على تترات البداية مصحوبة باسم الفيلم الذي يصف ويؤطر الحكايات بوضوح.

الفيلم عبارة عن ست حكايات متتالية، مرتبة تصاعدياً حسب مدة عرضها، تتراوح بين ثماني دقائق هي زمن أول حكاية، و 35 دقيقة في الحكاية الختامية. الحكايات الست تدور في الأرجنتين، لأشخاص يجدون أنفسهم على الحافة، يوضعون في محك ما، يجعلهم يتصرفون بشكل غريزي، مظهرين جوهر الحيوانية داخل نفس كل منهم، فإذا كان جوهر أي شخصية درامية هي أفعالها عندما توضع على المحك، فإن الحكايات البريّة تُظهر ما قد يحتويه هذا الجوهر من جنون.

مقارنة أنطولوجية

السرد الأنطولوجي الذي اختاره زيفرون، بحكاياته المتتابعة والشحنات التصاعدية التي تزرعها، يدفع لعقد مقارنة مع فيلم مصري شاهدناه قبل عام أو نيّف بعنوان «أوضة الفيران»، أخرجه مخرجون ستة شباب، صنع كل منهم فيلماً قصيراً، يدور بعضها في يوم واحد والآخر في عدة أسابيع، ثم رأوا أنه كي يصبح عملهم الجمعي فيلماً طويلاً، فإن عليهم أن يجمعوه عبر مونتاج متوازٍ PARALLEL EDITING يجعل المشاهد يتنقل بين الحكايات دون مراعاة لأي منطق زمني، فقط تخوفاً من أن يصم أحد فيلمهم بأنه ستة أفلام قصيرة، لتكون النتيجة أن كل من شاهد الفيلم خرج يقول العبارة التي حاول صنّاعه تفاديها.

داميان زيفرون هو الآخر مخرج شاب (39 عاماً)، كان لديه أسباب أكثر لجعل حكاياته تتوازى بدلاً من أن تتالى، فهناك تيمة تجمعها، وهناك حيز زمني واحد تقريباً (باستثناء الحكاية الرابعة)، وهناك قبل كل هذا مخرج وحيد صنع كل أجزاء فيلمه بأسلوب واضح ومتماسك، يجعل القطع بين أي مشهدين أيسر من القطع بين أسلوبين بصريين وسرديين متابينين. لكنه في المقابل يدرك أن ما يجعل عمله فيلماً روائياً طويلاً صالحاً للتواجد والمنافسة التي تصل لمستوى الأوسكار، ليس أنه يمتلك بداية واحدة ونهاية واحدة ويحكي «خطوط درامية» وليس «حكايات»، ولكن أنه ببساطة يُقدّم شحنة تصاعدية، درامياً وفكرياً، تأخذ المشاهد في رحلة متماسكة يخرج منها بفكرة أو تساؤل حول إنسانيته، حتى لو كانت وسيلة زرع هذا السؤال في الأذهان هي ست حكايات منفصلة، هذا سرد أنطولوجي لا يعيب إطلاقاً، بل في الواقع يكشف عن صانع أفلام حكيم، يأخذ خياراته السليمة دون أي اعتبار للتصوّرات النمطية والأفكار المسبقة.

كرة الثلج

الحكاية الأولى أشبه بالبرولوج، أو المشهد التمهيدي الذي يفتتح العمل ويضع المشاهد داخل الجو العام الذي سيتابعه لاحقاً. حكاية قصيرة لا تتجاوز ثماني دقائق عن انتقام من نوع خاص، شاب قرّر أن ينتقم من كل من أساؤوا إليه في حياته، كل من أحبطوه وخانوه ووقفوا في طريق طموحه، يرسل إليهم دعوات بصيغ مختلفة، كل حسب وظيفته وشخصيته، ليجمعهم في طائرة يقودها بنفسه، ليسقط بها محققاً انتقامه الجماعي. للحظات سيبدو الأمر أنه مجرد صدفة غير مقنعة: ثلاثة أشخاص يتقابلون في طائرة يكتشفون أنهم يعرفون نفس الشخص، قبل أن تتضح الحقيقة سريعاً فلا تجد إلا أن تبتسم من خطة الشاب الذكية.

الخطة هنا صعبة الحدوث، لكنها في النهاية ممكنة، ودافعها أفعال قد يرتكبها الجميع في حياتهم العادية دون تفكير في تبعاتها أو ما قد تدفع الآخرين إليه، وهي السمة التي تجمع كل حكايات الفيلم تقريباً، فباستثناء الحكاية الثانية التي ارتكب الخصم فيها جريمة حقيقية عن عمد (سياسي فاسد تسبب في موت والد فتاة تجده بعد أعوام يدخل كزبون للمطعم الذي تعمل فيه)، بخلاف هذه الحكاية تبدو العوامل المحفزة لكل الحكايات تصرفات قد يقوم بها أي شخص، بما فيها الخيانة الزوجية ومحاولة استخدام في إنقاذ ابن من مصيبة.

التساؤل الذي يزرعه «البرولوج» في الذهن يتعلّق بالعلاقة بين حقيقة الفعل (جريمة قتل جماعي) وبين الدوافع المؤدية إليه، وهي تصرفات لا تتعدى فتاة تركته أو ناقد موسيقي قابله برأي قاسٍ، تصرفات اعتيادية، لكن تراكمها دفع الشاب إلى حافة الجنون، أو لحافة الحيوانية إذا ما تحدثنا بلسان الفيلم. وهو نفس ما ينطبق على كل الحكايات التالية، السياسي الفاسد يموت على يد صاحبة المطعم العجوز، التي لا تعرفه ولم يضرها كما فعل مع الفتاة، لكن يظهر أن السيدة محملة بسخط على ما يمثله السياسي، بالتأكيد كان سببه حدث سابق مع من يماثله. وفي الحكاية الثالثة العامل المحفز مجرد سبّة يوجهها صاحب سيارة فخمة لآخر في سيارة قديمة، لكنها سبّة محملة باحتقار طبقي، دفعت كرة ثلج من العنف والكراهية أدت للنهاية المفجعة، والتي تحمل قدراً من العدالة الشعرية أيضاً مثل جميع حكايات الفيلم.

الحكايات الأقوى

الحكايات الثلاث الأخيرة هي الأطول زمناً والأقوى تأثيراً، وهو أمر طبيعي مع الشحنة التصاعدية التي تحدثنا عنها. الحكاية الرابعة عن موظف محترم تتهاوى حياته فجأة بسبب تبعات مخالفة مرورية بسيطة يمكن أن تحدث للمئات دون أن تؤثر فيهم، لكنها جاءت لشخص تكوينه وطبيعة حياته يجعلانه مستعداً للانفجار، حرفياً وليس مجازاً، فالرجل يتحوّل فعلاً لبطل شعبي بعد تفجيره لمبنى المخالفات المرورية. ثم الحكاية الخامسة التي تبدأ بشكل اعتيادي عن أب ثري يحاول إنقاذ ابنه الذي يصدم امرأة وابنها فيقتلهما ويهرب، عبر إيجاد عامل فقير يعترف بأنه من كان يقود السيارة، لكن البداية الاعتيادية سرعان ما تتطوّر لتبعات ساخرة، تنتهي كالعادة بنهاية تحمل قدراً كبيراً من العدالة الشعرية لكل أطراف الحدث.

