كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

رؤى نقدية

 
 
 
 
 

فيلسوف السينما العالمية يعود بشريط إيروتيكي صادم

العرب/ أمير العمري

 

فيلم 'أيزنشتاين في المكسيك' يقدم سردا وصفيا واقعيا لحياة الفيلسوف الروسي الذي تعرض للقمع رغم ما قدّمه للسينما ولقضية الثورة السوفيتية.

برلين- من الأفلام التي كان ينتظرها بلهفة عشاق وجمهور السينما في مهرجان برلين السينمائي الأخير، الفيلم الجديد للمخرج البريطاني بيتر غريناواي الذي نجح مدير المهرجان ديتر كوسليك في الحصول عليه وضمّه إلى مسابقة المهرجان، بعد أن كان غريناواي يفضل دائما المشاركة بأفلامه في مهرجان “كان”. ولا شك أن الفيلم جاء مفاجأة سارة حقيقية لعشاق هذا السينمائي المرموق والمعروف باهتمامه الكبير بتطوير جماليات الفيلم.

جاء فيلم غريناواي الجديد “أيزنشتاين في المكسيك”، ونفضل هذا الاسم على الاسم الأصلي بالأنكليزية وهو “أيزنشتاين في غواناخواتو” تسبقه تلك الضجة التي ثارت في روسيا، حيث أعلنت السلطات، بطريقة غير مباشرة ومن خلال تقارير صحفية، عن عدم رضاها عن الفيلم، حتى قبل اكتمال تصويره.

وتردّد أيضا أنه من المؤكد أن يمنع عرضه في روسيا، في إطار إنكار فكرة أن أحد أعظم الفنانين الروس في كل العصور، أي المخرج السينمائي الكبير سيرغي أيزنشتاين، الذي يقارن ببيتهوفن ورمبرانت وشابلن، كان من “الشواذ جنسيا”.

ويقول غريناواي في مقابلة حديثة منشورة معه، إن المسؤولين في أرشيف الفيلم الروسي رفضوا منحه حق استخدام بعض اللقطات من أفلام أيزنشتاين الشهيرة في فيلمه الثاني الذي يعتزم إخراجه عن أيزنشتاين، والذي ستدور أحداثه قبل فيلمنا هذا، أي في عام 1929، ويسلط الأضواء على رحلة المخرج الروسي الكبير، إلى أوروبا وأميركا وهوليوود وعلى لقائه بكبار المشاهير في عالم الفن والفكر والثقافة في تلك الفترة.

السلطات الروسية تحفظت على فيلم غريناواي، بسبب تسليطه الضوء على الميول الجنسية الشاذة للمخرج أيزنشتاين

أما سبب تحفظ السلطات الروسية والغضب الإعلامي الروسي من فيلم غريناواي، فيرجع إلى أن غريناواي، المعروف بولعه باكتشاف الجوانب الغريبة في شخصيات الفنانين التي يتناولها في أفلامه، يسلط الضوء هنا على الميول الجنسية المثلية (الشاذة) لأيزنشتاين.

في المقابل يقدم وصفا تفصيليا إيروتيكيا مليئا بكل ما كان يعدّ من المحظورات في السينما، من العلاقة الجسدية التي يؤكد غريناواي أنها ربطت بين المخرج الروسي وشاب مكسيكي (متزوج ولديه طفلان)، هو البروفيسور بالومينو كانيدو، وهو المرافق الرسمي لأيزنشتاين خلال وجوده في المدينة المكسيكية عام 1931 لتصوير فيلم “تحيا المكسيك”. ولكن أيزنشتاين لم يكمل الفيلم أبدا، رغم أنه صوّر نحو مئتي ساعة من اللقطات.

يقول لنا صوت المعلق من خارج الصورة في بداية الفيلم أن الاسم الثاني للفيلم، والأقرب إلى موضوعه، هو “عشرة أيام هزت أيزنشتاين” على غرار “عشرة أيام هزت العالم”، وهو الاسم الذي عرف به فيلم أيزنشتاين الشهير عن الثورة السوفيتية “أكتوبر” في الغرب.

ويركز فيلمنا هذا على العلاقة الحميمية التي ربطت المخرج الروسي بالبروفيسور المكسيكي، وكيف أصبح أيزنشتاين تدريجيا منشغلا بتلك العلاقة في إطار اهتمامه الفلسفي العميق بفكرة العلاقة بين الجنس والموت، وربما تكون السبب في عدم استكماله فيلمه عن المكسيك.

أيزنشتاين في الفيلم (يقوم بدوره ببراعة كبيرة الممثل الفنلندي إلمر باك)، مشغول بالجنس والموت: وهو يقوم بتصوير كل ما يتعلق بمتحف الموتى في المدينة المكسيكية واستعراض يوم الموتى، كما نرى ولعه بالجماجم البشرية التي يستخدمها غريناواي في فيلمه، سواء كأقنعة أو كمعادل للموت الذي يجاور الإنسان، حتى وهو في أشدّ لحظاته إغراقا في الجنس.

وفي أحد المشاهد نرى كلا الرجلين يحملان هيكلين عظميين، كاملين، ويرقصان بهما معا في مشهد غريب، قبل أن يستأنفا ألعابهما الجنسية.

والحقيقة أن ما يجسده غريناواي من مشاهد إيروتيكية قد يراها البعض مثيرة، هي أقرب إلى “الألعاب الجنسية” منها إلى جنس حقيقي حميمي، فليس هناك على سبيل المثال، أي تبادل للقبلات، أو تحسس الجسد، بل يحدث كل شيء بشكل رمزي هزلي، حتى في أكثر المشاهد مقاربة للواقع.

والفيلم بأكمله بحث عن التحقق من خلال اكتشاف ما يكمن داخل الجسد من قوة ومن ضعف، من تجاور بين الرغبة المشتعلة والنعاس، وبين الولع بالآخر، الإنسان، حتى لو كان من نفس الجنس، والخوف من الموت، ولعل ما يفتقده الفيلم بشكل محسوس، هو كيف انعكس هذا الاهتمام على أفلام أيزنشتاين التالية أو بالأحرى على تفكيره كسينمائي.

الفيلم بأكمله بحث عن التحقق من خلال اكتشاف ما يكمن داخل الجسد من قوة ومن ضعف، من تجاور بين الرغبة المشتعلة والنعاس

يبرع غريناواي في استخدام الممثل واستخراج طاقته التعبيرية الهائلة من خلال الحركة والحوار، الذي يبدو في الكثير من المشاهد أقرب إلى “المونولوغ” منه إلى “الديالوغ”، كما يستخدم الديكورات المذهلة الكلاسيكية الغريبة، ويكسر جمالها الصارخ بأداء أيزنشتاين المتمرّد؛ إنه مثلا يتجرد تماما من ملابسه بمجرد وصوله إلى مقر إقامته الفخم في حضور الخدم والمساعدين.

كما يستخدم حركة الكاميرا بجرأة تتجاوز كل ما عهدناه في أفلامه السابقة الشهيرة مثل “عقد الرسام” و”حديقة الحيوانات” و”الغرق بالأرقام” و”الطاهي واللص وزوجته وعشيقها” و”بطن المعماري”، فالكاميرا هنا لا تكف عن الدوران حول الشخصية (لقطة كان خلالها أيزنشتاين راقدا عاريا في الفراش ومنتجة فيلمه الأميركية التي جاءت من هوليوود للتفاوض معه، تحاول إقناعه بارتداء ملابسه والانتقال إلى مكان آخر لمناقشة المشروع).

وأيضا في حركة أفقية (بان) تدريجية تتابع من وراء الأعمدة والفواصل تحرّك أيزنشتاين في بهو الفندق في لقطات مختلفة، ولكن دون قطع، بينما هو يتكلم ويصرخ ويعبر عن رفضه واحتجاجه، مواصلا ترديد اعتراضاته على الشروط التي تحاول المنتجة الأميركية فرضها عليه كشرط لتمويل مشروع فيلمه.

شخصية أيزنشتاين في الفيلم تقدم كرجل يتمتع بالعبقرية وغرابة الأطوار والجموح الشديد، والقدرة على السخرية. إنه مثلا يخاطب عضوه الذكري في أكثر من مشهد، ويشكو لصديقه كيف أنه كان دائما يخذله، وكيف أن كل مهمته أصبحت تتركز في التبول.

