كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

رؤى نقدية

 
 
 
 
 

«السائرون الموتى» ما زالوا على الطريق

المسلسل التلفزيوني المرعب ينهي موسمه الخامس بنجاح كبير

لوس أنجليس: محمد رُضا

 

يوم أول من أمس، الأحد، تم بث الحلقة قبل الأخيرة من الموسم الخامس لمسلسل «السائرون الموتى» The Walking Dead تمهيدا لساعة ونصف يوم الأحد المقبل يتم بعدها إغلاق ستار هذا المسلسل لهذا الموسم قبل عودته في موسم سادس.

وبعد 5 سنوات من انطلاقة «السائرون الموتى» ما زال من بين أكثر مسلسلات الفضائيات الأميركية إقبالا. حسب مؤسسة نيلسون المتخصصة في استطلاعات الرأي فإن المسلسل جاء في المركز الأول في الأسبوع المنتهي في الخامس عشر من هذا الشهر، جامعا من حوله 12 مليون و472 ألف مشاهد أغلبهم من الذين تابعوه من شهر أكتوبر (تشرين الأول) سنة 2010 عندما شهد بثه لأول مرة على قناة AMC الأميركية.

حتى عام 2003 كانت محطة AMC ترمز، كما اسمها إلى «كلاسيكيات الفيلم الأميركي» American Movie Classics بذلك كانت واحدة من فضائيات بث الأفلام القديمة. في ذلك العام قرر أصحابها زيادة حضورها بين الفضائيات وهذا الهدف له طريق واحد: إعادة صياغتها كمحطة شاملة للأفلام مع رفع نسبة المسلسلات التلفزيونية التي تقوم بصنعها بنفسها (كما حال HBO مثلاً) و«السائرون الموتى» كان أهم منجم ذهب حققته إلى اليوم.

عاشت الحلقات على إثارة الخوف. ما «السائرون الموتى» سوى أشخاص ماتوا ولم يموتوا. أبدان بشرية في مستقبل غير بعيد انتشر بينها فيروس، لا يبحث المسلسل الكثير في كينونته، حوّلهم إلى آكلي لحوم بشر. من الحلقة الأولى وهم يلتهمون كل لحم حي والناجون من هذا الموت الشنيع باتوا قلة كما لو كانوا جزرا صغيرة في محيط من المياه المسمومة. الصراع انطلق من تلك الحلقة الأولى فاتحا عين المشاهدين التلفزيونيين على أن ما كان حكرا على أفلام السينما من حكايات، يمكن تقديمها على الشاشات المنزلية أيضا. قصص الأبدان شبه الميتة لا تشبع والتي قد تنقض في أي لحظة على ضحية في سيارة أو على مقربة من نهر أو في مبنى مهجور، وجدت عبر هذا المسلسل ملاذا بين مشاهدين جدد، وبالملايين. لكن مشاهدة هذا النوع من الحكايات على الشاشة الكبيرة في صالات السينما، ومشاهدتها في راحة البيت ليس لها أثر واحد.

في الصالة، وأمام أفلام مثل تلك التي قام جورج أ.روميرو بتحقيقها من عام 1968، يدخل المشاهد ليجد نفسه واحدا من مجموعة أفراد تشاركه الفضول والرغبة في قشعريرة الخوف. ما إن ينتهي الفيلم حتى تنتهي كذلك معظم علاقته معه. يخرج إلى الحياة من جديد. يمشي في الشارع، يدخل مطعماً، مكتبة أو يعود إلى البيت. كلما ابتعد عن الصالة خف التأثير المدهم وتبدل إلى إما نوع من الإعجاب أو نوع من الكره.

غالبا لن تخرج من البيت بعد مشاهدتك لحلقة من «السائرون الموتى» بل ستبقى مدة أطول تحت براثنه. وقد تبقى للأسبوع المقبل تحت براثنه إلى أن يأتي موعد الحلقة المقبلة. ليس أن ذلك سيخلق من المشاهد المنزلي حالة خطرة لكنها حالة غير مستقرة.

وأهم ما في الموضوع بأسره أن الإقبال على المشاهدة التلفزيونية يعكس مخاوف يبددها الخروج من الصالة ذاتها. المعنى هنا هو أنه إذا ما شاهدت حلقة، أو حلقات من «السائرون الموتى» فإن البقاء في البيت بعد ذلك يأتي محفوفا بحذر دفين من الخروج (خصوصا وأن العروض ليلية). يشعر المشاهدون، بشكل عام، بأنهم في مأمن لأن ما تم عرضه حذر من الخروج من المأوى الذي وجد أبطال الفيلم أنفسهم فيه.

من الموسم الأول إلى نهاية الموسم الثاني، تم بناء صرح من الحلقات التي تتحدث عن كيف واجه الناجون الاختيارات الصعبة والمحن الخطرة التي داهمتهم. تركوا المدن وأموا الغابات لكن الوحوش البشرية وجدتهم، ومرة بعد أخرى ذاد هؤلاء عن أنفسهم بضراوة. قتلوا ما تسنى لهم قتله، وسقط بعضهم في قبضة المتوحشين فقتلهم أفراد أسرهم أو أصدقائهم حتى لا ينقلبوا عليهم.

من الموسم الثالث، وصل الفريق الآدمي إلى مبنى كبير كان سجنًا منيعًا ذات مرّة واتخذوه موطنًا. قاموا بزيادة تحصيناته وزودوه بأسلاك شائكة واستغلوا نقاط المراقبة وطافوا في أركانه وعيونهم على تلك السهول الخضراء التي سيأتي الخطر منها. وهو جاء منها لكنه لم يستطع الاقتحام.

الموسم الرابع شهد تحولا مهما. هناك أشخاص آخرون (رجال ونساء) يريدون دخول هذا المكان الآمن يقودهم من أطلق عليه اسم «الحاكم». لكن الحاكم لا يريد مشاركة أهل ذلك الموقع مكانهم بل يريد طردهم إلى حيث سيتحولون، مجددا، إلى طرائد.

في الموسم الحالي شاهدنا كيف تبلور ذلك الصراع عن منتصر ومهزوم لكنه لم ينته. بعض مقتل الحاكم (الذي استخدم السيف لاجتثاث الرؤوس وقتل بلا تردد ابنته الصغيرة بعدما هاجمها «سائر ميت») ها هم أتباعه يدخلون المكان بسلام، ولو إلى حين. الحلقة المقبلة وما سيليها في الموسم المقبل الذي يبدأ من خريف هذا العام، ستجيب على أسئلة من نوع إذا ما كان هناك سلام بالفعل أم لا.

لكن الصراع ليس بين أصحاب الموقع، واسمه ألكساندريا أو (الإسكندرية) والطارئين فقط، بل بين أصحاب الموقع، إذ تبدت رغبة قائدهم ريك في الاستحواذ على كل شيء. بذلك كان المسلسل دخل في صياغة طرح حول ما قد تقود إليه الظروف من هيمنة واستبداد تعيد إلى الأذهان حالات مماثلة من قبل تفشي الفيروس القاتل.

كل ذلك والصراع الأكبر المتمثل بوجود السائرين الموتى يبقى ماثلاً ومستخدما في كل حلقة من حلقات هذا المسلسل المقتبس، أساسًا، عن شخصيات وحكايات ظهرت في مجلات «كوميكس». المنتج فرانك دارابونت، الذي كان أعجب فريقًا كبيرًا من النقاد عندما أقدم سنة 1994 على تحقيق «إصلاحية شوشانك» وأتبعه بفيلم جيد آخر بعد 4 أعوام هو «الميل الأخضر» the Green Mile أشرف على تحويل الروايات المرسومة إلى حكايات متلفزة ولا يزال أحد منتجيها وكتابها إلى اليوم.

أما الممثلون فرغم أنهم محترفون إلا أنهم جميعا من غير المعروفين إلا لأولئك الذين يجهدون في معرفة كل وجه. مثلا الممثل المخضرم سكوت ولسون ظهر من مطلع الموسم الثالث إلى نهاية الموسم الرابع عندما قتله الحاكم. ممثل أدوار الشر مايكل روكر ظهر في الموسم الأول، وعاد ضيفا في الموسم الثاني ولورا هولدن انطلقت مع المسلسل من حلقاته الأولى إلى نهاية الموسم الثالث. أما الباقون فهم وجوه غير معروفة، أو لم تكن كذلك إلى أن منحها المسلسل ذلك الحيز من الشهرة.

الشرق الأوسط في

24.03.2015

 
 

الاختيار.. هل كان يوسف شاهين سينارستا ضعيفا

أحمد شوقي

يتعرض كل شخص في علاقته بسينما يوسف شاهين لعدد لا بأس به من الكليشيهات والآراء مسبقة التجهيز، التي يستمع إليها على مدار عمره، وقبل حتى أن يكون ذائقة خاصة تمكنه من الإمساك بما يحبه ومالا يحبه في الأفلام. والنتيجة دائما هي إعادة تدوير نفس الآراء والأفكار، وانتقالها من جيل لجيل بلا نهاية، دون التوقف لإعادة تقييمها، وأعني هنا إعادة تقييم الآراء في الأفلام وليس الأفلام نفسها.

أول هذه الآراء وأكثرها انتشارا بين العامة هو أن شاهين يصنع أفلام غامضة وغير مفهومة، وهو رأي يسمعه كل منّا وهو لا يزال طفلا ويظل مطروحا في حياته حتى يومه الأخير، بالرغم من أن الوقت جعلني بشكل شخصي أدرك أن مشكلتي مع بعض أفلام شاهين أنها "مفهومة أكثر من اللازم"، بمعنى أن ارتباط خطاب يوسف شاهين السينمائي الواضح بفكرة الرمز، والتفضيل عند لحظة الاختيار لقيمة الشخصية "الدلالية" عن قيمتها الدرامية، هو أحد أهم أسباب عدم إعجابي ببعض أفلام المخرج الكبير خاصة في آخر عقدين من حياته الممتدة. لهذا لا يمكن ألا تندهش من اعتبار فيلم مثل "عودة الابن الضال" مثلا عملا عسير الفهم، في حين أنه في الحقيقة فيلم واضح تماما في علاقات شخصياته ورأي صانعه المطروح عبر هذه الشخصيات التي يحمل كل منها دلالة ورمزا واضحا.

