كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

رؤى نقدية

 
 
 
 
 

محاكمة فيفيان إمسالم..

النسخة الإسرائيلية من “أريد حلا” (1 من 2)

بلال فضل – التقرير

 

هذا فيلم جريء في تعريته للواقع الاجتماعي الإسرائيلي، ونقده لسيطرة الحاخامات والفكر المتشدد على كثير من أفراد المجتمع الإسرائيلي، لكن أجمل ما فيه أنه لا يقول كل ذلك بشكل مباشر، بل يرويه من خلال قصة معاناة بطلته فيفيان إمسالم الإسرائيلية من أصل مغربي، التي تدرك أن عشرتها مع زوجها صارت مستحيلة، ولم يعد فيها مجال للصبر والرضا بالقليل، فتلجأ إلى ما يشبه المحكمة الشرعية لدينا قديمًا، وهي محكمة مكونة من ثلاثة حاخامات، من حقها أن تمنح الزوجات ما يعرف بالـ “جيت” أو إجازة الطلاق؛ لأن الشريعة اليهودية لا تعترف سوى بشكل وحيد لحصول المرأة على الطلاق، وهو أن يوافق الزوج على ذلك ويمنح زوجته “الجيت” بعد طقوس شديدة الغرابة، لكن زوج فيفيان وهو أيضًا من أصل مغربي، يرفض منحها إذن الطلاق، ومع ذلك فهو يحضر جلسات المحكمة؛ لأن القانون يلزمه بحضورها، ولأن لديه أملًا بأن يقنع الحاخامات زوجته بالتراجع عن فكرة الطلاق، وحتى حين يمتنع عن حضور الجلسات، يصدر الحاخامات أمرًا بالقبض عليه، وحين يتعرض لتجربة السجن، يتعلم كيف يعاود حضور الجلسات، ومع ذلك يستمر في عرقلة جهود الحاخامات لتسريع عملية الطلاق، فتستمر محاولتها في الحصول على الطلاق أكثر من خمس سنوات، تدور خلالها أحداث الفيلم.

لا تدع عادية مضمون الفيلم تخدعك، وتصور لك أنك سترى فيلمًا عاديًا مكرر الأحداث، فأجمل ما في الفيلم أن مخرجيه الأخوين شلومي الكابيتز ورونيت الكابيتز، والأخيرة هي بطلة الفيلم أيضًا وواحدة من أهم ممثلات السينما الإسرائيلية، قررا خوض تحدٍ فني بأن تدور أحداث الفيلم كلها في قاعة المحكمة وغرفة الانتظار الملحقة بها، دون أن تخرج الكاميرا إلى الخارج ولو حتى في مشاهد فلاش باك، ولأن تحديًا كهذا كان يمكن أن يجعل الفيلم منفرًا وثقيلًا على المشاهد، أتصور أن صناع الفيلم وضعوا في بالهم بالتحديد تجربة الفيلم الأمريكي الشهير (12 رجلًا غاضبًا) للمخرج العظيم سيدني لوميت، والذي تدور أحداثه بالكامل داخل قاعة يجتمع فيها المحلفون في محكمة أمريكية، حيث تمكنت قوة الأحداث وإجادة الممثلين في الإمساك بتفاصيل شخصياتهم، في تعويض المشاهد عن الجرعة البصرية التي فقدها ببقاء الكاميرا طيلة وقت الفيلم داخل ديكور داخلي.

وهو ما حدث في فيلم “جيت” أيضًا، الذي حصل على أهم الجوائز السينمائية الإسرائيلية في العام الماضي، وكان مرشح إسرائيل في مسابقة أوسكار أحسن فيلم أجنبي، حيث تم فيه رسم الشخصيات ببراعة فائقة، ساعدت كل ممثل على أن يمسك بشخصيته جيدًا ويتفوق في أدائها، ليس فقط بحواره وإنما بنظراته وصمته، وربما كان أبرز مثل على ذلك شخصية الزوج الذي يرفض الطلاق، والذي ظهر صامتًا أغلب أحداث الفيلم، وهو يتابع محاولات زوجته وأقاربها للإفلات من سجن زواجه، مكتفيًا بتصويب نظرات كراهية فائقة لزوجته، تتحول أحيانًا إلى نظرات دهشة من إصرارها على تركه، وتظهر للحظات ملامح حنين إليها سرعان ما يخفيها بالعودة إلى تصويب نظرات الكراهية والغضب، لترد عليه زوجته بنظرات مماثلة مركبة المشاعر، ولتمتزج تلك اللقطات التي تم تقطيعها ببراعة، مع جو المعركة الدائرة بين محامي الزوجة ومحامي الزوج الذي هو في نفس الوقت أخو الزوج الأكبر واليهودي المتشدد في تدينه، والذي يحاول وضع نفسه في درجة دينية لم يكتسبها بعد، ومع ذلك فهو لا يتورع عن استخدام كافة الأسلحة ضد محامي الزوجة، حتى لو وصل الأمر إلى اتهام الزوجة بأنها على علاقة جنسية مع محاميها، وهذا ما يدفعها إلى الإصرار على طلب الطلاق من أخيه.

بعد فترة بسيطة من مشاهدة (جيت: محاكمة فيفيان إمسالم)، ربما تتذكر مثلي فيلمين سيحضران إلى الذاكرة بإلحاح، أولهما الفيلم المصري الجميل (أريد حلًا) الذي أخرجه وكتب له السيناريو الفنان الكبير سعيد مرزوق عن قصة واقعية كتبتها الصحفية حسن شاه ومن بطولة سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة والنجم رشدي أباظة وحوار سعد الدين وهبة وإنتاج الممثل القدير صلاح ذو الفقار رحمهم الله جميعًا، والذي دارت كثير من مشاهده في قاعات محكمة الأحوال الشخصية، التي رأينا فيها كيف تحاول الزوجة باستماتة أن تحصل على الطلاق من زوجها المتعنت، الذي يشك في كونها على علاقة عاطفية تجعلها ترغب الطلاق منه، وخلال رحلتها المريرة في أروقة المحكمة والتي استمرت أربع سنوات كاملة، يستعرض الفيلم ببراعة قصصًا مختلفة، تظهر تلاعب الرجال بأحكام القانون المستمدة من مواد الشريعة الإسلامية من أجل قهر النساء والسيطرة عليهن، وينتهي بفشل البطلة في الحصول على الطلاق، وأنها لا تجد حلًا سوى أن تبدأ رحلة رفع دعوى قضائية جديدة لطلب الطلاق، ليثبت الكادر الأخير في الفيلم على فاتن حمامة وهي تبكي بحرقة وقد كتب على الشاشة عبارة (وبعد عشر سنوات لا زالت المحاكم تنظر هذه القضية حتى الآن)، وقد حقق الفيلم نجاحًا كبيرًا بعد عرضه، لدرجة أنه ساهم في دفع حركة تغيير بعض مواد قوانين الأحوال الشخصية في مصر.

الفيلم الثاني الذي سيحضر إلى الذاكرة، هو فيلم (انفصال نادر عن سيمين) للمخرج الإيراني أصغر فرهادي، والذي حصل في عام 2012 عن جدارة على جائزة أوسكار أحسن فيلم أجنبي وجائزة الجولدن جلوب لأفضل فيلم أجنبي وقبلها على جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين الدولي وحصل طاقم تمثيله على جائزة الدب الفضي لأحسن ممثلين، وهو أيضًا تدور أحداثه في محكمة شرعية، حيث نرى الزوجة وهي تستميت للحصول على الطلاق من زوجها، لكي تتمكن من السفر إلى الخارج، بينما يرفض الزوج الطلاق من زوجته التي يحبها، لحرصه على البقاء في إيران لمراعاة والده المريض بالزهايمر.

والحقيقة أنني كنت أتخيل أن فيلم (انفصال) الإيراني كان ملهمًا لصناعة فيلم (جيت) الإسرائيلي، وأن فكرة صنعه ربما جاءت بعد مشاهدة الفيلم الإيراني الجميل؛ إلا أني حين قرأت بعدها عن تجربة الأخوين الذين أخرجا فيلم (جيت)، قرأت أنه الجزء الثالث من ثلاثية سينمائية ظهر جزؤها الأول عام 2004 بعنوان (لكي تتخذ زوجة)، وظهر جزؤها الثاني في عام 2008 بعنوان (سبعة أيام)، لم أعثر على الفيلم الثاني، لكني وجدت الفيلم الأول والذي يظهر بداية تأزم العلاقة الزوجية بين فيفيان إمسالم وزوجها إليشا، والذي لعب دوره في ذلك الفيلم كما في فيلم (جيت) بالطبع، الممثل الفرنسي من أصل أرمني سيمون أبكاريان، والذي يبدو أن الاستعانة به تمت لوجود شريك إنتاج فرنسي في الأفلام الثلاثة، بالإضافة إلى كونه وجهًا سينمائيًا معروفًا في العديد من الأفلام العالمية، من بينها فيلم (كازينو رويال) أحد أفلام سلسلة جيمس بوند الشهيرة، والذي ساعدته نشأته في دول وثقافات كثيرة على لعب شخصيات تنتمي إلى جنسيات مختلفة، حتى إنه لعب في العديد من الأفلام دور العربي؛ لأن والده لبناني الجنسية، وكان قد عاش معه فترة في لبنان، ثم غادرها إلى فرنسا مع والدته بعد اندلاع الحرب الأهلية، وربما لذلك جاء حواره في فيلم (جيت) بالذات يغلب عليه النطق بالفرنسية، وقليل من العامية المغربية وقليل من العبرية؛ لأن الشخصية التي يلعبها من أصل مغربي، وحديثها بالفرنسية أمر متوقع، بل إن الممثلة التي لعبت دور والدته العجوز في الفيلم الأول، لم تكن تتحدث سوى العامية المغربية، وهو ما تم اختياره لتأكيد العزلة التي تعيش فيها في بيت ابنها، ووجود قدر كبير من التباعد والجفاء بينها وبين زوجة ابنها.

في الفيلم الأول من الثلاثية التي تروي رحلة فيفيان مع الطلاق، يبدأ الفيلم بمشهد نرى فيه فيفيان محاطة بإخوتها اليهود المغاربة الذين يتحدثون معها بخليط من العبرية والعامية المغربية، وهم يهاجمونها بشدة ويتهمونها بالجنون؛ لأنها تريد أن تنفصل عن زوجها إليشا الذي يصفونه بالتدين والخوف من الله والطيبة، ويثنون عليه لأنه يوفر لها حياة كريمة، ويذكرونها بالمعاناة التي يمكن أن تدمر حياتها إذا طلبت الطلاق، هذا إذا استطاعت أصلًا الحصول عليه، وينتهي المشهد باستسلامها لتلك الضغوط، لنرى كيف تعيش حياتها الزوجية المتأزمة في شقتها الصغيرة بحيفا، خلال ثلاثة أيام تسبق يوم السبت الذي يرفض زوجها فيه كأي يهودي متدين الخروج من المنزل، ويمتنع عن الذهاب للفسحة معها ومع أولادها الأربعة الذين تعاني من أجل تربيتهم، لدرجة أنها تساعد زوجها بتحويل قسم من الشقة الصغيرة إلى محل كوافير تقوم فيه بتزيين جاراتها، ويبدو الزوج في الفيلم رجلًا تقليديًا جدًا ليس فيه ما يعيبه ولا ما يميزه.