وأيزنشتاين -المتزوج- يخاطب زوجته “بيرا” أكثر من مرة في الفيلم عبر الهاتف، معتبرا إياها الشخص الوحيد في العالم الذي يمكنه أن يعترف له بكل ما يجري في حياته دون خجل، بل ويذكر لها كيف أنه يرتبط بعلاقة مع رجل.

وفي الوقت نفسه يخشى أيزنشتاين بوضوح سلطة ستالين، ويشعر بنوع من الحصار والمراقبة، ويقول لصديقه إن “الخيارات التي يمكن أن تأتي من جانب ستالين، ستكون خيارات قاسية في كل الأحوال”. وهو يعرب لصديقه أيضا عن عدم رغبته في العودة إلى موسكو، لكننا نعرف أنه سيضطرّ للعودة.

فيلم غريناواي مليء بلقطات من أفلام أيزنشتاين الشهيرة: الإضراب، المدمرة بوتومكين، أكتوبر، تحيا المكسيك، ويتكرر بوجه خاص مشهد اقتحام الثوار الحمر لقصر الشتاء في موسكو، الذي كان ذروة انتصار الثورة الروسية بعد عشرة أيام من الصراع العنيف مع النظام القديم القيصري.

وعلى سبيل السخرية المجازية، يعلق أيزنشتاين على المشهد بأنه يوافق اليوم “الذي فقد فيه أيزنشتاين عذريته”، ويستخدم غريناواي كثيرا أسلوب تقسيم الشاشة إلى ثلاثة أقسام، يجعل أيزنشتاين في الوسط وعلى الجانبين نرى الشخصيات التي يتطرق في حديثه إليها، تتعاقب، وتظهر أحيانا بالألوان وأحيانا أخرى بالأبيض والأسود.

أيزنشتاين يخشى بوضوح سلطة ستالين، ويشعر بنوع من الحصار والمراقبة، ويقول لصديقه إن “الخيارات التي يمكن أن تأتي من جانب ستالين

شخصيات الكتّاب والسينمائيين ولقطات من الأفلام ومن قصاصات الصحف والأماكن التي زارها، والأهم بالطبع، رسومات وتخطيطات (أي اسكتشات) أيزنشتاين الشهيرة الإيروتيكية العارية، التي تظهر في الكثير منها علاقات جنسية مثلية، بل إن غريناواي يجعل هذه الرسوم تتمتع بالحركة أحيانا باستخدام أسلوب التحريك.

الفيلم كله يبدو أقرب إلى رقصة تعبيرية بالجسد، تعبّر عن جموح الفنان واشتعال روحه بالرغبة في التجربة والمعرفة.في أولى المشاهد، يكتشف “الدوش” في حمام الفندق، ويعرف كيف يلهو به وبالمياه المتدفقة منه بجنون، بدعوى أن روسيا لا تعرف مثل هذه الأداة في حمامات البيوت الروسية.

وغريناواي بالتالي لا يقدّم سردا وصفيا تسجيليا واقعيا لحياة أيزنشتاين في المكسيك، بل يستخدم المادة والمعلومات والصور المتوفرة لديه، وينسج من خياله أيضا، لكي يعكس رؤيته الخاصة عن ذلك الفنان العظيم، الذي تعرض للقمع رغم ما قدّمه للسينما السوفيتية ولقضية الثورة السوفيتية أيضا.

ولعل ما يريد الفيلم أن يوصله يتلخص في النهاية؛ وهو أن الفنان لا يعرف حدودا ولا قيودا، سواء في حياته أو في فنه، ولهذا كان من الطبيعي أن يصطدم، وأن يموت أيضا وهو في الخمسين من عمره.

'الولد المشاكس' حكمة النمل تخضع الإنسان

العرب/ رضاب نهار

فيلم 'الولد المشاكس' يحارب العنف والأذى ويحتفي بالتعاون والتسامح كأسس ثابتة لأية علاقة تنشأ في الحياة وبغض النظر عن أطرافها.

في فيلم الصور المتحركة "الولد المشاكس" يمكن للمتابع أن يشاهد أو يعيش تجربة إنسانية شديدة التأثير، أثناء تقصيه لمجتمع النمل، هذه الحشرات التي تشارك الإنسان تفاصيل حياته في كل الأماكن، لكن دون محاولته فهمها أو السعي إلى تفكيك تصرفاتها.

كثيرون حاولوا فهم عالم النمل، من بينهم أولئك القائمون على فيلم "الولد المشاكس"" بدءا من فكرته الإبداعية الأولية، وصولا إلى المنتجين والمدبلجين والعارضين.

شارك في دبلجة الفيلم كل من ميرل ستريب، نيكولاس كيج وجوليا روربرتس. وهو من تأليف جون ديفز. وتروي الحكاية تجربة غريبة من نوعها يعيشها الطفل لوكاس الذي قام بأذية مملكة النمل في مكانها داخل حديقة منزله وإغراقها بالماء.

ويترتب على تصرفه انتقام مماثل من قبلها، يتجسد في سكب دواء سحري في أذنه ما يؤدي إلى صغر حجمه. فيسحبونه إلى جحرهم بغرض معاقبته.

في المقابل هوفا النملة الطيبة والحكيمة، تطلب من الجميع التروي في العقوبة، كمحاولة لتحويله إلى نملة.

وهنا تبدأ معاناة الطفل محاولا التأقلم مع واقع لا ينتمي إليه. لكن في النهاية ينجح في تحقيق الهدف، مؤكدا أن الانتماء والولاء ليس بالشكل، بل بالمضمون وبالتصرفات. وذلك بعد إنقاذ مجتمع الحشرات من الرجل المقرف الذي يعمل بالمبيدات الحشرية.

وما إن يعود الطفل إلى طبيعته السابقة كإنسان بحجمه الحقيقي والمعروف، حتى يتعلم درسا حول كيفية التعامل مع الآخر واحترامه مهما كان حجمه أو جنسه ومهما كان مختلفا.

وبمعنى ثان يتعلم أن التعايش السلمي والودّي يصلح لأن يكون الخيار الأنسب لدى جميع الكائنات، وهي الرسالة العميقة التي يريد فيلم الكرتون هذا، إيصالها للعالم بأسره بكباره وصغاره، تجنبا للحروب والاقتتال العنيف.

تنهض الفكرة في الفيلم على ثيمة إنسانية بكل معنى الكلمة، فتراه يحارب العنف والأذى ويحتفي بالتعاون والتسامح، كأسس ثابتة لأية علاقة تنشأ في الحياة، وبغض النظر عن أطرافها.

ولعل العبارة الأدق التي لامست هذا المنحى أكثر من غيرها، هي تلك التي قالتها النملة هوفا لحبيبها أثناء حديثهما عن الطفل لوكاس: “توجد طيبة فيه، في داخله نملة”.

وهنا ثمة إشارة استفهام على فكرة “الأنسنة” التي خضعت لها حشرات العمل من نمل ودبابير وفراشات طائرة وقمل وغيرها العديد، ذات الأحجام والأشكال المختلفة. فأن ندخل إلى حيوات هذه الحشرات، لا يعني بالضرورة أننا نُؤَنْسِنُها، أو نجعلها شبيهة بطبائع الإنسان.

وبالتالي نحن نقصد بمصطلح الإنسانية، الرقي في التعامل والرقة واحترام الآخر وكل ما هو جميل. ولا نقصد الإنسان في حدّ ذاته، إذ يتطرق الفيلم إلى الكائن البشري أي الإنسان في المطلق، كبيرا أو صغيرا، كأحد أهمّ رموز الشر في المحيط، خاصة تجاه مجتمع النمل والحشرات عموما.

في ذات الخصوص يحارب "الولد المشاكس" التطرف باعتباره صفة غير محببة أبدا، وغالبا ما تجلب المشاكل لصاحبها أولا وللآخرين ثانيا. ويعرض الأزمة من خلال شخصية النملة الذكر عاشق هوفا، في كرهه للوكاس الطفل.