أفضل حكايات الفيلم، وأكثرها تميزاً على مستوى البناء الدرامي وإحكام الصنعة، عن عروس تكتشف خلال عرسها أن زوجها قد خانها مع زميلته في العمل، فتقرّر أن تنفذ انتقامها فوراً، ليتحوّل الزفاف الاحتفالي إلى غابة، يتقاتل فيها حيوانات بملابس احتفالية، بعدما تسبّب الحدث وتبعاته في تخلّي الأبطال تباعاً عن كل أقنعة التحضر والتهذيب. نفس الأقنعة التي يعودون لارتدائها بعد انتهاء فورة الغضب، فالمحك أظهر ما قد تصل إليه نفوسهم من شطط، ثم عَمّ الهدوء وتصالح الكل مع حقيقة أن الجوهر الحيواني يجمعهم.

الحكاية تصلح بالطبع لأن تكون فيلماً قصيراً مُستقلاً بذاته، لم يكن ليفقد متعته، لكنه سيفقد الكثير من قيمته الفكرية والإنسانية المعتمدة على كونه تتويجاً لكل ما شاهدناه قبله من أفعال مشابهة في مضمونها، وهو مُجدداً ما يستوجب الإشادة باختيار المخرج داميان زيفرون لشكل السرد، الذي صنع مع طرافة الحكايات وجودة تنفيذها عملاً سينمائياً ممتازاً لا يشبه إلا نفسه.

 

أعاجيب ترنس مالك

أحمد ثامر جهاد

إذا استعدنا أفلامه القليلة السابقة، لا يبدو المخرج «ترنس مالك» ميّالاً إلى تقديم أفلام سينمائية نمطية، تروي قصصاً معتادة تُشبع حاجة الجمهور للتفاعل العاطفي مع بعدها الدرامي أو إيقاعها المُشوِّق. ترنس مالك، المخرج والشاعر وخريج قسم الفلسفة والمعجب بكتابات هايدغر، فنان متأنٍ في اختياراته، لا يبدو- في العموم- منجذباً أو مهتماً بنقل حكايات ترفيهية، قدر انحيازه لتقديم تجارب سينمائية جارحة في بنائها الشعري وجمالها البصري، تجارب إنسانية جديرة بالتأمل حين تستعيد أو توظف أو تنفتح بدرجة ما على الخبرات الذاتية والفكرية للإنسان، ببعديها الفلسفي والسايكولوجي، خاصة في فيلميه: شجرة الحياة، نحو الأعاجيب. 

حتى في ملحمته الطويلة «خط أحمر رفيع - 1998» رشح لأوسكار أفضل إخراج وسيناريو، التي ارتكزت على رواية بالعنوان ذاته للكاتب «جيمس جونز» صدرت في ستينيات القرن الماضي، حاول المخرج الذهاب إلى ما هو أبعد من الدراما الحربية، نحو الحدود المنشودة للكمال الفني، مُوظفاً خلال ذلك، أدواته الإخراجية التي تمزح بين التسجيلي والروائي، معتمدة على سرد متقطع يتناغم في نسيج صوري دلالي. ثمة صوت دائم الحضور، يروي أو يعلق من خارج الكادر، همس شعري وتذكر بليغ في مونولوج طويل، يوائم المخرج بين خيوطه بصرياً، وغالباً باستخدام (الفلاش باك) في مواضع مُحدّدة من الفيلم، مع إبداء عناية ملحوظة بالتفاصيل الدقيقة التي تصل في ترابطها- خلال ما يقرب الثلاث ساعات- إلى مستوى كتابة قصيدة سينمائية مناهضة للحرب، هجاء إنساني يتبنى أسئلة الوجود الكبرى ضمن تداخل سردي يجمع بين مصائر شخصيات عدة، متورطة في محنة قتال مجنون، لا ثمار مرجوة منه، ولا أفق لنهايته، قتال شرس يُدار عن بعد ويرسم مجد أناس مأزومين. 

لنا أن نتساءل مع المخرج، في متوالية العبث الأصيل هذه، أي مجد في أن يقتل الإنسان إنساناً آخر، بغض النظر عن عرقه ولونه وديانته؟ هل كانت خيرات الفردوس الأرضي المنشود في فيلمه اللاحق «العالم الجديد - 2005» كافية لشفاء تلك الروح المعذبة وهي تتأمل بدهشة أفعال الإنسان البدائي، وقد أصابتها لوثة الغزاة الأوروبيين الأوائل؟

أليست البدعة الكولونيالية تلك، هي عينها التي دفعت، منذ قرون عدة، أفواجاً من المغامرين والمستكشفين والمجندين من شتى البقاع والهويات واللغات، للبحث في الأراضي البكر عن غنائم الذهب والفضة بعد إبادة السكان الأصليين للحضارات البدائية السعيدة؟ وكأن ترنس مالك يتساءل كما في كل مرة: ما الذي منحناه إياهم، نحن ورثة الحضارة الأوروبية وسادتها؟ ما الذي تعلمناه من حكمتهم ومعارفهم الموغلة في القِدم؟ 

إن مهمة المخرج ترنس مالك- مواليد 1943 - أسوة بمخرجين كبار آخرين، أمثال (تاركوفسكي، كوبريك، برغمان) تشبه بدرجة كبيرة مهمة المفكرين، الذين تتلخص رؤاهم وأعمالهم في طرح الأسئلة المدوية والمؤرقة عما اقترفه إنسان القرن العشرين-على نحو خاص-من كوارث، أكثر من محاولة الإجابة عنها. من بوسعه بكل الأحوال الإجابة عن لغز الانحدار الأخلاقي المؤذي الذي وسم مسار حضارتنا منذ قرون مضت وإلى يومنا هذا؟ إنه فكر سينمائي يُعيد قراءة العالم بأدواته الخاصة.

ربما ليس أمام المخرج الذي اختار أشد حقب التاريخ الأوروبي جنوناً «الحرب العالمية الثانية» في محاولة لتنقية الضمير الإنساني من أدرانه، إلا أن يجهض شهية القتل لدى الجنود الذين يغرزون بفعل هستيري حِرابهم في صدور أعدائهم اليابانيين، فيما يعتمل في الأذهان سؤال أبدي مُدوِّخ، في فضاء المحاولات الإنسانية للخلاص: كل هذا الشر الكبير من أين يأتي؟

في تجارب سينمائية من هذا النوع، لها قيمتها الفنية المتفردة النابعة من رؤية المخرج العميقة لمصائر شخصياته وعوالمها، سنرى أن أهم ما تتطلبه مشاهدة أفلام ترنس مالك: شيء من الصبر وأقل قدر ممكن من التوقعات للتنامي الدرامي للأحداث، لأننا ببساطة سنكون أمام رحلة تأمل شاقة وطويلة، لا تعد متفرجيها مُطلقاً ببهجة زائفة.

