كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

رؤى نقدية

 
 
 
 
 

«آسيا الصغرى».. تتذكر

كمال رمزي

الثلاثاء 31 مارس 2015 - 10:10 ص

 

المقصود بها ماجدة الصباحى، والاسم أطلق عليها تيمنا واحتراما، لها، ولسيدة الإنتاج الرفيع، آسيا، الرائدة، التى أغدقت عطاياها علينا، وعلى السينما المصرية.

ماجدة، بطولة «٥٨» فيلما، منها «٢٤» من إنتاجها، بعضها، أصبح من الكلاسيكيات التى لا تدخل فى دائرة النسيان، ومثل «أين عمرى»، «المراهقات»، «جميلة بوحريد»، «الجريمة والقطاب»، «النداهة»، «أنف وثلاث عيون».. هذا على سبيل المثال لا الحصر.. وها هى، تملى مذكراتها، فى «٣٠٠» صفحة من القطع الكبير، على الصحفى المجتهد، السيد الحرانى، الذى حاول، بإخلاص، رصد تفاصيل وقائع، وإبراز قيم ومبادئ النجمة التى صنعت مجدها، بجلدها وإرادتها، وتمكنت فى مشوارها الطويل، من النهوض بعد تعثر، وواجهت المشكلات، بروح لا تعرف اليأس، وآمنت بفنها، أحبته واحترمته، حتى إنها، الوحيدة ــ فى حدود علمى، التى رفضت، رفضا باتا، بيع «نيجاتيف» أفلامها، فى الوقت الذى استجابت فيه شركات الإنتاج، بحماس، إلى إغراء مؤسسات ترمى إلى شراء التراث السينمائى.

تعلمت ماجدة، بعقلها اليقظ، كيف تحمى نفسها، فنيا وأخلاقيا وماليا.. اختياراتها لموضوعات وقصص أفلامها، تعتمد على ذائقة أدبية تنم عن معرفة بالروايات العالمية، والمصرية، فهى مأخودة بشارلوت برونتى، صاحبة «جين اير» التى حولتها إلى «هذا الرجل أحبه»، ودوستويفسكى، مؤلف «الجريمة والعقاب»، وإلى جانب إحسان عبدالقدوس، ثمة يوسف إدريس، الذى قدمت له «النداهة»، وكان من آمالها، أن تحقق له «نظرة يا ست».

طوال حياتها، حافظت ماجدة على سمعتها، شأنها شأن الكثير من زميلاتها، لكن أن يطول حديثها عن أخلاقها الحميدة، خاصة بشأن رفضها المطلق لأى شبهة قبلة على الشاشة، فإن الكلام يبدو ماسخا، يصل لحد الإزعاج حين يكتب محرر مذكراتها «أنا استطيع أن أقول بأعلى صوتى انى قديسة فى هذا الوسط الفنى» وتواصل «لو كنا نعيش فى عصر الأنبياء لكنت إحدى النساء الصالحات أو القديسات».. معقول! أهذا كلام يا «السيد الحرانى»؟

يحسب لماجدة، إحساسها الإنسانى المشرق بزملائها: فريد الأطرش، كان زميلا شهما وإنسانا انطوائيا ولطيفا وطيب القلب.. عبدالحليم حافظ، لديه القدرة بما أوتى من سياسة وذكاء على أن يجعل الآخرين يشعرون، كل على حدة، بأنه صديق لهم، والأهم من ذلك أنه كان صادقا إلى أقصى درجة فى أدائه التمثيلى والغنائى.

بينما تعود ماجدة، بين الحين والحين، لحديثها الدافئ عن المشاركين لها، فإنها تفرد فقرات عن المخرجين، خاصة يوسف شاهين، حيث كانت الخلافات بينهما تندلع بانتظام، تصل إلى مواقف طريفة، كأن يتحاشى كلاهما الحديث مع الآخر، فإذا أراد يوسف توجيه ماجدة ــ أثناء تنفيذ «جميلة» ــ يقول لمساعده، على رضا «قول للآنسة تذهب فى هذا الاتجاه وتقف».. وسريعا ترد «قول للأستاذ هى ليها طريقتها».

جذر المشكلات بينهما، والذى أدى إلى تعاطى ماجدة المهدئات، طوال عملها مع شاهين، يكمن فى اختلاف الأساليب. ماجدة، من مدرسة وجه النجم هو الأهم، لابد أن تسطع الإضاءة عليه، وأن يكون فى مقدمة الصورة، بينما يوسف شاهين يرى أن حيوية الحركة، داخل المشهد هى الأهم.. إنه يفكر فى عمق المجال، وهى تؤمن أن الوجه، بتفاصيل ملامحه، يستحق أن يكون هو الأساس، إن لم يكن الألف والياء.

لو أن ماجدة، ومعها الصحفى «الحرانى»، التفتا إلى هذه المسألة، لجاء حديثها، عن المخرج الكبير، أقل قسوة، مما هو عليه فى المذكرات.

ربما كانت الخلافات بين ماجدة وشاهين، من الدوافع التى أدت إلى إقدام نجمتنا على تجربة الإخراج، فى «من أحب»، المأخوذ عن رواية أو فيلم «ذهب مع الريح».. وبرغم أن «من أحب»، المرتبك، العشوائى، لم يحقق نجاحا يذكر، فإن المذكرات تزعم أنه «لقى نجاحا استطاع من خلاله أن يبث الطمأنينة إلى قلبى».

ماجدة، صقلتها الأيام، وبقوة ملاحظتها، شهدت ما يعانيه بعض الفنانين، فى أواخر حياتهم، من متاعب صحية تدفعهم إلى مطالبة الدولة بتحمل نفقات علاجهم.. وأدركت، بوعيها، أن الإنسان يجب الاحتياط من تلك الأيام، وبالتالى، عملت على تأمين مستقبلها ــ متعها الله بالصحة وطول العمر ــ فاستطاعت، بجديتها، أن تقيم مجمعا مرموقا فى مدينة ٦ أكتوبر، وألا تبدد ثروتها الفنية، وثروة الوطن أيضا، متمثلة فى أفلامها الجميلة، التى سيكتب لها.. طول البقاء.


ماجدة.. نافذة ضياء

كمال رمزي

السبت 28 مارس 2015 - 11:40 ص

«أين عمرى»، فتح الطريق أمام تيارات مختلفة، أنعشت السينما المصرية، فلأول مرة يجرى الالتفات إلى روايات إحسان عبدالقدوس، الذى أصبح إحدى أيقونات عالم الأطياف، متجاوزا، من الناحية الكمية، عدد الأفلام المعتمدة على أعمال نجيب محفوظ.. صحيح، ظهر اسم إحسان عبدالقدوس، على الشاشة الفضية، فى «الله معنا» لأحمد بدرخان ١٩٥٥، قبل عام واحد من عرض «أين عمرى»، لكن «الله معنا»، اعتمد أصلا على تحقيقات صحفية قام بها إحسان، فى بداية الخمسينيات، ونشرها فى «روزاليوسف».

هنا، من الإنصاف ذكر اسم «ماجدة» التى قررت، بعقل يقظ وإحساس سليم، أن تكون رواية «أين عمرى» باكورة إنتاج شركتها، وهى تستكمل اختيارها الموفق بإسناد كتابة السيناريو لواحد من الأساتذة الكبار، ذوى المكانة الرفيعة، على الزرقانى.. وقام مخرجها الأثير، أحمد ضياء الدين، الذى أنجز معها سبعة أفلام، بتحقيق الفيلم.

البنت المصرية «علية»، بأداء ماجدة، جاءت مختلفة، إن لم تكن مناقضة، للشخصيات التى جسدتها من قبل، حيث كانت، مثل معظم نجماتنا البريئات، فى ذلك الزمان، باكية، مظلومة، كسيرة القلب، هزيلة الإرادة، تشتكى ولا تواجه، ألعوبة فى يد الأشرار.. ماجدة، بوجهها المتسامح، وصوتها المتهدج، المتقطع، نجحت فى أدوار البنت المغلوبة على أمرها، التى تذعن لأوامر الآخرين.