وكما المجتمعات البشرية، تتكشف تحالفات جديدة من أجل مواجهة العدوان، لكن هذه المرة ليس لأجل مصلحة ما، إنما بغرض محاربة الشر المطلق الذي يتبدّى في رغبة البعض بالإبادة الكلية للحشرات، أو في أكلها حتى. فمن دون شك، الخير واضح والشرّ واضح، وكل يعمل وفق خصاله.

العرب اللندنية في

17.02.2015

 
 

هذا الفتى ..عُمر

نديم جرجوره

ملاحظات عديدة يُمكن سوقها أثناء الكتابة عن سينما السوري الراحل عمر أميرالاي (1944 ـ 2011)، تبدأ بالمفارقة التي وسمت حياته السينمائية الممتدة بين "تجربة فيلمية عن سدّ الفرات" (1970) و"طوفان في بلاد البعث" (2003)، ولا تنتهي عند سجالية صنيعه البصري الوثائقيّ، المنطلقة من اشتغاله الفني في جعل التسجيلي وثائقياً متحرّراً من تقنية الريبورتاج والتحقيقات التلفزيونية، ومن اختراقه المبطّن أو المباشر ـ عبر كاميرا لا تلين ولا تستسلم ولا تقف عند حدّ ـ أحوال بيئات وشخصيات وحكايات متفرّقة. سجالية تُفكّك الكيان العام للمادّة المختارة، لكشف بعض ملامحها وتسليط ضوء أو أكثر عليها، ولإعادة تكوين الحكاية المنوي سردها عبر وقائع حقيقية، يُضاف إليها ذاك البُعد الفني البصريّ، المرتكز على لعبة التوليف أساساً، الكفيلة بتحقيق الصنيع السينمائيّ ضمن أصوله الفنية المتكاملة شكلاً ومضموناً.
هل بداية المسار المهنيّ لعمر أميرالاي ونهايته أمر محتوم ومقدّر أن يكون بالشكل الذي كان عليه، أم أن "عبقرية" الرؤية السينمائية والثقافية والجمالية والإنسانية للمخرج الراحل تفضي، بطريقة لا واعية ربما، إلى "إنهاء" دائرة العمل بفيلم يُعتبر أشبه بـ "ردّ" سينمائيّ على أوّل فيلم له؟.

لن تكون الإجابة سهلة. ظروفٌ كثيرة تحول دون تحقيق ما يرغب فيه السينمائي، وعمر أميرالاي لم يتردّد لحظة في تحدّي المصاعب، وإن لم يبلغ مُراده دائماً. ألم يكن يسعى إلى تحقيق مشروعيه عن السوريتين أسمهان وإغراء، من دون أن يتسنّى له ذلك؟ ألم يكن ممكناً أن تكون "نهاية" مساره السينمائيّ مختلفة، لو تسنّى له تحقيق أحد هذين المشروعين على الأقلّ، فيُصبح "الطوفان في بلاد البعث" محطة لا نهاية، تُضاف إلى نقاش مفتوح دائماً على أسئلة السينما والمجتمع والناس والأفراد والدولة والعلاقات الإنسانية؟.

الصورة وأهميتها

لن تؤدّي الأسئلة إلى إجابات واضحة، لأن رحيل عمر أميرالاي عشية انطلاقة "ثورة السوريين" (الغارقة في الدمّ والعنف والوحشية حالياً) يضع حدّاً لتساؤلات عن غدٍ غير معلوم، خصوصاً أن "الزلزال" السوري الراهن لن يمرّ عابراً في ذات السينمائيّ ووجدانه، كما في وعيه والتزاماته وسجاليته المعهودة. في الذكرى الرابعة لرحيله (5 فبراير/ شباط 2011)، تُصبح الكتابة أخفّ وطأة من إثارتها أسئلة المقبل من الأيام، كي تتوغّل قليلاً في الإرث البصريّ الوثائقيّ، الممزوج بخليط السينما والنضال الإنساني والفكر الجمالي، الموضوع أمام متذوّقي السينما ومحبّي أنماط اشتغالاته يومياً. فاتّخاذه السينما الوثائقية أداة تعبير ومواجهة وتعرية، نابعٌ من وعيه لأولوية الصورة وأهميتها في ولوج الواقع الإنساني الحيّ في سوريا، وفي بلدان عربية وغربية متفرّقة. 
أما مشروعه السينمائيّ، فمبنيّ على مسألتين اثنتين: تحرير الصورة من جمودها التلفزيوني والنضالي والإيديولوجي، وتحطيم الأسوار كلّها المحيطة بالإنسان الفرد وبحكاياته الذاتية المفتوحة على العام. الكاميرا معه تدخل في أعماق هذا الفرد، وفي متاهات خبرياته الكثيرة، وتجد مُعادِلاً بصريّاً لهذا الفرد ولحكاياته الكثيرة. أميل إلى القول إن في السينمائيّ والمثقف السجاليّ رغبة دائمة في المشاكسة، أي في المواجهة والتحدّي والتنقيب الدائم عن إجابات متعلّقة بأسئلة الحياة والوجود والهوية والانتماء والمعنى. حساسية سينمائية معطوفة على حيوية ثقافية وفكرية، وعلى نِظرة ثاقبة في التحديق إلى المخفيّ أو المبطّن في الأشياء، وعلى عفوية أو ارتباك أحياناً إزاء مسألة أو شخصية، من دون أن تكون العفوية والارتباك هذان حاجزاً أمامه لبلوغ مُراده، لأنهما جزءٌ من قلق الباحث في الأسئلة تلك: علاقته السينمائية بشخصية عامّة كرئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري (1944 ـ 2005) مثلاً، في "الرجل ذو النعل الذهبي" (1999)، نموذجٌ. فالمخرج لم يُخف ارتباكه الفكري والثقافي أمام السياسيّ والاقتصاديّ ورجل الأعمال، في لحظة سياسية ـ تاريخية كاشفة عمق الخلاف حوله (الحريري). قبله، يُقرّر أميرالاي إنجاز فيلم عن الباكستانية الراحلة بنازير بوتو (1953 ـ 2007): رئيسة وزراء وابنة عائلة سياسية معروفة ذات ثراء مهمّ. بدت بوتو، في نهاية ثمانينيات القرن المنصرم، "هدفاً" سينمائياً وثقافياً وسجالياً، قابلاً لأن يكون مدخلاً إلى فهم تفاصيل العيش في الرهان الدائم على عصبية العائلة والمال والسياسة. براعة السينمائيّ وحنكته وارتباكاته كلّها دافعٌ إلى الاحتيال على ما هو غير متوقّع، إذ لم يفلح المخرج في لقاء السياسيّة الباكستانية يومها، فأنجز "إلى السيّدة رئيسة الوزراء بنازير بوتو" (1990) راوياً فيه حكايته الشخصية مع "فشله" في لقائها، وراسماً ملامح امرأة وبلد ومجتمع من موقع سينمائيّ بحت لا يخلو من بصماته الشخصية.

سمات

الارتباك جزءٌ من صدق المرء مع ذاته. "الحيلة" وسيلة سينمائية تبدو أشبه ببصمة أساسية في اشتغالات عمر أميرالاي. حيلة مبنية على معرفة وتنقيب وتساؤلات، وعلى وعي معرفيّ قادر على التجوّل في أروقة الوعي ـ اللاوعي الخاصّة بالشخصية المختارة، وفي دهاليز المواضيع والمسائل المختارة. الصدق مرادف للشفافية، بهما أنجز "تجربة فيلمية عن سدّ الفرات"، إذ بدت التجربة هذه منبثقة من قناعته بأن أمراً مهمّاً يحصل في سوريا، فيختار الفرات حيّزاً متكاملاً؛ جغرافيا، وبيئة اجتماعية وإنسانية، وثقافة دولة تبني نفسها شيئاً فشيئاً،، إلخ. يقول إن بلداً ينهض باتجاه بناء دولة ومجتمع (...). لكن "ثقة" ما بـ "البعث" لم تدم طويلاً، لأن "البعث" نفسه يبدأ سريعاً رحلة الانحدار إلى الهاوية، خاطفاً معه بلداً ومجتمعاً وشعباً، وأحلاماً كثيرة أيضاً. بعد 33 عاماً على "تجربته الفيلمية" هذه، يُعلن أميرالاي خيبته ووجعه وانكساره، ويقول أيضاً أجمل ما يُمكن لسينمائيّ أن يقوله: هناك "طوفان" سيُغرق من يخطف بلداً ومجتمعاً وشعباً. في الـ "طوفان"، يُمعن في تفتيت الصورة القديمة بمقاربته الحالة الإنسانية التي يُدركها أبناء المنطقة تلك، على ضفاف الانهيار والفوضى والمتاهة المقيمين فيها.