حلم يقظة مرير

في سنوات لاحقة على ملحمة الحرب تلك، يبقى ترنس مالك وفياً لأسلوبه السينمائي المثير للجدل، بل نراه يتطرف في بناء فيلمه الموسوم (TO THE WONDER) إلى حد المكوث في كتابة مشهدية حلمية تراهن على جماليات الصورة الشعرية. وقد اختار لفيلمه الذي أسند بطولته للنجم الأميركي «بن أفليك» أن يناور السرد الفيلمي بسرد آخر، صوت الراوي وتعليقاته، يعود ثانية في رواية الصور وتعميق اللقطات الخارجة عن التسلسل الزمني للحدث. وبإيقاع يستمر بتنويعات محدودة إلى نهاية الفيلم يضعنا المخرج أمام توليفة مرهفة تجمع بين الصور والموسيقى وبقدر درامي متقشف جداً. وهو ما جعل الفيلم كتابة شعرية بالصورة، وتمرداً معلناً على تقاليد هوليوود السينمائية. كتابة بصرية عبر الأشياء ومن خلالها ونادراً عنها، توظف خبرة الأحاسيس الإنسانية وتأملات الوجدان البشري في سبل حياته، التي كانت أضاعت في فيلم «شجرة الحياة» معنى البراءة عند تخوم متاهة الكون المهولة، وخبرت في الغضون قسوة التوحّد الذي ربما عانته عائلة الديناصورات التائهة في براري الرب الفسيحة. إنه درس البشرية وهي تستعيد طفولتها وتعاين مستقبلها على الشاشة، مثلما استعادتها قبل عقود من الآن مع ملحمة ستانلي كوبريك «أوديسا الفضاء» منذ بداية الخليقة وحتى عصر الفضاء.

إذا ما تساءلنا عن ناظم جوهري يجمع بين أفلام المخرج ترنس مالك (الحاصل على سعفة كان عن فيلمه «شجرة الحياة») سيحضر الشعر بقوة أمامنا. ليس غريباً على المخرج الحاصل على مرتبة الشرف من جامعة هارفرد بدراسة الفلسفة خلال عقد الستينيات، أن يوزّع مواهبه بين كتابة الشعر وصناعة الأفلام، فيحدث أن يستغرق انقطاعه عن السينما نحو عشرين سنة، وهي المدة الزمنية الفاصلة بين إنتاج فيلميه: «أيام الفردوس» و«خط أحمر رفيع». بالنسبة لمخرج مشغول بهموم الإنسانية، ستكون تلك فترة كافية لقول شيء جديد. 

حكاية فيلمية أم قصيدة؟

منذ مشاهده الأولى ندرك أن فيلم (TO THE WONDER) لا يعد بحكاية نمطية، تنمو بفعل الصراع الدرامي لتجد حلها المناسب في النهاية. فهذا الفيلم المفعم بالعاطفة والشاعرية يبدو أقرب إلى أن يكون تجربة ذاتية شديدة الخصوصية لصانعه، تحفز المشاهدين لملامسة قاع المشاعر الخاصة بهم. صحيح أن كل فيلم سينمائي هو، بشكل ما، تجربة ذاتية أو يحمل ظلال تجربة مخرجه أو كاتبه، لكن مع ترنس مالك يصبح الأمر خياراً فنياً وأسلوبياً واعياً، يدفعه إلى الخروج عن التقاليد المعهودة للفيلم الأميركي. 

في فيلم يواجه أبطاله عواقب الحب والإيمان واليأس، وتتداخل لقطاته القـريبة والمتوسـطـة والبـعـيـــدة في مونتاج مركب، ستتسع مساحة الرموز والدلالات المبنية بحس تشكيلي يرسم على الشاشة لوحات بصرية مكتفية بذاتها. ستحتفظ تلك اللقطات طوال زمن الفيلم، بحضورها التشكيلي وفرادتها البلاغية وقدرتها على تخليق المعنى السينمائي: يد تمسك نافذة، جسد يستلقي على العشب ولا يظهر كاملاً، ريح تداعب خصلات شعر أشقر في حركة بطيئة، نافذة مشرعة على حقل فسيح، أمواج بحر هادئ تطل عبر ستائر بيض تستجيب لهمس الريح.

لنحاول إيجاز الحكاية قدر الممكن: تغادر مارينا «أولغا كوريلنكو»، وهي امرأة فرنسية منفصلة عن زوجها السابق، مع عشيقها الأميركي نيل (بن أفليك) برفقة ابنتها الصغيرة «تاتيانا» إلى أوكلاهوما في أميركا. يصعب على مارينا رغم حبها لعشيقها التأقلم مع الحياة الجديدة والتخلّص من ظلال ماضيها، وليس أمامها إلّا اللجوء إلى القس كوينتانا «خافير بارديم» ليسدي لها النصح في تخطي أزمتها العاطفية هذه. لكن القس هو الآخر ليس واثقاً من سوية البشر، يُشكّك حيناً بإيمانهم وبفطرتهم السليمة. كوينتانا رجل نبيل يشعر أنه موجود لزمن آخر أشد بساطة وأناس أكثر دعة، فنراه يعاني من أسئلة مُحيرة عن جدوى كنيسته ووعظه في عالم فقد رشده أو يكاد. تتداخل أزمة الشخصيات فيما بينها، لاسيما بعد أن يجد نيل متنفساً لقلقه بالتعرف على فتاة جديدة تدعى جين (راشيل مكادامز).