ونكتشف مع تطور أحداث الفيلم الذي تدور أحداثه في عام 1979، أن حبيب فيفيان السابق يظهر فجأة بعد عودته إلى إسرائيل، ويطلب أن يلتقي بها لأنه مشتاق إليها، وتعيش صراعًا مع نفسها الأمارة بالعشق ومع رغبتها الملحة في رؤيته، ولا يبدو أنها مشغولة بإخلاصها لزوجها الذي لا تحبه، بقدر ما هي خائفة من تداعيات لقائها به وافتضاح أمرها لزوجها وأسرتها، لكنها وبرغم كل المحاذير تضعف في النهاية وتلتقي به، دون أن يحدث بينهما اتصال جسدي، ويودعها حبيبها بعد لقاء رومانسي عاصف، لتعود ثانية إلى حياتها الزائفة التي تتظاهر فيها بأنها زوجة محبة لزوجها؛ لأنها تعرف أن الطلاق من زوجها الذي يبدو مثاليًا للجميع، ليس سوى حلم يستحيل الحصول عليه، في المجتمع الإسرائيلي المتدين.

لم أشاهد الفيلم الثاني الذي يحمل عنوان (سبعة أيام) لكني قرأت أنه يقدم ما يحدث لنفس الأسرة بعد وفاة إحدى إخوة فيفيان، حيث تُجبر الأسرة بأكملها على البقاء في المنزل طبقًا لتقليد “الشيفا” اليهودي، الذي يجبر الأسرة على البقاء سبعة أيام كاملة في المنزل، إذا توفي أحد أفراد العائلة، وبرغم أن الفيلم يروي للمشاهدين، كيف حدث انفصال غير رسمي بين الزوجين، ابتعد فيه الزوج عن أي علاقة مباشرة مع زوجته، وأصبح يعيش في مكان آخر خارج البيت؛ إلا أن الزوجة لا زالت واقعة تحت قبضة الزوج الخانقة ماديًا ومعنويًا.

ومن هنا يأتي الفيلم الثالث (جيت: محاكمة فيفيان إمسالم)، ليروي لنا كيف لا زالت بعد عشرين سنة تحلم بالطلاق، وكيف قررت هذه المرة ألا يظل سعيها للطلاق مقصورًا على نطاق الأسرة، بل أن تذهب إلى جهة الاختصاص لتحصل على الطلاق بشكل رسمي، وتناضل من أجل ذلك مهما تكلف الأمر، مع أنها تعلم أن معركتها لن تكون سهلة، خاصة أن زوجها يحبها حب تملك، ولا يتصور أن تكون لرجل من بعده، لدرجة أنه بعد مرور أربع سنوات كاملة من العذاب والشحططة في المحاكم، وحين يوافق أخيرًا على أن يطلقها بضغوط من الأسرة، وحين يقف أمام هيئة الحاخامات ليمليه كبيرها النص الديني الذي “يتعهد فيه بأنه يطلقها، وأنها بعد ذلك الطلاق تصبح متاحة لأي رجل يرغب فيها”، يبدو كأنه اكتشف شيئًا لم يكن يخطر على باله، وهو أن هذه المرأة التي أحبها يمكن أن يلمسها أحد غيره؛ ولذلك يرفض الطلاق في آخر لحظة، فتنفجر فيه هيئة الحاخامات التي تحولت معاناة فيفيان معه، إلى معاناة لها هي أيضًا.

ونكمل غدًا بإذن الله.. 

التقرير الإلكترونية في

18.03.2015

 
 

محاكمة فيفيان إمسالم..

النسخة الإسرائيلية من “أريد حلا” (2 من 2)

بلال فضل – التقرير

حين تشاهد الفيلم الأول من ثلاثية الأخوين شلومي ورونيت الكابيتز (لكي تتخذ زوجة)، بعد مشاهدتك للفيلم الأخير من الثلاثية (جيت: محاكمة فيفيان إمسالم)، ستدرك أن الفارق الكبير بين أسلوب تناول وإخراج الفيلمين، لا يعود فقط إلى وجود اختلاف في القصة التي يحكيها كل فيلم، بقدر ما يرجع إلى وجود فارق كبير في المهارة الفنية لصالح الفيلم الأخير، حيث ظهر جليًا النضج الفني للمخرجَين عبر السنين، حيث استطاعا وبتميز شديد نقل الصراع النفسي المعقد الذي يدور بداخل البطلين الزوجين، دون أن يهربا إلى أداة الفلاش باك أو يعبرا عن ذلك من خلال أداة الحوار، خاصة أن وضعهما في المحكمة لا يتيح لهما الكلام إلا حين يطلب منهما الحاخامات القضاة ذلك، وهو أمر لم يكن ممكنًا تحقيقه بفضل براعة الممثلين الرئيسيين فقط؛ بل ولأن كل العناصر الفنية ساعدتهما على ذلك، ومن أهمها تميز عنصر التصوير والإضاءة الذي أداره مدير التصوير الفرنسي جياني لابويرييه والذي اشتهر بتصويره لأهم أفلام المخرج الفرنسي الشهير فرانسوا أوزون.

بدا واضحًا أن الأخوين الكابيتز أدركا أهمية أن يكون الفيلم الثالث منفصلًا بشكل واضح عن سابقيه، حتى وإن كان امتدادًا لهما؛ لكي يتواصل معه المشاهد الجديد الذي لا يعرف بدايات القصة، ولم يشاهد الفيلم الأول الذي مضى على إنتاجه الكثير، وقد لجئا لتحقيق ذلك بالاستعانة بفكرة وجود شهود أمام المحكمة، ليعرف المشاهد المزيد من التفاصيل عن ماضي الزوجين وعلاقتهما، مع دخول أقارب وجيران الزوج والزوجة الذين يتم استدعاؤهم للشهادة، ويحسب لهما تقنين هذا الحكي بذكاء، لكي لا يبدو مفتعلًا، وليقوم المحاميان والقضاة/الحاخامات بطرح الأسئلة لتسريع الإيقاع، ولكي لا تأخذ الشهادات شكل المونولوجات الطويلة.

جاءت تلك الشهادات مفيدة للتأكيد على البعد الاجتماعي للفيلم، وكونه أبعد من مجرد حالة فردية لأسرة تعيسة، فقد أعطى المشاهد فرصة للتعرف على طريقة حياة وتفكير أقارب وجيران ومعارف الزوجين، الذين لم تكن مصادفة أن يكونوا جميعًا من اليهود المغاربة خصوصًا والشرقيين عمومًا، ولم تكن مصادفة أيضًا أن لا يحكي كل منهم عن علاقته بالزوجين فقط؛ بل يحكي أيضًا عن نفسه وحياته ولو بشكل غير مباشر، فندرك ميل السيدات القادمات للشهادة إلى مساندة الزوجة، حتى ولو بدا في بداية شهادتهن رغبتهن في نصحها بأن تستمر مع زوجها الذي لن تجد نصيبًا غيره، وندرك أيضًا ميل المتشددين دينيًا من الشهود لمساندة الزوج باستماتة، حتى إن أحدهم وهو الجار اللصيق ببيت الزوجين، يرفض أن تقف زوجته للشهادة بمفردها، ويصر أن يقف معها، وتأتي المفارقة في إصرار الحاخامات على أن يتركها تشهد لوحدها ويتراجع إلى الخلف، فيبدو أن خوفه على انفراد زوجته لا علاقة له بالتزامه الديني، بقدر ما يرجع إلى خوفه من أن تبوح بأسرار منزله هو، وحين تأخذ الزوجة راحتها في الشهادة أكثر مما يرغب، يغضب ويغادر القاعة ساخطًا، لنعرف من خلال ذلك المشهد أن رغبة الرجال في التسلط على زوجاتهم باسم الدين والتقاليد أكبر من حالة فيفيان إمسالم وزوجها.

كان أداء بعض الشخصيات التي دخلت للشهادة في قاعة المحكمة مضحكًا للغاية، وأضفى حيوية كبيرة على الفيلم، ومع ذلك فقد بدا حرص المخرجَين على ألا يتم الإفراط في هذه المشاهد، لكي لا تطغى على إحساس المعاناة الذي تشعر به البطلة الباحثة عن الطلاق، والذي يوصلها في نهاية المطاف إلى أن تنفجر في الحاخامات، وتقوم بشتمهم بعد أن فاض بها الكيل؛ لأنهم عاجزون بكل ما أعطوا من سلطة دينية، أن يفرضوا على زوجها التخلي عن تعنته، وإجباره على منحها حريتها من تلك الحياة البائسة التي يعيشانها في ظل الزواج، لكن الفيلم يرينا كيف جاء انفجارها ذلك طارئًا؛ إذ إنها عادت ثانية إلى قاعة المحكمة لتواصل رحلة البحث عن حل؛ لأنها لا تملك سبيلًا آخر لذلك، وأن أقصى ما يمكن أن تقوم بممارسته من تمرد هو أن تقوم بتقصير ملابسها أو الاعتناء بشكلها، لكي تعلن أن لها حضورًا مستقلًا وأن لديها قدرة على السيطرة على جسدها، إذا كانت لا تملك السيطرة على مصيرها نفسه، حتى يرينا الفيلم في نهاية المطاف أنها حصلت على حريتها بعد خمس سنوات من المعاناة والإصرار، ونرى كيف يفرض عليها الطقس الديني لإتمام الطلاق، أن تخرج من القاعة بعد ترديد الزوج لنص منحها الإبراء الكامل، وهي تسير في خطوات وئيدة، ثم تعود ثانية إلى القاعة، لتحصل من الحاخامات على ورقة “الجيت” الرسمية، ولينتهي الفيلم بالكاميرا وهي مثبتة على قدميها وهما تسيران أخيرًا نحو الخلاص من قهر الزوج لها باسم الدين والتقاليد.

تذكرت خلال عدد من مشاهد الفيلم كتابًا شديد الأهمية عنوانه (خلافات المتدينين والعلمانيين في إسرائيل من خلال دراسة مواقف الصحافة العبرية) كان قد ألفه الزميل الدكتور أحمد فؤاد أنور وأصدره المجلس الأعلى للثقافة، وكنت قد ناقشته في مايو 2011، مع مؤلفه في حلقتين متتاليتين من برنامج (عصير الكتب) -ستجد الجزء الأول من الحوار هنا وستجد روابط لباقي الأجزاء في الفيديوهات التي ستظهر إلى جوار فيديو الجزء الأول على موقع يوتيوب، وهو حوار مهم كما أعتقد وأرجو أن تستفيد منه.