الأمر يحملنا إلى ثاني الآراء المعلبة، وهو أنه حتى وإذا ما كانت الدلالات مفهومة، فإنها مقدمة بشكل مُلغز، لأن الشخصيات في أفلام شاهين تتحدث وتتحرك بشكل مختلف عن الواقع، يقول البعض أنه محاكاة لطريقة المخرج نفسه في الحركة والحديث. وهو رأي حق يراد به باطل، بمعنى أن شخصيات شاهين فعلا تتحرك وتتحدث بطريقة مختلفة عن الواقع، لكنه في الحقيقة لم يدع يوما أن خطابه السينمائي واقعي، وكون أداء الشخصيات في الفيلم مشابه للواقع أو مختلف عنه، هو معيار شديد الغرابة في تقييم العمل الفني، لا أعرف من كان صاحب السبق في الترويج له باعتباره أمرا منطقيا. من قال أن شخصيات إمير كوستوريسا تتحدث وتتحرك مثل الواقع الصربي؟ أو أن ثرثرة شخصيات وودي آلان مطابقة لواقع الشخص النيويوركي؟ 

لم ولن يقلها أحد بالطبع إلا من لا يدرك أن السينما مجرد لغة، مجرد أبجديات تشبه الحروف والكلمات، يمكن أن يستخدمها كاتب بطريقة تقريرية صحفية، وآخر بطريقة شعرية حالمة، وثالث بطريقة ساخرة تقوم على المفارقة. وحقيقة أنك تشاهد نور الشريف يتحرك ويتحدث في معظم الأفلام بطريقته المعتادة ثم تشاهده في "المصير" فتراه يتحدث بجمل قصيرة مبتورة تميل للذهنية ويتحرك بشكل غير معتاد، فإن هذا شيء يحسب لصانع الفيلم لا ضده، فعلى الأقل هو قادر على استخدام أبجديات اللغة في صناعة عمله الخاص جدا، وهو إنجاز لا يقوم به إلا عدد محدود للغاية من صناع الأفلام حول العالم، معظمهم أصحاب بصمة واضحة يسهل التعرف عليها.

الرأي الأكثر تهافتا

الرأيين السابقين يحملان قدرا واضحا من المراهقة، تسمعهم وتتفاعل معهم عادة في مراحل أولية من علاقتك بالسينما، أما الرأي الأكثر شيوعا بين المحترفين وأصحاب الخبرات، فهو أن شاهين كان مخرجا كبيرا متمكنا من أدواته، لكنه سينارست ضعيف أفضل أفلامه من كتبها أو ساعد في كتابتها آخرون، بينما أفلامه التي كتبها بنفسه أو ساعده في كتابتها زملاءه ومساعديه من أبناء الأجيال التالية، فهي الأفلام الأضعف في مشواره السينمائي.

هذا الرأي يقوم على أساس وجيه رقميا، هو أن الفترة التي تسيد فيها شاهين دفة كتابة أفلامه (على الأقل على صعيد مكان اسمه في التترات)، هي الفترة التي شهدت أكثر عدد من الأفلام المختلف حول مستواها. لكني أصف هذه الوجاهة الرقمية بالتهافت لأنها تتغافل لعدة حقائق ومتغيرات، تبدأ من كون شاهين دائما صاحب الكلمة الأخيرة في سيناريو أفلامه حتى مالم يقم بكتابتها، ليس من باب الديكتاتورية ولكن لأنه يقدم السيناريو بطريقته الخاصة التي عادة ما تجعل منه فيلما مختلف تماما عنه على الورق. المتغيرات تشمل أيضا فكرة التشبع بكل التجارب السابقة والرغبة في التجديد مع الحفاظ على المعالم الأسلوبية المميزة، وهو مأزق مرّ به تقريبا كل صانع أفلام صاحب مسيرة ممتدة ونشطة في العالم: ألا يقل شبقه لصناعة الأفلام، لكن يزهد في معادلاته القديمة ويسعى للتجريب، مع ضرورة الحفاظ على بعض العناصر التي ميزته في البداية، ولا عجب أن أسوأ أفلام كبار المخرجين تأتي عادة إما في أعوام نشاطهم الأولى أو الأخيرة. وهذا الأمر في رأيي يفسر بشكل كبير معظم إخفاقات شاهين في أفلامه الأخيرة، فقد كانت إخفاقات مُجرّب في الثمانين من عمره، وهذا يكفي صانعها شرفا.

أما الحقيقة الثالثة التي يغفل عنها من يتهمون شاهين بأنه كاتب سيناريو متواضع المستوى، فهي أن عدد من أفضل أفلامه على الإطلاق، قام هو بتأليفها، إما كمؤلف وحيد أو مشارك في الكتابة. وعلى رأسها النموذج الذي سنتناوله سريعا في هذا المقال، وهو فيلم "الاختيار" الذي قدمه شاهين عام 1971، وكُتب على تتراته بوضوح أنه: فكرة يوسف شاهين ونجيب محفوظ، سيناريو يوسف شاهين. أي أنه صورة مثالية لقدرات المخرج الكبير ككاتب سيناريو عندما كان في أوج تألقه ونشاطه الفكري والسينمائي.

الجمع بين نقيضين

أبرز ما يميز سيناريو "الاختيار" ويضعه في مكان خاص كواحد من أهم سيناريوهات الأفلام في تاريخ السينما المصرية هو أنه يجمع بين نقيضين نادرا ما يمكن أن يتواجدا معا في فيلم واحد: أنه فيلم مؤلف وفيلم مخرج في آن واحد. فبالرغم من أن دور المؤلف والمخرج يفترض نظريا أنه دور تكاملي يقوم على الاستفادة المتبادلة، إلا أن التجربة العملية تثبت أن السيناريو في مصر ينقسم في معظم الحالات بين النوعين، إما أن يكون سيناريو مؤلف، حكايته مكتملة يمكن أن تحكى شفويا، ودور المخرج فيها أن يقدمها بأفضل صورة ويضيف جمالياته الأسلوبية عليها (سينما صلاح أبو سيف وعاطف الطيب نموذجا). أو أن يكون سيناريو مخرج، كُتب خصيصا لشاشة لن يُفهم بصورته الكاملة إلا عليها (مثل أفلام خيري بشارة الأولى، الموجة الجديدة في السينما المصرية، وأفلام شاهين الأخيرة).

أما "الاختيار" فهو من مجموعة معدودة من السيناريوهات التي يمكن أن توصف بالجمع بين الأمرين، فهو بالتأكيد سيناريو مؤلف، يمتلك حكاية واضحة متماسكة، حاذقة البناء على الصعيدين: الحبكة المنطقية المثيرة، والفكرة العامة المسيطرة على كل التفاصيل، وهي هنا بالطبع فكرة الازدواجية، التي لم تُرسم بقصدية فقط في التناقض وعلاقة الحب/ الكره بين الشقيقين سيد ومحمود، بل وبين محققي الشرطة العجوز والشاب، وبين الزوجة المكبوتة والعشيقة الخارقة للحدود، وبين العديد والعديد من الثنائيات المتناقضة التي جمعها الفيلم بصورة مدهشة، بحيث تقدم إطارا فكريا واضحا، دون أن يتحول العمل إلى مباراة في الرمزية أو أن يفقد متعته الأولية كحكاية مثيرة وجذابة حتى للمشاهد العادي.

في نفس الوقت "الاختيار" هو سيناريو مخرج كبير، يكتب للشاشة وليس للقراءة، بل ويكتب لنفسه تحديدا بوعي كامل بالأدوات التي يجيد استخدامها والتي سيوظفها في فيلمه: المشاهد الحوارية ذات الطابع المسرحي، المشاهد الجماعية التي تتحدث فيها العديد من الشخصيات، والتي تتطلب موقع تصوير محددا يمكن أن يكون بطريقة ما خشبة مسرح لحركات الممثلين والكاميرا المعقدة التي ينوي المخرج استخدامها، توظيف الرمزية البصرية الحداثية في نقطة بعينها من السيناريو دون أن تقطع مسار الحكاية (مشهد الكرة الحمراء). كلها تفاصيل خاصة جدا بيوسف شاهين، لا تتواجد إلا في سيناريو مخرج.

بين الأمرين تكمن عظمة يوسف شاهين، في أنه راوي حكايات أصيل، وليس مجرد صانع صور ذهنية معقدة. لكنه يروي الحكايات بطريقته الخاصة التي لا تشبه أحدا غيره، والتي تشكل الصورة السينمائية فيها بكل عناصرها المرئية والمسموعة العماد الرئيسي للفيلم. والتي صاحبتها في حالة "الاختيار" كما في أفلام عديدة أخرى، سيناريو متميز، كتبه مؤلف سينمائي موهوب، حتى لو رأى الآخرون غير ذلك.

مدونة الناقد في

25.03.2015

 
 

«مارسيدس» لهادي زكّاك.. سيارة تحكي تاريخ بلد

نديم جرجوره

تنتمي الأفلام الوثائقية للّبناني هادي زكّاك (مواليد بيروت، 22 آذار ١٩٧٤) إلى نوع سينمائي مرتبط بالحَفر في جذور الحكايات، وتاريخها. تعود إلى الماضي لاستكشاف بعض المخفيّ فيه، ولقراءة شيء من راهن منبثق منه. تُفكّك المبطَّن. تتوغّل في ثنايا الهامش كي ترسم، أو تحاول رسم بعض ملامح المتن. تتجوّل في الذاكرة كتجوّلها في الآنيّ، وتشاهد الأحداث كي تشهد لمآزق وانقلابات خطرة وأوهام مشحونة بانكسارات. تُصوّر تاريخ السينما في لبنان، أو بعض فصولها («سينما الحرب في لبنان» في العام 2003، و«لبنان من خلال السينما» في العام 2003 أيضاً)، تماماً كما تنبش في التاريخ اللبناني عبر «مادة التاريخ» المُدرَّسة في مدارس خاصّة موزّعة على طوائف البلد ومذاهبه («درسٌ في التاريخ»، 2009). لا ينسى المخرجُ اللبناني الطوائفَ والمذاهبَ نفسها، فيخترق بعض المحجوب فيها كي يقول أحد أسوأ معاني لبنان في هويته وانتماءات أبنائه («أصداء شيعية من لبنان» في العام 2007، و»أصداء سنية من لبنان» في العام 2008).

لا يكتفي هادي زكّاك بما يُطلب منه تحقيقه أحياناً كأفلام وثائقية تلفزيونية، لا يتردّد عن ممارسة اشتغال سينمائي ما فيها، بحسب مزاجه الفني ـ الثقافي ـ الجمالي. يُتقن مزج التسجيلي بالفني فيها، بهدف إيصال المعنى المراد له أن يصل إلى المشاهدين. في المقابل، يختار عناوين لافتة للانتباه ومثيرة للسجال بالنسبة إليه، فينفتح على تفاصيلها ومعانيها وحكاياتها ومساربها، كي يُعيد فهم الوقائع بحسب ما يبلغه من معطيات أثناء تنقيبه في أعماق ما يختاره من مواضيع سجالية.