فصل عاطفي طويل هو الخط الأفقي الظاهر في الفيلم والمكرس لرصد حيوات نيل ومارينا وجين. لكن مشاعر الحب ستعصف بها الأزمات ويتعرّض استقرارها لتعرجات، بمجرد انتهاء مدة إقامة مارينا واضطرارها للعودة إلى موطنها الفرنسي. تقول مارينا لـ«نيل»: لو طلبت مني البقاء معك، سأبقى. يشيح نيل بوجهه وتقوده خطاه إلى الأرض المستسلمة لسحر أشعة الشمس . من جهته يواصل الأب كوينتانا تقديم الخطب والموعظة لرعيته، من دون أن يخفف ذلك شيئاً من حمى قلقه الداخلي. يناشد ربه أن يظهر له، أن تكون رحمته مع ابنه الإنسان. لكنه يبقى مُتسائلاً ومُشككاً في كل ما يصدر عن بؤس حال البشر حوله. ثمة أناس معوزون تلزمهم المعونة والرأفة. الشفقة التي تسمى رذيلة الطيبة، تبدو ضرورية. فالسعادة بالنسبة للكثيرين، ممن لا نعبأ بوجودهم، تتلخص برغيف خبز وسقف آمن. كل هذا الوجع الإنساني من حولنا، فيما أنوار الكنيسة ساطعة وبهوها فاره. بيت الرب محكوم بالقوانين هو الآخر. لكن اهتمام رجل الكنيسة بآلام الآخرين يشهد عليه، يمنحه العزاء، وإن كان يشعر أن إيمانه الحقيقي يذوب في وظيفة الواعظ، مع أن الإيمان يجب أن يكون سماحة طليقة، جلّ غايتها أن تكون بين الناس. تسمعهم وترعاهم مثلما رعى يسوع أتباعه. 

أعاجيب سينمائية

في هذا الفيلم لا تتحدّث الشخصيات إلى بعضها البعض إلا نادراً، حتى في المشاهد التي تجمعها وجها لوجه، فإنها تهمس بحوار داخلي أو باعتراف يسمعه المتلقي وليس مهماً أن تدركه الشخصية. لنقل أن ثمة مصائر ولوعات وقلقاً إنسانياً مشروعاً. لكن ذلك كله لا يعد المتفرج بشيء يمنحه سعادة مطمئنة تصنعها النهايات النمطية. سيما وأنه ليست ثمة حكاية في هذا الفيلم تنمو كما نريد أو نتوقع، ليس ثمة دماء ولا صراخ، إنها اشتغالات جُوانيّة وانثيالات حسيّة ترسم مجتمعة صورة شخصيات الفيلم في مساحتها التعبيرية الأوسع.

في المقابل لا ينتظر المخرج من مشاهده أن ينفعل مع الحدث، فليس ثمة حدث يمكن لنا الانفعال به، إنها استعادات وتأملات تعيد الشخصيات من خلالها فحص ماضيها ومراجعة مواقفها، وقد تنتفض حيناً على قيودها أو ترفض الانصياع لأقدارها المرسومة. في معظم المشاهد، تتحرك نساء «مالك» بخفة وزهو وابتهاج، وعلى الدوام بقرب عناصر الطبيعة الأم، التي يختار المخرج صورها بعناية بصرية شديدة تنصت أكثر مما تتكلم. ثمة ميل للولوج إلى سعادة الرحم الأول في الطبيعة الخلاقة، وشعور آخر يحاول الفرار من قيود الجاذبية الأرضية في الوقت ذاته. بمعنى أن الوجود برمته عند ترنس مالك بات مثل وتر مشدود يصعب التخلّص من عواقبه. 

قراءة «أعاجيب» ترنس مالك تشبه تصفح كتاب شعري، بحرية ومن دون التزام بقراءة القصائد وفق ترتيب نمطي، وهذا ما فعله تحديداً في فيلمه هذا، الذي نزع إلى اختيار بناء سردي حُرّ، لا يمتثل لزمنية مشهدية ولا لبناء درامي يرصد أفعال الشخصيات، فالجميع هنا أسرى وحدة شديدة يجهدون خلالها لمد جسور التواصل الإنساني مع الآخر. إنه نشيج صادق عن وحشة الألم ومشقة الأسى. فيلم عن الحب في مدياته القصوى، ذروته، وأفوله.

 

عبد الرحمن سيساكو ﻟ «الدوحة»: الفنّ في مواجهة التطرّف

حوار: سعيد خطيبي

منذ عرضه، للمرّة الأولى، شهر مايو/أيار 2014، لم يتوقّف فيلم «تمبكتو» عن إثارة الجدل، واستقطاب أهم نقّاد السّينما، الذين لم يبخلوا عليه بالمدائح. هذا الفيلم، الذي يُصوّر حيوات الهامش، وكيف يقاوم أناس بسطاء هيمنة فكر مُتشدّد، حصد أهم جوائز الموسم، منها سبع جوائز سيزار، بالإضافة إلى بلوغه القائمة القصيرة من ترشيحات أوسكار أفضل فيلم أجنبي. 

في هذا الحوار، يتحدّث مخرج «تمبكتو» عبد الرحمن سيساكو(1961)، عن بدايات التّفكير في مشروع الفيلم، وعما رافقه من تحديات، قبل نزوله إلى صالات العرض.

·        فيلم «تمبكتو» صوّر أحداثاً جرت ربيع 2012، وعُرض، لأول مرّة، ربيع 2014. بين بداية التّصوير (2013) والعرض الأول مسافة تقلّ عن سنة.. هل شعرت باستعجال لإنجاز فيلم حول ما جرى هناك؟ 

- طبعاً، لا بدّ ألّا ننسى أن تمبكتو هي مدينة تحمل عُمقاً رمزياً، هي مدينة تاريخية جدّ مهمة، هي مدينة تعود إلى آلاف السّنين، هي مدينة علم ومعرفة، هي مدينة مُتصالحة مع نفسها، بالأساس، تحمل وتدافع عن قيم إنسانية، هذه القيّم ذاتها التي كانت في خطر عام 2012، ومن ثَمّ فقد شعرت أني في حال استعجال للتّنديد بهذه النظرة للعالم التي كان متشدّدون يحاولون فرضها، وهذا الفهم الخاطئ للإسلام الذي حاولوا إجبار أهالي المدينة ذاتها على تبنيه. 

·        على ماذا اعتمدت تحديداً في كتابة سيناريو الفيلم، رفقة زوجتك ومساعدتك كاسان تال؟

- كتبت سيناريو الفيلم أيام احتلال تمبكتو، فقد كنت أتابع ما يحدث في الواقع، عن كثب، وكتبت نص العمل انطلاقاً من مجريات وحقائق ميدانية. كتبت إذاً نواة السيناريو من متابعات عينية لما حصل، ثم في مرحلة ثانية، جاءت إضافات أخرى للنّص الأصلي، ومقاطع التقطتها من شهادات أناس عايشوا احتلال المدينة، وشاركوا أيضا في الدّفاع عنها، بمواجهة الجماعات الأصولية، بشكل سلمي، ومن ثَمّ، جاءت هذه الشهادات الحيّة، لتجارب معيشة أيام الاحتلال، لتغذي سيناريو الفيلم، وتمنحه واقعية في تصوير ما حدث في تمبكتو عام 2012.

·        لكن، في النّهاية، لم تستطعْ تصوير الفيلم في تمبكتو نفسها، كما خطّطت له.