كنا قد تحدثنا في تلك الحلقتين عن مشكلة الطلاق التي تحتكرها سلطة الحاخامات في إسرائيل، لدرجة نشوء ظاهرة الزواج في الخارج، التي تجعل كثيرًا من الشباب الإسرائيليين يسافرون إلى قبرص بوصفها أقرب الدول الأوروبية إلى إسرائيل، ليقوموا بالزواج المدني هناك في مكاتب محاماة متخصصة، لكي يتاح لهم الطلاق بعد ذلك بسهولة، بعيدًا عن الذل الذي يعاني منه المتزوجون طبقًا للشريعة اليهودية، وهو ما دفع بالسلطات الإسرائيلية بعد تفاقم المشاكل التي ترتبت على هذه الأوضاع، إلى الاعتراف قانونًا بما يعرف بزواج الإشهار، حيث يتم طلب المحيطين بالزوجين من الجيران والأقارب بل وحتى أصحاب المحلات المجاورة التي يتعامل معها الزوجان، لكي يشهدوا على أن هذين الشخصين يعيشان سويًا وأنهما متزوجان، وهو ما يرتب لهما بعضًا من الحقوق القانونية لهما ولأبنائهما، وهي تفاصيل بالطبع لم يشر إليها فيلم (جيت)؛ ليس فقط لأن أحداثه تدور في نهاية التسعينيات من القرن الماضي، ولكن لأن أحداثه تدور داخل الوسط اليهودي المتشدد دينيًا، والذي يشكل أفراده نسبة تقارب ثلث سكان إسرائيل، وبرغم أن بطلة الفيلم نفسها ليست متدينة؛ إلا أنها في النهاية لا تستطيع الخروج على أعراف الوسط المتدين الذي تنتمي إليه، والذي قبلت الزواج بناءً على تقاليده، وبالتالي لم يعد من حقها أن تحصل على الطلاق إلا بناءً على تلك التقاليد.

كنت يومها قد اخترت عرض ذلك الكتاب في ظل ارتفاع حالة الاستقطاب داخل مصر بين تيارات الشعارات الإسلامية والمخالفين لهم من بقية التيارات؛ لألقي الضوء على وجود مثل ذلك الاستقطاب وبشكل حاد ودائم في إسرائيل، ومع ذلك فقد استطاع الجميع إدارة ذلك الاستقطاب والصراع الحاد بشكل لم يؤد إلى انفجار المجتمع على الأقل حتى الآن، لدرجة أن كل الحكومات الإسرائيلية التي كانت تقام في إسرائيل عبر سنوات، كانت حكومات ائتلافية يتم إنشاؤها “على الحركرك” أحيانًا، كما سيحدث خلال الأيام المقبلة، بعد فوز الليكود بزعامة بنيامين نتنياهو بأغلبية ضئيلة جدًا، ستدفعه إلى أن يسعى لتشكيل حكومته من خلال تفاهمات واتفاقيات انتخابية، كانت عبر تاريخ الاحتلال الإسرائيلي تجعل أحزابًا متصارعة ومتناقضة تتفق أحيانًا من أجل تشكيل الحكومة، في حين لا زلنا نؤمن في أوطاننا التي يحتلها أصحاب المصالح والرتب من أبناء جلدتنا، بنظرية الأغلبية الساحقة الماحقة، ونعتبر الاختلاف والصراع السياسي جريمة تستحق التخوين والتكفير، أو في أحسن الأحوال نعتبره خطيئة مرذولة يجب التوقف عنها؛ ولذلك فإن إسرائيل وبرغم كل ما تشهده من انقسام حاد، استفادت من تداول السلطة والعملية الديمقراطية وحرية الصحافة، ووظفت كل تلك الإجراءات برغم ما بها من عيوب للمصلحة العامة، ونجحت بفضلها في نزع فتيل العديد من الأزمات التي كانت ستؤدي إلى انفجارات سياسية شاملة، ولا أظن أني بحاجة لتذكيرك بمؤشرات التفوق الإسرائيلي على كل الدول العربية في كافة المجالات، والذي تعودنا أن نستسهل ونعزوه إلى وجود دعم دولي سخي لإسرائيل، في حين نرجع تخلفنا وهزائمنا إلى تآمر العالم علينا، وهو منهج في التفكير لم نفكر أبدًا في تغييره بشكل جاد، حتى بعد ثبوت فشله طيلة العقود الماضية، التي لم نزدد فيها إلا هزيمة وتخلفًا.

عند قراءة ذلك الكتاب وتفاصيله المجهولة بالنسبة للكثيرين من أبناء أوطاننا، وعند مشاهدة فيلم (جيت) وغيره من الأفلام الوثائقية والروائية التي تتحدث عن مظاهر التشدد الديني في إسرائيل، ستدرك كيف استطاعت إسرائيل عبر آلاتها الإعلامية المتعددة، أن تصدر صورة مختلفة عن نفسها، بحيث تظهر بوصفها واحة الاستنارة والعقلانية والحرية في الشرق الأوسط؛ ولذلك لن تجد في الصحافة الغربية مثلًا ضجة حول وجود أرصفة مخصصة في جميع الأحياء الإسرائيلية التي يقطنها اليهود المتدينون، لكي تمشي عليها السيدات وحدهن؛ لأن سيرهن مع الرجال على نفس الرصيف يخالف الشريعة اليهودية، حتى لو كان الرجل الذي تسير إلى جواره والدها أو شقيقها، ولن ترى تعجبًا أو سخرية من التعامل الحرفي مع منع الحركة في يوم السبت لدرجة عدم تحرك الإسعاف لدفن 50 قتيلًا في حادث سير وقع يوم السبت، مع أن تلك التفاصيل وغيرها كثير ومثير للسخرية، لو حصل في أي دولة عربية لامتلأت صحف العالم نقدًا لها وسخرية منها.

يمكن بالطبع أن نفهم ذلك التناقض في ظل إدراك حقيقة النفوذ الصهيوني في وسائل الإعلام الدولية، والذي بدأ العمل من أجل تدعيمه عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، لكننا نخطئ لو غفلنا في نفس الوقت عن إدراك ارتباط ذلك بقدرة الدولة الإسرائيلية نفسها على إدارة التعايش بين التناقضات الموجودة داخل المجتمع الإسرائيلي، بحيث تصبح إسرائيل وطنًا يعيش فيه من يحملون هذه الأفكار المتشددة، إلى جوار من يحملون أفكارًا مختلفة ومتحررة، ويمارسون أفعالًا يعتبرها غيرهم من المتدينين إباحية ولعينة وتستحق الإدانة، ومع ذلك لا يبدو أن كل هذه التناقضات تعطل الدولة الإسرائيلية عن سعيها لتثبيت أقدامها على الأرض التي احتلتها وبنت عليها دولتها، لتصبح الحريات السياسية والإعلامية سببًا في التعبير عن حدة الانقسامات السياسية والعرقية والاجتماعية، وسببًا في نفس الوقت في بقائها ضمن إطار اللعبة السياسية التي لا يسمح لأحد بأن يهد قواعدها على رؤوس الجميع.

لا يمكن أيضًا أن نغفل أن كل هذه التناقضات والصراعات تتراجع فورًا إلى مراتب أقل أهمية، حين تتعرض الدولة لحرب أو أزمة خطيرة سواء كانت أزمة حقيقية أم مصنوعة على مقاس النخبة الإسرائيلية الحاكمة، ومع ذلك سيبقى من حق من يريد انتقاد تلك الحرب أو الأزمة، أن يتحرك في الشارع وعبر وسائل الإعلام ضد الحكومة التي تعلن الحرب أو تدير الأزمة، وحين تضع هذه الصورة إلى جوار الصور الهزلية المأساوية التي تبدو عليها الدول العربية المحيطة بإسرائيل، والتي تساق شعوبها كالنعاج لتهتف بحياة قادتها وزعمائها، دون أن يكون لهم حق في تقرير مصيرهم الذي تحدده السلطات الحاكمة، ودون أن يجدوا حتى حرية الصراخ، فلن تستغرب أن تجيء المقارنة لصالح إسرائيل، ولا أن يصبح دور الإعلام الغربي المتعاطف مع إسرائيل والصهيونية سهلًا، فيقوم بتضخيم الجوانب الإيجابية، أو يغطي على الجوانب السلبية، والغريب هنا أنه حتى حين يتواطأ ذلك الإعلام لحساب إسرائيل، فإن المقاومة الحقيقية التي يلقاها في الغرب تكون من داخل الأصوات المستقلة التي أصبحت تتزايد بشكل ملحوظ؛ لأن الأصوات الإعلامية العربية المخصصة لمخاطبة الغرب، والتي يُصرف عليها ملايين الدولارات من قوت الشعوب العربية، تنشغل بتلميع صور الرؤساء والملوك وإظهار حكمتهم والتغني بعبقريتهم الفذة.

حين خرجت من قاعة العرض النيويوركية التي ازدحمت بالمشاهدين القادمين لرؤية فيلم (جيت) الذي حظي بعروض نقدية جيدة دفعت الجمهور للإقبال عليه، كان واضحًا أن كل هذه الأفكار لم تدر إلا بخلدي أنا وصديقي العربي الذي شاهد معي الفيلم، وأظنها ستدور في أذهان كل مشاهد عربي، حين يشاهد أفلامًا إسرائيلية، فلا يرى فيها فقط صورة لمجتمع عدوه؛ بل يرى فيها أيضًا صورة مجتمعه هو بكل ما يثقله من هموم وأزمات، بالتأكيد لم ير المشاهدون من كافة الجنسيات غير العربية في الفيلم ما رأيناه نحن، وعلى رأسه تذكرنا طيلة الوقت أننا نشاهد أحداثًا تعيد رواية وتصوير حياة أناس أصبح لهم وجود على أرض “كانت تسمى فلسطين”، وأصبحت الآن في نظر أغلب العالم “إسرائيل”، وأن هؤلاء الناس الذين يحكي هذا الفيلم أو ذاك قصتهم، لم يأتوا في التو واللحظة من الخارج ليعيشوا على تلك الأرض كما جاء آباؤهم المهاجرون إليها؛ بل ولدوا فيها مثلما ولد مخرجا فيلم (جيت) مثلًا في ستينيات القرن الماضي، وتزوجوا بعدها وأنجبوا وتزوج أبناؤهم وأنجبوا، وفي وسط كل دورات الحياة تلك، ضاعت حقوق أصحاب الأرض الأصليين، وأصبح مجرد طرح حقهم في العودة حلمًا بعيد المنال يقل كل يوم عدد من يدافعون عنه، حتى بين أوساط العرب الذين أصبحت فلسطين آخر همهم الآن، بعد كل ما جرى في حياتهم من معاناة جلبوها لأنفسهم، ولعل ذلك ما يجعل من الواجب على كل من كان له قلب وضمير أو ألقى السمع والبصر، إن لم يستطع التفكير في حلول مركبة للمأساة الفلسطينية، أن لا يسمح بالمساهمة بالصمت في المسخ الجماعي للذاكرة، وأن يدعم بما استطاع أن تكون لأصحاب الأرض الأصليين فرصتهم في رواية قصتهم للعالم؛ لأن بقاء الرواية الفلسطينية حاضرة حية نابضة، سيرتبط به حتمًا وجود حل عادل للمأساة الفلسطينية، قد لا نشهده في حياتنا، لكن بإمكاننا أن نسعى لأن يشهده من بعدنا، وفي ذلك أضعف الإيمان، لمن لم يعد متاحًا لهم إلا الأضعف من كل اختيار.

التقرير الإلكترونية في

19.03.2015

 
 

الأيام الأخيرة في فيتنام

أمير العمري

"الأيام الأخيرة في فيتنام" هو أحد الأفلام الخمسة التي رُشحت لنيل جائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي طويل. مخرج الفيلم، الأمريكي روري كنيدي، يقدم هنا واحدا من أفضل الأفلام الوثائقية في العام الماضي، ليس فقط بسبب موضوع الفيلم المثير، بل بسبب قدرته على استخدام الكثير من اللقطات والمشاهد المصورة بكاميرات لم تكن متقدمة في ذلك الوقت، للأحداث اللاهثة التي أحاطت بعملية خروج الأمريكيين من فيتنام الجنوبية بعد ضياع أي أمل في وقف الهزيمة. هذه الصور الفريدة، رغم عدم دقتها الاحترافية، تعتبر وثائق استثنائية حقا، وكثير منها التقطه مصور استعان به أحد الضباط الذين كانوا مكلفين بحراسة السفارة الأمريكية في سايجون.