«مارسيدس» (2011) أحد هذه العناوين المثيرة للجدل. يختار هادي زكّاك تاريخ حضور سيارات الـ «مرسيدس» في لبنان منذ خمسينيات القرن المنصرم، كي يروي فصولاً من التاريخ اللبناني العام، في الاجتماع والاقتصاد والثقافة والتربية والسلوك المعيشي العام. تعريفٌ أول بالفيلم: «60 عاماً من تاريخ لبنان، من خلال قصّة مرسيدس «المدعبلة»، وعائلتها الألمانية ـ اللبنانية». تعريفٌ ثان: «مارسيدس: قصّة سيارة وعائلة ووطن». تقديم الفيلم بحسب الملفّ الصحافي يوضح مفاصل أساسية: «هذه قصة سيارة مرسيدس «المدعبلة»، التي أصبحت رمزاً للبنان قبل الحرب الأهلية، والتي شهدت على التحوّلات على الساحة اللبنانية على مرّ العقود. هذه قصّة عائلة ألمانية «تلبننت» عبر السنين. هذه قصة وطن وتاريخه المعاصر». هذا اختزال للفيلم (68 د.) لا يُلغي مقوّماته الدرامية الأخرى، المبثوثة في ثنايا السياق التاريخي المستند إلى أدوات التسلسل التاريخي التقليدي، لإتاحة الفرصة أمام المشاهدين كي يتابعوا كل شيء: تطوير السيارة بأنواعها المختلفة في مقابل المسارات المتنوّعة للحياة اللبنانية العامة. ليست السيارة فقط، بل الشاحنات والباصات أيضاً. اندلاع الحرب الأهلية مفصلٌ لا يُلغي ما قبله، ولا يتعالى عمّا بعده. للسيارة في اندلاع الحرب الأهلية هذه دورٌ، كما كان لها دورٌ قبلها وأثناءها وبعد نهايتها المزعومة وبداية السلم الأهليّ الهشّ والمنقوص. لها في الحياة اللبنانية كلّها ثقافة متكاملة، تبدأ بأنواع السيارات وأشكالها وألوانها وكيفية مواكبتها العصر والتقنيات وآلية الاستفادة منها، ولا تنتهي عند ارتباطها الوثيق بوعي اللبنانيّ كما بلاوعيه إزاء ما تعنيه هذه السيارة من صُوَر اجتماعية وثقافية تجمع الثريّ بالفقير، وتربط بين الشباب والكهول، ولا تقف حائلاً عند امتلاك رجال ونساء لها.

استخدام أشرطة فيديو يتوازن والاستعانة بصُوَر فوتوغرافية. السيارة هي التي تروي، بأنواعها وأشكالها، حكايات البلد وناسه، وحكايتها هي أيضاً مع البلد وناسه. كأن هادي زكاك يتماهى بها، تاركاً إياها تأدية دور البطولة الأولى في فيلم ينسج حبكته على إيقاع بلد وتحوّلاته، وعلى أنغام هواجس فردية وجماعية للّبنانيين في شؤون الحياة كافة، وعلى نبض عيش لبناني موزّع على شرائح بيئاته كلّها. أما العنوان، فيبقى الأقدر على اختصار الصورة اللبنانية في علاقتها بهذا النوع من السيارات، إذ يتلاعب هادي زكّاك بالكلمة، مستعيناً بـ «مار» (القديس)، ومُسقطاً هذا التعبير «التقديسيّ» على الاسم الأصلي للسيارة، فيُصبح العنوان «مارسيدس».

(]) تدعو «دارك سايد للإنتاج السينمائي والتلفزيوني» و»زاك فيلم» إلى حضور حفل إطلاق الـ«دي. في. دي.» الخاصّ بـ «مارسيدس» لهادي زكاك، بين 7 و10 مساء اليوم الأربعاء 25 آذار 2015، في «مسرح الجميزة» (مدرسة الفرير، بيروت).

السفير اللبنانية في

25.03.2015

 
 

الضمير عندما يعنى الموت!.. (أيوب – 1984)*

أحمد عبد الرحيم

كلمة "صغير" لا صلة لها بهذا الفيلم، فنحن أمام اجتماع للكبار. نجيب محفوظ، الأديب المصرى القدير، قبل أن يكون الأديب العربى الوحيد الحاصل على نوبل للآداب. محسن زايد، أستاذ السيناريو، صاحب الكم القليل والكيف العظيم من الأعمال السينمائية والتلفزيونية. عمر الشريف، بعد 20 عاماً من رحلة العالمية، داخل وخارج هوليوود، والتى ضمت عدد لا بأس به من الأفلام الرائعة، زائد الترشح للأوسكار. محمود المليجى، ليس أحد ملوك الشر، وإنما أحد ملوك السينما المصرية. فؤاد المهندس، نجم الكوميديا الأشهر، والذى يؤكد أنه كان نجم الدراما أيضاً. ناهيك عن أسماء لامعة مثل مديحة يسرى، إبراهيم الشامى، آثار الحكيم، مصطفى فهمى فى طاقم التمثيل، عادل منير مونتيراً، وعبد المنعم بهنسى مديراً للتصوير. حتى هانى لاشين مخرجاً، فى أول أفلامه الروائية الطويلة، لم يكن صغيراً على الإطلاق.   

أول ما يلفت نظرك فى هذا الفيلم الكبير هو القصة. فى مجموعته القصصية "الشيطان يعظ"، كتب نجيب محفوظ "أيوب"، عن المليونير عبد الحميد الذى يقع فريسة الشلل النصفى، والذى بإيعاز من صديقه القديم د. جلال، يتجه لكتابة مذكراته، وفضح ماضيه، فى محاولة للتطهر، تقرّبه من ضميره، وتُصالِحه مع نفسه، لعل مرضه ينتهى، وروحه تخف، ليتمكن من متابعة الحياة بشكل طبيعى بالمعنى الجسمانى (السير مجدداً)، والروحانى (الرضا عن النفس). الموضوع مدهش لا شك، لكنك إذا ما فكرت، مجرد تفكير، فى تحويل هذه القصة لعمل سينمائى، فستكتشف صعوبات شتى. فالمكان لا يتغير (بيت عبد الحميد)، والنص أغلبه حوار بين البطل وصديقه، وهذا الحوار فلسفى إلى درجة غليظة أحياناً. وهذا عينه ما يؤكد عبقرية الراحل محسن زايد، والذى إستطاع تجاوز كل هذه الصعوبات، وتذليل هذه القصة، لتصبح فيلم سينمائى من الطراز الأول.

حاول النص القصصى إستعراض تاريخ الإنسان منذ العصر الحجرى، فى سعيه الدائم نحو التقدم، وعلاقته بالاقتصاد، مروراً باختياراته السياسية، ووصولاً لحقيقة أن عيش الإنسان للآخرين، هو أفضل عيش لنفسه، مع انتقاد يمتد بين التلميح والتصريح لسياسة الانفتاح الاقتصادى، والتحول للرأسمالية الحرة، وهو ما غيّم على الدولة المصرية وقت كتابة القصة، فى درس مؤداه أن المكسب الفردى، لابد أن يكون مكسب جماعى، وهو معنى إشتراكى نبيل، تجده – بالتأكيد – ضمن الأبعاد المختلفة للقصة؛ الفلسفية والاجتماعية والسياسية، وهى عادة محفوظ، فى اختيار موضوع يبدو إنسانياً بالدرجة الأولى (هذه المرة؛ الإصابة بشلل مفاجئ)، ولكن مع معالجته على نحو دسم، متعدد الأبعاد.      

إذاً ماذا فعل زايد ؟ إنه هدم تلال الفلسفة هذه، ليبنى بدلاً منها فيلماً سينمائياً بمعنى الكلمة، يتضمن هذه الفلسفة مع أبعادها الآخرى، فى بناء متناغم، وقوى، ومثير. إنه على مستوى البعد الفلسفى، يراعى وسيط السينما كفن شعبى، ويبسِّط الثقل الفكرى للعمل، مركِّزاً خط الهجاء الأساسى ضد قيمة الكذب فى المجتمع، ومحاولة إقرار الصدق، والإصرار عليه، إنتصاراً للإنسانية والنزاهة. وذلك مع بعد اقتصادى، نرى فيه تدخل العفن الأخلاقى فى المنظومة الاقتصادية، لتشمل التهريب، وتدار بالعمولات والرشاوى، ويصل تسلق أصحابها إلى قمة النجاح المادى، ليصبحوا من رموز البلد. وبعد سياسى، يتركز فى تآمر رجال السياسية حول البطل عند محاولته كشف حقائق رحلته مع الملايين، وهى التى يبدو أنها تكشف تورطهم معه أيضاً، بلقطة ذكية، فى تعبيرها البصرى البليغ والمختصر، لشخص يأمر أحد رجاله بمنع المذكرات من النشر، مع قيام الأخير بتحية عسكرية له، ويبدو تغييم صاحب التحية العسكرية، حتى لا نرى إن كان مرتدياً الزى العسكرى أم لا، هروب خبيث من رقابة 1984، للإيحاء بأن المُهدِّد قد يكون مازال فى السلطة، بمعلومية أن الفيلم إنتاج التلفزيون الحكومى (أى إنتاج هذه السلطة ذاتها !). زائد بعد إجتماعى يناسب تقاليد السينما الجماهيرية أكثر من الأدب الفلسفى، ويُشبِع الشهية الدرامية للمشاهد وليست الفكرية المحضة، ويجعل الشخصيات أكثر إنسانية وأقل رمزية؛ كأن نرى شجار البطل مع مهندس بشركته، واستنكاره لفستان ترتديه زوجته، وحواره مع خادمه بفايد. أو نفاق زوجته؛ بإعلان رفضها للخزعبلات أمام الآخرين ثم ممارسة الإيمان بها بعيداً عنهم، وسعيها لاستخدام سبل دنيئة كالرشوة والدفع بخرف زوجها أمام القضاء؛ لإيقاف طبع المذكرات. أو إخلاص وطرافة د. جلال فى عمله، وقصته مع الشاب الذى تقدم ليتزوج ابنته.. إلخ.

على صعيد الشخصيات، لم يعد د. جلال ذلك الفيلسوف عميق الثقافة، شديد الثرثرة، وإنما رجل خفيف لطيف، يمتلك الحكمة والبساطة. فاضل بك رجل الأعمال الفاسد فى ماضى القصة، يصبح ذلك وأكثر؛ منافس عبد الحميد بحاضر الفيلم. أفكار، الزوجة الباهتة نوعاً ما فى القصة، تتحول لإنسانة من لحم ودم، وتتعدد مواقفها كإمرأة عاشقة للماديات، غارقة فى المظاهر، ومصابة بداء رفض الصدق، محاربة زوجها كيلا يصارح أحد بتاريخه. كما نرى الابن وفيق، فى كذبه، وصفقاته الانتهازية، وشرفه الملوث كرجل أعمال، ونرى نقيضه، الابنة نبيلة، فى علاقتها بحبيبها حامد، ورغبتها فى الهرب معه لأرض بكر جديدة، بعيداً عن عالمها المشبَّع بالزيف، ومساندتها لوالدها فى ثورته على نفس الزيف، كل ذلك فى تجسيد مبدع لشخصيات القصة، يحافظ على أساسها المكتوب، ويمد خطها الدرامى، بأحداث صحيح لا تنتمى للقصة، لكنها مبنية على نفس الأساس.

يضيف زايد شخصيات آخرى من عندياته، تجئ من صلب العمل وتفاصيل عالمه، لتخدم الدراما وتؤكد معانيها المرغوبة، مثل : أزهار أخت الزوجة، لتمثِّل أصلها الشعبى الفقير الذى تهرب منه، وتعزز الجزء المؤمن بالخرافات فيها. عم محمود، زوج أزهار، صاحب المطبعة المتدين، والذى تحقق إضافته تدعيم الجانب الإيمانى فى البطل "المرض ده ما هو امتحان من المولى سبحانه وتعالى بيختبر به عبده المؤمن"، زائد طباعة مذكراته لاحقاً. عم صالح، حلاق البطل القديم، للتذكير بماضيه كشاب مثالى ومناضل ضد المحتل، ولإظهار أن البسمة الدائمة راجعة إلى "عدم الكتم فى القلب أبداً"، وهو تكرار على نغمة المصارحة والمصالحة / خطاب الفيلم، وكحلقة وصل مع د. جلال، يصل بها البطل إليه. زائد عبد الراضى، سكرتير البطل، المطيع والمتزلف، كعنصر ترويحى.