الاحتيال والصدق والارتباك سمات سينمائية متكاملة والوعي المعرفي ـ الثقافي ـ الجماليّ لدى عمر أميرالاي. الدخول في الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990) محاولة من السينمائيّ لمقاربة وقائع يومية في ظلّ الموت والخراب والجنون، فكان "مصائب قوم" (1981) بمثابة تفعيل لقناعة سينمائية مرتبطة بأولوية الحكاية الفردية، المفتوحة على العامّ. "الحبّ الموؤود" (1983) مثلاً: بوح ذاتيّ خاص بالمخرج إزاء تحوّلات مجتمعية في مصر عبر شخصيات نسائية متناقضة (أو ربما متكاملة بعضها مع البعض ضمنياً). قبله، هناك "الحياة اليومية في قرية سورية" (1974)، و"الدجاج" (1977)، و"عن ثورة" (1978)، و"طبق السردين" (1977) وغيرها: توغّل توثيقي ـ بصريّ في وجع فردي يومي مكشوف على جرح أعمق وأكبر يطال بلداً ومجتمعاً وشعباً. هناك أيضاً اشتغالاته على شخصيات ثقافية وفنية مرتبطٌ بها إما بفعل الاهتمام الثقافي ـ الإنساني المتشابه، أو بفضل صداقة ما. هذه اشتغالات تُعتبر جزءاً من توثيق مرحلة وتأريخ حكاية فردية ـ عامة. 

العالم السينمائي لعمر أميرالاي واسع وعميق. الكتابة فيه وعنه محتاجة إلى مساحة أكبر، ونقاش دائم لا يخلو من اكتشاف الجديد في نتاجاته.

«سينما حتى الموت» ما زال السوريون يصنعون الأفلام

أدوات بسيطة تكفي لكن الموافقة الأمنية هي الأصعب

سامر محمد إسماعيل (دمشق)

ردة سينمائية قوامها فنانون شباب يعملون على تأسيس حساسية مغايرة للمخيلة التي طبعها التلفزيون في ذاكرة جمهورهم؛ أو ما تبقى منه في ظل جنون الدم؛ ففي بلدٍ تسيّدت المسلسلات الرمضانية واجهة فنونه البصرية لسنواتٍ طويلة؛ تبزغ فيه اليوم تجارب الفيديو آرت، وتيارات أخرى من موجة السينما العربية المستقلة؛ فتتداعى هذه التجارب شبه المعزولة عن بعضها بحكم الحرب الدائرة على امتداد الأقاليم السورية؛ إلى ما يشبه نفيراً عاماً لصياغة أشرطة بنكهة الكارثة؛ أشرطة تحاول تكريس السينما في الحياة السورية من جديد إذا ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً. من هنا تحاول الذائقة السينمائية الجديدة تلمس طريقها كأعمى يقوده الحب نحو الفن السابع. «سينما حتى الموت - يقول المخرج الشاب سيمون صفية الذي حقق مؤخراً فيلمه (جوليا - منح مؤسسة السينما) ويضيف: «نحن السينمائيين الجدد أشبه بنمل الصحراء؛ فعلى الرغم من كل ما حدث ويحدث؛ وكل العوائق التي يصعبُ تفنيدها؛ جعلتنا السينما كنمل الصحراء، نملٌ سينمائيٌ سميكُ القشرةِ؛ طويلُ الأقدام؛ يمشي تحت الشمسِ الحارقة؛ يبحثُ عن الزادِ في أكثرِ الأماكنِ وِحشةً ورعباً؛ لكنه يستمر ببناء البيت، الفرق الوحيد بيننا وبينه أنه لا ملكةَ لنا، فلم تردعنا قسوة الواقع ومازلنا نحاول».

كلام يدعمه زياد القاضي المخرج الشاب الذي حقق هو الآخر في بداية الحرب السورية أول تجربة سينمائية قصيرة، بعد تجارب له في المسرح واللوحات التلفزيونية؛ وليشارك فيلمه passage في مجموعة من مهرجانات دولية كان آخرها مشاركته في مهرجان الإسكندرية؛ حيث نال هناك تنويهاً عن تميّزه الإخراجي من لجنة التحكيم - فئة الأفلام القصيرة عن دول البحر الأبيض المتوسط. يقول القاضي عن هذه التجربة: «passage لم تكن الفكرة فيه هي الرسالة فقط؛ بل تقصدتُ إنتاج الفيلم بأدوات بسيطة جداً من الكاميرا إلى الإضاءة؛ وحتى المونتاج؛ فكانت تكلفة الفيلم أقل من ثمن مخزن رصاص نسمع صوته على مدار الساعة في شوارع مدننا.. لعلني كنت أريد أن أقول لشباب يمتلكون الفكر والموهبة وينتظرون جهات مازالت خجولة في إنتاجها السينمائي؛ أن الرسائل التي تحملونها يجب أن تتحدّى الظروف لتنهض». لكن هل تؤسس تجربة (القاضي) لتيار من الأفلام تتمّ صناعتها بميزانيات منخفضة في ظل ظروف أمنية صعبة للغاية؟ سؤال يجيب عليه سيمون صفية معقباً: «لقد تمّ توريط الفن في السياسة بشكل سطحي ومبتذل، منذ بداية الأحداث ونصب الكاميرا في الشارع أشبه بتركيب مدفع دوشكا!؛ أجل أنت عدوّ الجميع حتى يثبت العكس، لا أحدَ يدفع ليرة واحدة لصناعةِ فيلم إلا إذا كنت تحكي لهُ رأيه كما هوَ، لقد باتت السينما أداةً ليس وسيلة؛ أداة للتعبير عن رأي لا حساسية أو خيار. خذ مثلاً إبراهيم البطوط خرج في مقابلة على الـ « you tube» ليقول لنا: (لم تبق هناك حجة لكم يا عشاق السينما.. كاميرا ديجيتال ومجموعة من الأصدقاء يستطيعون صناعة فيلم)... كلام صحيح - يعقب صفية ويتابع: «لكن تبقى هنا الموافقة الأمنية على التصوير هي الأمر الأصعب؛ وهيَ ما نتمنى أن تصبح بمتناول الجميع، فمما الخوف؟ لن يخرب الوطن بفيلم؛ إبراهيم بطوط وأحمد عبد الله في مصر هم أسطع الأمثلة على إمكانية صناعة أفلام الميزانيات المنخفضة، التجربة هي عماد الفن والوسيلة الوحيدة لتطويره ولنا الحق في التجريب؛ والتجريب هنا ليس بالضرورة صناعة فيلم تجريبي؛ فهذا ما نبحث فيه، الرغبة الجامحة في الفن في السينما هي المحرّض الوحيد لنا؛ وصناعة فيلم يحكي أسئلتنا؛ هواجسنا؛ أحاسيسنا نحن الجيل الجديد هوَ الهدف الأكبر؛ لكننا نحاول وسنبقى نعيد الكرّة، الحلمُ يسكننا؛ لا مفرّ؛ سينما حتى الموت» .