لدينا هنا صور للأحياء المختلفة من سايجون، للسفن الراسية قبالة الشاطيء استعدادا لعملية الإجلاء، للسفارة وما يجري داخلها، للطائرات الهليكوبتر التي توالي رحلاتها في نقل الأفراد، للسفير الأمريكي الذي كان في قلب تلك "الأيام الأخيرة"، لما كانت تنقله وسائل الإعلام، لحركة السيارات داخل المدينة، للحشود الضخمة التي ترغب في مغادرة البلاد، وللانفجارات التي اجتاحت مناطق واسعة وأهمها قاعدة داننج الجوية الأمريكية الشهيرة.

يستخدم المخرج إلى جانب اللقطات الوثائقية التي يضعها في سياق قصصي مشوق وكأننا نتابع فيلما من أفلام الإثارة والترقب، النماذج المصغرة أي "الماكيت" التفصيلية خاصة لمجمع السفارة الأمريكية في سايجون، ويستخدم التحريك والمزج بين الوثائق المصورة، وبين ما يأتي في سياق المقابلات التي أجراها مع عدد من العسكريين الأمريكيين الذين اشتركوا، في عملية إجلاء الأمريكيين والعسكريين الفيتناميين وأسرهم في اللحظات الأخيرة قبل دخول قوات الفيت كونج الفيتنامية الشمالية إلى سايجون، ثم وقوع "مذابح" أو اعتقالات جماعية من جانب قوات الشمال، لكل من يشتبه في تعاونهم مع الأمريكيين، وخصوصا العسكريين من فيتنام الجنوبية. إننا نشهد مأساة الحرب التي دفع ثمنها ملايين الأشخاص، بعضهم قتل والبعض الآخر اضطر لمغادرة بلده.

الاتفاقية وما أعقبها

يبدأ الفيلم من عام 1973 ويتوقف أمام "اتفاقية باريس" بين فيتنام الشمالية والولايات المتحدة، في عهد الرئيس نيكسون وبرعاية وزير خارجيته الشهير هنري كيسنجر، وهي الاتفاقية التي يصفها أحد العسكريين الأمريكيين السابقين في الفيلم بأنها "أكثر الاتفاقات السياسية غموضا"، فصحيح أنها كانت تنص على استمرار دعم واشنطن لحكومة سايجون الموالية، لكنها لم تتمكن من وقف زحف قوات الفيت كونج الشيوعية على الجنوب واستيلائها يوما بعد يوم، على مزيد من المدن والقرى، خصوصا بعد انسحاب القوات الأمريكية بموجب تلك الاتفاقية واستغلالا لعجز الادارة الامريكية عن الفعل بسبب الغضب الشعبي من الدور الأمريكي في فيتنام والخسائر الأمريكية الكبيرة في الأرواح.

وعندما يضطر الرئيس نيكسون للاستقالة في أعقاب فضيحة ووترجيت عام 1974، يتقدم الرئيس جيرالد فورد بطلب إلى الكونجرس لإقرار معونة عسكرية عاجلة إلى فيتنام الجنوبية بأكثر من 700 مليون دولار، إلا أن الكونجرس يرفض أي مزيد من التورط العسكري في جنوب شرقي آسيا. وتقول نائبة سابقة في الكونجرس تظهر في الفيلم، إن حربا شنتها واشنطن استغرقت سنوات طويلة، وتكلفت مليارات كثيرة، واشترك فيها نحو نصف مليون جندي أمريكي، فشلت في تحقيق الهدف منها، فكيف يمكن لمعونة عسكرية بمبلغ مثل هذا أن توقف زحف الشمال (الشيوعي) لالتهام الجنوب الموالي لأمريكا

من النقاط الجيدة التي يناقشها الفيلم تأخر الأمريكيين في  عملية الإجلاء، سواء للعسكريين الأمريكيين الباقين هناك وكان عددهم قد تقلص إلى خمسة آلاف عسكري، ومعظمهم من قوات المارينز، وإجلاء العسكريين الفيتناميين الجنوبيين حلفاء واشنطن، مع أفراد أسرهم، وأعداد أخرى من المدنيين الفيتناميين النازحين الذين وصل عددهم إلى نحو مليون شخص. ونحن نرى في لقطات تفصيلية هذا الطوفان البشري، وحالة الفزع التي تسيطر على الجموع، وكيف بدأ تدفق الآلاف على مجمع السفارة الأمريكية، وأخذوا يتسلقون الأسوار رغم الأسلاك الشائكة، وكيف كان بعض حراس السفارة يتغاضون عن ذلك، ويتركونهم يهبطون إلى حديقة السفارة والجلوس أياما وليال في انتظار النجدة، وكيف تدافع السكان لسحب ودائعهم من البنوك تمهيدا لدفع مبالغ كبيرة لمن وعدوهم بترتيب هروبهم من البلاد ولكنهم خُدعوا !

ويروي الفيلم كيف كان السفير الأمريكي في سايجون، جراهام مارتن، يقاوم بشدة خروج العسكريين الأمريكيين، وكأنه كان يأمل في وقوع معجزة في اللحظة الأخيرة تتمكن من وقف تقدم الشيوعيين. وكان هذا السفير كما يجمع كل المتحدثين في الفيلم، يعاني من الجمود الذهني وكانت فيتنام بالنسبة له تعني تحديا خاصا، فهو فقد إبنه الوحيد في المعارك هناك. ويتحمل السفير تداعيات تأخير إنقاذ العسكريين والأهالي الفيتناميين، إلى أن قرر الرئيس الأمريكي فورد وقف عمليات الإجلاء نهائيا بعد خروج أخر الأمريكيين باستثناء 11 فردا هم الذين نتابع قصة خروجهم بالهليكوبتر التي جاءت بعد أن كان اليأس قد تسرب إليهم، وتركوا وحدهم منسيين فوق سطح السفارة في سايجون. وكان مئات الفيتناميين يكافحون لشق طريقهم نحو سطح المبنى على أمل أن يلحقوا بالمروحيات التي كانت تقوم بعمليات الإجلاء ونقل الكثيرين إلى السفن الحربية والمدنية الراسية قرب الشاطيء في المحيط الهاديء.

براعة المونتاج

من مزايا الفيلم الكبيرة المونتاج الدقيق الذي قام به دون كليزي، والذي يجعل الفيلم يدور في سياق قصصي، فهو يستخدم مقتطفات من المقابلات المسجلة بالصوت والصورة مع عدد ممن كانوا هناك، بينهم أربعة من الفيتناميين الجنوبيين الذين قضوا فترة من أصعب فترات حياتهم قبل أن ينجح بعضهم في الفرار، أو يقع منهم من وقع، في قبضة قوات الفيت كونج.. ومنهم من قضى أحد عشر عاما في المعتقل بموجب سياسة "إعادة التثقيف" قبل الإفراج عنه ولجوئه بعد ذلك إلى أمريكا.

ويروي أحد أبناء كبار العسكريين الفيتناميين كيف تمكن والده، وكان طيارا قام بنقل الكثيرين إلى السفن الأمريكية، من قيادة طائرته وحمل أفراد أسرته جميعا معه في اتجاه سفينة حربية أمريكية كانت واقفة بالقرب من الشاطيء، لكن لم يكن ممكنا أن يهبط على سطحها وإلا دمرت الطائرة ودمرت معها البارجة الأمريكية وقتل من عليها وذلك بسبب كبر حجم الطائرة، الأمر الذي اضطره إلى إلقاء زوجته وابنته الرضيعة (لم يتجاوز عمرها وقتها عاما واحدا) من على ارتفاع الطائرة، كما قفز ابنه الذي يتحدث في الفيلم الآن وكان عمره ست سنوات وقتها، ثم ترك الأب الطيار، طائرته تتحطم في البحر بعد أن قفز وسط الأمواج العاتية ولكنه تمكن من النجاة بأعجوبة والسباحة نحو السفينة. ونحن نشاهد تفاصيل هذه القصة من خلال اللقطات التي صورت في ذلك الوقت تفصيلا، سواء للطائرة أو للسفينة والموجودين على متنها. ودون أن نشعر بخروج القصة عن السياق العام للفيلم.

هذه الدقة في متابعة القصص التي يسردها المتحدثون في الفيلم، من خلال الاستخدام الجيد للصور، مع شريط صوت يبدو وكأنه يتابع السرد رغم تغير المتحدثين واحدا وراء الآخر، هو ما يمنح الفيلم رونقه وسحره، ويمنحنا متعة المشاهدة.

ويتحدث في الفيلم ريتشارد أرميتاج، المسؤول السابق في البنتاجون والذي كان وقتذاك أحد الضباط العاملين في حماية السفارة. وهو يروي، ونتابع نحن روايته من خلال عشرات اللقطات، كيف اتفق مع أحد الفيتناميين من عملاء الأمريكيين، على مخالفة التعليمات الرسمية، وتمكن بالتالي من إنقاذ نحو 30 ألف فيتنامي جنوبي بواسطة الحافلات والسيارات وتوصيلهم إلى السفن المدنية والحربية التي نقلتهم إلى الفليبين، ثم كيف كان يتعين عليه اتخاذ قرار بإنزال علم فيتنام الجنوبية من فوق سوارى السفن بعد اعتراض سلطات الفليبين التي كانت قد اعترفت بالنظام الشيوعي الذي نجح في توحيد فيتنام بعد سقوط سايجون، وقرر أرميتاج رفع العلم الأمريكي فوق تلك السفن ضمانا لأن تقبل سلطات الفليبين دخول الفيتناميين اللاجئين إلى أراضيها، الأمر الذي أثار الحزن في نفوس الفيتناميين.

رؤية أحادية

يمزج الفيلم بين الجانب السياسي، والجانب الإنساني، وبين تقديم المعلومات الغزيرة عن ملامح الفترة، وفي الوقت نفسه، توجيه النقد للتقاعس الأمريكي عن إجلاء الكثيرين، واضطرار العسكريين الذين بقوا في النهاية إلى أن يخلفوا وعدهم لآلاف الفيتناميين، بعد صدور قرار رسمي من الرئيس فورد بوقف عمليات الإجلاء وخروج الأمريكيين الباقين من هناك على الفور

هذا الانتقال المستمر بين سرد المعلومات، وتحليل الصور، والتوقف طويلا أمام الدور الفردي الإنساني لعدد من العناصر العسكرية الأمريكية، سواء تلك التي غامرت بإنقاذ من تمكنت من إنقاذه، أو عبرت عن الشعور بالذنب من اضطرارها التخلي عن وعودها للكثير من السكان، يجعل الفيلم ينحصر في صورة أحادية، تغفل كثيرا ما تعرض له الفيتناميون في شمال البلاد من مذابح وقتل عشوائي على نطاق واسع، بقنابل النابالم وغيرها، كما يغفل بشكل عام تحليل التورط الأمريكي في فيتنام وتاريخه وتوسعه، ثم - وهذا هو الأخطر- يضفي على الخروج الأمريكي المهين، الذي يصل حد الهرب ليلا، نوعا من البطولة، في حين يبدو الطرف الآخر، مجرد شبح مخيف يستعد للانقضاض على "مدينة الأبرياء"، غافلا عن حقيقة أن فيتنام الشمالية دفعت نحو مليونين من الضحايا في تلك الحرب العبثية التي استمرت عشر سنوات

الجزيرة الوثائقية في

19.03.2015

 
 

لبنانية تدخل السينما للمرة الأولى:

كأنني العمياء التي فجأةً استعادت البصر!