يظل أكثر ما أبهرنى فى هذا التعامل الخلاق مع النص القصصى هو الثلث الأخير من الفيلم. لعلك لا تعرف أن قصة محفوظ تنتهى بالبطل وقد صمم أن يخفف الحمل من على كاهله، ليُطلق أسراره المُمرِضة إلى الورق، والمقصود ورق مكتبه ليس إلا. أما فى النص السينمائى، فينطلق محسن زايد، ويجعل البطل يصمم على نشر هذه المذكرات فى كتاب بعنوان "مليونير يفتح أوراقه"، مما يثرى الدراما، ويزيدها إثارة، بل وواقعية، إذا ما وضعنا فى الإعتبار، شيوع كتب السير الذاتية نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، لسياسيين وفنانين واقتصاديين، مثل "البحث عن الذات" للرئيس أنور السادات (1978)، و"ملك الترسو" للنجم فريد شوقى بقلم الكاتبة الصحفية إيريس نظمى (1978)، و"صفحات من تجربتي" لرجل الأعمال عثمان أحمد عثمان (1981)، وستتعجب صديقى القارئ، عندما تعرف أن هذا – أيضاً – لم يكن إلا إمتداد للقصة، وبناءاً عليها، حينما تكتشف أن السيناريست استوحاه من سطر بها يقوله د. جلال أثناء حكى عبد الحميد عن ذكرياته ذات الظلال الخطيرة "أحادثيك يجب أن تكون دعوة للموت فى هذه الحياة التى نحياها"، وهو ما يُنسَج منه الثلث الأخير، بكل ما يستتبعه من مؤامرات لإيقاف الكتاب، وتهديدات للبطل وأسرته، وتزايد عزيمته فى الاعتراف، مما يُلهب الأحداث، قائداً لذروتين، الأولى هى حلمه بتحدى قاتليه، والانتصار عليهم، مما يجلب له الشفاء (فى مشهد موجود بالقصة)، وكأن كل ما فات مجرد كابوس، كان الضمير هو اليقظة الوحيدة منه، ثم تصفية عبد الحميد جسدياً (وهو مشهد غير موجود بالقصة)، على يد متآمرين مجهولين، كالحل الحاسم لقتل صدقه قبل أن يقتل سمعة الآخرين، وحفاظاً على المجتمع كعالم مقتول الفضيلة، مثالى الكذب، إثباتاً لمقولة محفوظ أن الصدق قد صار "دعوة للموت فى هذه الحياة".

الحق أن السيناريو غنى بنقاط خاصة يتميز بها عن النص القصصى. مثلاً، بينما يبقى ميعاد إصابة البطل بالشلل فى القصة منبت الصلة إلا بتراكمية ندمه، وتعذيب ضميره؛ نراه فى الفيلم يتصل بإجراء صفقة كبرى، يتمكن فيها من هزيمة سيده القديم، ومنافسه الحالى، فاضل بك، مما يوحى ببراعة أن شلله لم يكن سوى معادل لوصوله إلى أعلى قمم النجاح المادى، القائم أصلاً على السقوط الأخلاقى، مما يعنى إكتمال تحوله إلى "فاضل" جديد من أفاضل هذه المدينة، وهو ما يبدو – نفسياً – كالقشة التى قصمت ظهره. التوازى ما بين إتجاه البطل للتطهر من ماضيه مع فاضل، واتجاه ابنه إلى عقد صفقات مع هذا الفاضل نفسه، يبرهن أن المستقبل سيكون ملكاً لهؤلاء الفاسدين. ويُلمِّح غياب الابن وفيق، عن مشهد مغادرة أبيه للبيت، فى الصباح التالى لشفائه وقبيل اغتياله بقليل، إلى إمكانية ضلوعه فى هذا الاغتيال. وجاء اصطحاب البطل لابنته نبيلة، التى تحمل قيمه النزيهة، فى المشوار الذى سيتم فيه إطلاق النار عليهما، إرهاصة بانتهاء مستقبل الصدق فى هذا العالم، وهى النهاية الحزينة، التى تجعل لهذا الفيلم مذاقه المرير المتفرد.

فضلاً عن تفاصيل صغيرة لكن معبرة؛ مثل سيارة د. جلال، الفقيرة المتهالكة، التى تدلل على شخصيته الرافضة للمظاهر البراقة. سماع صوت د. جلال، سعيداً بكلمات مؤازِرة، عند رفض البطل للكرسى المتحرك، كصوت الضمير فى عقله. معاينة أفكار لملابس زوج أختها الفقير قبل سماحها له بالتواجد وسط ضيوفها. اللكنة الساخرة لفاضل عند زيارته للبطل قعيداً؛ والتى قلبت تعبيراته الحزينة إلى تشفى صريح. أو استماع البطل لأم كلثوم وهى تشدو "أنا ياما صبرت زمان، على نار وعذاب وهوان... وأهى غلطة"، فى اللحظة التى يفكر فيها "أيوب" الفيلم أن ينهى صبره، ويكسر سكوته، ويعلن تمرده على هوان الضمير، حتى يُنهى تلك "الغلطة"، ويصل لمساحة السمو بداخله. تلاعب أصابع وفيق بسبحة أثناء تسليمه رشوة ضخمة، تهكماً على الكذب بإدعاء التدين، أو إشارة لما حدث من مفاسد أيام الرئيس المؤمن. تحويل ثروة عبد الحميد من 5 مليون فى القصة إلى 130 مليون فى الفيلم، فكلما زادت الثروة، زاد النفوذ، وبالتالى زادت المفارقة مع فقدان الصحة، وزاد استغراق المشاهد فى تخيل كيفية حشد كل هذه الثروة. اختيار المصعد الهابط كمكان انهيار البطل مشلولاً، كنهاية رحلة سقوط طويلة.

حوار قصة محفوظ متخم بجمل صلدة من نوعية "إن الذاتية هى سبيل العبودية، وأن الموضوعية هى سبيل الحرية. الإختيار الحر يقوم على الموضوعية، وإلا أذعنا إلى غريزة ونحن نتوهم أننا نمارس عاطفة، أو سيّرنا عاطفة ونحن نعتقد أننا نلبى العقل. ولكى يحدث الانسجام والتوازن بين الغرائز والعواطف والعقل فلابد من تربية الإرادة"، لكن حوار فيلم زايد، يجمع بين عمق الرؤية، وواقعية الجو، فى حيوية وظرف. فعند مطالعة عم محمود لأوراق المذكرات، وبالتالى لفضائح عبد الحميد، يُعلِّق بين الذهول والأسى "الله يخيّبك يا عبد الحميد بيه !". وعند عرض د. جلال لأفكار، نظريته فى عدم العمل بالطب للتربح يقول "أنا مؤمن إن الطبيب زى القاضى تمام، شغلته إنه يفصل فى قضايا الإنسان وجسمه. عمرك سمعتى عن قاضى فتح محكمة قطاع خاص ؟!"، أو إعتراف عبد الحميد "اللحظة اللى نسيت فيها نفسى، وإنتهت جوايا شخصيتى الحقيقية، هى اللحظة اللى إتشليت فيها."

يتفوق عمر الشريف، مقدماً واحد من أكثر أداءاته نضجاً. يكفى الإشارة لـ3 لحظات. الأولى عندما يتطلع لنفاق ضيوفه؛ فى نظرة تمزج السخرية برثاء النفس. والثانية عندما يتأمل كلمات د. جلال عن تيه الإنسان بين أقنعته المختلفة، ليبدو ألم الضمير وجلد الذات على ملامحه الصامتة. والثالثة تحديه للكرسى المتحرك، فى مشهد يثور فيه على مرضه، ويصارع عجزه، محطماً صورته التى لا يرضاها فى مرآته.

يتمكن هانى لاشين من قيادة ممثليه بامتياز، واختيار أحجام كادراته بدقة؛ كتلك المجموعة المتنوعة من اللقطات المقربة للبطل، لإظهار اضطرابه المكتوم وأزمته الحقيقية. كما يمتعنا بلحظات ماهرة؛ كأن يطير بالكاميرا فوق بحر فايد وصولاً للبطل على كرسيه المتحرك، ليرينا ما يموج فى نفسه من آلام، وما يحبسه من بحور أسرار. أو يصبغ لقاء البطل وصديقه، بعد الاستماع للمذكرات المسجلة، باللون الأبيض – سواء فى خلفية المكان، أسوار الشرفة، أو ملابس الشخصيات – دليل الطهر الذى غدا يرفل فيه عبد الحميد. أو يحتجز أفكار داخل البيانو، من زاوية تبرزها كسجينة مفردات الحياة المترفة، فى ذات اللحظة التى تنفجر فيها غاضبة بسبب زوجها الذى ستودى به صراحته للسجن ! كما تلمس محاولة لخرق المألوف، ولو خلال أمر عابر؛ عندما يُعرَض تتر البداية على تتابع عودة البطل من السفر، وخروجه من المطار إلى شركته، واجراءه لمكالمة تليفونية، ثم مقابلته لموظفينه وابنه، وليس من خلال عناوين منفردة كالمعتاد، فضلاً عن غياب الموسيقى عن هذا التتر، خلافاً للمعتاد أيضاً.  

يصيغ المونتاج شخصية متوازنة للعمل، تجمع بين الإيقاع الرشيق والجانب التأملى، كما يتألق فى تجسيم الصراع بمشهد البطل وكرسيه المتحرك. ويبلغ التصوير أوجه فى مشهد الإصابة بالشلل، عندما تتابع الكامير المحمولة البطل مغادراً مكتبه، ناقلة بصدق اضطراب حركته، لنتوحد معه والمرض يتمكن منه، معرقلاً سيره خطوة بخطوة، فى مشهد لا يقل مستواه عن مشاهد شبيهه فى أفلام أمريكية وأوروبية. لكن بينما تتميز الإضاءة فى مشاهد، كحلم البطل بالقتلة واشتباكه معهم فى الظلام، يخونها التعبير عند دوران الكاميرا على وجوه ضيوفه المهوِّنين عليه بعد شلله، لتظهر فاقعة ومكشوفة.