لكن، فى «أين عمرى»، تفاجئنا، بطباع جديدة، تواجه، تتمرد، تثور، تختار، تصر، تطرح السؤال عن سنوات عمرها التى ضاعت فى ظل مجتمع لا يرحم، يتمثل فى «أم» قاسية، ثم زوج عجوز شرس، وقر فى ظنه أنها من ممتلكاته الخاصة، مثل العزبة، والحصان الجامح، الذى يروضه بالكرباج.

اسم «علية»، ظل لفترة طويلة، متداولا بين الناس، يشير إلى نوع من البنات المطالبات بحريتهن، ويعبر، فى ذات الوقت، عن الآمال المتأججة، فى سنوات ما بعد ثورة يوليو، حين بدت الآفاق واسعة، مع افتتاح مئات من مدارس البنات، وتشجيع انخراطهم فى الجامعات، والوعود المتلألئة بدخولهن سوق العمل.

جاء «أين عمرى» استجابة إيجابية لواقع جديد يتشكل، أدركته ماجدة على نحو ما، وانتبهت له السينما المصرية، فكان من المنطقى ظهور نجمات من نوع جديد، يجسدن شخصيات تعتبر امتدادا لـ«علية».. فى السنوات التالية، تستطع لبنى عبدالعزيز، فتقدم، فيما تقدمه «أمينة»، بطلة «أنا حرة» لصلاح أبوسيف ١٩٥٩، عن رواية لإحسان عبدالقدوس.

«أمينة»، بمثابة الشقيقة الصغرى لـ«علية»، تستوعب تجربة أختها، وتسير قدما للأمام.

«علية» طرحت السؤال القلق، والمقلق «أين عمرى»، ويتضمن السؤال عن الطريق للمستقبل، وكيف تعيش حياتها.. «أمينة»، بأداء قوى، مقتصد، تجيب: عن طريق العلم، فى جوهره الحرية من أغلال الجهل.. فها هى تدرس، بجدية، فى الجامعة.. ثم بالعمل، ذلك الفعل العظيم الذى يحرر المرأة من هيمنة الآخرين. السلطة، تصبح فى يد الفتاة المتعلمة، التى تعمل.

وأخيرا، قمة الحرية، حين تنضم «أمينة» إلى صفوف المدافعين عن حرية وعدالة الوطن. إنها خطوات، ربما كان من الصعب أن تنطلق، لولا بطلة «أين عمرى» التى فتحت الباب.

ماجدة، فى خطوة تحسب لها، وللسينما المصرية، تنتج فيلمها الملحمى «جميلة» ليوسف شاهين ١٩٥٨، الذى يعد، فى بعد من أبعاده، أنشودة للفتاة العربية، حين تصبح قضية وطنها، هى قضيتها الخاصة، وتثبت أنها صاحبة إرادة من فولاذ.. «جميلة» وجدت الإجابة على سؤال شقيقتها المصرية «علية» حين صرخت «أين عمرى».

أخيرا، صدرت «مذكرات ماجدة الصباحى» التى أملتها على الصحفى، السيد الحرانى، الأمر المهم، الذى يستلزم وقفة خاصة.


خمسون ظلا للرمادى

كمال رمزي

الثلاثاء 24 مارس 2015 - 1:10 م

عجيب أمر هذا الفيلم المحظوظ، فهو لا يستحق الرواج الذى يحققه، وليس به ما يستدعى الضجة التى يثيرها.. لكن، أغلب الظن، أن خطة الدعاية التى رسمت له، جاءت بنتائج مبهرة. شركة الإنتاج اختارت رواية واسعة الانتشار، متواضعة أدبيا حسب تقييم النقاد، صدرت منذ أربع سنوات، بقلم البريطانية إى إل جيمس، باعت عشرات الملايين من النسخ، وأقامت إحدى المحاميات قضية ضد مؤلفتها، لأن كتابها، بخياله المريض، تسبب فى انهيار علاقات زوجية، وفيما يبدو أن أوصاف النقاد للعمل بأنه «حضيض الانحطاط»، و«النسخة المبتذلة لحكاية سندريللا»، أثار حب الاستطلاع عند القراء، خاصة بعد سحبها من بعض المكتبات الأمريكية، على اعتبار أنها من «النوع الإباحى».

أثناء تنفيذ الفيلم، أحيطت أخباره بقدر كبير من التكتم الغامض. ثم ظهر شريط الدعاية الذى يستغرق دقيقتين، مدججا بلقطات سريعة، توحى أكثر مما توضح، مدعوما بصوت المغنية الشهيرة، بيونسيه، وفيما يشبه الهستيرها الإلكترونية، تناقلت وسائل الاتصالات الشريط، ليشاهده عشرات الملايين.

أخيرا، عرض الفيلم فى العديد من دول العالم، مع منع حضوره لمن يقل أعمارهم عن «17» عاما فى أمريكا و«18» فى إنجلترا، و«17» فى فرنسا، و«21» فى لبنان، و«16» فى المغرب.

بعيدا عن اللغط حول الفيلم، وبعد مشاهدته، تدرك أنه أقل من التوقع فى كل جوانبه، فهو لا يصل فى جرأته إلى حد «التانجو الأخير فى باريس» لبيرتولتشى 1972، وبطله، «جيمى دورنان»، الذى أدى شخصيته كريستيان جراى، يتسم بدرجة ما من البرود، وباهت، يفتقر إلى اللمسات الإبداعية الخاصة، على النحو الذى يتمتع به ذو النزعة السادية عند ألفريد هيتشكوك. ومخرجته، سام تايلور وود، لا تملك مهارات رومان بولانسكى، أو غيره من المرموقين.

يعتمد «خمسون ظلا للرمادى» على شخصيتين أساسيتين، والبقية، مجرد كومبارس «ناطق».

كريستيان جراى، شاب وسيم، متألق، مليونير، صاحب مؤسسات دولية، فى مجال الاتصالات، والزراعة فى أفريقيا، ليس حبا ورحمة بأطفال القارة الجوعى، لكن باعترافه، من أجل توسيع نفوذه وفرض هيمنته، تلك النزعة التى تمكنت منه تماما، فامتدت، حتى إلى البشر.

اختيار الروائية لاسم «جراى» فى تقديرى، له عدة دلالات، فمعناه، يقترب من اللون «الرمادى»، لون الدخان، المتعدد الدرجات، يبدأ من الأبيض الناصع ليصل إلى الأسود الفاحم.. كذلك يحيلنا الاسم إلى «دوريان جراى» فى رواية أوسكار وايلد الشهيرة، بل يمتد التشابه إلى ما هو أبعد، كريستيان، تماما كدوريان، مفتون بصورته، فبينما بطل أوسكار وايلد يتأمل، معجبا، الوحة الناصعة التى رسمها له فنان قدير، يطيل بطل «خمسون..» النظر فى المرآة، مستمتعا، بشكل جسمه الرياضى، ووجهه المتسق التقاطع، الموحى بالثقة، برغم أنه ــ كما الحال عند وايلد ــ يخفى تحته، بركانا من الشر.

بطلة الفيلم، أنستاذيا، فتاة رقيقة، مثقفة، دراسة للأدب البريطانى، تحب شارلوت وإميلى برونق، لكنها تعشق توماس هاردى، وبالتحديد، روايته الحزينة «تسى من دوربيرفيل»، التى يحكى فيها عن مشوار «تسى» فى دروب حياة قاسية ومجتمع لا يرحم.. أناستازيا، القادمة من بيئة متواضعة، تؤدى دورها، على نحو لا يخلو من شفافية، داكوتا جونسون، الأعمق حضورا، والأكثر تفوقا، من جيمى دورنان،.