هوفيك حبشيان

"سفر الخروج: آلهة وملوك" لريدلي سكوت، أوّل فيلم شاهدته رنا (اسم مستعار) في السينما. في المرحلة الثانوية، كانت تنتظر الحصّتين الأخيرتين من يوم الجمعة، المخصصتين لمشاهدة ما كان يسمّى فيلماً عبر إحدى الشاشات "العملاقة" في قاعة المدرسة. ظنتها عملاقة كونها فوق حجم شاشة التلفزيون الصغيرة في منزل عائلتها المتواضع. لم تكن "الأفلام" آنذاك إلا مزيداً من الواجب المدرسي إذ كان يُفترض أن يقدّم تقريراً عن "الفيلم" بعد المشاهدة. على رغم الثقل، ظلت تنتظر الحصّتين الأخيرتين. من كلّ جمعة.

اليوم، بعد سنوات، وجدت رنا نفسها، للمرة الأولى منذ ولادتها قبل 23 عاماً، في سينما أخرى؛ أمام شاشة رهيبة تفوقها قوّة وحجماً. بدت كأنها الطفلة التي تفكك بالدهشة ألغاز هذا الكوكب. في الآتي، حكايتها التي كنت شاهداً عليها، منذ لحظة معرفتي بعذريتها السينمائية حتى يوم حملتُها الى تلك الصالة المظلمة في منطقة الأشرفية.

"خارج تجربة شاشة المدرسة، لم أدرِ يوماً بوجود السينما. الصوت والصورة بقيا حتى الأمس يعنيان التلفزيون دون سواه من إنجازات التكنولوجيا. أمي أيضاً لا تعرف شيئاً عن السينما. كذلك أبي وأخوتي والجيران الذين تلتصق منازلهم العشوائية بمنزلنا. أردتُ من أجل تمضية وقت ظريف مع صديق، الذهاب وإياه الى حيث نكون معاً. اقترح السينما وأذعنتُ من غير استفسار أو سؤال. قررّ أننا سنشاهد معاً "سفر الخروج"، وأرسل إليّ رابط الإعلان الترويجي "فايسبوكياً". الانترنت بطيء في حيّنا، فلم أر شيئاً. لم يكن يعنيني هذا كلّه. يدرك صديقي جهلي سينمائياً، ولا يكفّ يهزأ. أتقبّل الأمر بمزاح لا يخلو دائماً من غصّة. وأستمرُ في التبرير، أنا الماهرة في تكرار المعزوفة ذاتها كلّما تعلّق الأمر بنواقصي الكثيرة: "ليس ذلك ذنبي. من أين لي أن أعلم ما تعنيه السينما؟ عادةُ الطفل أن يقلّد سلوك والديه ويمتهن هواياتهما. أمي في المطبخ وأبي في العمل. لم أتعلّم أن ثمة حياة على هامش الطريق من البيت الى المدرسة. ثم، إن السينما أيضاً ابتياع تذاكر وفوشار وربما شراب بارد، وكنا بالكاد نملك ثمن ربطتَي خبز ومصروف الطبخة اليومية.

عادة، أعالج الفجوات بالنواح، وذلك يستفزّ صديقي السريع الغضب. لم يترك لي إمكان التهرّب من "مشوار" السينما. "الى السينما" يعني الى السينما، وأنا التي كنتُ أفضل مكاناً أكثر رومنطيقية، لا سيما أنّه نبّهني قبل خطوات من بلوغ الصالة: "من الأفضل ألا نتحدّث أثناء الفيلم. اكتفي بالمشاهدة". ليس هذا ما أردتُه، ولكن أنّى السبيل الى الاعتراض وقد ابتاع التذاكر وسبقته حماسته نحو العرض؟ هو المتحمّس للفيلم، وأنا المتحمّسة لأكون معه. القاعة كبيرة، لكنّ الشاشة بدت لي طاغية، لا يضاهيها شيءٌ في الهيبة. رحت أرمقُ الأرجاء كأنني العمياء التي فجأة استعادت البصر. السقف. الأضواء. الكراسي المتدرّجة، والإعلانات المزعجة عبر الشاشة. بدا لي الكرسي الذي جلستُ عليه غريباً. كأنه هو الآخر استغرب زبونةً مثلي. راح المكان يصيبني بالبرد وبرغبة في التبوّل. لم تكن السينما كما توّقعتُ. ظننتها أكبر بقليل من شاشة المدرسة، ولا شيء آخر. تناسيتُ صديقي الذي انشغل عني بتفقّد "فايسبوكه"، كأنه بذلك يتعمّد بقائي على انفراد مع دهشتي الأولى. لم يشأ أن يعكّر عليّ اللحظة بأسئلة غليظة من نوع: "شو؟ مبسوطة؟". تركني أجول في عينيّ بحثاً عن تفسير لكلّ هذا. هل كان عليّ أن أنتظر سنوات لأتعرّف الى صديق يقرر عوضاً عني (وعن أبي وأمي) أنّ عليّ ارتياد السينما؟ حينها أدركتُ أنّ العمر مرّ على لحظات إخفاقٍ هائل، وأن التفوّق لا يقتصر على الجهد المبذول في الدرس وإنجاز العمل. تموت الحياة حين نتوقّف عن الاكتشاف. لستُ أبالغ بالقول إنّ فيلماً أنقذ حياتي من ملل الروتين القاتل.

عندما خفتت الأضواء قليلاً، شعرتُ بارتباك. بدأتُ أتذمّر من الضجيج المرافق لشريط الإعلانات قبل الفيلم. تمنيتُ لو أملكُ خفضه، وأبقيتُ الأمنية سراً كي لا أكرّس نفسي بصورة الغبية أمام صديقي القليل التحمُّل. وجدته ينتشل من جيبه نظارة ويقدّمها لي. قال إن الفيلم يحمل أبعاداً ثلاثة وهذه النظارة كفيلة جعلي تماماً في العمق. كنتُ أمامه في كلّ الأوقات كالشريدة في غابة. كنتُ كائناً ناقصاً لا يدري كيف صادَق القدر على علاقةٍ له مع شخصٍ "كامل". حتى إني تلعثمتُ بينما أرتدي نظارة الأبعاد، وشعرتُ بالاختناق بها، كأنها صُنعت لابتلاع وجهي. أخيراً... بدأ الفيلم!

صدف أنني من بيئة تعلّقت في رمضان قبل فترة بمشاهدة مسلسل "يوسف الصدّيق". نحن من "جماعة" التلفزيون، نحمل "ثقافته" أينما نحلّ ونظنها الأروع. سهّلت مشاهدتي سيرة النبي يوسف تقبّلي "أجواء" الفيلم حيث يشترك العملان في البنية الفرعونية. خارج ذلك، بدأتُ أُذهَل: كيفية التصوير، التفاصيل، الموسيقى، الطبيعة، وكلّ ما تعنيه الأبعاد الثلاثة من اقتحامٍ وتفاعل. همس بي صديقي ممتعضاً، مطالباً بالكفّ عن سلوك الأولاد. كنتُ إن مرّ مشهد حشرات أحجبُ عينيّ، وإن تقدّمت الأحصنة صوبي أتراجع. مراراً، انتزعتُ نظارة الأبعاد في محاولة لمقارنة الواقع بذاك العالم. شيئاً فشيئاً، راقتني النظارة وألفتها. جعلتني أدركُ كم أن الحياة فارغة من غير أبعاد. أردتُ لو أُسقط تأثيرها على نشأتي، وتربيتي، وجذوري. وتذكرتُ أمي التي لم تعرف من العُمر إلا بُعداً واحداً، ووجدتُني على خطاها، لولا النظارة التي، حال خوفي من نظرات صديقي، ومن فضحِ نقصي أمامه، دون أن أُبقيها على عينيّ، وأخرج بها بين الناس، ولن أكترث إن راحوا ينظرون إليّ بسخرية وينعتونني بالمجنونة!

عندما خرجتُ من الفيلم ممسكة يد صديقي، شيءٌ يشبه الدوار كاد أن يرميني أرضاً. سنواتٌ مرت وأنا ببعد واحد، فكيف فجأة أشاهدُ الجمال بثلاثة أبعاد؟ تماسكتُ كي لا ألفت صديقي الى هشاشتي أمام التجربة الجديدة. ظلّ الفيلم فيَّ ساعات، يراودني من حيثُ لا أعلم. أدرك صديقي أني أمامه كائن مذهول لا يملك أن يتعالى على اللحظة. وأدرك أنه سلّمني الى ساحر راح يقدّم بي عرضاً أمام جمهورٍ ملّ ألعاب الخفّة. "خربطني" الفيلم، ورحتُ أراه في الحلم بكل ما ملكت البصيرة من أبعاد. رأيتُ الله مختزَلاً في كاميرا. أكتشفتُ وأنا في الثالثة والعشرين، أن العمر هو الآخر لقطة. تقلّ الجماليات في الحيّ البيروتي الذي كبرتُ فيه، لفرط ما يعاني المكان في انطباعاتي من ضجر يتكرر كلّ يوم، أما لحظة انتهاء فيلم رائع فلا تتكرر. في تلك الليلة، غمرني فرح المرأة المنتشية بالحبّ بعد انقطاع. نمتُ ساعاتٍ من دون قلق. غالب الظنّ أني استعدتُ الفيلم كما لو أني أشاهده وأنا متكئة على كتف صديقي فوق غيمة...

الآخرون هم مثلي...

ملأني الفيلم حتى اليوم التالي، وأيقنتُ كم أن بعضنا، نحن سكان حيّنا المهمش، ممنوعٌ من الفرح. ارتدتُ السوق من أجل بعض الحاجات الضرورية، وقررتُ أن أسأل. أُخبر إحدى الموظفات في محلٍ لبيع الملابس، التي أصبحت صديقتي إثر ثبوتي على الشراء من محلّها، عن صديقة لي شاهدت فيلماً للمرة الأولى. تبلغ الموظفة نحو الثلاثين أو ما يزيد قليلاً من العمر. لم تكترث بحديثي، وبدا أنه راح يُشعرها بمللٍ يفوق ملل انتظار الزبائن. سألتُها عن علاقة محتملة لها مع السينما. أردتُ لمرة أن أكون أنا العارفة فيما الآخرون ضحايا الجهل. قالت إن المسألة برمتها لا تعنيها. "شو هيدي سينما؟"، كأنها تسخر مني شخصياً بعدما أصبح لديّ تجربة. راقني دور "المتفلسفة". رحتُ أتباهى باستعادة المَشاهد أمامها، الى أن ضاق ذرعها: "طيّب، وغير هيك...". شكرتها على الحسم الذي تخصّني به دائماً، وانصرفتُ.