أعلت الموسيقى التصويرية لمصطفى ناجى مشاعر التأمل والتوتر، وغابت عن أحاسيس التقارب والتفاؤل (فى علاقة الابنة وخطيبها، أو البطل وصديقه) ربما تأكيداً لسوداوية عامة. ونجحت عند زواج عبد الحميد من الراقصة كريستينا، فى قلب زفة الفرح المألوفة "إتمخطرى يا حلوة يا زينة" إلى مارش جنائزى مقبض، لاسيما عندما نكتشف أن العروس ليست إلا رشوة جنيسة لفاضل بك. لكن من ناحية آخرى، وقعت الثيمة الأساسية فى مشكلة التشابه مع موسيقى المسلسل الأمريكى Mission: Impossible (1966 : 1973)، للمؤلف الأرجنتينى لالو شيفرين، خاصة ثيمته الشهيرة The Plot. يعرض شريط الصوت فى خلفية رقصة كريستينا، المفترض حدوثها فى الخمسينات، موسيقى أغنية Heat Wave التى ألفها إيرفنج برلين سنة 1933، وغنتها مارلين مونرو فى الفيلم الأمريكىThere's No Business Like Show Business سنة 1954، لكنه – فى نفس المشهد – يعرض توزيعاً موسيقياً لأغنية 1, 2, Cha Cha Cha  وهى أغنية للمطربة الهندية Usha Uthupغنتها لأول مرة فى الفيلم الهندى Shalimar سنة 1978، مما يعنى إستحالة عزفها زمن ذلك المشهد.

اختيار ليلى فهمى كالأخت الكبرى لمديحة يسرى، كى تناديها الأخيرة بـ"أبلة"، جاء كوميدياً. كما أن إخفاء وجه وهوية "الباشا"، الذى يعقد معه الأب والابن صفقات فى مراحل زمنية مختلفة، لم يكن مبرَّراً أو مفهوماً. 

بينما كان الصبر على المرض هو فضيلة أيوب التاريخ، ودليل إيمانه، مما حقق له الشفاء أخيراً، كان الصبر على الكذب هو خطيئة أيوب الفيلم، ودليل فساده، كالمرض الحقيقى الذى يستلزم الشفاء، ببلسم الصدق وترياق المواجهة. ولكن للأسف، فى حياة يحكمها الكذب والكذابون، لا يوجد إلا اختيارين؛ إما أن تميت ضميرك لتحيا، أو تحيى ضميرك لتموت. ورغم أن هذه الرؤية تصدمنا بواقع قاتم، إلا إنها تروِّج للإصرار على الحقيقة، حتى الإستشهاد. لهذه المعانى الجميلة، ولهذه العناصر الدرامية والسينمائية التى لا تقل جمالاً، إستحق "أيوب" أن يكون أول فيلم تلفزيونى يُعرَض سينمائياً، وأفضل فيلم تلفزيونى حتى الآن.

*نُشرت فى مجلة "أبيض وأسود"_عدد أكتوبر 2014

موقع الكتابة الثقافي المصري في

25.03.2015

 
 

النسوية في السينما اللبنانية الحديثة

ياسمين عادل – التقرير

تاريخ السينما اللبنانية مليء بالعثرات، بدايًة من صُناعها الأجانب، ثم صُناعها اللبنانيين غير الدارسين للسينما ما جعلهم يتعلمون عن طريق الصواب والخطأ، مرورًا بالحروب الأهلية، ووصولًا لنَقص الدعم المالي، وقِلة قاعات العرض واقتصارها على بيروت.

كل ذلك أدى إلى عدم الشعور بدور السينما اللبنانية، والتي إذا وُجدت فإنها تُناقش عادة قضايا شديدة المحلية أو أمور مُتعلقة بالحرب بصورة أو بأخرى. ظلت تلك الصورة الوحيدة بأذهان مُتابعي السينما حتى وقت قريب إلى أن بَزَغ نَجم السينما اللبنانية، وأصبحت أفلامها تلقى صدى عند الكثيرين دون اقتصار الأمر على لبنان نفسها أو حتى الوطن العربي فقط.

من الأفلام التي حركت الأعين نحو السينما اللبنانية مجموعة من الأفلام لنا أن نصفها بالنَسوية، حيث تأتي كل البطلات من النساء ويتم تناول قصصهن بوجهة نظر وعين نسائية عاكسة المشاكل الحياتية التي تمر بها المرأة وكيف يقف منها المحتمع ليُحاكمها أو يُحاول فرض سيطرته ونظرته الذكورية عليها.

“سكر بنات” إنتاج 2007 والإخراج الروائي الأول لنادين لبكي، بطولة (نادين لبكي- ياسمين المصري- جوانا مكرزل- جيزيل عواد- سهام حداد). وقد نال الفيلم استحسان النقاد والجمهور كما فاز بعدة جوائز.

الفيلم يدخل بنا من اللحظة الأولى لعالم النساء الساحر بألوانه الدافئة وسكره المحروق، بطعمه الحلو والمُر، بوجعه وخباياه، حيث تدور الأحداث بصالون تجميل ذلك المكان الذي يُعتبر بمثابة عيادة نفسية تتجمع فيها النساء للتخلص من التوتر والغضب وأحيانًا الفضفضة قبل أن تخرج امرأة سعيدة من جديد ولو لقليل من الوقت.

وتحكي القصة عن مجموعة من النساء مختلفات الأعمار، فهناك العشرينيات فنجد فتاة ما زالت تستكشف ميولها الجنسية بهدوء وتصالح؛ ولكن دون مُكاشفة، وأخرى مسلمة على وشك الزواج لكنها لا تعرف كيف تواجه المجتمع بفقدها لعذريتها.

وهناك الشابة الثلاثينية التي ترغب أسرتها في تزويجها، لكنها على علاقة برجل متزوج لا يلبث أن يتركها من أجل أسرته، ثم المرأة الأربعينية التي تفتقد الثقة بنفسها وتهرب من تقدم الزمن بها، فتكذب على حالها قبل الآخرين. وكذلك المرأة الخمسينية التي تلوح لها أخيرًا فرصة للحُب والاستقرار لكنها تتخلى عنها لأسباب شخصية.

هكذا تقتحم نادين ونحن معها عالم النساء عامة والعربيات خاصة كاشفًة لنا صفحات من مسلسل الوجع والكبت والقيود التي تواجهها النساء منذ الصباح، وحتى موعد النوم. فتفتح لنا الباب لمعايشة محاولاتهن الدائمة للاستمرار بالعيش في واقع يكتم على أنفاسهن جاعلَهُن يتظاهرن بما ليسوا عليه ليفقدن أنفسهن داخل المتاهة دون رغبًة منهن بذلك.

في مشاهد جميلة الألوان، حميمية التفاصيل، ومُتخمة بالموسيقي الشجية نتعرف على نساء لم يكن هَمهَا مبارزة المجتمع بتحدي وندية قدر ما كانت تسعى للقدرة على المواصلة والنضال بكل ما قد تحمله تلك الكلمة من معنى، النضال للتوافق مع أقدارهن والتغلب على مشاكلهن بأنفسهن دون الحاجة لمُساعدة أحد.

وإن كان يُعاب على الفيلم أنه اكتفى بعرض قوالب المجتمع المُصمتة والمريضة دون عرض كيفية الخروج منها باستثناء تحرر أحد الشخصيات بآخر الفيلم بعد قيامها بقص شعرها كناية على كسرها أحد التابوهات التي لطالما فُرضت عليها. لكن هذا لا يمنع أن فيلم “سكر بنات” خطوة جريئة نحو هَدم ثقافات وعادات وتقاليد عفى عليها الزمن، تُعاني منها كل بنات الوطن العربي مهما بلغت درجة تحضُّر وتمدُّن البلدان اللاتي قدمن منها.

“وهلأ لوين” إنتاج 2011 وإخراج نادين لبكي في ثاني أعمالها الروائية الطويلة، بطولة (نادين لبكي-كلود باز مصوبع- إيفون معلوف- ليلى حكيم- أنجو ريحان وآخرين)

الفيلم الذي فاجأ وأبهر أغلب مُشاهديه، حيث قدم الحرب وتعامل معها من منظور شديد البراعة. كما إنه فتح باب السينما اللبنانية على العالمية أكثر من أي فيلم؛ آخر حيث كان له حُضور لافت بالعديد من المهرجانات وفاز بالكثير من الجوائز أهمها جائزة “فرانسوا شاليه” التي تُمنح لأفضل عمل روائي طويل في مسابقة “نظرة ما” ثاني أهم المسابقات الرسمية في مهرجان “كان”. ويُعد الفيلم الأعلى إيرادًا بتاريخ السينما اللبنانية كله.

وهو فيلم يجمع بين الكوميديا السوداء والميلودراما، قَدَّم فكرته بشكل شبه سريالي أو فانتازي والتي على الرغم من غرابتها؛ بل ورُبما شبه استحالة تحقيقها إلا أنها تُجبرنا على التفكير خارج الصندوق وتمنحنا الأمل في وجود وسيلة ما قد تنجح في درأً الفتن والوصول بنا لحالة من السِلم مع الآخر المُختلف عنا.

تدور أحداث الفيلم بضَيعَة غير معلومة، معزولة عن العالم؛ إذ كل ما يربُطها به راديو القهوة، تليفزيون يُشاهده الجميع معًا، وطريق وحيد ضيق لا يعبره إلا شابان لشراء احتياجات أهل القرية كل ليلة. وتحكي القصة عن مجموعة من النسوة طالت معاناتهن بسبب الحرب الطائفية حتى صِرن لا يخلعن الأسود، ما جعلهن يُقررن تحريك دَفة الحياة بعيدًا عن كل ما قد يُسبب فتنًا أو إشكالات.

هنا يظهر الصراع بين نساء القرية الراغبات في أن يَعُم السلام على الجميع، المُحاولات حماية أولادهن وأزواجهن بكُل السُبل من ويلات الحرب أو فجيعة الموت، المُتفهمات والمُتعايشات مع اختلافاتهن حَد انفتاح كل الحكايات على بعضها، وبين الرجال المُنساقين وراء غرائزهم وتباريهم في فرض القوة والسيطرة تُحركهم الرغبة في الانتصار وكتابة الكلمة الأخيرة بالأحداث.

تأخذنا الحكاية معها بين ضحكة ودمعة وقلق وشجن لتنجح نادين لبكي في رسم صورة مميزة وحدوتة تَأسر القلب، تكشف لنا كيف أن النساء رغم قلوبهن الضعيفة وأحزانهن الكثيرة؛ إلا أنهن كائنات لا تنكسر، من أرحامهن تخرج الحياة ليصبح من البديهي أن يأخذن دور رَبَّات الحماية.

ولا يمكن أن نذكر هذا الفيلم دون أن نُسلط الضوء على الإخراج المُميز لنادين لبكي والذي يِعدنا بمخرجة غير تقليدية، ذلك الإخراج الذي يحمل بصمتها الخاصة التي تتجلى لنا عَبر الكادرات القريبة والتركيز على التفاصيل، الموسيقى التصويرية العظيمة التي تتضافر مع الأحداث بشكل سحري ورشيق.

كما علينا الإشادة بقُدرة المُخرجة على توجيه بطلات العَمل خاصة، وأن أغلبهن كانوا بطلات القُرى التي صُور بها الفيلم بالفعل وليسوا ممثلات مُحترفات سبق لهن العمل بمجال التمثيل ما جعل العمل يبدو واقعيًا وعفويًا وقريبًا من الروح.

فيلم “يلّا عقبالكن” إنتاج 2015 إخراج (إيلي خليفة)، وتأليف (نيبال عرقجي) وبطولة (ندى أبو فرحات، نبال عرقجي، دارين حمزة، مروى خليل). وهو ثاني تجارب المخرج بالأفلام الروائية الطويلة بعد أن قدم أفلام قصيرة جعلت الجميع ينتظر ما سيُقدمه بشغف.