- كان من المفروض أن نصوّر مجريات الفيلم في تمبكتو، لكن، بسبب حادث انتحاري وقع هناك، أياماً قليلة قبل الشروع في التصوير، وجدت نفسي مجبراً على تغيير الوجهة، وعدم المجازفة بفريق العمل، تجنباً لحصول أي مكروه، وهكذا توجّهت إلى مدينة ولاتة، جنوبي موريتانيا، القريبة من حدود دولة مالي، والمشابهة في معمارها وعراقتها لمدينة تمبكتو، وهناك صوّرت الفيلم.

·        خلال التّصوير لم تفكر في محاولة العودة إلى تمبكتو؟ 

- كلا، كنت أفكر في تصوير بعض المشاهد هناك، وقد فعلت ذلك. مثلاً مشهد الجهاديين وهم يدخلون مسجداً، مشهد المسجد من الدّاخل صُوِّرَ في ولاتة، ومن الخارج هو مشهد لمسجد تمبكتو العتيق، فقد عدت هناك، بشكل خفي، مرفقاً بمصور ومساعدين، وصورنا بعض المشاهد، بما في ذلك أيضاً مشهد الدراجة النارية التي تقطع واحداً من أزقة المدينة.

·        الفيلم يحاول أن يتحدّى الممنوعات. يتصدّى لمنطق تكفيري.. هل كان في ذهنك توصيل رسالة مقاومة من الفيلم نفسه؟

- هو، أولاً، فيلم، وعمل فني، وإذا كان المقصود من مقاومة هو مقاومة الخطاب التكفيري والجهاديين، فالإجابة نعم. 

·        هل الفنّ قادر على مجابهة التطرّف؟

- نعم، ولكن لن يتأتى هذا سوى بالصّدق في تعاملنا وممارستنا للفنّ. الفنّ هو شكل من أشكال المقاومة السلمية. ولكن، يجب أن نقرّ أن الفن وحده ليس كافياً. 

·        ما حصل في تمبكتو عام 2012 يحصل اليوم في مدن عربية عِدّة، هل هي عولمة للتطرّف؟

- في الحقيقة، ليست لدي إجابة ملموسة لهذا الأمر، ولا شرحاً فعلياً. من ملاحظة ما يحصل ندرك أن الأمر يتعلّق بنظرة ما للإسلام، وللحياة، فأنا تربيت وكبرت على إسلام يقوم على تقبّل الآخر، والتّحاور معه، بغض النّظر عن معتقده، ومهما كانت ديانته، هو إسلام تعلمناه، يحمل معاني المحبة، وامتلاك القدرة على الصّفح والعفو، إسلام علّمنا أن نلتزم العقلانية، لا جنون البربرية. 

·        ما يُحسب لك أنك أنجزت فيلماً كبيراً بالاتكال على مجموعة من الممثلين الهواة..

- هذا يعني أن هذه المعادلة ممكنة، ونستطيع تحقيقها. نحتاج فقط لصدق في تعاملنا، وفي كلامنا، وأن نثق في الكوميديين، ونتعامل معهم باحترافية. ثم، في النهاية، ما هو فيلم سينمائي؟ فيلم سينمائي هو الإحساس بالدّرجة الأولى، فالمشاهد يحتفظ من فيلم ما بالشعور الذي خلّفه فيه، بالحالة النفسية التي تركها فيه فيلم ما بعد مشاهدته. 

·        في الفيلم، تحاول أن تخبرنا أن الجهاديين لم يكونوا قطعاً من مدينة تمبكتو، بل جاءوا من مناطق أخرى بعيدة.

- هذا صحيح. هم أجانب، وليسوا من تمبكتو، وهذه حقيقة. فهم يتحدّثون لغة غير لغة الأهالي المحليّة، بعضهم جاء من دول أخرى، بعيدة عن دولة مالي. نلاحظ مثلاً أن المحافظ كان من تونس، وآخر من دولة إفريقية يتحدّث الإنجليزية، وغيره من ليبيا مثلاً. ثم نجد إمام مسجد تمبكتو الذي وقف ضد هؤلاء المتشددين، وأخبرهم أن أفعالهم تتعارض مع قيّم الإسلام، مثل ممارساتهم فيما يتعلّق بتزويج القاصرات دونما موافقة من أولياء أمرهم. 

·        النّجاح العالمي للفيلم حرّك ضدّك حرباً كلامية واسعة، وذهب البعض لاتهامك بمغازلة النّظام الحاكم في موريتانيا؟ فالنّظام في نواكشوط وَفّرَ لك حماية عسكرية أثناء تصوير الفليم.

- نعم، لحسن الحظّ أن النّظام وَفّرَ لي حماية خلال تصوير فيلم تمبكتو، حماية للإسلام، ضد البربرية وضد التعصّب. موريتانيا هي بلدي، والجيش وَفّرَ حماية لفيلم يجابه التطرّف، وأنا أقوم بعمل فني في بلدي، ومن ثَمّ لست أتحرّج من هذه الانتقادات تماماً. 

·        النقّاد مدحوا الفيلم كثيراً، لكن ما هي برأيك النّقطة التي أعاقته في بلوغ سعفة ذهبية أو أوسكار في آخر لحظة؟ 

- هذا سؤال لا أستطيع الإجابة عنه فعلاً. فيلمي ليس فيلماً كاملاً، بلوغ الكمال أمر جدّ صعب، ثم إن الجوائز ليست بالضرورة هي التّعريف الحقيقي لفيلم ما.

 

«يلا عقبالكن» عازبات بيروت.. ولكن!

بيروت: نسرين حمود

يدعو شريط المخرج اللبناني إيلي خليفة «يلا عقبالكن»، الذي يحصد منذ بدء عرضه في الصالات المحلية الأرباح على شباك التذاكر، المشاهدين إلى تتبع أحوال عازبات لبنانيات أربع.. إلا أن بقدر ما تغري ثيمة تأخر سنّ الزواج بالخوض فيها، خصوصاً في مدينة كبيروت تحيا تناقضات في هويتها المتخبطة بين التقليد والحداثة، لم ينجُ الفيلم من عثرات...

تالين (ندى أبو فرحات) وليان (نبال عرقجي) وياسمينا (دارين حمزة) وزينة (مروى خليل) شارفن على عتبة الأربعين، فيما هن يعملن في ميادين إدارة المعارض الفنية وتصميم الأزياء والتجميل والطب. ويمتلكن من التحرّر والاستقلالية الاقتصادية، ما يجعل الأولى تتقاسم سريرها مع من يحلو لها، والثانية ترتبط عاطفياً برجل متزوج هو وسام (بديع أبو شقرا) كثير الوعود الكاذبة بالتحرّر من علاقته الأولى، والثالثة كذلك تنتظر عطلة نهاية الأسبوع لقضائها وشريكها الطبيب المصري حازم (أيمن قيسوني)، الذي يُخفي عنها حقيقة أنه متزوج في دياره، والرابعة تؤمن بأهمية الزواج، لكن القدر لا يُقدّم لها سوى نماذج ذكورية خائبة... الصديقات الأربع «عالقات» في فئة العازبات، الفئة التي تعرضهن للسؤال المكرور من قِبَلِ محيطهن عن أسباب أحوالهن «الناقصة»، في مجتمع لا يؤمن سوى بالزواج مؤسسة للتكاثر. وهنا، تبرز شخصية الأمّ منى (جوليا قصار)، التي تحاصر ابنتها ياسمينا بملاحظاتها المشككة في جدوى حياتها، كما لو أن العزوبية داء سقيم!