آلاف الأفلام تنتظر

كلام يُعلّق عليه المخرج زياد القاضي الذي يحضّر في هذه الأيام لتصوير فيلمه الجديد (شمس - روائي قصير - مجموعة شاميرام) إضافةً لفيلم وثائقي بعنوان (دروب - شاميرام): «(دروب) أحاول من خلاله محاكاة موضوعة الموت المجاني الذي يستهدف الأطفال السوريين يومياً في دمشق وحلب وحمص وسواها؛ فأسعى مع فريق الفيلم أن نوثق من خلال قصة درامية كل ما يحدث على الأرض السورية؛ وذلك لما رأيناه من ضرورة لصنع أفلام كهذه؛ التصقت سينمانا بالواقع؛ لكن الكثير من واقعنا مغيّب عن الخارج ومن الضروري أن تلعب السينما دورها حالياً؛ فنحن نصوّر واقعنا من خلال السينما التي كان لها دور كبير بالنسبة لنشر ثقافات الشعوب واتجاهاتهم السياسية؛ أصلاً السينما كانت دائماً في لبّ السياسة؛ فوثّقت ونشرت الكثير من الأفكار كلٌ حسب توجّهه؛ فلا يُخفى على أحد الارتباط السياسي بين هوليود والسياسة الأميركية مثلاً؛ وكيفية شدّ المتلقي وتلقينه مفاهيم مختلفة مدروسة مسبقاً؛ لذا أتمنى من الجهات المعنية بالسينما أن تتخلص من خجلها وتنطلق؛ فعلى هذه الأرض آلاف الأفلام التي تنتظر.. «فقط أمسك كاميراتك أو قلمك وتجول في الشوارع السورية لتصنع أفلاماً - يعقب القاضي مضيفاً: «ربما سيقف أمامها البعض ليجيب عن أسئلة لم يكن يعرفها؛ فآثار الحروب ستزول يوماً؛ وربما يكتب التاريخ عنها كما يشاء، السينما وحدها تستطيع تصوير الحقيقة»... عبارة تعلّق عليها المخرجة الشابة زهرة البودي، فتقول: «الفن في زمن الحرب..! عبارة لم أفهمها قبل الأربع سنوات الأخيرة؛ إذ وجدتُ نفسي فيها أؤمن بأن الفن الحقيقي يولد في زمن النزاعات.. الزمن الذي يُلهمنا جميعاً لنكون أقوى».

في ظلّ محترفات سينمائية كثيفة بإلحاحها على طرح مقولاتها ورؤاها المتباينة حول ما يجري على الأرض السورية؛ أطلقت المؤسسة العامة للسينما مشروع دعم سينما الشباب العام 2011، ليصل مجموع المُنح التي قدّمتها هذا العام إلى ما يقارب السبعين فيلماً؛ حققه خمسون مخرجاً ومخرجة شابة؛ وذلك عبر تقديم المؤسسة لهؤلاء التجهيزات التقنية والفنية؛ إضافةً إلى مبالغ مالية صغيرة كأجور «350 ألف ليرة سورية - ما يعادل تقريباً «2000 $» تُدفع لصاحب المشروع. زهرة البودي نالت مؤخراً منحة من المؤسسة العامة لتحقيق فيلمها الوثائقي الأول بعنوان «سالي» والذي تسرد لنا قصته فتقول: «استوقفني تقرير الأمم المتحدة الأخير عن وضع الطفولة في سوريا، والذي أشار إلى أن الصراع السوري هو واحد من أخطر الأزمات التي تواجه الأطفال في العالم اليوم، فلقد أدّى هذا الصراع لتدمير حياة أربعة ملايين طفل وتعريض جيل بأكمله للخطر. من هنا كانت البداية مع شريطي الأول (سالي)؛ حيث يتحدث الفيلم عن طفلة نازحة من مدينة الرقة إلى مدينة اللاذقية؛ فتتعرّض لحادث أليم أثناء تهجيرها وأهلها، لتبدأ حكايتي مع هذه العائلة التي شرّدتها الحرب».

المهند كلثوم حقق بدوره مؤخراً فيلماً وثائقياً بعنوان «ياسمين» يصوّر واقع الأطفال وعائلاتهم الذين ذاقوا مرارة تجربة النزوح الجماعي؛ ليكون هذا الشريط جنباً إلى جنب مع دورات سينمائية كثيفة حقق (كلثوم) آخرها في دمشق عن صناعة الفيلم الوثائقي برفقة عشرين شاباً وشابة، بينما أنهى مؤخراً الكاتب حسن م. يوسف دورة في كتابة السيناريو السينمائي مع مجموعة من محبي هذا الفن في مدينة اللاذقية؛ والتي تشهد هي الأخرى الدورة الثالثة لمهرجان «خطوات 21- 26 المسرح القومي» وبدعم من المؤسسة العامة للسينما ومجلس الشباب السوري. عشاق الشاشة الكبيرة كانوا أيضاً وعبر مجموعة من المخرجين الهواة على رأس ورشتهم في غاليري (مصطفى علي) بدمشق وبالشراكة مع كل من المخرجين محمد ملص وسمير ذكرى والروائي خليل صويلح؛ حيث شهدت أيام هذه الورشة نقاشاً جدياً وقلقاً عن مستقبل السينما في البلاد تحت وقع القذائف والانفجارات. الورشة التي جمعت سينمائيين من جيل المخضرمين والشباب تركت الباب مفتوحاً لتجارب مماثلة ترفع راية السينما في بلاد التلفزيون.

السفير اللبنانية في

17.02.2015

 
 

ليلى مراد في الذكرى 97 لميلادها:

حكاية أسطورة الغناء والإعتزال في قمة وهجها الفني

القاهرة – «القدس العربي»:

حلت الاثنين الذكرى الـ97 على ميلاد النجمة الراحلة ليلي مراد التي رحلت عن عالمنا 21 نوفمبر/تشرين الثاني 1995 تاركة رصيدًا فنيًا كبيرًا جعلها حاضرة في قلوب جمهورها ومحبيها حيث قدمت حوالي 28 فيلمًا طوال مشوارها الفني وأشهرها فيلم «الحبيب المجهول» و»سيدة القطار» و»حبيب الروح» و»غزل البنات» و»قلبي دليلى» و»ليلي بنت الأغنياء»، وهناك 7 أفلام حملت اسمها: بدأت بـ»ليلى بنت الريف» وانتهت بـ»ليلى بنت الأكابر». كما قدمت العديد من الأغنيات التي تعاونت فيها مع كبار الشعراء والملحنين ومن أشهر أغانيها «أبجد هوز، قلبي دليلي، يا رايحين للنبي الغالي، ليه خلتني أحبك، شحات الغرام».

ولدت ليلي من أب وأم يهوديين في 17 فبراير/شباط من عام 1918، درست في مدرسة نوتردام ديزابوتر، وتعلمت الغناء على يد والدها الملحن زكي مراد والملحن داود حسني، وغنت بعدها في العديد من الحفلات، وتقدمت للاذاعة المصرية في منتصف الثلاثينات، وتعاقدت معها على الغناء بشكل أسبوعي. عرفها الناس من صوتها عندما أقام لها والدها حفلًا غنائيًا في مسرح القاهرة عام 1932، وحضره عدد كبير من الشخصيات الكبيرة منهم الشاعر الكبير أحمد شوقي، والموسيقار محمد عبد الوهاب، وبعد أن سمعها عبد الوهاب أشاد بها ومن هنا بدأت علاقتها بالموسيقار عبد الوهاب الذي كان أول من فتح لها باب الشهرة والمجد. لم تتعدد زيجات ليلي مراد كغيرها من نجمات جيلها، ولكن ما هو مؤكد أن زواجها الثاني من الطيار وجيه أباظة لم يكن في العلن بل كان سرًا لسنوات طويلة، وكانت لا تزال على اليهودية، أما علاقتها بالفنان أنور وجدي فهي الأرسخ في الأذهان، حيث شكلا ثنائيًا فنيًا وتعرف أنور وجدي عليها وهي في عز مجدها، لم تكن ليلي مراد قد أعلنت إسلامها وبعد زواجها من أنور وجدي عام 1945 بدأ هو يعد لفيلمه الجديد «ليلى بنت الأغنياء» إخراج يوسف وهبي، وفي ذلك الوقت عرض عليها عبد الوهاب أن تقوم ببطولة فيلم «ممنوع الحب» لكن أنور وجدي رفض لغيرته عليها منه، وقال لها لا بد وأن تتفرغي لشركتنا وأن توقفي نشاطك الآخر.

وفي عام 1946 أشهرت إسلامها على يد الشيخ محمود أبو العيون وكيل الجامع الأزهر الذي كانت تداوم على حضور الدروس الدينية التي كان يلقيها.