لم أخبر جارتي المقرّبة مني اني شاهدتُ فيلماً (مع صديق) في صالة مظلمة. وفّرتُ على نفسي تداعيات أن يسرح خيالها بعيداً ويبدأ بطرح الأسئلة. ألبستُ "التهمة" مرةً أخرى لصديقتي. كل ما أردته استخلاص موقفها. نهرتني بما يشبه الجزم بأن "السينما ليست لنا. هي لهم!". أُدركُ أنها لم تزر يوماً السينما، هي الأم لأربعة أولاد، أكبرهم في سنّ الرابعة عشرة. أهلها لم يفعلوا أيضاً. أورثوها غياب هذه الثقافة، وتورثها هي، بمنتهى الأمانة، الى أولادها. سألتها ممازحةً كيف تتخيّلين السينما. اتخذت نقطة في وجهي وأجابت: شاشةٌ تعرض أفلاماً يعيد التلفزيون عرضها بعد مدّة. لو انتظر الناس قليلاً لوفّروا على جيوبهم وصنعوا الفوشار في المنزل وأمضوا وقتاً مسلياً من دون إهدار المال"!

hauvick.habechian@annahar.com.lb

"الأيام" الأخيرة...

يستمر مهرجان "أيام بيروت السينمائية" الذي يجري حالياً في "متروبوليس"، في عرض باقة مختارة من الأفلام العربية، مستقطباً اعداداً كبيرة من المشاهدين. في الآتي، جولة على أربعة أفلام تُعرض في الأيام الثلاثة الأخيرة للمهرجان الذي يُختتم السبت برائعة محمد ملص، "سلّم الى دمشق".

"العودة الى حمص" لطلال ديركي

عندما اندلعت الثورة السورية تحوّل عبد الباسط الساروت الى أبرز العناصر التي تقود الحراك السلمي في البلاد. حراك ارتكز في شكل اساسي على الأناشيد. مع بلوغ السلمية حدود اليأس، حمل الساروت السلاح فصار مقاتلاً شرساً في صفوف الثوار. لكنه ليس وحيداً. هناك الى جانبه مَن يتوق الى الحرية والكرامة. من هؤلاء: أسامة، الكاميرامان الذي يلتقط كلّ ما يحدث حوله من تطورات أمنية، وهكذا حتى اعتقاله. يضعنا الفيلم في قلب المعارك الطاحنة والقصف العنيف والأوضاع الانسانية المزرية، معرّفاً بالشخصيات عن كثب، أحلامها وطموحاتها ونظرتها لمستقبل بلاد غارقة في عتمة الديكتاتورية منذ أربعة عقود. (اليوم، الساعة 18:00).

"يوميات كلب طائر" لباسم فياض

رجل وكلبه الصغير يجمعهما وسواس القلق القهري. في رحلة علاجهما المشتركة، تفكيك للبيئة المحيطة ووسائل التربية والمخاوف التي تتسيدها، والحرب المتواصلة على صعيد بنيتها، إضافة لإعادة ترتيب ذاكرة مفعمة بالخوف والعنف والحرب والحبّ، واستدعاء لماضٍ يكاد ينسخ نفسه في الحاضر والمستقبل. المكان: بيت لعائلة من أب وأمّ وأبناء وأحفاد على سفح في جبل لبنان، بينما زمن الفيلم زمن انهيار الجمال وصعود القبح والتكفير. الرجل مخرج، والكلب مرآة، والفيلم وسيلة. (اليوم، الساعة 20:00).

"لي قبور في هذه الأرض" لرين متري

تمضي مخرجة الفيلم في رحلة تضيء على المخاوف المناطقية والديموغرافية التي تسود المجتمع اللبناني، إثر قيامها ببيع أرضها الواقعة في قرية مسيحية من رجل مسلم. إنها مخاوف لا تزال حاضرة ومتواصلة جراء المجازر وحملات التهجير التي حدثت على أساس طائفي أثناء الحرب الأهلية اللبنانية. لقد أنجزت صفقات بيع الأراضي منذ نهاية الحرب الأهلية عام 1990 ما عجزت عن فعله هذه الحرب، مقسمة لبنان إلى قطاعات ومناطق طائفية (غداً، الساعة 19:00).

"ماء الفضة" لأسامة محمد ووئام سيماف بدرخان

يقول المخرج في مقابلة مع "النهار": "لا يحقّ لي الكذب في هذا الفيلم أو سواه. السينما لا تحتاج الى الكذب. لا روائياً ولا وثائقياً، ولا ما بينهما. السينما في قوّتها الداخلية محض أبجدية. ككل أبجدية، اذا استعنتَ بها، فذلك لقول شيء لم يُقَل. لا يتجزأ إيماني بالسينما واللغة والأبجدية. لا أنجز بروباغندا لألجأ الى صور مخادعة. الفيلم ليس لأقول إنّ النظام فاشي وقاتل. الأمر بالنسبة إليّ بديهي، منذ سقوط أول شهيد في درعا، ومنذ أول تصريح رسمي ينكر أن هذا الشهيد قُتل على يد النظام، ومنذ أول لغة رسمية تتهم القتيل بأنه قتل نفسه. النظام في روايته عن نفسه ألف جمالية الشر" (غداً، الساعة 21:30).

تسالونيك 17: مآسٍ بلا حدود

المصدر: تسالونيك ــ "النهار"

سيدتان تنتشلان جثة امرأة شبه متحللة، خلال الحرب العالمية الثانية، لرميها في حفرة حيث اطنان من الاجساد والعظام وبقايا البشر.

هذه لقطة من فيلم "سيهبط الليل" لاندره سينغر (٢٠١٤) الذي عرض أول من أمس في مهرجان تسالونيك الدولي للفيلم القصير (13 - 22 الجاري)، دورة 17. الصور التي نراها في هذا الفيلم من الفصيلة عينها لصورة البلدوزر التي تكلم عنها المخرج الالماني الراحل هارون فاروقي ووضع افلامه تحت تأثيرها التاريخي. آنذاك عام 1945، التقط الجنود البريطانيون المشاركون في تحرير المعتقلات النازية (وحدة التصوير الريبورتاجي)، هذه الصور المقززة التي استُخدمت كدلائل في محاكم نورنبرغ. انها صور حوّلها سيدني برستين حينها، بالتعاون مع وزارة الاعلام البريطانية، فيلماً وثائقياً شارك في انجازه - تمسكوا جيداً - ... ألفرد هيتشكوك. طُلب من هيتش ان يضع بنية الفيلم السردية. كان الهدف منه اظهار ما لا يمكن تصديقه بلا دلائل بصرية. لكن، بعد انتهاء الحرب، تغيرت اولويات الدولة البريطانية فتخلّت عن مشروع الفيلم ووقع كل شيء في النسيان، وضاعت بعض الأجزاء منه، الى ان تم جمعها أخيراً بعد سبعة عقود. عنوان الفيلم استوحاه سينغر من جملة وردت في الفيلم الاصلي: "سنغرق في عتمة الليل، الا اذا لقنت هذه الصور العالم درساً". بعد 70 عاماً، يمكن القول اننا لم نتعلم الكثير.

في "تسالونيك" الذي يُعتبر ثالث أهم منبر للفيلم الوثائقي في اوروبا، عُرض واحد من أجمل الأفلام: وثائقي عن كارثة فوكوشيما عرض أمس للمرة الأولى عالمياً. شخصية المراسل بيو داميليو طريفة جداً ورسوم المانغا مدهشة. اعلن المخرج بعد العرض ان ويلَم دافو سيدبلج الفيلم في نسخته الإنكليزية. نخرج من الفيلم ونحن على اقتناع ان الشعب الياباني من اعظم شعوب الارض.

كانت لنا محطة ايضاً مع المخرج النمسوي اولريش زيدل، الذي قال لنا في يوم من الأيام: "ستفاجأ ربما اذا قلتُ لك ان أشياء مهمة كثيرة في بلادنا تحصل في الكهوف. انها الأماكن المفضلة للناس، فهم يفعلون فيها ما يحلو لهم، علماً أن سواد هذه الأمكنة مقلق وما تخفيه لا حدود له. يمكنك قول الكثير عن مجتمعنا وعالمنا وأنت جالس في كهف".

بعد سنوات على هذا التصريح، يأتينا مخرج "استيراد/ تصدير" بهذا الفيلم عن تلك العوالم السفلية التي يمارس فيها مواطنوه أفظع هواياتهم. معظمهم تجاوز أزمة منتصف العمر، أحدهم حتى يدعى فريتس لانغ. في هذه الأقبية، نجد مثلاً أحد المتعاطفين مع النازيين يحتفظ بكل مقتنياته التي تعود الى أيام الرايخ الثالث، ومنها لوحة هتلر التي تلقّاها هدية لعيد زواجه. وقد نعثر على سيدة تدلل طفلاً تخفيه في علبة، أو رجل يزيّن جدران القبو برؤوس حيوانات مصبّرة. أما الأكثر استفزازاً، فهي مشاهد المازوشية والخضوع، نرى فيها رجلاً ينظف حمّام "معبودته" بلسانه.

النهار اللبنانية في

19.03.2015

 
 

"أيام بيروت": بين أضحوكة يَمَنية ومأثرة جولانية

هوفيك حبشيان

من قضية إنسانية نبيلة، هي تزويج القاصرات لدى العشائر الإسلامية في اليمن، استلهمت المخرجة اليمنية خديجة السلامي، أضحوكة سينمائية، خصوصاً في الفصل الأخير من الفيلم، فصل المحكمة، الذي صار منذ الآن من كلاسيكيات سينما يمنية تواقة الى ولادة حقيقية.

السلامي، صاحبة سلسلة ريبورتاجات عن أحوال بلادها، مخرجة "تقريبية" ذات خيارات تبسيطية في طرح الأمور، وها انها تقتفي مع هذا الفيلم خطى السعودية هيفاء المنصور، على الرغم من أن المنصور أكثر تماسكاً وحرفية منها في طرح أفكارها. ما تفعله هنا هو نكء جراح الطفولة المعذبة في بيئة ذكورية متخلفة، لا تزال تؤمن بتفوق الرجل على المرأة وتلجأ الى النصوص الدينية لايجاد حلول وأجوبة على حاجات الحياة العصرية. أقل ما يُقال عن فيلمها الروائي الطويل الأول، "أنا نجوم بنت العاشرة ومطلقة"، انه عمل بليد، مفتعل، متهالك البنية الدرامية، ولا يستوفي البتة شروط العمل السينمائي الرصين.

هذا الفيلم الذي عُرض في "أيام بيروت السينمائية" (والمهرجان مُستمر حتى السبت المقبل)، يروي قصة الطفلة اليمنية نجوم، التي يجبرها أهلها على الزواج من رجل ثلاثيني رغم انها لم تتجاوز العاشرة. هذا الزواج المدبر هو الحلّ الأمثل لعائلتها للتخلص من مصاريفها والاستفادة من مهرها. طبعاً، غني عن التأكيد أن نجوم ستعاني الأمرين، خصوصاً عندما يكشف زوجها عن وجهه الحقيقي: رجل قاسٍ لا يرأف بصغر سنّها، ولا يتوانى عن اغتصابها عندما ترفض تسليم نفسها اليه.

كان الأمر أشبه بفضيحة صغيرة عندما نال الفيلم جائزة "المهر العربي" لأفضل فيلم روائي طويل في مهرجان دبي الأخير (10 ـ 17 كانون الأول/ديسمبر 2014). الخبر "صدم" العديد من ضيوف دبيّ، خصوصاً أن خياراً مثل هذا سرق الأضواء من أفلام مهمة مثل "البحر من ورائكم" لهشام العسري، المعروض في "أيام بيروت" أيضاً. لكن المخرج الأميركي، لي دانيالز، ورفاقه في اللجنة التي ترأسها، كان له موقف مغاير، وهو موقف لا يقيم اي وزن للأبعاد الفنية، لا بل صرف النظر عن كل الخفة والاستسهال والسذاجة التي استعانت بها السلامي لإنجاز فيلمها. أعضاء لجنة التحكيم، وعلى رأسهم دانيالز، مخرج "بريشس" و"كبير الخدم"، لم ينظروا إلا في القضية التي نبشت فيها السلامي، وكأن نبشها سابقة أو شجاعة فريدة، وهذا فخّ تقع فيه الجوائز دائماً، خصوصاً عندما تأتي المهرجانات العربية برؤساء لجان من الغرب لا يعرفون حقيقة المنطقة وتفاصيلها.