بين عناوين بيروت الجذابة، من مقهى «الروضة» إلى مسبح «السبورتينغ»، مروراً بمطاعم «مونو» ومعارض «مار مخايل» الفنية وعلب الليل في الوسط التجاري، وفي شقق مدينية تؤشر إلى طبقة ميسورة، وتحت خيوط شمس الصيف، تجري أحداث كوميديا «يلا عقبالكن» الرومنطيقية جري العدائين، داعية المشاهدين إلى «اللهاث» خلف سيناريو يُغالي في خفته ويرضخ للكليشيهات اللبنانية، إلى حد أنه يبقى طافياً على السطح، فلا يمنح أي قصة من قصص بطلاته أكثر من التقديم الهامشي والنهاية السعيدة، مع قليل من التوابل!

يُهمّش الفيلم كلّ ما حققته المرأة اللبنانية من إنجازات بعد الحرب الأهلية، فينتهي إلى أن بطلاته، اللواتي يظهرن في مشاهد لا تخلو من الجرأة، يبلغن ما تعلنه ياسمينا مستاءة عند بدايته: إن حياة المرأة العربية تبقى مُعلّقة في انتظار العريس، فنغادر الصالة بعد الاحتفاء بزواج الأخيرة من «عريس الأحلام»، بعد أشهر ستة من التعرف إليه! وهذا ما يجعلنا نقع في شيء من الحيرة والتخبط، إذ كيف لا يشغل بال من تتمتع بهذا السقف من الحرية المُجسَّدة في أشكال الزي والمعاشرة والتنقل، سوى انتظار من يسجنها في قفص الزوجية؟! وأين هم هؤلاء الذكور اللبنانيون المتحمسون إلى هذا الحدّ لمؤسسة الزواج، وغير المبالين في ماضي شريكاتهم؟! 

«يلا عقبالكن» يدين مؤسسة الزواج عبر مشاهد عِدّة، ويقرّ بفشلها من خلال تغييب أي حوار يجمع والدي ياسمينا في لقاءاتهما خلال الفيلم، وإطلاق العنان لشقيقتها دانيا (يارا بو حيدر) حتى تذمّ زوجها وتعبِّر عن عجزها عن تحمله، وثالث بديع يضع ياسمينا في مواجهة زوجة عشيقها حازم (لم تكن تعرف حقيقة وضعه الاجتماعي قبل ملاقاتها). تصارح الزوجة المصرية العشيقة اللبنانية المخدوعة (في قلب مُوفّق للأدوار) بعلمها بخيانات «حازم» المُتكررة لها، إلا أن عزاءها يكمن في أن زوجها الأفاك يعود إلى حضنها في المساء، وها هما ينتظران مولودهما الثاني! لكن ما تقدّم سرعان ما يجنح نحو التناقض، السمة اللبنانية العامة، عند تصوير أن الغمام انزاح عن رأس ياسمينا، التي تنجح بعد أن صبرت طويلاً في العثور على من يلبسها الدبلة! 

في مجتمع لبناني يخلط في المفاهيم إلى حدّ أنّه يصف عري المرأة بالتحرّر، لكنه لا يمنحها أي حق قانوني يضمن استقلاليتها، ويضعها تحت رحمة الذكور في مفاصل حياتها، يحذو «يلا عقبالكن» حذو هذا المجتمع القمعي، الذي يفيد بأن الزواج يُشكّل البند الوحيد على لائحة تقويم المرأة اجتماعياً.. ولتذهب نجاحاتها العلمية والمهنية أدراج الرياح! 

من بين الملاحظات الإضافية المُتعلّقة بسرعة المعالجة الجنونية للمادة السينمائية، يمكننا الإشارة إلى غياب مشاهد الألم أو النزاع النفسي في حال زينة المصابة بسرطان الثدي، أو قصر الدقائق المكرسة لإجهاض ليان بعد حملها غير المقونن، بدون إغفال أمر النهاية السعيدة الضالع في إضعاف الفيلم إلى حد الوهن، إذ تزوّجت ياسمينا، وآمنت تالين أخيراً بالحب درباً للخلاص بعد علاقات عابرة بالجملة من خلال التقرُّب أكثر من جارها (ماريو باسيل) المفتون بها، وشفيت زينة من ورمها الخبيث ووقعت في شباك شاب وسيم (شربل زيادة)...

في الجهة المقابلة، تنجح حوارات الفيلم في نقل بعض الأحاديث النسائية اللبنانية بأمانة، فلا توفّر عنصرية الغالبية البغيضة، وتشاوفها، وتردد شتائمها بدون تعديل، كما ينجح «الكاست» في توزيع الأدوار النسائية، مع تسجيل أداء ممتاز لقصار و«لمعات» في تمثيل خليل، وتحديداً في المشهد الذي يُصوِّرها ثائرة، فيما هي تعبّر عن توقانها إلى الوصول إلى مرحلة في حياتها ترى فيها بطنها منتفخاً وثدييها مترهلين بعد ولادة طفلها! أمّا لناحية الممثلين الذكور فإن حضورهم عادي، ولو أن باسيل المعروف في لبس شخصيات كوميدية يقنعنا في دور الجار العاشق.

«يلا عقبالكن» من كتابة وإنتاج عرقجي، في تجربتها التالية للفيلم الدرامي «قصة ثواني» المنجز في سنة 2012، والمكلل ببعض الجوائز في مهرجانات مُتفرّقة، علماً بأن «قصّة ثواني» يبز «يلا عقبالكن» في ميداني السيناريو والحبكة السينمائية. 

فيلم المخرج خليفة يُقدّم جرعات لا بأس بها من الضحك، ويغري بالمشاهدة للتخفف من أحمال النهار، ولو أنّه لا يعوّل عليه في جانب تحقيق أي نهضة في ما يخص التجارب اللبنانية السينمائية، أو حتى في فتح باب للتأمل الجدي في صوره. هو يحاكي ثرثرة صديقات عازبات كثيرات في زوايا المدينة، بحيث ينقل كل ما يقلنه في العلن، لكنه يأبى التنقيب في همساتهن، والتدقيق في نظراتهن، ويتكاسل في صياغة وسائل تعبير سينمائية تستبدل الصور الصامتة بالكلام المرمي كرصاص طائش! لذا، نخلص إلى أنه صنيع بصري أجود بالمقارنة بكمّ الإنتاج اللبناني الأخير في الصالات المحلية، لكنه ليس الأجود أو المُبتغَى من المخرجين اللبنانيين، بعيداً عن الإعلانات المتواترة عن حصصه المرتفعة من الربح التجاري.