يبدأ «خمسون..» بذهاب أنستاذيا إلى مكتب جراى الفاخر، لإجراء حوار معه.. تنبهر به بقدر انبهاره بها، والأسباب مختلفة. هو معجب بجسدها، وهى مأخوذه بثرائه الواضح.. سريعا، يحدث التجاذب، وتتكشف سواتر: جراى، ليس «مثليا» كما يشاع عنه، سرا، لكن كائن سادى، موغل فى وحشيته، حجرته السرية تمتلىء بوسائل التعذيب: حبال، قيود، سياط، أسياخ.. ولا توجد سكاكين.. تتوالى اللقاءات، ولأنها تجنح إلى العلاقات السوية، فإن رغبته فى الهيمنة عليها تزداد. يحاول إبهارها بما يملك من عربات وطائرة خاصة ومال، وهى تعجب بكل هذا، لكن ليس إلى درجة الإذعان التام.. جراى، الأقرب إلى الشيطان، وعلى طريقة «مفيستوفليس» مع «فاوست»، يعرض «جراى» على أنستاذيا، توقيع عقد، بموجبه تسلمه جسدها، وروحها، مقابل كل ما تريده.. وإذا كان «فاوست» قد استجاب للغواية، فإن أنستاذيا ينتهى بها المآل إلى رفض الصفقة، رفضا باتا ونهائيا، برغم غلالات الدموع التى تغلف عينيها وعينيه.

«خمسون ظلا للرمادى» فيلم مثقل بالأفكار، يدخل فيما يشبه الحوار، مع أعمال أدبية ذات شأن يتأمل الألوان المراوغة للهيمنة والقسوة واللذة والملكية، وأيضا، شجاعة الرفض أيا كان حجم الإغراء.. وهذه كلها إيجابيات، لم تستطع المخرجة أن تبرزها بأسلوب سينمائى مشوق، ذلك أنها استسلمت لمتابعة حوارات مستفيضة، داخل أماكن مغلقة، بعيدة عن دفء الحياة.


محمد وفيق.. وأستاذه

كمال رمزي

السبت 21 مارس 2015 - 11:15 ص

هو أحد المتميزين فى مدرسة نبيل الألفى. تعلم منه فن الأداء العميق، الهادئ، المبتعد تماما عن صخب الانفعالات. يتحاشى المغالاة فى الصوت أو فى الحركة.. ما من مرة أشاهده فيها، فوق خشبة المسرح أو على الشاشتين، الكبيرة والصغيرة، إلا ويرتد الزمن فى ذاكرتى نصف قرن إلى الماضى.. أيامها، كانت هواية البعض منا، طلبة قسم النقد فى معهد الفنون المسرحية، حضور تدريبات نبيل الألفى، أستاذ التمثيل والإخراج، للدارسين فى قسم التمثيل.

نبيل الألفى، بتوجيهاته، وملاحظاته، وتعليقاته، بل وتعبيراته، استقرت فى ضمائرنا، لتغدو، من معاييرنا.. ويقينا، أثرت بقوة فى طابور ثمين، متمكن، ارتشفوا الكثير على يديه. منهم: نور الشريف، عبدالعزيز مخيون، نبيل الحلفاوى، محمود الحدينى، لطفى لبيب.. هذا على سبيل المثال لا الحصر. لكن، أحسب أن محمد وفيق، فى أسلوبه الأدائى، هو الأشد التزاما بتعاليم الأستاذ التى تلقاها أثناء التدريبات، استعدادا لاختبار نهاية العام.

كان المشهد الذى تجرى بروفاته، بين محمد وفيق ومجدى وهبة، من مسرحية «بيكيت، شرف الله» لجان آنوى، التى تحولت إلى فيلم سينمائى ذائع الصيت، ببطولة اثنين من أساطين التمثيل: بيتر أوتوا وريتشارد بيرتون، ومن إخراج بيتر جلينفيل ١٩٦٤.. جدير بالذكر أن هذه المسرحية من المختارات المتحددة، لفرق الجامعات، عندنا، وفى معظم البلاد العربية.

فى صالة التدريب، الأقرب إلى الحجرة، بدا الألفى، حتى وهو صامت، مهيمنا تماما على المكان، برغم وقوف الطلبة فوق «البرتكبلات». إنه مركز الثقل، نقطة استقطاب العيون والآذان. الكل، يحاول، بدقة، قراءة وقع الأداء على ملامح وجهه، المبتسم عادة، ابتسامة متغيرة المعانى: معترضة، مشفقة، ساخرة، راضية، غاضبة.. ثم يعم الصمت للاستماع إلى صوت الأستاذ، المنخفض عن تعمد، كأنه يرمى إلى تحويل الاستماع إلى نوع مرهف من الإصغاء.

الصراع فى «بيكيت، شرف الله» يندلع بين هنرى الثانى، ملك انجلترا، والقديس توماس بيكيت، كبير الأساقفة، الذى عينه الملك فى منصبه الرفيع، كى يصبح طوع بنانه، اعتمادا على صداقتهما. لكن توماس بيكيت دأب على معارضة قرارات الملك، مما دفع الأخير إلى تدبير جريمة اغتيال كبير الأساقفة، فى أروقة كاتدرائية كانتربرى.

لجأ الألفى إلى تبادل الدورين بين وفيق ومجدى، بهدف استيعاب وتفهم كل منهما لشخصية الآخر، وانتهى إلى إسناد دور «بيكيت» ـ الذى قام به ريتشارد بيرتون ـ لمحمد وفيق، على أن يجسد مجدى وهبة «الملك»، الذى برع فيه بيتر أوتول.

إرشادات نبيل الألفى تتعلق بضرورة الابتعاد عن الكليشيهات والقوالب التقليدية، فلا انفجارات انفعالية، أو مغالاة فى إبراز تقلبات العواطف، أو تشويح باليدين، مع مراعاة جمالية الحركة، حسب مقتضيات الموقف، وأن تتمشى هذه الجمالية مع بقية عناصر العرض المسرحى، من غلالات الستائر إلى ألوان الإضاءة، إلى الموسيقى والمؤثرات الصوتية.

ملاحظات الأستاذ تتوالى، مغلفة بالرقة، لا تخلو من دعابة، كأن يقول لتلميذيه: أنتما ليس بلطجيين تتشاجران فى زقاق، لكن، أحدكما ملك، لم يتعود عصيان أوامره.. والآخر، يرفض تماما الاقتراب من شرف الله، ولا تنسيا أنكما كنتما أصدقاء فى الأيام الخوالى، لذا، ثمة نوع من الإحساس الدفين بالمرارة، تجاه ما آلت إليه الأمور.. يتعمد الألفى، أحيانا، مخاطبة تلميذيه باسميهما فى المسرحية، يوجه حديثه لمحمد وفيق قائلا «يا بيكيت، أنت رجل أفكار، تعتمد على العقل».. ثم يلتفت إلى مجدى وهبة، المشاغب الظريف أصلا، ليقول، بابتسامة يمتزج فيها الجد بالدعابة «أما أنت فأهوج، تجرى وراء عواطفك».

دارت الأيام، وأصبح محمد وفيق واحدا من أبرز فنانينا، صحيح، لم يحظ ببطولة مطلقة، لكن غدا علامة بارزة فى مدرسة الأداء التمثيلى المصرى، يمنح الفيلم أو المسلسل مذاقا خاصا، شديد التميز.. تذكر، على سبيل المثال، دوره فى «الهروب» لعاطف الطيب ١٩٩١، كضابط شرطة عائد من أمريكا بعد زيادة خبرته فى فن إلهاء الناس. إنه هنا، بلا قلب، مجرد ماكينة أنيقة، تعتمد على عقل متآمر. بل يشعرنا أنه مدرسة تعتمد على عقل صارم، شرير.

ومن بين ما يزيد على العشرين مسلسلا، ينهض متلألئا فى «رأفت الهجان»، حين أدى دور ضابط المخابرات، المصرى الكفء، مصدر اطمئنان البطل، والمشاهدين، على السواء.. ومع الكاتب الكبير، محفوظ عبدالرحمن، والمخرج القدير، إبراهيم الصحن، يؤدى شخصية الخديو إسماعيل كما لم يقدمها أحد من قبله. هنا، يتحرك، يتكلم، ليس بفمه فحسب، بل بعينين تنطقان بالطموح إلى النهوض بالبلاد نحو الحضارة، اقتصاديا ومعماريا وفنيا.. إنه يختلف تماما عن «الخديو» كما ظهر من قبل، كرجل ساذج، ماجن.. هنا، مع محفوظ عبدالرحمن وإبراهيم الصحن، ينصف محمد وفيق اسما ظلم كثيرا.. وفى أدائه، حتى فى لحظات الانكسار، لا ينسى أبدا أنه يقف على أرض نفسية صلبة.. ما من مرة، أشاهد فيها محمد وفيق، إلا وأحس بشبح نبيل الألفى.