الفيلم تدور أحداثه حول 4 فتيات تجاوزت أعمارهن الـ35 ما جعلهن تحت ضغط من المجتمع، أهلهن، أصحابهن، بل ورُبما أنفسهن بسبب عدم زواجهن كل هذا الوقت. فتقع كل شخصية ببراثن مشكلتها الخاصة سواء كان بسبب المُحاولات لإسكات ألسنة الجميع من خلال الدخول بعلاقات مع رجال غير مُناسبين فقط لتحقيق مبدأ الزواج، أو الوقوع بُحب من لا يصلُح، أو حتى بسبب تحدي المُجتمع والتصدي لأفكاره النمطية المُعلّبَّة عَبر الطريق المُضاد تمامًا.

أربع حكايات مُختلفة قُدِّمَت بشكل طريف ما جَعل الفيلم يُصنف لايت كوميدي على الرغم من المرارة الموجودة خلف كل قصة. وإذا حاولنا أن نُقيِّم الفيلم بصفته فيلمًا خفيفًا ولذيذًا سنجده نجح في ذلك، أما إذا حاولنا أخذ الأمر من منظور نسوي فقد نعيب على الفيلم أنه كان يملك مساحة كبيرة من المادة الدسمة التي يمكن له أن يتناولها بشكل مميز وعميق، لكنه لم يفعل واكتفى بطرح الفكرة من على السطح ما خيب آمال النُقاد الذين انتظروا عمل إيلي خليفة كل ذلك الوقت وإن تميز الإخراج بالألوان الزاهية والصورة السياحية الجميلة.

بالإضافة لأن الفيلم وإن كان عرض الأفكار النمطية من أجل الثورة والاحتجاج عليها؛ إلا أنه سقط -رغمًا عن ذلك- بفخ التنميط الذي كان عليه كسره لا مُطاوعته والانسياق إليه، حيث وجدت مُعظم البطلات السعادة بالنهاية من خلال علاقتها برجل كما لو أن كل امتعاضهن كان بسبب استعجالهن على الزواج وليس في كَون المرأة دون رجل أو طفل حياتها منقوصة وغير مُهمة.

وقد تميزت كل الأعمال السابقة بأنها نسوية غير عنيفة لا يشعر المُشاهد فيها بالعنصرية أو المُبالغة؛ إذ تعكس الواقع بشكل بسيط وحقيقي دون أن تنفي احتياج المرأة للرجل كجزء من حياتها، وإن جاءت الأدوار الذكورية -والحق يُقال- في كل الأعمال السابقة مُهمشة أو تُفسد أكثر مما تُصلح.

وعلى ذلك، لا يُمكننا تجاهُل أو إنكار أن تلك الأفلام -بسلبياتها وإيجابياتها- تحلَّت بالشجاعة والجرأة على تعرية المُجتمع أمام نفسه من خلال طرح أفكار مُهمة لكن مُهَمَشَّة، مُعتمدًة بالكامل على النساء -بطلات الحكايا- في توصيلها للعالم ببراعة وعُمق وإدراك. ما يجعل السينما اللبنانية النسوية الجادة تستحق تسليط الضوء عليها وأخذها بعين الاعتبار والتقدير لدورها واهتمامها بتقديم فن حقيقي وواقعي سيعيش للأبد.

التقرير الإلكترونية في

25.03.2015

 
 

العربي في مخيلة السينما الفرنسية:

من العدوّ الى الحليف!

شريف الرملي

من أقدم قواعد الدراما التي عرفتها البشرية وجسدها الإغريق على مسارح أثينا، خلق الصراع بين الشخصيات المختلفة. لخلق صراع ما، كثيراً ما يحتاج السرد الدرامي إلى شخصية "الشرير" الذي سيضطلع بدوره في تأجيج الصراع بين الخير والشر. من هنا تبدأ التحولات في الشخصيات حيث يصير الرجل أحياناً شريراً نتيجة الظروف الدرامية. انها الطريقة التقليدية والقديمة جداً التي نراها كثيراً في السينما العربية والهندية وغيرهما.

الصراع الدرامي يحتاج أيضاً إلى العنصر الطيب (البطل). تتبارى الشخصيتان عبر النص الكتابي أو المسرحي والسينمائي طوال الحوادث حتى تنتصر احداهما على الأخرى. الفكر البشري بطبيعته الروحانية أراد للشخصية الطيبة أن تنتصر في معظم الروايات كرغبة في المحافظة على الضمير الإنساني الذي يشجع دوماً على فعل الخير تحقيقاً للعدالة الاجتماعية. لذا، فإن شخصية الشرير هي أحد أهم العناصر في البناء الدرامي وتساعد في تطوير الحوادث ولولاها لماتت الدراما منذ زمن.

الجريمة البشعة التي شهدتها مجلة "شارلي ايبدو" الساخرة في مطلع العام الحالي، تدفعني رغماً عني الى العودة الى صورة الآخر، تحديداً العربي المسلم في السينما الفرنسية، كمحاولة لفهم تلك الصورة وتطورها في المخيلة الجماعية للشعب الفرنسي، ومن ثم التنبؤ بتطورها أو تدهورها على اثر العملية الارهابية.

السينما الكولونيالية

حرب الجزائر التي استمرت من 1954 إلى 1962 كان لها بعض الانعكاسات السلبية على النص الدرامي السينمائي. أضف إلى ذلك فكرة سحر الشرق العالقة في مخيلة الغرب التي تصر على تصوير العربي رجلاً أمياً ساذجاً لئيماً أحياناً يسكن الواحات ويمتلك الكثير من الكنوز التي لا يعرف قيمتها، إلى أن يأتي الأوروبيون ليساعدوه على استكشاف الثروات واستغلالها. تلك هي الصورة العامة التي نستخلصها مما يُعرف بالسينما الكولونيالية. كانت وزارات الإعلام حينها تضطلع بالبروباغندا التي تخدم مصالح الأمبراطورية وتروّج لسياسات الحكومة عبر أفلام درامية ووثائقية. البعض يدلل على ضرورة الوجود الأوروبي في افريقيا والبعض الآخر يروج لأهمية التعاون بين أصحاب الأرض وبين فرنسا، مع التركيز على القوة العسكرية للمستعمر وولاء الجنود من الأفارقة والعرب له. هذا بالإضافة الى الأفلام السياحية التي تروج للصور النمطية عن العرب (الأنف السامي، الوجه المتعرق وغير النظيف، نظرة اللؤم في العينين...). في أفريقيا، ركزت الأفلام الكولونيالية على الأنف الأفطس والعيون شبه المستديرة والشفاه الغليظة حيث تظهرهم بشكل مختلف تماماً عن أشكال البيض.

لم تكن فرنسا الوحيدة التي تنظر الى مستعمراتها باستعلاء. في الأمبراطورية البريطانية أيضاً، كانت للسينما مساهمة قيمة في تشكيل صورة معيّنة عن مستعمراتها الهندية، بل ساعدتها السينما الهوليوودية في تقوية هذه المخيلة وتأصيلها. سينمائياً، الهند مكان استوائي جميل، فيه الأفيال والنمور والقردة، تكسوه المرتفعات الخضراء، بيد أن أصحاب الأرض هم بالطبع، أقل معرفة من المستعمر الأبيض!

"الموجة الجديدة"

في فيلم "موجة جديدة: عندما باتت السينما تتلون" الذي اخرجه الباحث في جامعة باريس، ديدرو ادوار ميلس عفيف، نجد أن الخطاب الرسمي للدولة الفرنسية كان له تأثيره المباشر في التكوين السينمائي للشخصية العربية، وهذا ما أكدته مجموعة من الممثلين والمخرجين من ذوي الأصول العربية. منهم المخرجون علي غانم، مهدي شريف، نسيم عموش، مالك شيبان، كريم دريدي ومحمود زموري. ومن الممثلين، استضاف عفيف أيضاً صابرينا وزاني، سعاد حميدو، زين الدين سوالم وغيرهم، لكي يرووا أمام الكاميرا تجربتهم في السينما الفرنسية.

من خلال هذه المجموعة من السينمائيين ذوي الأصول العربية، يحملنا الفيلم في جولة تاريخية يستعرض من خلالها اولى خطوات العرب في السينما الفرنسية التي بدأت بفيلم "مكتوب؟" لعلي غانم (1970). هذا أول فيلم يخرجه عربيّ في فرنسا، مستنداً الى مجتمع العمالة المهاجرة، وهو أول الأفلام التي لفتت النظر الى هذه الفئة من الناس وعرضت إشكاليات الاندماج والفقر والغربة بإمكانات ضئيلة وتوزيع محدود للغاية. يستعرض الفيلم  تبلور الصورة النمطية عن العرب وتاريخ وجودهم السينمائي ونموّهم الفني، وصولاً الى مهرجان كانّ حيث بات العربي يحصد أرفع الجوائز.

كانت قد مرت ستة أعوام على انتهاء حرب الجزائر ونال الشعب الجزائري استقلاله عن فرنسا حين شهدت دور العرض الفرنسية فيلم "أنجليك والسلطان" بعد سلسلة من الأفلام الكوميدية التي حملت اسم الشخصية الرئيسية، الشقراء الجميلة أنجليك. هذا الفيلم الأخير كان تجارياً. شتان بين الإمكانات البسيطة التي سيلجأ السينمائيون العرب إليها لاحقاً للتعبير عن حالهم والامكانات الهائلة التي يتمتع بها "أنجليك والسلطان". عاب النقاد الفرنسيون على فيلم "مكتوب؟" افتقاره إلى الأموال الكافية بل وافتقاره الى الحسّ السينمائي، اذ وصفوه بأنه ريبورتاج طويل أو فيلم وثائقي أكثر منه فيلماً درامياً. أما "أنجليك والسلطان"، علاوة على انه فيلم تجاري خالص، فهو لا يعدو كونه مداعبة للبعد الاستعماري في السلطة الفرنسية حيث صورة العربي نمطية بامتياز. العربي هنا هو هذا السلطان المغرم بالحسناء الفرنسية، وسيبذل كل جهده ليفوز بها زوجة (أو ربما جارية) له.

في العام نفسه، انقلب المجتمع الفرنسي رأساً على عقب من خلال حوادث أيار 68، وعرفت السينما اليسارية طريقها إلى صالات العرض. من هنا بدأت الصورة النمطية عن العرب في الزوال تدريجياً.  في العام 1970، شهدت صالات العرض الفرنسية "إليز أو الحياة الحقيقية"، أحد أهم الأفلام التي نددت بـ"العنصرية" الفرنسية والقمع البوليسي وصعوبة الحب بين شابة فرنسية وعامل جزائري. هذه سينما مؤلف رفضت النوع الكوميدي الرائج حينها وهدفت في الأساس الى إيصال رسالة مليئة بالنقد للمجتمع الفرنسي أثناء حرب الجزائر، ومن ثم التنديد بالممارسات القمعية من السلطة تجاه المهاجرين العرب.

سينما المهاجر الخارج على القانون

في دراسة عن صورة العربي في السينما الفرنسية من السبعينات إلى نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة، قدم جوليان جارتنر تحليلاً دقيقاً لصورة العربي والكليشيهات التي التصقت بها وتطورها عبر الحقب الزمنية والسياقات السياسية المختلفة.