 

السينما التونسية .. ثورة أخرى للياسمين

تونس - سُـنية إبيضي

لَمْ تكنْ الصناعة السينمائية رائدة في البلاد التونسية منذ القدم؛ فقد كان إنتاج الأفلام ضئيلاً مُقارنة ببعض البلدان العربية الأخرى رغم ما تزخر به الساحة التونسية من ممثلين سينمائيين ومخرجين. بعد ثورة الياسمين عَرِفَتْ الساحة السينمائية التونسية ميلاد مدارس جديدة أطلق عليها النقاد بالسينما الوثائقية التي تعكس الوضع السياسي الجديد بجرأة في الطرح والتناول لَمْ تكنْ معهودة في ظِلّ حكم زين العابدين بن علي، ولا من قبله مع بورقيبة. لكن، إذا كانت الحالة السينمائية قد انتعشت مع هامش الحرية الجديد، فإن معوقات بنيوية تحد من تلحيم آليات الصناعة السينمائية في تونس. وفي ما يلي تفاصيل حول الموضوع استقتها «الدوحة» من تصريحات بعض صُنّاع السينما في تونس.

------------

خميس الخياطي

ناقد وكاتب سينمائي تونسي

خميس الخياطي ناقد وكاتب سينمائي تونسي يرى أن من أهم معوقات السينما التونسية بعد الثورة هو إغلاق عدد كبير من قاعات السينما في أغلب محافظات البلاد، فلم يبق إلا 12 قاعة فقط، إضافة إلى ارتفاع ميزانية تكلفة إنتاج الأفلام، الشيء الذي يضطر المخرج السينمائي التونسي إلى اللجوء إلى المنتجين الأجانب، كما أضاف الخياطي أن الأفلام في السنوات الأخيرة تأثرت جداً بثورة 14 يناير التي نفضت الغبار عن مواضيع كانت من المسكوت عنها لسنوات طويلة زيادة على كثرة الأفلام الوثائقية التي صُوِّرَتْ في شكل تقارير، وهذا ما أثبتته أيام قرطاج السينمائية لسنة 2014، والتي جاءت حُبلى بهذا النوع من الأفلام الذي ظهر بعد الثورة.

ويرى الناقد خميس الخياطي أن الهيئة العليا المستقلّة للاتصال السمعي البصري بتونس، والتي ظهرت وبرز دورها جلياً بعد ثورة 14 يناير تستطيع أن تساهم المساهمة الفعالة في الرقيّ بالفيلم السينمائي في تونس بتشجيعها القنوات التلفزية الوطنية والخاصة الموجودة في البلاد على إنتاج الفيلم الدرامي أو الروائي والأفلام التلفزية.

-------------

لسعد الدخيلي

مخرج

وفي نفس السياق يرى المخرج لسعد الدخيلي أن المشكلة الأساسية في السينما التونسية بعد الثورة هي التوزيع، خاصة مع الوضع الحالي للبلاد الذي يتسم بجرأة كبيرة في طرح النص السينمائي وإنتاج الأفلام.

يبدو أن الثورة التونسية هي ثورة سينمائية أيضاً، استطاعت أن تعيد المخرج التونسي إلى مُعالجة الهموم الجماعية بعد أن كان لسنوات مُنساقاً وراء هموم فردية وهلوسات نرجسية عمّقت العزلة في المجتمع إلى أن جاءت الثورة بما خلّفته من مآسٍ اجتماعية واقتصادية وثقافية دفعت بالمبدعين في تونس إلى مجاراة الأحداث وتوثيقها بكل جرأة.

----------

بلال العثيمني

مخرج سينمائي

في رأي بلال العثيمني، المخرج السينمائي الشاب في رصيده مجموعة من الأفلام الوثائقية التي تُؤرّخ للثورة التونسية، إن السينما في تونس بعد الثورة تخلّت عن الرواية والخيال وأصبحت تهتم بالواقع وتصويره والتأريخ لبعض الوقائع وخاصة في المدن الداخلية مثل محافظة جندوبة وسيدي بوزيد وغيرهما، ويؤكد صاحب فيلم «قمرة 14» بأن المشكلة الأساسية في السينما التونسية بعد الثورة هي غياب الدعم من وزارة الثقافة التي لا تولي اهتماماً كبيراً لهذا الفن مما يضطر المخرج إلى إنتاج الفيلم بتقنيات بسيطة وتمويل ذاتي.

--------

محمد الغزواني

ممثل

أما الممثل القدير محمد الغزواني، الذي شارك في عديد الأفلام بعد وقبل الثورة، فيرى أن السينما في هذه الفترة عرفت نقلة نوعية من الشريط الروائي إلى التقارير السينمائية، وهو ما تَعجُ به الساحة السينمائية في تونس الآن، خاصة بعد أن أصبح للمخرج نسبة كبيرة من حرية التعبير عكس ما كان في عهد بن علي. ويُرجع الغزواني غزو الأفلام الوثائقية الساحة السينمائية في تونس للوضع السياسي الراهن في البلاد الذي شجّع على ظهور هذه الأفلام سيّما مع ميلاد مدرسة جديدة هي مدرسة المخرجين الشبان للأفلام الوثائقية، والتي تعتمد على تقنيات بسيطة وتصوير للواقع على غِرار الفيلم الذي شارك فيه مُؤخراً بعنوان «القنّاص» لمخرجه يسري بوعصيدة، وفيلم «الشباب التونسي». وحسب رأي الغزواني فإن الدعم الشحيح الذي يلقاه المخرج السينمائي التونسي من وزارة الثقافة جعل الساحة السينمائية فقيرة من الأفلام، وخاصة الطويلة منها، عكس ما يوجد في بعض البلدان العربية الشقيقة.

-------

وليد السالمي

سينمائي

وليد السالمي، وهو سينمائي شاب أنتج وأخرج العديد من الأفلام الوثائقية حول وضع المواطن في تونس بعد الثورة مثل فيلم «زمان»، والفيلم القصير «حقيقة الفقراء»، صرح لنا بأن السينما في تونس قبل الثورة كانت حِكراً على بعض الأسماء، وهو ما تغير بعد 14 يناير بفتح المجال للمبدعين الشباب الذين أثبتوا من خلال المهرجانات أنهم قادرون على تصوير واقع تونس أكثر من أي وقت مضى.

-------

شكري المديوني

رئيس الجامعة التونسية لنوادي السينما سابقاً

شكري المديوني، رئيس الجامعة التونسية لنوادي السينما سابقاً ورئيس لجنة تنظيم المؤتمر الدولي لنوادي السينما لسنة 2013، يرى أن السينما التونسية بعد الثورة شهدت انفجاراً كبيراً من حيث العدد لا من حيث النوعية، إذ احتلت الأفلام الوثائقية المرتبة الأولى وهذا ما خَلّفه الوضع السياسي في البلاد الذي خلق جرأة في طرح المواضيع السينمائية.