وقبل إسلامها كانت تتعرض لمحاولات تبشيريَّة من قبل راهبات نوتردام، وحتى بعد إسلامها لم تسلم من التشويه.

ولم تكن حياة ليلى مراد مليئة بالسعادة خاصة وأنها عاشت مظلومة بعدما طالتها شائعات أنها لا تزال على يهوديتها، وزارت إسرائيل سرًا وتبرعت بما تملك من أموال لليهود فيها، وأنهم يخلدون ذكراها بفيلم سينمائي يحكي مشوارها من الألف إلى الياء وهو الأمر المنافي للحقيقة وكانت مجرد شائعات، وتعرضت لمشاكل كثيرة مع إسرائيل، والسبب في ذلك هو أنهم كانوا يدعونها للعيش في إسرائيل، فرفضت أكثر من مرة، وردت عليهم قائلة: «أنا مصرية ولدت وعشت في مصر وحموت فيها…».

ليلي مراد لها ابنان أحدهما من المخرج فطين عبد الوهاب وهو الفنان زكي فطين عبد الوهاب، و»أشرف» من زوجها وجيه أباظة، والتي عاشت لهما وكرست حياتها لتربيتهما بعدما اعتزلت الفن وظلت بعيدة عن العيون والشائعات أربعين عامًا حتى رحلت في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1995، يشار إلى أنه بعد الاعتزال المفاجئ وهي في قمة نجاحها وشهرتها الفنية، بذل العديد من المقربين لها محاولات عديدة للعودة، ولكنها أصرت على الابتعاد والثبات على موقفها، حتى نجح الموسيقار بليغ حمدي في الستينيات في إقناعها بمشاركته في تقديم برنامج تلفزيوني في تلفزيون أبو ظبي.

خطة هوليوود للسيطرة على العقل العربي:

العنف صناعة أمريكية… شهادات سينمائية موثقة بالصوت والصورة

كمال القاضي - القاهرة ـ «القدس العربي»:

في تطور تحسد عليه الإدارة العامة للسينما في وزارة الثقافة، جاء برنامجها الشامل للعرض والتحليل متضمنا لنوعيات مهمة من الأفلام الأمريكية، سبق عرضها في سنوات ماضية وأحدثت آن ذاك ضجة نتيجة ما ورد فيها من محاور تتصل بقضايا العنف، ومن تسبب فيه وسبل ووسائل رواجه في العالم، بخطة منظمة استخدمت فيها السينما كأداة ونفذتها هوليوود كلاعب رئيسي بمساعدة وكلائها في مصر ومنطقة الشرق الأوسط. 

وقد اختير فيلم جران تورينو كنموذج للتدليل على تورط آلة الإنتاج الأمريكية في إشعال نار الإرهاب، وفق سياسة محكمة لعبت بأوراق الفن والإبداع والثقافة، لتخريب المجتمعات العربية بالتسلل الخفي لعقل ووجدان الجماهير، وبث الأفكار المسمومة لإحداث تغييرات نفسية وإنسانية وأيديولوجية عبر أزمان طويلة لضمان الانقياد والسير في اتجاه الهدف.

ولم تكن الأفلام صاحبة الرسالة الجهنمية كلها تتبني خطابا موحدا، ولكنها تلونت في لغتها وعرجت على أفكار وقضايا مغرية لتتمكن من هيمنتها على العقول فناقشت مشاكل التمييز العنصري والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان كنوع من التمهيد لما هو آت.

وقد شهدت السينما الأمريكية بعض التحولات على مدار تاريخها، ولكن بدت رسالتها واضحة في ما بعد 11 سبتمبر/أيلول حيث تخلت هوليوود عن حريتها المزعومة في طرح ما تريد من قضايا وركزت على قضية واحدة، هي العنف عبر مئات الأفلام وحصدت مليارات الدولارات تحولت عن ذلك بعد الاعتداء عليها وتوقفت عن إنتاج هذه النوعية، بل أنها حاولت إلزام بعض الدول المنافسة بقانونها الجديد، اعتقادا منها أو يقينا، بأن العنف في السينما يساهم في ترويج العنف على مستوى الواقع، وقد وجهت إنذارا إلى كبرى المؤسسات الإنتاجية في العالم محذرة من إعادة إنتاج الأفلام ذات الصلة بالإرهاب. وفي هذا الإطار لجأت إلى تغيير نهايات بعض الأفلام التي أنتجت بالتزامن مع التاريخ الأسود 11 سبتمبر، ومنها فيلما «العنكبوت» و«يوم الاستقلال» على سبيل المثال.

ويزيد على ذلك أن الإدارة الأمريكية هددت بفرض عقوبات على الشركات الإنتاجية التي لم تلتزم بالنظام السينمائي العالمي الجديد، وأوعزت بعدم توزيع أفلامها المنتجة حديثا داخل الولايات المتحدة، وبالفعل خشيت بعض الدول من إنزال العقوبات وتوقفت عن إنتاج أفلام العنف لفترة تجاوزت الثلاث سنوات.

وتدلنا هذه الإجراءات القمعية إلى أن الادعاء بالحرية المطلقة في هوليوود محض وهم ويتم تصديره لشعوب الدول النامية كي يعلق في أذهانهم أن أمريكا هي النموذج الأمثل للحرية، وأن تمثالها الشهير يعبر عن واقع لحياة الشعب المتميز المفطور على الديمقراطية.

وقد نشرت دراسات مطولة في عدد من مراكز الدراسات السينمائية حينئذ على خلفية التحولات الطارئة تعرضت إلى الشيزوفرينيا الأمريكية، أي أن رصد الخلل الفني والسياسي ليس وليد اللحظة ولم يكن الأمر مقصورا على السينما فقط وإنما طالت الأوامر الصارمة مؤسسات الإنتاج في الدراما التلفزيونية على نطاق واسع، فشملت العديد من الدول التابعة التي خشيت من الإرهاب الأمريكي والتزمت فورا بالقرار الفوقي.

ونحن إذ نرصد التناقض الواضح في سياسة الدولة العظمى التي تكيل بمكيالين، فبعد أن كانت تحارب الإرهاب وتحذر منه باتت تشجعه وتدعمه بالمال والعتاد، وهو ما يثير الريبة ويعمق الشك في نية الإدارة الأمريكية تجاه ما تدعيه من خطاب ثقافي سياسي متوازن يهدف إلى ترسيخ الاستقرار وتعميق أواصر التعاون بينها وبين الدول الصديقة، على حد قولها.

لم يخرج فيلم «جران تورينو» الذي أنتج عام 2008 عن قاعدة استخدام الفن كأداة توجيه تعمل مع أو ضد، حسب مقتضيات المرحلة والظروف، المهم أن يصب كله في صالح المجتمع الأمريكي، حيث يناقش الفيلم الحاصل على جائزة سيزر لأفضل فيلم أجنبي وجائزة الأكاديمية اليابانية وجائزة ديفيد دي دوناتيلو ما نتج عن الحرب الكورية من مآس إنسانية دفع ثمنها البسطاء والأبرياء، ممن لا ناقة لهم ولا جمل في صراع الدول وأطماعها، فالبطل كلينت إيستوود جندي شارك في الحرب وعاد منها بائسا يعيش حياة مؤلمة، خاصة بعد أن فقد زوجته التي تركها وحيدة طوال فترة الحرب وهو تلميح إلى البعد المأساوي الآخر للحرب والمتمثل في أنها لا تؤذي فقط المحاربين ولكنها تترك بصماتها وآثارها التدميرية على أهالي الجنود وذويهم وهو نوع من التعبئة لترسيخ فكرة الدمار الناتج عنها لدى الجنسين.

وتعود قصة الفيلم إلى أحداث حقيقية وقعت في الشمال الكوري وقد تم تشجيع الإنتاج للاستفادة من الدعم الحكومي الذي تمنحه أجهزة الدولة للأفلام الموجهة.

الفيلم تم تصوير أغلب مشاهده في استوديوهات ويعتمد مخرجه كلينت إيستوود على الرؤية المزدوجة بين الدرامي والوثائقي، وقد اعتبر ضمن أهم عشرة أفلام أنتجت عام 2008 ومع ذلك تم تجاهله من أكاديمية العلوم والفنون للرسوم المتحركة المعنية بتقييم الأفلام الروائية الطويلة، وأيضا تجاهلته جائزة الأوسكار للاعتراض على فكرة التوجيه.