الفيلم الثاني الذي عُرض في "أيام بيروت"، ويستحق الكلام، هو نقيض فيلم سلامي، سواء في رصانته الاخراجية أو في قدرته على التغلغل في وجدان المشاهد، مع أن الأدوات المستخدمة فيه جد بدائية. نتحدث هنا عن "روشميّا" للمخرج والصحافي الجولاني سليم أبوجبل. حيثما التفتتَ تجد شيئاً يثير الألم والامتعاض في هذا العمل الرقيق الذي يشبه صاحبه. انه الصدق بلا حدود الذي لجأ اليه أبوجبل. الحكاية بسيطة جداً: منذ العام 1959، يعيش يوسف (80 عاماً) مع زوجته في كوخ في وادي روشميّا. هو لاجئ من وادي الصليب في حيفا، وزوجته لاجئة من قرية باسور. حياتهما مستمرة في إيقاعها الطبيعي الى أن تقرّر بلدية حيفا بناء شارع عبر الوادي يربط أحياء البحر بأحياء جبل الكرمل. نتيجة هذا، يصدر القرار بهدم كوخ الزوجين، ويُمنحان مهلة للبحث عن ملجأ جديد يضمن لهما "نهاية" تحترم اعمارهما. هناك شخصية ثالثة في الفيلم: صديقهما عوني الذي يقوم برعايتهما، فيتولى القيام باجراءات الحصول على تعويضات من البلدية. لكن التعامل مع عجوزين ليس دائماً شربة مياه، خصوصاً عندما تكون وجهة نظر كل منهما مختلفة عن وجة نظر الآخر.

عرف أبوجبل كيفية تشكيل لحظات حقيقية ومؤثرة، ليس فيها التكلف والزيف اللذان يصفعان الأفلام الوثائقية. "كلّ فيلم وثائقي جيد يجب أن يمنح الشعور احياناً بأنه روائي"، كان يقول أحد النقّاد، وهذا الاحساس هو تحديداً ما يجتاحنا عندما نشاهد "روشميّا"، خصوصاً في مشهد السجالات بين الزوجين التي تتأرجح بين الطرافة والحزن. يبدو ان التقنية التي استعملها أبوجبل، هي مواصلة التصوير مع الشخصيات لأطول فترة ممكنة لاقتناص لحظات تفلت من الوعي والادراك. وعندما تصل الجرافة في آخر الفيلم لتنقض على البيت التنك، قد يسأل الواحد منا: هل ما زال هناك ما يُمكن هدمه؟

المدن الإلكترونية في

19.03.2015

 
 

المهرجانات السينمائية الكبرى في مصر

كتبه  أحمد شوقي

تمتلك مصر صناعة سينمائية عريقة تجاوز عمرها المائة عام. صناعة أخرجت مئات النجوم وعشرات المخرجين الموهوبين، وضمنت للهجة والثقافة المصرية امتدادا بعرض الوطن العربي بأكمله. صناعة تمتاز بعدد ضخم من التناقضات، على رأسها التناقض بين كون مصر واحدة من دول لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة في العالم كله، تحقق الصناعة الوطنية فيها النسبة الأضخم من إيرادات شباك التذاكر، مقارنة بإيرادات الأفلام الأمريكية التي تكاد تسيطر على جميع الأسواق العالمية، وبين الحجم الضئيل جدا للسوق السينمائية المصرية، التي حقق فيلم "الجزيرة 2" خلال العام المنقضي أكبر إيراد في تاريخه، بجمع 34 مليون جنيه مصري، أي أقل أقل قليلا من خمسة ملايين دولار أمريكي.

تناقض آخر من تناقضات السينما المصرية نرصده في هذا الموضوع، وهو العدد المحدود للمهرجانات السينمائية وضآلة ميزانياتها، مقارنة بتاريخ الصناعة وقيمتها الثقافية، بالمقارنة بدول أخرى تمتلك صناعة ناشئة أو محدودة، لكنها تمتلك عددا أكبر من المهرجانات، وميزانيات أوفر لكل مهرجان.

التناقض الذي يمتلك مبررات متنوعة منها ما يتعلق بميزانية قطاع الثقافة ككل، ومنها ما يرتبط بشكل السوق المصري نفسه وحجم الإقبال على نوعيات بعينها من الأفلام.

وسنقوم في هذا الموضوع برصد سريع للمهرجانات السينمائية النشطة التي أقيمت دورات منها خلال 2014، مستثنين المهرجان القومي للسينما، باعتباره مهرجانا للسينما المحلية فقط، وبانوراما الفيلم الأوروبي التي تقف في مساحة وسط بين المهرجان وأسبوع الأفلام، ومهرجان سينما الطفل المتوقف منذ ثورة 25 يناير، والذي تقرر إعادته للنشاط خلال العام الحالي. ليتبقى ستة مهرجانات: مهرجانان دوليان، وثلاثة مهرجانات إقليمية، ومهرجان نوعي.

أولا: مهرجان القاهرة السينمائي الدولي:

المهرجان الأكثر سخونة في أعوامه الأخيرة، بحكم كونه المهرجان الدولي الأكبر، وعضو اتحاد المنتجين العالمي مع 13 مهرجانا آخر (عضوية مدفوعة بلا قيمة أدبية حقيقية، يصر مسؤولو المهرجان والصحافة المصرية على اعتبارها مصدر تقييم وأمرا مهمّا لابد من الحفاظ عليه لأسباب غير معروفة)، وصاحب أكبر ميزانية بين المهرجانات المصرية كلها (ميزانية آخر دورة أقتربت من 14 مليون جنيه، أي حوالي مليوني دولار).

مهرجان القاهرة أسسته الجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما في العام 1976، أو للدقة تم تأسيس الجمعية كي تقوم بإطلاق المهرجان نكاية في جمعية نقاد السينما المصريين، الجمعية الرسمية وعضو إتحاد الصحافة الدولية (فيبريسكي)، التي كانت تنتهج اتجاها يساريا لم ينل رضا الدولة وقتها.

واستمر المهرجان تحت إشراف الجمعية سبع سنوات قبل أن تأخذه الدولة، ليقام برعايتها تحت مظلات قانونية مختلفة، وصلت في آخر المطاف لأن تكون وزارة الثقافة هي الجهة المنظمة.

المهرجان ذو طابع دولي، تعرض مسابقته الرسمية أفلاما من كل قارات العالم، وقد أضاف إليه الناقد سمير فريد الذي ترأس دورته الأخيرة برامج فرعية تقام على هامشه، تقوم بتنظيمها ثلاث جهات سينمائية مصرية بشكل مستقل، هي جمعية نقاد السينما المصريين ونقابة المهن السينمائية واتحاد طلاب معهد السينما.

أقيمت الدورة رقم 36 خلال شهر نوفمبر الماضي، وكانت ناجحة فنيا بصورة واضحة، ولكنها لاقت هجوما صحفيا بدأ حتى قبل بدء فعالياته، ووصل ذروته مع حفل الافتتاح، واختتمت التجربة بلجنة شكلها وزير الثقافة ببحث ملف المهرجان المالي وسط اتهامات للإدارة بإهدار المال العام، ما دفع الناقد الكبير سمير فريد للاستقالة من رئاسة المهرجان، وسط اعتراض عدد كبير من السينمائيين على رحيله رغم نجاح الدورة على المستوى الفني.

ثانيا: مهرجان الإسكندرية لدول البحر المتوسط:

هو ثاني أقدم المهرجانات المصرية، وثاني مهرجان تقوم بتنظيمه الجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما، برئاسة الكاتب الصحافي كمال الملاخ مؤسس مهرجاني القاهرة والإسكندرية، الذي اختار العاصمة القديمة لمصر، و"عروس البحر المتوسط"، كما يحلو لأهلها أن يسموها، لتحتضن مهرجانا إقليميا لسينما دول حوض البحر المتوسط، أقيمت دورته الأولى في العام 1979.

المهرجان هو أكثر المهرجانات المصرية استقرارا من حيث الإدارة والإشراف، فالجمعية تنظمه منذ انطلاقه حتى الآن، وقد كانت تختار رئيسا لكل دورة من بين أعضائها حتى تم تغيير اللائحة مؤخرا، وأصبح رئيس الجمعية هو رئيس المهرجان بحكم منصبه، مع اختيار مدير للمهرجان وفروعه من أعضاء الجمعية.

ورغم الاستقرار الإداري ظل المهرجان يتمتع طويلا بسمعة سيئة، تتعلق بسوء التنظيم والمشكلات الكثيرة التي تقع في أروقته، لكن بعد رحيل المنتج ممدوح الليثي عن إدارة الجمعية والمهرجان، اللذين فرض سطوته عليهما، في بداية 2013، بدأت الإدارة الجديدة برئاسة الأمير أباظة بمحاولات تخليص المهرجان من الصورة الذهنية السيئة القائمة عنه.

في سبتمبر 2014، استضاف فندق هيلتون جرين بلازا في الإسكندرية الدورة الثلاثين للمهرجان، والتي تضخم فيها عدد الأفلام والأقسام الفرعية، لتعرض أفلاما من مختلف دول العالم، على هامش المسابقة الرسمية المقتصرة على الأفلام المتوسطية.

وامتازت الدورة الأخيرة بحضور مكثف للنجوم المصريين الذين عادة ما يغيبون عن المناسبات المماثلة، وعلى رأسهم المغني الأشهر محمد منير الذي كرمه المهرجان كممثل، والنجم نور الشريف الذي أهديت الدورة بأكملها لاسمه.

ثالثا: مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة:

هو أكثر مهرجان سينمائي مصري ذي طابع ثقافي رصانة، ربما لكونه مهرجانا نوعيا متخصصا في الأفلام القصيرة والتسجيلية، التي لا تعتمد غالبيتها على مشاركة النجوم، وعلى الإبهار المصاحب للأفلام الروائية، وربما لإقامته في مدينة الإسماعيلية الهادئة الواقعة على شاطئ قناة السويس، وهي ليست بالمقصد السياحي الذي يجذب أي فئة سوى محبي السينما الحقيقية.

الأهم من هذه الأسباب هو حقيقة كون مهرجان الإسماعيلية حدثا ثقافيا حقيقيا ذا سمعة دولية جيدة، وجائزته تمثل لمن يفوز بها قيمة أدبية تفوق قيمتها المادية.

ترأس المهرجان المخرج والناقد المصري هاشم النحاس في العام 1991 أثناء توليه الإشراف على المركز القومي للسينما، الجهة المنظمة للمهرجان، واستمر حتى 1995 ليتوقف بعدها ستة أعوام، اعتقد الجميع خلالها أن المهرجان لن يعود للنور مجددا، قبل أن يعيده الناقد الكبير علي أبو شادي، أثناء إدارته للمركز القومي للسينما في العام 2001، ويبث فيه الروح ليظل على رأسه عشر دورات كاملة حتى 2010. وقد كوّن المهرجان خلال السنوات العشر سمعته الكبيرة ورسوخه كحدث سينمائي سنوي مهم.