فتحى غانم.. سينمائيا

كمال رمزي

الثلاثاء 17 مارس 2015 - 11:00 ص

فى الجزء الثالث من رواية «الرجل الذى فقد ظله»، الذى ترويه الممثلة «سامية سامى»، يلمس القارئ خبرة ودراية الكاتب، المحلل السياسى والأدبى، بعالم الأطياف، على نحو يؤكد شغفه بكل ما يتعلق بكواليسه، أضواءه، نجومه، مباهجه، أحزانه.

فتحى غانم «١٩٢٤ ـ ١٩٩٩»، بتعلقاته النافذة ـ وما أكثرها ـ على الأفلام، فضلا عن مقالاته، ذات الذائقة المرهفة، عن فن التمثيل والغناء، التى تدحث فيها عن يوسف وهبى وزكى طليمات وأم كلثوم، وآخرين، وجمعها فى كتاب ممتع، بالغ الثراء، بعنوان «الفن فى حياتنا»، بالإضافة إلى السيناريوهات التى ألفها، كلها أمور تشير إلى أن علاقة فتحى غانم بالسينما، لم تكن علاقة متابع ومعلق، ولكن علاقة عاشق: مشارك ومقتحم ومعانق ومشتبك.

منذ ما يزيد على النصف قرن، وبالتحديد فى عام ١٩٦٣، مع بدايات التليفزيون المصرى، أقدم الروائى على مشاركة المخرج خليل شوقى، فى كتابة الفيلم التليفزيونى «دنيا» عن قصة له، بذات العنوان.. جاء الفيلم، برؤيته الشاملة، ولغته الفريدة، مفاجأة سارة للجميع، حتى أنه عرض بمهرجان «ليبزج» الدولى للأفلام التسجيلية والقصيرة، فى العام ذاته.

أيامها، اعتمدت التمثيليات التليفزيونية على حوارات طويلة، تدور بين عدد قليل من الممثلين، محصورين فى حجرة أو صالون أو زاوية مقهى.. «دنيا»، خرج إلى الدنيا الواسعة، تحرر من الحدوتة التقليدية، ليرصد، بإيقاع سريع آمال العديد من النماذج التى تعبر عن طبقات متباينة.. ومن بين الوجوه المتنوعة التى تلتقيها الكاميرا، فى الشوارع، فوق الكبارى، داخل المصانع، فى ستاد القاهرة، الجامعة، الملاهى الليلية، تبرز فتاة اسمها «دنيا» ـ ليلى طاهر ـ والشاب «بدر» ـ بأداء صلاح قابيل ـ تربطهما قصة حب ذات مغزى رمزى، فالشاب، يكاد يضيع وهو يلهث وراء أحلامه الفردية، المستحيلة، ولا ينقذه إلى عودته إلى حبيبته «دنيا»، ليبدأ منها، ومعها، من جديد.

تجريبية «دنيا» محسوبة بدقة، وبالتالى، جعلت العمل متمتعا بألق خاص، الأمر الذى لم يتحقق فى العمل التالى: «الجبل» ١٩٦٥، المأخوذ عن رواية شهيرة لفتحى غانم، المشارك فى كتابة السيناريو مع المخرج خليل شوقى.. اتسم الفيلم بخياله الجامح، وأسلوبه «التعبيرى» المتناقض تماما مع روح الرواية التى تعتبر، على نحو ما، تحقيقا أدبيا، إنسانيا، فى العلاقة بين الناس والمكان، مما يجعلها أقرب إلى «الأوتشرك» ـ وهو نوع رفيع فى الأدب الروسى ـ غانم، اتجه إلى الجنوب، حيث البيئة الخشنة، والتنقيب السرى عن الآثار، والقوى الأجنبية، والتقاليد القاسية، وعشرات الأسرار، ينفذ الكاتب إلى أبعد أغوارها.

فى الفيلم، على العكس من الرواية، تبدو الديكورات خيالية ذات طابع أسطورى، مغلفة بضباب الأحلام والرؤى الكابوسية.. وثمة إسراف شديد فى الاستخدام المصطنع بين الضوء والظل، حسب قواعد المذهب «التعبيرى» فى السينما الألمانية، أيام عصرها الذهبى، حيث كانت الأفلام تدور فى أجواء أبعد ما تكون عن الواقع.. الأمر الذى لم يكن ملائما للرواية «الأوتشرك»، الشديدة الواقعية.

مغامرة فتحى غانم فى فيلم «الجبل»، تذكرنا ببعض قصصه التجريبية، القصيرة، التى كتبها فى الأربعينيات، وجمعها بعنوان «سور حديد مدبب».. والمفارقة هنا، أن فتحى غانم فى رواياته، تحاشى تماما تلك النزعة التجريبية. فهل أراد الروائى أن يغامر فى السينما، مغامر، لم يجرؤ عليها فى رواياته

ربما، لكن على الأغلب أن الفشل النقدى والجماهيرى للفيل، جعله، فى سيناريوهاته اللاحقة، يعود إلى جادة طريق رواياته، خاصة أنه رأى مدى نجاح «الرجل الذى فقد ظله» لكمال الشيخ ١٩٦٨، المعتمد على سيناريو، كتبه الراسخ، على الزرقانى، ملتزما بروح الرواية، وشخصياتها المتدفقة بالحياة، التى يرتبط مصيرها الخاص بالمصير العام.

مرة ثانية، يكتب فتحى غانم سيناريو مأخوذ على إحدى رواياته الشهيرة: «زينب والعرش»، تحفة المسلسلات التليفزيونية. شارك فى الكتابة صاحب الاسم المهم، صلاح حافظ.. كلاهما من محترفى لعبة «الشطرنج» العقلية، وقد انعكس هذا الاحتراف على أسلوب السيناريو الذى بدا، فى كل موقف، كما أو أنه خطوة مدروسة، وفقا لخطة مرسمومة بدقة، لذا جاء العمل الذى أخرجه يحيى العلمى ١٩٧٩، متماسكا، مؤثرا، لايزال محتفظا بقوته.

منفردا، كتب فتحى غانم سيناريو روايته «الأفيال» كمسلسل قام بإخراجه إبراهيم الصحن ١٩٨٦.. العمل يتابع عدة أجيال متعاقبة، يكاد يغدو تأريخا دراميا، بشريا، فى نصف قرن.. لكن مقص الرقيب الغاشم هلهل العمل، حتى أن مخرجه، الصحن، المعروف بكياسته، هدد ـ حينما ـ بالاعتزال.

إلى جانب «الجبل» و«الرجل الذى فقد ظله»، تواجد فتحى غانم، على الشاشة الكبيرة، فى العديد من الأفلام، ربما أهمها «قليل من الحب كثير من العنف» لرأفت الميهى ١٩٩٥، بأسلوبه المدعم بقدر بالخيال الذى يصل لحد «الفاتنازيا».. و«تلك الأيام» لأحمد غانم ٢٠١٠، الذى يأتى كهجائية لها شأنها، ضد سطورة المال والسلطة.

«بنت من شبرا»، «والمطلقة»، أصلا، عملين أقرب للسيناريوهات، الأول حققه جمال عبدالحميد ٢٠٠٣ على الشاشة الصغيرة، والثانى لم يظهر فى عالم الأطياف بعد.. وثمة «الغبى» الذى أراه كمعالجات لعدة أفلام، سيأتى الوقت لاستكمالها.. فى جملة واحدة: فتحى غانم، عشق السينما، وجعلها، تسرى فى شرايين كتاباته.


«رجل طائر».. نحو النهاية

كمال رمزي

السبت 14 مارس 2015 - 1:10 م

أثناء وعقب مشاهدة «بيردمان»، تراءت أمامى تأملات أستاذنا، محمود مرسى، وهو يحكى عن أول وآخر مرة، شاهد فيها الرائد الكبير، جورج أبيض على خشبة المسرح.