ويرى المديوني أن المشكلة في تونس ليست مشكلة إنتاج، بل مشكلة توزيع، فضلاً عن أن أغلب المحافظات تخلّت عن عديد دور السينما وقاعات العرض فلا نرى الأفلام التونسية إلا في المهرجانات الوطنية والدولية والعربية على غِرار أيام قرطاج السينمائية التي كشفت في هذه السنة عن نوعية أخرى من الأفلام السينمائية الجديدة تسمى بالسينما الوثائقية أو ما يُطلق عليه بسينما الشارع.

 

عودة العدو إلى هوليوود

محمد الفقي

هذه هي السنة الثالثة على التوالي في هوليوود التي تتكرّر فيها ظاهرة تبدو لنا غريبة بعض الشيء، فمنذ العام 2013، ونحن نشهد عودة للاتحاد السوفياتي السابق؛ بعد سقوطه وتفكّكه، ليصبح من جديد هو العدو الشرير في عددٍ كبيرٍ من الأفلام.

لماذا إذن الإصرار على أن يكون «العدو» هو «الاتحاد السوفياتي» بالذات، وليس روسيا؟! ما الذي تريد هوليوود أن توصله إلى المشاهدين في أنحاء العالم، والذي يتوفر في الاتحاد السوفياتي السابق، وينقص روسيا الحالية؟! 

«الأيديولوجيا»، بكل بساطة وبصريح العبارة. فإصرار هوليوود، في الفترة الأخيرة، على العودة لاعتبار الاتحاد السوفياتي السابق هو العدو، لا يمكن أن نقرأه إلا باعتباره نوعاً من إيقاظ مشاعر العداء في نفوس المشاهدين في أميركا والغرب، باستدعاء العدو الشيوعي السابق، وتجييش المواقف ضده، وصبها على رأس وريثه: روسيا الحالية؛ خاصة بعد تخلّي روسيا رسمياً عن الأيديولوجية الشيوعية، ودخولها حلبة التنافس مع أميركا في نفس لعبتها: لعبة الصراع على المصالح الاقتصادية.

هل يمكن أن نلفت النظر هنا إلى أن هذه العودة الهوليوودية لاعتبار «الاتحاد السوفياتي» هو العدو، قد ترافقت مع الضجة التي أثارها هروب (إدوارد سنودن)؛ مستشار الـ CIA السابق إلى روسيا، وطلبه لحق اللجوء السياسي إليها، ثم موافقة روسيا على منحه إياه، بعد أن قام بتسريب وثائق سرية وخطيرة تتعلّق بطرق تجسس الـ CIA ، وتصنتها على هواتف قادة العالم، حتى القادة الغربيين منهم!

لم يكن وجود نجوم هوليوود في الإدارة الأميركية أمراً غريباً في يومٍ من الأيام، ولم يكن رونالد ريجان استثناءً فريداً، بل كان التجسيد الحي على الترابط العضوي بين المجالين، للدرجة التي يمكن أن تُصحح فيها إحدى القوتين القوة الأخرى، إذا ما شعرت أنها قد خرجت عن المسار، أو حين تلمس إحداهما تقاعساً أو تخاذلاً لدى الأخرى، فتسارع إلى التنبيه والتحذير والحث، كما سبق وأن اسْتعدَت هوليوود الإدارة الأميركية على النازيين، حتى قبل أن يُعلن أيزنهاور دخول أميركا الحرب رسمياً إلى جانب الحلفاء، وكما استعدتها من قبل على اليابانيين، والسوفيات، والكوبيين، والصينيين، والعرب... والقائمة طويلة. 

من الناحية الأخرى، مايزال ماثلاً في الأذهان إسراع الرئيس باراك أوباما مُؤخراً إلى لوم (شركة سوني للترفيه)، عندما أعلنت عن تأجيل طرح فيلم (المقابلة)، خوفاً من تهديدات القيادة السياسية في كوريا الشمالية، بل وسعت الإدارة الأميركية بنفسها وبنفوذها، لدى دور العرض السينمائي المستقلّة، حتى تقبل عرض الفيلم، بعد أن تحجّجت (سوني) بأن قرار التأجيل هو قرار شركات دور العرض لا قرارها هي.

ما يلاحظه المراقبون السياسيون والاقتصاديون حالياً، هو عودة الحرب الباردة بين أميركا وروسيا، لكن الحرب هذه المرة، ليست حرباً أيديولوجية، ليست -كما كان في السابق- حرب الرأسمالية والقيم الحرة ضد الشيوعية والحكم الشمولي، بل هي حرب اقتصادية في الأساس، حتى الصراعات حول مناطق النفوذ في العالم، هي لتحقيق أهداف اقتصادية في نهاية المطاف. وما يبدو واضحاً للعيان، خلال السنوات الثلاث الماضية، هو تحقيق روسيا للكثير من النجاحات في مجال التنافس الاقتصادي مع أميركا، ليس فقط في صادرات المنتجات الزراعية والصناعية والاستهلاكية، بل وفي أشد المجالات حساسية بالنسبة للغرب؛ مبيعات الأسلحة والصناعات العسكرية. ومن هنا نفهم أن العقوبات الاقتصادية على روسيا (والتي من ضمنها لعبة تخفيض أسعار النفط العالمية للإضرار بالمدخولات الروسية)، يرافقها ويواكبها حرب باردة إعلامية، تتمثل في محاولة دوزنة آلة الحرب الاقتصادية الحالية، على الألحان القديمة للحرب الأيديولوجية على العدو الشيوعي السابق. 

ومن هنا لن يكون غريباً، أن يُعلن المخرج الأميركي ستيفن سبيلبيرج، عن طرح فيلمه الجديد، من نفس المنطلق الهوليوودي الذي يبعث الاتحاد السوفياتي «الشيوعي» إلى الحياة من جديد بوصفه هو العدو. فيلم سبيلبيرج من المُقرر أن يتم طرحه في دور العرض في شهر أكتوبر من العام الحالي 2015، ويحمل عنوان: «جاسوس مجهول في الحرب الباردة» (UNTITLED COLD WAR SPY THRILLER)، وشارك في كتابته، المخرجان الكبيران الأخوان إيثان وجويل كوين، ويلعب بطولته الممثل توم هانكس، في دور محامٍ أميركي يتم تجنيده من قبل الـ CIA ، خلال الحرب الباردة بين أميركا والاتحاد السوفياتي، من أجل المساعدة في تحرير طيار أميركي تحتجزه السلطات الأمنية السوفياتية... الشيوعية!

مجلة الدوحة القطرية في

01.04.2015

 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2014)