بسبب ثورة 25 يناير، تعطل المهرجان لمدة عام، قبل أن يعود برئاسة مجدي أحمد علي وإدارة أمير العمري في العام 2012، ثم برئاسة المصور كمال عبد العزيز وإدارة السينارست والمنتج محمد حفظي في الدورتين التاليتين، وآخرهما الدورة 17، التي استضافتها الإسماعيلية خلال يونيو الماضي، وخرجت بصورة جيدة حاول المهرجان فيها مواكبة التطورات في عالم المهرجانات السينمائية المعاصرة.

رابعا: مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية: 

بعد ثورة 2011، فتحت وزارة الثقافة في فترة الوزير عماد أبو غازي الباب للتقدم بمشروعات لتنظيم مهرجانات سينمائية جديدة تدعمها الوزارة.

الدعوة التي لم تسفر بعد العديد من المحاولات إلاّ عن مهرجانين يقامان في المدينة نفسها، الأقصر، طيبة عاصمة مصر الفرعونية، التي صارت في الأعوام الثلاثة الأخيرة محطة دائمة يتوقف فيها قطار المهرجانات المصرية مرتين سنويا.

أهم المهرجانين، وأطولهما عمرا هو مهرجان السينما الأفريقية، المهرجان النوعي الذي لم يكن أبدا فكرة مطروحة رغم بديهيتها، فمصر صاحبة أعرق صناعة في القارة السمراء، والسينما في أفريقيا آخذة في التطور بعجلة متسارعة، والبعد السياسي الإقليمي لحدث كهذا يكفي وحده لدعمه بغض النظر عن أي حسابات فنية، وقد تم الأمر أخيرا من خلال مؤسسة آي شباب المنظمة للمهرجان، والذي يرأسه منذ دورته الأولى السينارست سيد فؤاد وتديره المخرجة عزة الحسيني.

الدورة الأولى أقيمت في مارس 2012، واستمر المهرجان بشكل سنوي في الموعد تفسه حتى يومنا هذا.

برامج المهرجان بالكامل أفريقية الطابع، سواء في مسابقاته الرسمية أو برامجه الموازية. ويعتبر مهرجانا كبير الحجم قياسا على عدد الأفلام التي يعرضها، والكتب التي ينشرها، وورش العمل التي تقام على هامشه. وستكون سينما بوركينا فاسو هي ضيف شرف الدورة الرابعة المقامة في آذار مارس المقبل.

خامسا: مهرجان الأقصر للسينما المصرية والأوروبية

المهرجان الثاني الذي أنطلق بعد ثورة 2011، بمبادرة من مؤسسة نون للثقافة والفنون، ويرأسها المخرج محمد كامل القليوبي، لإقامة مهرجان يجمع بين الثقافتين المصرية والأوروبية في أكثر مكان مصري يتوافد الأوروبيون لزيارته. ترأس المهرجان الناقدة ماجدة واصف ويديره فنيا الناقد يوسف شريف رزق الله.

المهرجان أصغر في الحجم والميزانية وعدد الضيوف من مهرجان السينما الأفريقية، يحاول منظموه الاستعاضة عن كبر برنامج العروض باختيار أفلام جيدة ومركزة، تمثل مزيجا بين جديد السينما في مصر وأوروبا.

الدورة الأولى للمهرجان أقيمت في سبتمتبر 2012، لكن ميعاد المهرجان تغير بسبب الظروف السياسية بعدها لتقام الدورة الثانية في يناير 2014، ويجري الاستعداد حاليا للدورة الثالثة التي تفتتح يوم 24 يناير الحالي، وتستضيف السينما الفرنسية كضيف شرف، بعدما كانت سينما بريطانيا وألمانيا ضيوفا لأول نسختين.

سادسا: مهرجان القاهرة لسينما المرأة

"بين سينمائيات" هو الإسم المتداول للمهرجان الذي أكمل دورته السابعة خلال نوفمبر الماضي، وهي الدورة الثانية له كمهرجان دولي لسينما المرأة، بعدما كان في النسخ الخمس الأولى مهرجانا لسينما المرأة العربية واللاتينية، قبل أن تقرر مؤسسه المهرجان ورئيسته أمل رمسيس أن تجعله ينطلق من قاعدة أوسع.

المهرجان صغير الحجم والميزانية حقا، لا يقارن بالخمسة السابقين ولكن وجب ذكره بسبب تخصصه واستمراره طوال السنوات السابقة، بالإضافة لأنه آخذ في التطور، فعروض دورته الأخيرة أقيمت في ثلاث قاعات بعدما كان يقام في قاعة واحدة، وارتفع عدد ضيوفه الأجانب كثيرا عما سبق.

في النهاية لابد من الإشارة لجهود أهلية محدودة يقوم بها البعض لتنظيم مهرجانات سينمائية، منها مهرجان المنصورة ومهرجان طيبة ومهرجان يوسف شاهين وعناوين أخرى كثيرة، لكن تبقى المهرجانات الخمسة المذكورة، مع الفعاليات الثلاثة التي ذكرنا سبب عدم تناولها في المقدمة، هي الأحداث السينمائية الأهم التي تقام سنويا في مصر.

موقع (صلة) اللبناني في

19.03.2015

 
 

(سندريلا) في صورة سينمائية جديدة

عمان - محمود الزواوي

فيلم «سندريلا» (Cinderella) (2015) من إخراج المخرج البريطاني الإيرلندي كينيث براناج، وهو ممثل معروف، ومنتج وكاتب سينمائي. ويستند سيناريو الفيلم للكاتب كريس وايتز، مع بعض التصرف، إلى قصة «سندريلا « الكلاسيكية الشهيرة للمؤلف الفرنسي تشارلز بيرول والتي نشرت في العام 1697. ويجمع فيلم «سندريلا» بين أفلام الحركة والمغامرات والدراما والفنتازيا والأفلام الغرامية وأفلام الأسرة.

الشخصية المحورية في فيلم «سندريلا» هي الشابة الجميلة إيلا التي سميت لاحقا «سندريلا « (الممثلة ليلي جيمس)، التي يتزوج والدها (الممثل بين شابلين) من امرأة أخرى بعد وفاة والدتها (الممثلة هيلي آتويل). وتقديرا لوالدها ترحب سندريلا بزوجة أبيها الليدي تريمين (الممثلة كيت بلانشيت) وابنتيها أنستاسيا (الممثلة هوليدي جرينجر) ودريزيلا (الممثلة صوفي ماكشيرا). وحين يموت الأب فجأة تحوّلها زوجة أبيها وابنتاها إلى خادمة وضيعة في بيت أسرتها ويعاملنها بكل احتقار. ولكن رغم ما تتعرض له سندريلا من سوء معاملة فإنها لا تفقد الأمل. وذات يوم تلتقي في الغابة بشاب وسيم يقدّم نفسه لها كموظف في القصر، ويخفي عنها كونه الأمير شارمنج (الممثل ريتشارد مادين)، ولكنها تكتشف هويته الحقيقية وتدرك أنها قابلت شخصا طيبا قد يغيّر حياتها، خاصة بعد أن يوجّه الملك (الممثل ديريك جاكوبي) دعوة لجميع الصبايا لحضور حفلة كبرى في القصر، بحثا عن عروس لابنه الأمير شارمنج، ما يبعث الأمل في نفس سندريلا لتجدد اللقاء مع الأمير. إلا أن زوجة أبيها الغيورة تمنعها من حضور الحفلة، وتقوم بتمزيق ثوبها. غير أن كل شيء يتغير حين تدخل إلى الصورة الساحرة الطيبة (الممثلة هيلينا بونهام كارتر) التي تهبّ لمساعدة سندريلا وتمكّنها من حضور الحفلة في القصر، حيث يتجدد لقاء سندريلا بفتى أحلامها الأمير شارمنج، وبذلك تتغير حياة سندريلا إلى الأبد.

ومن الموضوعات التي تتناولها قصة فيلم «سندريلا» أهمية الخبرة والنضوج والشجاعة ومشاعر المودة والصمود في وجه التحديات، وهي صفات حميدة ورثتها سندريلا عن والديها. فهي فتاة طيبة وبريئة تعيش وسط نساء شريرات، وتتعرض للظلم وسوء المعاملة، ولكنها لا تعاملهن بالمثل وتلتزم بنصيحة أمها حين قالت لها وهي على فراش الموت «تمسكي بالشجاعة وبمشاعرك الطيبة دائما».

ويجمع فيلم «سندريلا» بين العديد من المقومات الفنية، بما في ذلك قوة الإخراج والسيناريو وأداء الممثلين وبراعة الموسيقى التصويرية والتصوير وتصميم الإنتاج وتصميم الأزياء. ويتميز الفيلم بشكل خاص ببراعة المؤثرات الخاصة والبصرية المبهرة. ويجمع الفيلم بين عدد من الممثلين المخضرمين الذين تميزوا بأدائهم في الفيلم، وفي مقدمتهم الممثلة كيت بلانشيت الحائزة على اثنتين من جوائز الأوسكار والتي تميزت بأداء دور زوجة الأب الشريرة والممثلة هيلين بونهام كارتر في دور الساحرة الطيبة والممثل الشيكسبيري ديريك جاكوبي في دور الملك. كما يتميز الفيلم ببراعة تصميم الأزياء على يد مصممة الأزياء ساندي باول الحائزة على ثلاث من جوائز الأوسكار، والتي أمضت نحو عامين في تصميم الأزياء لشخصيات فيلم «سندريلا» قبل البدء في تصوير مشاهد الفيلم.

وافتتح فيلم «سندريلا» في مهرجان برلين السينمائي الدولي. وفاز الفيلم بجائزة أفضل فيلم مؤثر في مهرجان هارتلاند السينمائي. وتصدّر الفيلم في أسبوعه الافتتاحي قائمة الأفلام التي حققت أعلى الإيرادات في دور السينما الأميركية، وبلغت إيراداته العالمية الإجمالية 132 مليون دولار خلال الأيام الثلاثة الأولى لعرضه، فيما بلغت تكاليف إنتاجه 95 مليون دولار. وافتتح فيلم «سندريلا» في 3845 من صالات العرض الأميركية. وعرض الفيلم في 50 دولة حول العالم. ويسبق عرض هذا الفيلم في دور السينما عرض فيلم الرسوم المتحركة القصير «حمى المتجمّد» الذي يبلغ طوله سبع دقائق، وهو فيلم متمم لفيلم الرسوم المتحركة «متجمّد» الذي تصدّر أفلام العام 2013 بالإيرادات العالمية الإجمالية التي بلغت 1,272 مليار دولار، وهو من إنتاج ستوديو دزني.

يشار إلى أن القصة الكلاسيكية «سندريلا» للكاتب الفرنسي تشارلز بيرول، الذي عاش في القرن السابع عشر، تحوّلت إلى 22 فيلما سينمائيا طويلا وقصيرا ومسلسلا تلفزيونيا باللغة الإنجليزية منذ العام 1898 في أوائل عصر السينما الصامتة وحتى الوقت الحاضر. وصدرت هذه القصة في أفلام بلغات متعددة، بما فيها اللغة العربية. كما اقتبست في العديد من المسرحيات والأوبرا والباليه. 

الرأي الأردنية في

19.03.2015

 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2014)