حاز الفيلم تأييد النقاد بيد أن البعض منهم توقف عند التفاصيل الصغيرة التي توحي بأنه يهدف إلى الدمج بين الثقافات في إشارة إلى البعد الأعمق وهو محاولة الفيلم تقديم صورة إيجابية للأمريكيين الآسيويين للتأكيد على أنهم صالحون لعملية الدمج والانخراط في المجتمع الأمريكي كمواطنين أمريكيين لهم كافة الحقوق السياسية والاجتماعية والإنسانية.

هذه دلالات التعبئة والتوجيه في فيلم مقتبس عنوانه من ماركة السيارة الشهيرة «تورنيو» وهو حسب القراءة الانطباعية عنوان دعائي وضع للفت النظر وسهولة الترويج أو أنه مجرد مرجعية تاريخية عن الأصالة.

«هز وسط البلد» للمصري محمد أبو سيف:

مرثية كئيبة تفتقر إلى جماليات اللغة السينمائية

رانيا يوسف - القاهرة ـ «القدس العربي»:

لم تشهد بدايات الموجة الجديدة للسينما المصرية، التي انطلقت أوائل التسعينيات بفيلم «إسماعيلية رايح جاي» سوى نوعية الأفلام الكوميدية التي تعتمد على العمل الجماعي بين الوجوه الشابة قبل أن ينفرط عقدهم ويصبح كل منهم نجم شباك.

ومما لا شك فيه أن هذا النمط من الأفلام الخفيفة أعطي للسينما المصرية في تلك الفترة قبلة الحياة، بعد حالة من التردي والانحدار عاشتها بعد انتشار نوعية أفلام الفيديو التي كانت تقدم مستوى رديئا جداً من الأفلام، وبعد أن استعادت السينما المصرية عافيتها بشكل جزئي من خلال الأفلام الكوميدية والرومانسية للجيل الجديد، دخلت نوعيات أخرى استمدت موضوعاتها من الواقع الذي يعيشه المجتمع المصري، وكان أقرب هذه الأفلام التي صدمت جمهور السينما فيلم «حين ميسرة» للمخرج خالد يوسف، الذي قدمه عام 2007، حيث يعتبر هذا العمل من أوائل الأفلام التي شجعت المنتجين والمخرجين على إعادة تقديم الواقعية الاجتماعية في السينما، خاصة بعد النجاح الجماهيري والنقدي الذي حظي به الفيلم، فيما استثمر المنتجون نجاح هذه النماذج جماهيرياً وطوروا فيها حتى أصبحت الصورة الأكثر شعبية في السينما هي صورة البلطجي الذي يعيش في المناطق الأكثر فقراً، وبات الأكثر استهلاكاً وتعبيراً عن واقع المجتمع المصري.

تعددت بعد ذلك نوعيات الأفلام التي تختزل الواقع الاجتماعي بكل ما يشوبه من فساد وفقر وجهل وقهر وقمع في شخصيات شعبية، حيث تعتبر الفئة الأكثر انتشاراً في المجتمع، التي تعبر بشكل رئيسي عن شكل وهوية المجتمع المصري، كان من أبرز الأفلام التي حصدت إشادة جماهيرية ونقدية، خاصة أن منتجها أحمد السبكي لم يقدم على هذا الطرح الجاد من قبل، بدأ مع فيلمه «كباريه» ثم «الفرح»، الذي حصد بسببه أول جائزة سينمائية في مهرجان محلي هو المهرجان القومي، ما جاء بعد ذلك من أعمال تحمل في شكلها ملامح الفيلم الواقعي لم يكن في معظم الأحيان سوى مغازلة لشباك التذاكر، الذي بدأ يفيض بالإيرادات خاصة مع ظهور جيل جديد من الجمهور الشباب، إلى أن وقعت أحداث يناير/كانون الثاني وما تبعها من تغييرات سياسية واجتماعية كتبت للعديد من المخرجين شهادات ميلاد جديدة وآخرين لم يستطيعوا الحفاظ على مكانتهم وتاريخهم الفني فقدموا أعمالا تتماس مع الواقع لكنها لا تصل إلى عمقه الذي يتغير بشكل لا يمكن أن تجاريه أفكار المخرجين النمطية التي فشلت في احتواء عبثية هذا التطور.

يعود المخرج محمد أبو سيف بعد غياب 10 سنوات على آخر فيلم قدمه عام 2005 بعنوان «خالي من الكوليسترول» ليلتقي مرة أخرى مع الفنانة إلهام شاهين في فيلم «هز وسط البلد» الذي قامت الهام بإنتاجه وبطولته إلى جانب عدد كبير من النجوم الشباب، حيث أصبح الواقع الاجتماعي بكل متغيراته مادة نهمة لأي مخرج وكاتب يستمد منه قوالب فنية تختلف في الشكل لكنها تتماس في المضمون.

يمثل فيلم «هز وسط البلد» واحدا من تلك النماذج التي تشير إلى المشكلة من دون أن تبلورها، معالجة شكلية في سيناريو اعتمد على تعدد الخطوط الدرامية والحكايات السريعة المبتورة، وشخصيات متنوعة تتجاذب وتتنافر حتى تنصهر جميعها في مشهد النهاية الدراماتيكي الذي غاب عنه الخيال السينمائي كلياً، الكاميرا منذ بداية الفيلم وحتى المشهد الأخير تجوب حائرة ومترددة وكأنها تسجل لحظة النهاية لهذا الشارع الذي اختاره المخرج محمد أبو سيف ليعبر عن بيئة مشتركة للشخصيات على اختلاف طبقاتها، الكاميرا التي تتمرد على نموذجية التصوير السينمائي تظل حائرة في التقاط لحظات دقيقة من أفعال الشخصيات التي تحمل كل منها حكاية تختلف في التفاصيل لكنها تتشابه في النوايا، فاللقطات غير الثابتة والزوايا المائلة التي تشبه طريقة تصوير الأفلام التسجيلية، حيث يترك المخرج للكاميرا حرية الحركة في الفضاء، لكن هنا نشهد تمردا بصريا بلا وجهة واضحة ولا شكل جمالي ولا دلالة رمزية، سوى محاولة إثارة استياء المتلقي من الحالة العامة للشارع الهادئ الذي يستعد لاستقبال صباح جديد لن يمر بسلام.

الشخصيات بدون استثناء تفعل كل أنواع الرذائل التي قد لا تثير تعاطف الجمهور عند لحظة الانهيار والعقاب، اختيار الشارع كنموذج مصغر لمجتمع تعج فيه كل أنواع الشهوات والرذائل والفضائح والجرائم، لا يثير تعاطف المشاهد بل سخطه، فتركيبة الشخصيات تميل معظمها إلى ارتكاب أفعال إجرامية على اختلاف أنواعها.

نرى شخصية القوادة التي تمتلك محل ملابس داخلية، هو في الواقع غطاء لممارستها الدعارة، وعلى الجانب الآخر نشهد صاحب دور عرض يقدمه الفنان فتحي عبد الوهاب، حيث يسعى إلى جذب الجمهور إلى السينما باستخدام الفتيات وعرض أفلام البورنو، في الوقت الذي يقوم فيه بممارسة الرذيلة مع امرأة فقيرة لديها أربعة ابناء تبيع أحدهم بمساعدة صاحب دور العرض بسبب الفقر، وتقوم بدورها الفنانة الهام شاهين، نموذج آخر لتاجر عملة وآخر لصاحب مقهى يجتمع فيه سكان الحي المسنين، وسيدة تصطاد أحد جيرانها لتمارس معه الحب، ودور الفتاة اللعوب الذي تقدمه الفنان حورية فرغلي بجرأه وقدرة فائقة على التلون في الأداء، فهي تعمل في محل الملابس الذي تمتلكه القوادة، بحيث يدفعها الطمع إلى السرقة ثم ممارسة الجنس مع سيدة خليجية، هناك أيضا صبي القهوة الذي يخدع الجميع ويسرق أموال أهل الشارع، ولا يخلو المجتمع المصغر من العنف المفرط الذي تجسده شخصية الإرهابي الذي ينصب نفسه حكماً على سكان الشارع وينفذ فيهم العقاب الأمثل لكل شرورهم التي تخاصم الدين من منظورة المتطرف، وعلى غرار مشهد النهاية في فيلم «كباريه» تتكرر النهاية نفسها، يقوم الشاب المتطرف بزرع عدة قنابل في زوايا المقهى وفي محل القوادة وداخل السينما التي لا يشعر فيها أحد بوجود قنبلة بسبب الراقصة التي تعلن عن نفسها وفيلمها الجديد بوصلة رقص أمام السينما.