فى أواخر الثلاثينيات، خلال رحلة مدرسية من الإسكندرية إلى القاهرة، تضمنت حضور إحدى تراجيديات وليم شكسبير، فى دار الأوبرا.. بطريقة محمود مرسى، المتسمة بالقدرة على رصد التفاصيل، قال عن تلك الليلة: جورج أبيض، بحضوره الطاغى، يهيمن هيمنة كاملة على جمهور معلق الأنفاس، أداء يصمد للمقارنة مع أى أداء عالمى فى ذلك الزمان. أداء راسخ وجمالى، بصوت منغم، موسيقى الطابع، له وقع السحر على الآذان، إشارات عريضة باليدين، لفتات وإيماءات ناعمة. اتساق كامل بين أدوات الممثل الضخم، تنساب فى ليونة.. طبعا، لم يكن جورج أبيض واقعيا فى أدائه، ولكن كان «حالة» تشع بضياء عاطر، تحلق بالنظارة فى آفاق بعيدة.. صفقت له كما لم أصفق لأحد من قبل، أو من بعد، حتى أدميت كفى.

تغيرت تعبيرات وجه محمود مرسى حين أخذ يحكى عن مشاهدته الأخيرة لجورج أبيض، ذلك أن الأسى بدا واضحا فى عينيه، مع تقطيبة بين الحاجبين، وبصوت مشوب بعدم الحماس، كما لو أنه لا يريد البوح بذكريات حزينة، قال: فى الخمسينيات، جاء جورج أبيض للإسكندرية، ليقدم «عطيل»، ذهبت، متحمسا، للحضور.. فوجئت، جورج أبيض، المفعم باليقظة والعنفوان، بدا ضعيفا، هزيلا، تسلل الوهن لكل أدواته. الصوت المجلجل فى يسر، الدافئ، أصبح خافتا، متقطعا، باردا. الإشارات العريضة باليدين غدت ضيقة، مختصرة.. الأقدام الراسخة، أضحت مهزوزة. كل ما كان يبرق ويلمع، أمسى منطفئا، معتما.. تمزق قلبى ألما، عندما رأيت الجمهور يثور ويتضرر، فى أداء جورج أبيض. أسدلت الستار ليخرج يوسف وهبى، الذى يؤدى دور «ياجو» معاتبا النظارة لسوء استقبال فنان له تاريخ، وفتحت الستار لاستكمال العرض الذى تقبله بقايا الجمهور على مضض.. ليلتها، أخذت أهيم على وجههى، فى الاسكندرية التى بدت لى أضيق من ثقب الإبرة.

محمود مرسى، المتأمل، صمت برهة قبل أن يعلق: هى النهايات، أدركت أن لكل شىء نهاية، لكن من ذا الذى يعترف ويتقبل النهاية؟

فى الجملة الأخيرة، بدا الأستاذ كما لو أنه يرددها لنفسه. مع هذا، واصل محمود مرسى مسيرته، ولم يتوقف، من قبله، جورج أبيض عن تقديم مسرحياته.. شأنهما، شأن «ريجان طومسون» بطل «بيردمان»، الفيلم الحائز على عدة جوائز رفيعة فى الأوسكار.

«ريجان»، يؤدى دوره «مايكل كيتون»، الذى مثل «باتمان» فى فيلمين، حظيا بنجاح شعبى واسع.. وهو، فى «بيردمان»، يجسد جوانب من شخصيته الحقيقية.. إنه، فى الفيلم الجديد، الممثل الذى دالت دولته فى عالم الأطياف، وبدأ يدخل فى ظلال النسيان، لكنه، بإيجابية، يرفض الاستسلام للنهايات، وبالتالى، يشرع فى إنتاج وإخراج وبطولة مسرحية يقدمها على أحد مسارح «برودواى»، ويكتب نصها عن قصة «عن ماذا نتحدث عندما نتحدث عن الحب» للأديب الأمريكى المحدث ريموند كارفر«1938 ــ 1988» المصنف نقديا كأحد أقطاب «الواقعية القذرة». فى إحدى لقطات البداية، الطويلة، مثل معظم اللقطات، يطالعنا شهاب على خلفية سماء سوداء، يهوى محترقا نحو الأرض.. عقب هذه الافتتاحية الموحية، نرى «ريجان»، العادى، جالسا على مقعد من دون ظهر، ناظرا نحو نافذة ضيقة، فى حجرة صغيرة، مستنكرا الزمان الذى أتى به إلى ذلك المكان القذر، المعبأ بالروائح الكريهة.. إنه، فى إحدى غرف المسرح.

بناء الفيلم الذى حققه المكسيكى اليخاندرو إناريتور شديد التركيب، ينتمى، فى جانب منه، إلى الواقعية السحرية، يمتزج فيه الوهم بالحقيقة، يدور فى أروقة وكواليس المسرح، ويتوغل فى نفوس أبطاله جميعا. يستعير صوت الشبح فى «هاملت»، متحدثا للبطل. يدفع أحد الكومبارس إلى أداء مقطع من «ماكبث». ثمة شىء من العنف، المادى والمعنوى، فضلا عن تراجيديا لا تخلو من كوميديا سوداء.

إيقاعات الطبول الصاخبة تتصاعد فى منتصف المشاهد الطويلة، المصورة بلا قطعات أو وصلات. كل هذا، وغيره، يتفاعل داخل بوتقة الموهوب المتمكن، ابن أمريكا اللاتينية «إيناريتور».

علاقات «ريجان» متوترة بكل من حوله، تصل لحد مقاطعة زوجته، والصدام مع ابنته المدمنة، وتبادل شتائم مقزعة مع ناقدة تصف مسرحيته بالتدنى والابتذال، وها هو يمزق مسودة مقالها ويقترح عليها وضعها فى مؤخرتها.. يدخل فى معركة جثمانية ضد ممثل شاب، يقوم بدور أساسى فى المسرحية، يتسم بالحيوية والنزق، وغد وماهر، سفالته بلا حدود، حتى أنه يشرع فى اغتصاب الممثلة التى أمامه، أثناء إجراء البروفة، مما يصيب الممثلة بما يشبه الهستيريا.
الصراع بين «ريجان»، والنجم الجديد، الوقح ـ بأداء إدوارد نورتون ـ يعبر، فى بعد من أبعاده، عن الصراع بين القديم والجديد، الأفول والشروق، النهايات والبدايات.. الأمر الذى تعبر عنه المسرحية التى تجرى بروفاتها، ولا نرى منها سوى ختامها: الزوج، ريجان، يدخل حجرة النوم، يفاجأ بزوجته على الفراش، بجانب شاب ـ إدوارد نورتون ـ الزوج الغاضب، المنكسر، يمسك بمسدسه.. يطلق الرصاص على نفسه.

فى المعركة البدنية، الواقعية، بين ريجان والممثل الجامح، يسخر الأخير من غريمه، لأنه، على خشبة المسرح، يستخدم مسدس أطفال.. يتعمد ريجان فى البروفة الأخيرة، إطلاق رصاصة حقيقية على رأسه.

فى الكثير من المشاهد، تتجلى كوميديا «إيناديتور» السوداء، فحين تضطره الظروف إلى الجرى نحو باب دخول المسرح، عاريا، منزعجا، نفاجأ معه، بمن يطلب منه التصوير معه أو الإمضاء على أوتوجراف، للذكرى الخالدة.. ثم، ها هو، الآن، فى المستشفى، فالرصاصة أصابت أنفه فقط، مما جعل شكله عجيبا.

قد تكون نهاية الفيلم مربكة، تحتمل أكثر من تفسير. «ريجان»، يطل من نافذة عالية. يرى الشارع والسيارات المارقة. يقذف بنفسه.. ابنته تدخل الحجرة، تبحث عنه، تطل من النافذة، لا تجد جثته فى الشارع. تنظر لأعلى لعله يطير، لا تراه، ولا نراه، فأين ذهب؟

الإجابة بالضرورة ستختلف من متابع لآخر، لكنها عندى، وقد أكون مخطئا، تؤكد معنى حتمية النهايات، أيا كانت طاقة مقاومتها ورفضها، لذا، تذكرت حديث محمود مرسى، وإشارته الصائبة، إلى أننا، لا نقر.. بالنهايات.