يقول جارتنر عن حقبة الثمانينات: "رغم وصول اليسار الى السلطة في فرنسا، قلبت الأفلام البوليسية حال السينما الفرنسية رأساً على عقب، نتيجة النجاح التجاري الهائل الذي حققه "المخبر" لبوب سوام. يغوص الفيلم بالمشاهد في قلب احدى الوحدات البوليسية المنهكة من كثرة العمل في بلفيل، احد الأحياء الشعبية الباريسية الذي يسكنه - في الإطار السينمائي - تجار المخدرات وبائعات الهوى من الأصول المغاربية. في خلال أربعة أعوام، انتجت السينما الفرنسية أكثر من خمسين فيلماً بسيناريو مشابه لفيلم "المخبر"، حيث رجال القانون في مواجهة مجموعات من الخارجين عليه من ذوي الأصول المغاربية الذين تلاحقهم الشرطة في قلب باريس".

المواطنة وتطبيع العربي المهاجر

بعد أكثر من خمسة عشر عاماً من الاضطرابات في ضواحي باريس التي باتت تعج بالمساكن الفقيرة حيث تتركز فيها طبقة من المهاجرين والفرنسيين الفقراء، جاء ماتيو كاسوفيتس بأحد أهم الأفلام عن هذه الطبقة وصراعها مع الحياة ومشاكسات الشرطة الفرنسية. انه فيلم "الكراهية" (1995) الذي يروي قصة ثلاثة من الأصدقاء الشباب أولهم يهودي أبيض عنيف الطباع، ثانيهم عربي مسلم، وثالثهم افريقي أسود البشرة. ثلاثتهم مهمشون تربط بينهم صداقة حميمة وكراهية شديدة لرجال الشرطة الذين تسبب أحدهم في إصابة مواطن شاب من أصل عربي. أثار هذا الحادث اضطرابات شعبية فقد فيها الشرطي سلاحه قبل أن يعثر عليه الشاب اليهودي متوعداً بأن ينتقم للعربي المصاب.

الحدث الذي يهمّنا في هذا الفيلم هو التحول الأهم في بناء الشخصية العربية. فخلافاً لما سبقه من أفلام، العربي هنا ليس مواطناً أجنبياً خالصاً ولا هو بفرنسي. انه مزيج من الاثنين: عربي ولكن فرنسي النشأة. تالياً، ليس بهذا الأجنبي الخارج على القانون كما كانت الحال سابقاً. هو خارج عن القانون رغماً عنه لأن المجتمع يتعامل معه بحذر، والدولة لا تهتم به البتة بل تتركه ضحية للعنف والإهمال رغم تمتعه بالجنسية الفرنسية. من هنا تحديداً تبدأ السينما في التعامل مع العربي الموجود على أراضيها ولن تحتاج إلا في ما ندر إلى البحث عن عربي تجتاز من أجله البحر المتوسط كي تصوره في بيئة مغايرة بملابس فولكلورية وبلكنة مثيرة للسخرية، وتجد البديل تلقائياً في الفرنسيين المغاربة.

العربي الجديد ورفض النمطية

يعود الفضل في عملية الإسراع في محو النمطية عن العرب في السينما الفرنسية إلى سلسلة أفلام "تاكسي" الشهيرة التي أنتجها لوك بوسون وظهر جزئها الأول في العام 1998. دانيال (سامي ناصري) ترك وظيفته كعامل توصيل لطلبات البيتزا الى المنازل كي يعمل سائق تاكسي ويمارس هوايته في القيادة كأنه أحد سائقي الـ"فورمولا وان". خلال استعراضه مهاراته في القيادة في شوارع مرسيليا أمام الشرطي إيميليان، يقوده الأخير إلى قسم الشرطة ويبتزه كي يتعاون معه وإلا سيكون عليه دفع غرامات كبيره بسبب قيادته السريعة. من هنا يتعاونان حتى يلقي إيميليان القبض على احدى العصابات التي كانت تخصصت في سرقة المصارف.

يرمز دانيال الى اصوله المغاربية بارتدائه قميص زين الدين زيدان ويرمز الى نادي مرسيليا أيضاً بارتدائه قميص النادي. دانيال، هذا العربي "شكلاً"، الخارج على القانون، يتعاون مع الشرطة من أجل مصلحة الوطن ويشارك في إيقاف الأشرار.

نجح الفيلم في استقطاب الجمهور الفرنسي الى الصالات، ما ساعد في رسم صورة جديدة للعرب الفرنسيين. لكن ما قد نعيبه على هذه الشخصية أنها رغم رفضها النمطية جاءت كأنها رفض للعربي التقليدي الذي هو، غالباً مسلم، وغالباً ملتزم ومحافظ. نجد الشخصية نفسها لاحقاً في "اهرب سريعاً" (2007)، لكنها تأتي عربية صريحة حيث يؤدي رشدي زمّ شخصية ماريك، شرطي فرنسي من أصل عربي يتسلل الى قلب إحدى العصابات بهوية عربية زائفة، مخاطراً بحياته من أجل فرنسا حتى يتمكن أخيراً من ضبط أفراد العصابة. هنا أيضاً تحولٌ آخر، فالعربي ليس فقط يلتزم القانون الفرنسي ويندمج مع المجتمع بل يطبق القانون لحماية الدولة التي ينتمي اليها. بين الفيلمين يسطع نجم من باتوا أعلاماً في السينما الفرنسية، كعبد اللطيف كشيش ورشيد بو بشارب وغيرهما، وهؤلاء سيحصدون أرفع الجوائز عن أفلامهم التي تتناول إشكاليات الهوية والاندماج والمعاناة والحب والحرب.

الانسلاخ من الهوية

بعد معارك طويلة ناضل من خلالها العرب كي يندمجوا في المجتمع الفرنسي وبعد أن آمن الكلّ بأن المهاجر ليس مرادفاً للمنعزل عن المجتمع، كان لا بد أن تأتي نظرة نقدية لا على العرب ولا على الإسلام ولكن على بعض التصرفات الحمقاء مثل رفض الاندماج والجهاد ومن ثم إعلان الحرب على الدولة الفرنسية ومجتمعها وهذا ما رأيناه في جريمة "شارلي ايبدو". عن مثل هذه التصرفات أيضاً خصصت السينما الفرنسية مساحة وإن كانت محدودة جداً.

المحاولة الأخيرة لرصد التحولات في الإندماج العربي جاءت في "الانسلاخ" (2011) لفيليب فوكون الذي تدور حوادثه في الشمال الفرنسي وتحديداً في إحدى ضواحي مدينة ليل. ثلاثة من الفرنسيين المغاربة (علي وناصر وحمزة) يعانون من البطالة والتمييز. في ظلّ هذا الحاضر الشاق والمستقبل القاتم، يتعرفون إلى جمال، جهادي يقدمه الفيلم في صورة أبعد ما تكون عن الصورة الرائجة للإرهابيين. شاب ثلاثيني يرتدي البنطلون والـ"تي شرت" ويتحدث الفرنسية بلا أدنى لكنة. لكن يسيطر جمال على فكر هؤلاء الشباب ويستغل بحثهم عن هويتهم والبطالة، فيجندهم لكي يقوموا بعملية انتحارية في مقر حلف الأطلسي في بلجيكا.

لا يقصد الفيلم الدعاية ضد الإسلام كما قد يظن البعض، بل يدين المجتمع الذي يترك الشباب ضحية أوهام كالجهاد. أما عن صورة العربي في الفيلم فنحن في صدد تجسيد للعربي التائه الذي يلفظه المجتمع بعنصرية غير مسؤولة فيلجأ الى أكثر الأساليب قسوة ويبدأ تدريجياً في الإنسلاخ من المجتمع الذي لم يعرف سواه بل ويناصبه العداء. هناك أيضاً صورة إيجابية وشاعرية لإمرأة عربية هي أمّ أحد هؤلاء الشبان، نراها تؤمن بإسلام وسطي وتحاول جاهدة صرف تلك الأفكار الحقودة عن فكر ابنها من دون أن يثنيها هذا عن عملها الشاق في تنظيف غرف الفنادق.

في النهاية، نجد أن صورة العربي في السينما الفرنسية شهدت تطوراً كبيراً وطبيعياً على مدى أكثر من أربعين عاماً تحولت فيها من الصورة المستشرقة التي تصوّر المنطقة العربية باعتبارها أماكن استوائية متخلفة مثيرة للسخرية، قبل أن تبلغ حقيقة ان العربي كائن يخطئ ويصيب ويتأثر بالمجتمع المحيط به، فإن توافرت له الظروف والمناخ المناسب تحول عنصراً ناجحاً من عناصر المجتمع، وإن لم يتوفر ذلك اصبح مثله مثل الفرنسي التائه.

"من أجلكم" رسالة هادفة في زمن القيم المهددة

المصدر: "دليل النهار" - جوزفين حبشي

قبل 2015 عاماً، عُلّق السيد المسيح على الصليب من اجلنا جميعاً، ليفدينا ويخلصنا من خطايانا. ترى هل تتخيلون الحقيقة الصادمة التي تواجه يسوع المسيح، لو اراد اليوم مثلاً، وبعد 2015 سنة على فدائه للبشرية، أن ينزل عن خشبته المقدسة ليرى ما حلّ بشعبه الذي افتداه بروحه؟ الممثل شادي حداد الذي لم يتخيّل يوماً أنه قد يتجرأ ويتخطى رعبه من تجسيد شخصية الرمز الاقدس لمسيحيي العالم كله، تخيّل قبل خمسة اعوام هذه الفكرة المبتكرة التي تحمل نظرة مختلفة الى الآلام. الفكرة تحوّلت مع المخرج الأب الكرملي شارل صوايا شريطا حمل عنوان "من اجلكم"، بعدما نجح حداد قبل عامين تقريباً في تأمين التمويل الذي تولى قسمه الاكبر رشيد رزق احد الشركاء في شركة Juntbox Films Los Angeles.

عودة الاب صوايا الى الاخراج بعد دخوله الدير ليست مناطة فقط بروحانية هذا العمل الديني، فهو اكد انه مستعد لاخراج اي عمل آخر تتوافر فيه القيم الانسانية والرسالة الوجدانية مثل "من اجلكم". و"من اجلنا" جميعاً صُلب السيد المسيح، و"من أجله" وحده يقدم كلّ من الممثل شادي حداد والمخرج والمعدّ الأب شارل صوايا برؤية حديثة شريطا دينياً قصيراً (مدته 13 دقيقة)، لكن مشواره سيكون طويلاً جداً على طريق النجاح، مع كل مقوّماته الفنية العالية. نبدأ باللغة المشهدية السينمائية المتقنة والراقية التي ادارها باحتراف كبير مدير التصوير ميلاد طوق في مناطق الأرز وضهر القضيب ودير سيدة المعونات في جبيل، والتي طعّمت ببعض اللقطات الارشيفية من محطة LBC. اما الاداءات فتثير القشعريرة في الابدان، وخصوصاً أداء شادي حداد الذي لا نستطيع سوى ان نقول "السلام" على الشخصية التي يجسدها وعلى نظراته المعجونة بالألم وتعبيراته المؤثرة وأدائه المقنع والصعب لهذا الدور الذي قد يحصره لاحقاً في خانة محددة.