يد الشيطان

كمال رمزي

الثلاثاء 10 مارس 2015 - 9:35 ص

ليس من العدل وضع هذا الفيلم فى خانة «فانتازيا الرعب»، صحيح، مخرجه الدانماركى كريستيان إيبى كريستنس، يستوعب أساليب الغموض، الخطر الداهم، المطاردة، المفاجآت المتوالية، ويجيد استخدام المؤثرات الضوئية، خاصة فيما يتعلق بالظلال، البرق، التماعات العيون، اللقطات الكبيرة، القريبة، للسكاكين.. إنها كلها، وغيرها، متوافرة، مكررة، أكيدة المفعول فى أفلام ترمى إلى تعبئة وتفريغ شحنة خوف عند جمهور، متوتر أصلا. لكن «يد الشيطان»، ينهض على أفكار أهم من هذا الهدف، فهو، جوهريا، يتعرض لمغبة العزلة، وهيمنة الأوهام، والوقوع فى قبضة التعصب، والعداء للمرأة، أصل كل شرور.

يشير الفيلم، فى بدايته، إلى أن أحداثه تدور فى قرية منطوية على نفسها، يسكنها «الأميش»، وهى مجموعة استنت لنفسها قوانين جديدة، تزعم أنها الأصولية المسيحية، بدأت فى الظهور منذ القرن السادس عشر، يعيش أتباعها فى إحدى مقاطعات بنسلفانيا الأمريكية، يطلقون على بلدتهم الصغيرة اسم «بيت لحم الجديد»، لهم أفكارهم وعاداتهم، منها: رفض التعليم المدنى، تجنب الانخراط فى الجيش، عدم استخدام التكنولوجيا الحديثة، الامتناع عن سماع الموسيقى أو ممارسة الفنون، فرض الأكمام الطويلة والملابس الواسعة وتغطية الشعر على البنات والنساء، وإطلاق اللحية بالنسبة للرجال.. وعلى الجميع الالتزام بأوامر وتوجيهات رجل الدين، الأقرب للحاكم المطلق.

فى هذه الأجواء القاتمة تنتشر نبوءة، أقرب للخرافة، تقول إن نذير الشر سيأتى حين تولد ست بنات، فى الشهر السادس، ذلك أن إحدى البنات، بعد «١٨» عاما، ستصبح هى يد الشيطان، وستجلب الدمار على قريتهم «الآمنة» ومجتمعهم السعيد.. وفى لقطات سريعة، ليلية، تتوالى ولادة البنات، تقلصات ألم وجوه الأمهات تمتزج بفزع اكتشاف أن الوليد أنثى.. إحدى الوالدات، فى نوبة هستيريا، تذبح الوليدة ثم تذبح نفسها.. مع لون الدم، والضوء الشحيح للشموع، يهيمن اللون الرمادى المظلم على الشاشة، وتنطلق صرخات ألم.

يقفز الفيلم، زمنيا، «١٨» عاما.. البنات الخمس الباقيات، الرقيقات، هن الوحيدات فى البلدة، اللاتى لا يعرفن بمسألة النبوءة، ينطلقن بفساتينهن البيضاء المحتشمة، نحو بحيرة صغيرة، يمرحن ببراءة، إحداهن تنزل البحيرة، تصاب بنوبة تشنج. تكاد تغرق، لكن شابا، بأداء توماس ماكدويل، ينقذها، فيربط كيوبيد بين قلبيهما.

مشكلة الفيلم الذى كتبه كارل موبلير، تكمن فى ضخامة عدد البنات المتشابهات اللاتى كان من العسير متابعة كل واحدة على حدة، أو إضفاء خصوصية تميزهن عن بعضهن، إلا فى أضيق الحدود.. الوحيدة، التى تتسم بطباع مستقلة، وذات إرادة، هى التى أحبت ـ جينيفر كارينيتر ـ ربما لأن والدها، حليق اللحية، لا يؤمن بالنبوءة التعيسة.

بطولة «يد الشيطان»، أو المساحة الأوسع فى الفيلم، يشغلها رجل الدين، المهيمن على البلدة، صاحب الشخصية العاتية، الأقرب إلى الحاكم المطلق، الأب بيكون، بأداء نجم كبير، يعرف أسرار الأداء التمثيلى، كولم ميانى، صاحب الرأس الكبير، المكتنز باللحم، وشفتين منطبقتين فى عزيمة، وعيون ضيقة، وصوت باتر حاسم. إنه نموذج للفاشية، يرتدى الجلباب الأسود غالبا، يؤثر بعمق فى مستمعيه الجهلة، ويتعمد المخرج تصويره من زاوية منخفضة فيبدو طويلا، متجهما، كشيطان فى بلدة ضعاف العقول.

جانب آخر، خفى، يتكشف فى «بيكون»، فحين ينفرد بالفتاة كى يرى ما إذا كان الشيطان قد مسها، تخرج البنت من صومعته مذعورة، مذهولة، غاضبة، معلنة بوضوح، أن مدعى الفضيلة، تعمد الشروع فى لمس أجزاء جسمها الحساسة، وتتهمه بممارسة الفعل المشين مع أخريات.. أما هو، فإنه يأخذ فى مطاردة الفتاة المختبئة، تغطى نفسها بأكوام التبن داخل حظيرة الخيول.

الفيلم، فى بعد من أبعاده، يفضح الموقف المتجنى من المرأة، فى مجتمع منغلق، يرفض أنوار المدينة التى لابد أن تنتصر فى النهاية، ولكن بثمن باهظ.. صحيح، أن الأمن فى طريقه للقبض على الشيطان البشرى، وربما للقضاء على تلك البلدة الآسنة، لكن بعد مقتل بنات تشير أصابع الاتهام إلى الجناة: «بيكون»، وكل من صدق الخرافة، واقتنع، برعونة، أن المرأة، مكمن الشيطان.. قراءة الفيلم، تبدو، كما لو أنها مشاهدة، لبعض فصول حياتنا.


«لاتزال آليس».. كيف؟

كمال رمزي

الإثنين 9 مارس 2015 - 8:35 ص

الأمر مثير لحب الاستطلاع، فعلا، فأن تفوز ممثلة، عن دور واحد، بعشرين جائزة، مسألة غير متكررة، تدفع المتابع، عاشق السينما، إلى السؤال: لماذا؟

الإجابة تأتيك واضحة، حاسمة، مقنعة: لأن النجمة جوليان مور، تصل إلى درجة هائلة من الشفافية الروحانية فى أدائها لشخصية «آليس»، الأستاذة الجامعية، القوية، بدنا وعقلا، التى تحاول ــ بإرادة من حديد ــ إيقاف زحف مرض «ألزهايمر» على كيانها.. لكن النسيان، التوهان، الاكتئاب، العصبية، مظاهر مرضية تداهمها، وهى تراقبها بيقظة، وانزعاج، وتبدو، فى صراع داخلى، من أجل إبقاء نوافذ الذاكرة، أو بعضها، مفتوحة، يتسلل منها أشعة ضياء علاقاتها، مع الحياة، متمثلة فى أعضاء أسرتها، ولحظات من ماض حميم، آخذ فى الاعتام.

«لاتزال آليس»، فيلم حالة، على طريقة تشيكوف، يخلو من الأحداث الكبيرة أو الصاخبة، يغلب عليه الحوار، يدور، فى معظمه، داخل أماكن مغلقة، كما لو أننا أمام خشبة مسرح، وليست مصادفة أن يذكر اسم الكاتب الروسى الملهم، بل نشاهد أحد مقاطع «الشقيقات الثلاثة»، تؤديها ابنة البطلة، فالواضح أن المخرج، ريتشارد جليتزر، وواش ويستمورلاد، اللذين كتبا السيناريو أيضا، عن رواية لليزاجيونوفا، استوعبوا جميعا، درس انطون تشيكوف، المتعلق بعمق المعانى الكامنة، فى تفاصيل الحياة.

جوليان مور، فى المشهد الافتتاحى، تعدو، فى طريقها إلى الجامعة. تتوقف أمام البنايات المتجاورة، ملامح وجهها النحيل تعبر عن مزيج من الدهشة والانزعاج، تتلفت بحيرة وتحاول التركيز لتتبين الطريق إلى مقصدها، ذلك أنها تاهت.. لا تعير للأمر اهتماما، لكن، وهى المتمكنة من علم اللغويات، تفاجأ، أثاء إلقاء إحدى محاضراتها، نسيان الكلمة التى تريد استخدامها، تتوقف للحظة، تشعرنا أنها تنظر داخل نفسها، تحاول رصد حالتها.

لعدة شهور، درست جوليان، مظاهر وتطورات الألزهايمر، وقضت فترة، فى مصحات المصابين بهذا الداء، كى تستوعب معاناتهم وسلوكهم.. ومن ناحيته، عاش المخرج، ريتشارد جليتزر، تجربة فقدان القدرة على التركيز، والكلام، حين أصيب عام «٢٠١١» بجلطة دماغية أدت لنوع من التصلب فى نصفه الأيمن، ولكن، بإرادة لا تعرف المستحيل، واصل حياته كمخرج، يوجه الممثلين من خلال شاشة كمبيوتر، معد لأغراض مماثلة.. لذا، سنلمس، فى أداء جوليان، تفهما عميقا لتطورات الحالة من ناحية، وعلاقتها بنفسها من ناحية ثانية، وعلاقتها بالمحيطين بها، من ناحية ثالثة.

تحاشت جوليان مور الوقوع فى فخ «الميلودراما»، بل ربما تعمدت الاقتصاد فى الانفعالات، لا تعبر عنها بالصراخ، ولكن بمجرد لفتة، ونظرة عين، حائرة تارة، تائهة تارة، تدارى حزنها فى معظم الأحيان، وتحاول الإبقاء على ابتسامة لا تتلاشى إلا فى المواقف العاصفة، والتى تجسدت قمتها حين لم تعرف الطريق إلى حمام بيتها، فأخذت تندفع هنا وهناك، ولما لم تتمالك نفسها، أصيبت بما يشبه ذعر الأطفال. أجهشت بالبكاء لأول وآخر مرة.. يحاول زوجها تهدئة روعها، يخفف عنها بقوله «لم يحدث شىء، سأقوم بتنظيفك». عندئذ، تدرك أن حالتها قد تدهورت.. أحسب أن أداءها لهذا المشهد، كان من دعائم حصولها على الأوسكار.

علاقة «آليس»، بالمحيطين بها، متباينة، وهو ما منح الفيلم الهادئ مظهرا، قدرا غير قليل من الحيوية، يعبر عنها الفيلم على نحو ايحائى.. على الفراش، بجانب زوجها الرقيق، يحاولان استبقاء ذكريات الحب الملتهب أيام شهر العسل، يكتسى وجهها بإحساسين ــ النشوة والخجل ــ ينتهيان إلى القول بأنهما أتيا بأفعال غريبة.. طبعا، لم يفصحا عنها، وتحاشى الفيلم استعادتها.

«آليس»، الأم المحبة لأبنائها الثلاثة، تتخوف على مستقبلهم عقب إخطار الطبيب لها، أن مرضها وراثى، وبالتالى فإمكانية إصابة الأبناء به متوفرة.. طوال الفيلم، نحس نظراتها لهم، مزيجا من القلق والشفقة، ومع هذا، ومثل معظم الأمهات، لا يتوقف «النقار» بينها وابنتها، عاشقة التمثيل، ومع النهايات، تتبادل الأدوار، فتغدو الابنة، حانية، رقيقة، أقرب للأم التى أصبحت، بدورها، أقرب للابنة، أو الطفلة.

لو كان تشيكوف سينمائيا، لحقق هذا الفيلم الحزين، النبيل، الملىء بالشجن، والضياء، ويترجم، على نحو ما، تأمل دورة حياة الفراشات، حسب رؤية والدة «آليس» التى منحتها، قلادة لفراشة، وذكرت لها أن الفراشات، لا يعشن طويلا، مجرد أسبوع أو أسبوعين، وبعضهن، ليوم واحد، ومع هذا.. يعشن فى سعادة، برغم النهاية.. «آليس»، فراشة.

 

غسان مطر

كمال رمزي

الثلاثاء 3 مارس 2015 - 12:15 م

كأن وجهه منحوت من صخر، تضاريسه شديدة الوضوح، توحى بالصلابة والقوة، أنفه ضخم، عيونه غائرة، فمه مزموم الشفتين، جبهته عريضة. إنه، فى معظم أعماله، صاحب عزيمة لا يستهان بها. طرف دائم فى صراع، يخوض معاركه بكل جوارحه. إلى جانب جسمه الرياضى، المفتول العضلات، ثمة صوته الخشن، الأجش، يستطيع تلوينه بالانفعال الذى يريده. يوحى، بمظهره ومخبره، أنه خاض، ومهيأ، للدخول فى نزاع مفتوح، بلا نهاية، سواء بذراعيه أو بعقله.

غسان مطر، فى الأصل عرفات داوود حسن المطرى «١٩٣٨ ــ ٢٠١٥»، فلسطينى بامتياز، تاريخه الشخصى هو تاريخ وطنه.. فى العاشرة من عمره، غادر «يافا»، مع من خرجوا من المدينة العريقة، إثر استيلاء الأعداء عليها، متجها ناحية مخيم «البداوى»، الواقع فى منطقة قاسية، تسرح فيها الزواحف والحيوانات المفترسة.. الصبى، عرفات داوود، أو غسان مطر، تفتح وعيه السياسى، والإنسانى، فى الحقبة الناصرية التى ارتبط بها، طوال حياته. عمل فى الصحافة، والإذاعة، وانضم إلى المقاومة، قبل وبعد حرب ١٩٦٧، لينطلق، فى عالم الأطياف، محققا بطولة فيلمين، فى «١٩٦٩»: «كلنا فدائيون» لغازى غريديان، عن سيناريو لأنطون غندور، و«الفلسطينى الثائر» لرضا ميسر، عن سيناريو كتبه غسان مطر، مع المخرج.

الفيلمان، برغم نزعتهما الخطابية، والميل لتضخيم القوة الذاتية، والتقليل من قدرات الأعداء، فإن ميزتهما الجوهرية، تتمثل فى تغيير الصورة النمطية البائسة للفلسطينيين اللاجئين، الضعيف، المهلهل الثايب، المظلوم.. وتحويلها إلى الصورة المعبرة عن الواقع الجديد: الفلسطينى المقاوم، المحارب، الذى يرتدى البزة العسكرية، يمسك بالسلاح، يتدرب، يدخل فى معارك حياة أو موت، ويحقق النصر فى الكثير منها، فها هو، غسان مطر، فى «الفلسطينى الثائر»، يطالعنا كشاب عابث، بلا انتماءات، لا قضية له، يعيش حياة لاهية، ماجنة، لكن الغضب يجتاحه حين يعرف مصرع أعز أحبابه على يد القوات الإسرائيلية. يغدو مقاتلا لا يشق له غبار، يفتك بأعدائه على طريقة «رامبو» فيما بعد، وبرغم حصاره فى نهاية الفيلم، يتمكن من الإفلات، والعودة إلى قاعدته كى يستعد لعملية أخرى.

تعرض غسان، من الناحية الشخصية، لأكثر من كارثة، ولكنه، بما جبلت عليه الطباع الفلسطينية من قدرة على الصمود والثبات، وقف على قدميه، ليواصل حياته، بعزيمة من حديد، فأثناء تنفيذ «كلنا فدائيون»، وقع انفجار ضخم فى ملهى ليلى، بسبب تواضع خبرات الطاقم الفنى، مما أدى إلى مصرع «٢٢» شخصا من العاملين، بينهم المخرج، غازى غريديان.. لكن، غسان مطر، أصر على استكمال تنفيذ الفيلم، بإخراج كارى كاربتيان.