يقول حداد: "لم تكن الفكرة مجرد عرض لآلام المسيح او حتى رغبة مني فقط في تحقيق حلم تمثيل دور المخلص بل رسالة هادفة في زمن باتت فيه القيم الانسانية في مرحلة الخطر". أيضاً تتألق الممثلة ميرانا نعيمة في تجسيد امومة السيدة العذراء ووجعها، وهي ملائمة للشخصية بعدما أدّت في السابق دور القديسة رفقا في تليفيلم "لتكن مشيئتك". كما يتميّز الفيلم بالفكرة المبتكرة في تقديم الآلام بنظرة حديثة، فكما قال المخرج الأب شارل صوايا "دائماً نسمع الناس يقولون، يا ليت السيد المسيح يتجسّد الآن. طيب ماذا سيتغيّر لو عاد الينا اليوم؟ الانسان لا يزال انساناً وخطاياه لا تزال موجودة". ويتابع شادي حداد: "البارحة واليوم وغدا، الخطيئة ستظل موجودة، وحده القربان المقدس والايمان بالله هو خلاصنا. هذه هي رسالة الفيلم".بدورها الديكورات جميلة فيها خشوع وتقشف، والماكياج الفني متقن مثل الملابس والموسيقى التي تضفي على الشريط روحانية قصوى. لكن ليت القيمين اكتفوا بإيقاعات الـ "فوكاليز" (تمارين الصوت) التي منحت الشريط سمواً واختلافاً في دقائقه الاولى (أداء عبير نعمة)، ولم يلجأوا في دقائقه الأخيرة الى اعتماد الترانيم والتراتيل التقليدية التي لم تخدم كثيراً الرؤية المبتكرة لمفهوم الآلام كما هي مقدمة. ويبقى الأهم، المباركة التي نالها الفيلم من البابا فرنسيس يوم قدمه اليه كل من صوايا وحداد في روما، والمشاركة قريباً في المهرجان المسيحي العالمي في فلوريدا، بعدما اختير مع 40 شريطا اخر للمنافسة على جائزة المهرجان الذي توافد اليه هذه السنة 400 فيلم من ارجاء العالم كافة. ليس هذا فحسب، إذ من المهم ايضاً التنويه بالدعم الكبير الذي قدمته شبكة صالات غراند لهذا الفيلم القصير بعدما آمنت به وبرسالته الانسانية والدينية والاجتماعية، وقررت الاستغناء عن الشريط الدعائي لمجموعة الافلام المتوقعة في صالاتها والذي يسبق عرض فيلم A Little Chaos، لتعرض مكانه "من اجلكم" في اسبوعي الآلام لكل "المؤمنين" بسينما تحمل رسالة. وكانت غراند قد استبقت بدء العروض التجارية في 26 اذار الجاري، بافتتاح خصص لأهل الصحافة والفن، جرى ليل الاثنين 23 اذار الجاري في صالاتها في مجمع ABC ضبيه، برعاية البطريرك الراعي، وبمشاركة جوقة مدرسة بعبدا للضرير والأصم.

A Little Chaos حدائق لويس الرابع عشر تزهر شغفاً

المصدر: "دليل النهار" - جوزفين حبشي

بعد فيلم The Winter Guest الذي خطا من خلاله آلن ريكمان خطوته الاولى على درب الاخراج السينمائي عام 1997، يثبت الممثل البريطاني من خلال تحفته الاخراجية الثانية A Little Chaos أنه لم يكن مجرد Guest أو ضيف في عالم الاخراج.

دراما تاريخية جميلة لا تخلو من الطرافة من اخراج "ساحر" سلسلة Harry Potter وبطلها، لن تسحر عشاق زمن الملوك الفرنسيين والزراعة والحدائق فحسب، بل عشاق السينما المبنية على حبكة ممتعة ممزوجة بالرومانسية والمؤامرات ومواجهة المخاوف والتحديات، وعلى حوارات ذكية فيها الكثير من الرمزية حيناً (مشهد تشبيه المرأة بالوردة) والاستمتاع اللذيذ احياناً اخرى (مشهد سابين عندما ظنت الملك هو مسؤول الحديقة) وتصوير عابق بالاناقة وبجمال حدائق قصر فرساي الاسطورية، واداءات قوية ومؤثرة.

آلن ريكمان المخرج والممثل في الفيلم، أحاط نفسه وشريطه بباقة من اهم الممثلين الموهوبين امثال ابنة بلده الفائزة بالأوسكار كايت وينسلت المثالية في شخصية مختلقة لم تكن طبعاً موجودة في حقبة الملك لويس الرابع عشر. شخصية وهمية اضيفت الى الشخصيات التاريخية، فحررت الفيلم من القيود الواقعية البحتة وجعلته يحلق في دنيا الخيال الممتع، وخصوصاً أن شخصية منسقة الحدائق سابين بارا التي تؤديها وينسلت، مختلفة وتسير عكس التيار، وهي مسكونة بالحزم والشجاعة والشغف ومعجونة بالقلق والالم نتيجة مأساة عائلية. شخصية تعيد وينسلت الى الحقب القديمة التي اشتهرت بأدائها في بداياتها، لكنها هذه المرة لن تكتفي بارتداء الفساتين الطويلة والانيقة، بل تنتعل الاحذية والكفوف وتغطس في الوحل وتقلّم الزرع وتنزع الشوك بمنتهى الاتقان الممزوج بالرقة الآسرة. والى جانبها، الممثل البلجيكي ماتياس شونارتس الذي شكّل معها ثنائياً متناغماً ومحاطاً بكثير من الشغف والحنان والشرقطة، اضافة الى البارع ستانلي توتشي الذي بدا مستمتعاَ باداء دور الدوك فيليب دورليانز المثلي وشقيق الملك لويس الرابع عشر (آلن ريكمان) المهووس بالحدائق الجميلة. الملك مصمم على جعل حدائق قصر فرساي الاجمل في العالم، لذلك يطلب من المسؤول عن حدائقه اندريه لونوتر (ماتياس شونارتس) ابتكار جنة عدن. لاتمام المهمة يطلب اندريه مقابلة أهم منسقي الحدائق في فرنسا، وحباً بالتجديد والاختلاف، يوافق على توظيف منسقة المناظر الطبيعية الارملة سابين بارا (كايت وينسلت) ويوكل اليها مهمة الاهتمام بصالة الرقص الخارجية. صحيح أن اساليبهما متناقضة ونظرتهما مختلفة في العمل، الا ان هذا لن يمنع انجذاب عاشقي الحدائق الى بعضهما البعض رغم معاناة اندريه الزوجية مع امرأة تهتم بالمصالح اكثر من الحب (هيلين ماكروري) ومأساة سابين العائلية. ورغم موهبة سابين الكبيرة، تدرك ان مهارتها وحدها لا تكفي لتخطي المؤامرات التي تنصب لها على طريق القصر. عليها ان تتعلم كيف تتخطى العراقيل الاجتماعية المرتبطة بكونها امرأة في عالم يحكمه الرجال، وكيف تكسب ثقة الملك ونساء البلاط وتوصل علاقتها باندريه الى برّ الأمان.

Ex-Machina المرأة هي المرأة... ولو الكترونية

المصدر: "دليل النهار" - جوزفين حبشي

الروبوطات المزودة ذكاء اصطناعيا كبيرا ومشاعر انسانية مؤثرة تنافس كبار نجوم هوليوود في عقر دارهم السينمائية هذه الفترة. بعد "شابي" الروبوط الطفل الانساني الذكي والطيب والحنون الذي تعاطفنا معه كثيراً في فيلم Chappie من اخراج نيل بلومكامب، حان الوقت لنلتقي "ايفا" نجمة فيلم Ex- Machina من اخراج البريطاني الكس غارلند في اولى تجاربه الاخراجية بعدما اشتهر بكتابة سيناريوات أفلام ثريلر وخيال علمي مثل The Beach و28 Days Later وSunshine وكلها من اخراج داني بويل.

"ايفا" (تؤدي دورها أليسيا فيكاندير) لا تشبه حبيبة روبوط الانيمايشن الشهير Wall-E، فرغم نعومتها وجمالها واحاسيسها الانسانية الجياشة، الا انها تتمتع بذكاء جهنمي وخطط بعيدة عن البراءة التي تحاول أن تقنع بها كلا من الجمهور، ومبرمج الكومبيوتر الشاب كايلب (دومنال جليسون). كايلب يحضر لاختبار انسانية هذه الروبوط بعدما اختاره لهذه المهمة مديره ومخترع "ايفا" عبقري البرمجة الالكترونية الميلياردير نايثن (أوسكار إيزاك) الذي يعيش معزولاً في قلعة الكترونية محصنة وسط الجبال. كايلب يقع في غرام "ايفا" (كما في شريط Her)، ويسعى الى تحريرها من سجنها ومن تلاعب نايثن بمصيرها، من دون ان يدرك انها اذكى من ان تسمح لاحد بالتلاعب بها، وانها قادرة على ادخال الجميع في سجن لا خروج منه.

رغم موازنته المتواضعة (13 مليون دولار فقط) وتصويره على طريقة "وي ــ كلو" داخل منزل مجهّز بتكنولوجيا عالية، يعتبر فيلم Ex Machina من اهم الافلام الخيالية العلمية التي تتناول الذكاء الاصطناعي، واكثرها قدرة على الغوص في العمق من دون ان تفقد طرافتها وتشويقها ومن دون أن تجعلنا نتوقع مفاجآتها. خيال علمي، ذكاء اصطناعي، ثريلر وتشويق وتوتّر، حب ورومانسية وتلاعب بين ثلاث شخصيات، سيناريو عميق ذكي وطريف، تصوير مثير، مؤثرات مشهدية مغلفة بالرقي والفخامة، ديكورات متأثرة بالثقافة اليابانية وغارقة في برودة تكنولوجية ومناخات قمعية، اخراج متقن بتقطيعه واطاراته رغم بعض البطء في الايقاع، وخصوصاً تمثيل بارع. أوسكار إيزاك يثير القشعريرة في الابدان بادائه الموتّر المغلف بهدوء فيه جنون غير متوقع، وابتعاد عن الانسانية التي يسعى الى خلقها لدى آلاته، ولحيته الكثيفة وعضلاته البارزة، وهو بذلك يجسد شخصية بعيدة ومختلفة عن دوره فيA Most Violent الذي تابعناه قبل اشهر. بدوره دومنال جليسون الذي اشتهر من خلال سلسلةHarry Potter، مقنع بدور المبرمج الشاب الذي تتلاعب بذكائه واحاسيسه الروبوط الناعمة "ايفا" التي تؤدي دورها ممثلة غير معروفة سبق وشاركت في فيلم Anna Karenina لجو رايت، هي أليسيا فيكاندير الساحرة بجمالها الناعم، وادائها المؤثر والملوّن بتمزقات عديدة تعيشها شخصيتها الالية في طريقها للتحوّل انسانة.

النهار اللبنانية في

25.03.2015

 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2014)