تعرض غسان لفاجعة، ربما أشد وطأة، فى بداية حرب المخيمات، مع بداية الثمانينيات، حين أغتيل ابنه، جيفارا، وزوجته، ووالدته ــ هكذا، دفعة واحدة ــ وبتماسك، يحكى، مع المذيعة المحترمة، المرموقة، سمر سلمان، تفاصيل الدوافع السياسية للجريمة، فى برنامجها «مصر اليوم» الذى تعده الناقدة الدءوبة، ناهد صلاح.. اللافت أن غسان، فى حواره، يبدو متفهما، وليس مبررا، لما جرى. ولا يفوته أن يشير، باقتناع، وبلا ندم، إلى أن «الاغتيال»، فى جوهره، بمثابة ضريبة دفعها، بسبب موقفه إلى جانب ياسر عرفات، وفتح، والقضية الفلسطينية.

فى السينما المصرية، أصبح لغسان دور فيها، ذلك أن ما يوحى به من قوة بدنية، وروحية، لم يكن من الممكن ألا يتنبه لها، مخرجو أفلام الحركة، مثل حسام الدين مصطفى، الذى أسند له أدوارا فى «الشياطين فى إجازة» ١٩٧٣، «الأبطال» ١٩٧٤، «شياطين البحر» ١٩٧٧.. وبينما توالت أفلام المطاردات، والمواجهات، كان لفناننا حضوره الأثير، الخاص والمميز، فى أفلام ومسلسلات الكوميديا، المعتمدة على المواقف، والتى يؤديها على نحو لا ينتمى إلا له.. فهو، مع محمد سعد، فى «عوكل» لمحمد النجار ٢٠٠٤ ــ على سبيل المثال ــ يبدو كقوة باطشة، مندفعة، ضد كائن ضعيف، يعيش على سجيته.. إنها المفارقة التى يترتب عليها مواقف ساخرة.

غسان مطر، عاش حياته كما يريد، مذيعا، محررا، مناضلا، فنانا، سياسيا.. وقبل وبعد كل شىء، فلسطينيا، قويا.


باختصار

كمال رمزي

الإثنين 2 مارس 2015 - 1:00 م

فى مقالاته، وجلساته، دأب أستاذنا المفعم بروح الإبداع، يحيى حقى، على القول إنه يتمنى أن يظهر جيل جديد من شباب الكتاب، ينفض الغبار، المتراكم عن أدبنا، وأن يكون جريئا، مغامرا، يأتى بمبتكرات لا تخطر على بال، فى الأفكار والأحاسيس والصياغات، وأن يقتحم، بلا تردد، شكلا ومضمونا، قضايا تتجاوز المكرر، السائد والمألوف.

لم تكن أمنية يحيى حقى مجرد دعوة نظرية عابرة، ذلك أنه طبقها على قصصه، المتسمة بنفحة حداثة لافتة، مثل «الفراش الشاغر»، وغيرها، كما تعود على البحث عنها، وتدعيمها، فى مقدماته للمجموعات القصصية التى ينشرها الشباب، أو يرحب بها فى مجلة «المجلة» أيام رئاسته لتحريرها.. على صفحاتها، طالع القراء، لأول مرة، أسماء إبراهيم أصلان، جمال الغيطانى، محمد حافظ رجب، وآخرين، ممن أصبحوا من كبار كتابنا.. وبقدر بهجة عمنا الكبرى، يحيى حقى، بكل رونق متميز، بقد الكدر الذى يصيبه حين تداهمه كتابات عفا عليها الزمن، ممهورة بأسماء جديدة.

هذا الكلام بمناسبة عودة الحياة لصناعة السينما التى تعثرت فى السنوات الأخيرة، وربما كان من المتوقع، أو المأمول، أن تنطلق الأفلام الجديدة، من آخر ما وصلت إليه السينما المصرية، خصوصا أن صناعها ينتمون لأجيال شابة، المفترض أنها استوعبت إبداعات الجدود: صلاح أبوسيف، فطين عبدالوهاب، كمال الشيخ، فضلا عن التأثر الإيجابى بجيل الآباء: خيرى بشارة، على بدرخان، محمد خان، خالد يوسف.. على سبيل المثال وليس الحصر.

طبعا، بعض الأعمال التى شاهدناها أخيرا، تحمل شيئا من النضارة، ربما ينقصها الإحكام فى بعض العناصر، تدفع المتابع للرهان على أفلام تالية.. لكن المشكلة تكمن فى تلك الأعمال التى يشارك فيها الشباب، أمام وخلف الكاميرا، وتفاجئنا بأنها موغلة فى القدم، ترتد بنا إلى ما قبل الآباء والأجداد، ولعل «سوء تفاهم» من النماذج الصارخة على هذه الحالة.

الفيلم، يضم نخبة جميلة من الوجوه المحبوبة: سيرين عبدالنور، ذات الجمال الهادئ، المتمتعة بجمال الروح، الوديعة، الصاخبة إن أرادت.. أحمد صلاح السعدنى، المتسم بالحيوية، المتدفق بالانفعالات، تأتى بلا مغالاة أو افتعال.. شريف سلامة، صاحب الأداء، المتوازن، المتفهم، سواء بصوته، أو بملامح وجهه.. وخلف الكاميرا، ثمة كاتب السيناريو، محمد ناير، والمصور، هيثم حسنى، والمونتيرة، نسرين فهيم، والمخرج، أحمد سمير فرج، ابن مصورنا الكبير، الشهير، سمير فرج.

هكذا، معظم العاملين فى «سوء تفاهم» من الشباب وأحداثه تدور ما بين لبنان ومصر، والأدق، بين بيروت والغردقة، فى إطار قصة بسيطة، ملفقة، لا منطق لها، تحكى عن فتاة لبنانية طيبة ــ سيرين عبدالنور ــ تقع فى حب شاب مصرى هارب ــ أحمد السعدنى ــ إثر سرقة كمية من الألماس، بمشاركة صديق له، وتسبب فى الزج بهذا الصديق ــ شريف سلامة ــ فى السجن.. الهارب، المحتال، يهرب ثانية إلى مصر، ليلة زفاف عروسته اللبنانية إليه.. الصديق، يخرج من وراء القضبان، بعد انقضاء فترة عقوبته.. يتجه إلى أحد فنادق الغردقة، حيث يحضر مزاد بيع الألماس المسروق، وفى ذات الوقت، تأتى الفتاة اللبنانية، متنكرة فى هيئة مليونيرة، ستشترى الجواهر.. وبعد مفارقات، ينكشف أمر اللص، الذى هو مجرد مخلب للص أكبر منه، وتعود إلى بيروت، وتتزوج من الصديق المتورط فى سرقة، هى فى الأصل ليست سرقة، ولكن محاولة لاسترداد نصيبه من الجواهر الذى استولى عليها عمه ــ يوسف فوزى ــ الذى كان شريكا لوالده.

الفيلم، بليد فى تفاصيله، يحاول أن يكون كوميديا، فيأتى بشخصية شاب طيب إلى درجة السذاجة، يجعله صديقا أو ظلا للخارج من السجن، على طريقة استخدام إسماعيل ياسين فى الأفلام القديمة، مع فارق واحد: إسماعيل ياسين، كان ظريفا، عفويا، لطيفا.. بينما أخينا على الشاشة، ثقيل الظل إلى درجة لا تطاق.

فى مصر، لا يرى «سوء تفاهم» إلا الفندق المطل على البحر.. وفى لبنان، لا تكاد الكاميرا تخرج من محل الحلويات تعمل فيه البطلة.. ثم، قرب النهاية، تفاجئنا ــ مها أبوعوف ــ الثرية بحكاية مملة، مسرفة الترهل، عن النصاب، الذى يؤدى دوره يوسف فوزى، العصبى، الغارق فى عرقه.. أخيرا، كنا نأمل فى عمل ينفض الغبار عن كراكيب السينما المصرية، لكن، لا بأس، فلننتظر فيلما آخر.

الشروق المصرية في

02.03.2015

 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2014)