تظل تجربة فيلم «هز وسط البلد» تعبر عن انهزام مجتمع «أي مجتمع» وليس بالتحديد المجتمع المصري، فالشخصيات التي تجردت من ظرف المكان أصبحت تصلح لأي «وسط بلد» يحمل قدراً من الظلم والفقر والتمييز والعنصرية والقهر، حيث غابت ذاتية المجتمع المصري عن الفيلم كما غاب عنه الزمن، بحيث يصبح حدوته تدور في كل زمن، ورغم أنه فيلم يحمل الطابع التجاري إلا أن المخرج محمد أبو سيف لم يستطع أن يقدم طابعا سينمائياً يجذب الجمهور مثل أفلام السبكي التي تربعت علي عرش الأفلام التجارية التي تخطف ايرادات الشباك، الفيلم يفتقر إلى ابسط جماليات اللغة البصرية شكلاً ومضموناً، بالإضافة إلى سوداوية الأحداث التي تغلق كافة المنافذ أمام أي محاولة للشخصيات للخلاص من هذا الواقع، بينما فقد آخر نقطة تواصل بينه وبين الجمهور، وأصبح مجرد مرثية حزينة تحمل من الكآبة قدرا لا بأس به يدفع المشاهد إلى مغادرة قاعة العرض قبل أن ينتهي الفيلم.

القدس العربي اللندنية في

17.02.2015

 
 

الفنان... موظف فاشل

كتب الخبرأمين خيرالله

أين موقع الفنان وسط معادلة البيروقراطية والإبداع؟ إلى أي حد ينجح الفنان الموظف في تولي الإدارة؟ هل فعلا تؤثر على خطواته الفنية؟ لماذا يصر البعض على الاحتفاظ بوظيفته وهل هي ضمان من غدر الزمان؟ هذه الأسئلة وغيرها فرضت نفسها في ظل تجارب فنانين بدأوا مشوارهم بالعمل في وزارة الثقافة وجهات حكومية، ويحتفظون بوظائفهم رغم نجاحهم وتحقيقهم نجومية، بينما اختار البعض الانسحاب والتفرغ للفن

أخرج صبري فواز مسرحية «اللي خايف يروح» على المسرح العائم  أخيراً، في حين قدم نقيب الممثلين أشرف عبدالغفور عشرات المسرحيات والأعمال التابعة لوزارة الثقافة التي يعمل فيها، وثمة فنانون كثر يحتفظون بوظائفهم الحكومية من بينهم: هاني كمال الذي يعمل كمتحدث رسمي لوزارة التربية والتعليم، ماجدة زكي، أحمد عبدالعزيز، رياض الخولي، سامح الصريطي، ماهر سليم، فتوح أحمد الذي يتولى رئاسة «البيت الفني للمسرح» بينما استقال أحمد السقا منه.

تأتي خطوة السقا هذه لعدم قدرته على تحمل مشقة العمل الوظيفي ومواجهة الروتين وأعباء الوظيفة الشاقة التي مارسها نحو 15 سنة في فرقة «مسرح القاهرة للعرائس»، وقدم خلالها عرضاً واحداً من إنتاج الفرقة، واقتصرت مشاركته على الأداء الصوتي لأحد أبطال عرض «عروستي»،  ما جعله يشعر بعجزه عن استكمال مشواره الوظيفي.

مصلحة الفن المصري

ماجد الكدواني أحد أبرز النجوم الذين يحتفظون بوظائفهم الحكومية، فهو يعمل في وزارة الثقافة وقدم مسرحيات من بينها: «الإسكافي ملكاً» و{في بيتنا شبح»، فإنه أعلن تذمره من البيروقراطية التي يعانيها في الدواوين الحكومية وتسببت، في إحدى المرات، بوقف عرض إحدى مسرحياته،  ويقول: «لا تصلح بيروقراطية الموظفين مع الفن، لأنها لا تفرق بين العمل الجيد والرديء أو الموهوب ومن هو دون ذلك»، مشيراً إلى أن الروتين يملأ المصالح الحكومية.

يضيف: «لا أتقاضى أجراً عن أداء أي أدوار مسرحية، وأحصل على راتبي كموظف فحسب، فأنا لا أمثل بعقد خارجي كي لا أحمّل إدارة المسرح أعباء مادية أخرى»، مبدياً سعادته بإعادة افتتاح المسرح القومي ومتمنياً رجوعه إلى سابق عهده، بعيداً عن الروتين الذي ضيع منه سنة كاملة من البروفات، قبل إيقاف عرض إحدى مسرحياته.

المطرب أحمد إبراهيم، رئيس هيئة قصور الثقافة بإقليم القاهرة الكبرى، الذي قدم تترات أعمال كثيرة  من بينها: فيلم «النمر الأسود»، مسلسل «أماكن في القلب» و{الهاربتان»، وأدى أغاني أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب بدار الأوبرا المصرية يوضح: «أنا في الأصل مطرب وفنان وهذا الأهم عندي، وليس لدي استعداد للتنازل عن لقب فنان»، مشيراً إلى أنه قبل المنصب الذي تولاه، منذ فترة قصيرة، لحبه للفن وخدمة هوايته.

يضيف: «كوني فناناً وليس مجرد موظف، أحاول تقديم عملي كفنان ولا أرى صعوبة في ذلك واجتهد للحفاظ على الهوية الثقافية ومتابعتها بدقة وبشكل شبه دوري، والذهاب إلى أبعد المواقع والأماكن التي لا تخطر ببال المسؤولين».

حلمي فودة، بطل مسلسل «نسر الشرق صلاح الدين» الذي قدم أعمالا ناجحة على غرار مسلسلات: «العندليب» و{القضاء في الإسلام» و{نابليون والمحروسة» و{مملكة الجبل»... وعمل كمدير لـ «فرقة مسرح الشباب»،  يوضح: «حاولت، أثناء رئاستي لمسرح الشباب، أن أمنح فرصة للمخرجين لتقديم أعمالهم الأولى في مسرح الدولة بهدف إثراء المشهد المسرحي المصري بطاقات جديدة»، مشيراً إلى أنه ترك العمل في هذا المنصب رغبة منه في إحداث تغيير في المواقع الفنية «حتى لا تيبس الأفكار».

يضيف: «إذا لم يحدث تغيير في القيادات كل فترة فلن نصل إلى شيء، خصوصاً أن عملنا إبداعي، ومن هذا المنطلق تركت المنصب بمحض إرادتي لأتفرغ للفن الذي أعشقه»، متمنياً التوفيق للفنانين الذين يشغلون منصباً حكومياً، ومطالباً إياهم بمراعاة مصلحة الفن المصري».

أزمة التعايش

يرى الطبيب النفسي الدكتور يحيى الرخاوي أن  الموهوب والمبدع شخص حساس يتميز برقة المشاعر والخيال، ولا يستطيع التعايش مع الروتين والبيروقراطية، من هنا تأتي الأزمات، فالأشخاص الموهوبون يهربون من قيد الوظيفة الحكومية ودفاتر الحضور والانصراف، موضحاً أن التعامل الجاف مع أصحاب المواهب يصيبهم بإحباط واكتئاب، فهم يرفضون تنفيذ الأوامر من دون تفكير.

يضيف: «لا نجد الأزمات الوظيفية إلا في العالم الثالث، ففي الدول الأجنبية لا يقل الموظف إبداعاً أو موهبة عن الفنانين، لأن التعامل معه يكون بشكل مختلف بعيداً عن البيروقراطية التي قتلت مواهب كثيرة لدينا، لرغبة المسؤولين في عدم التطوير أو التقدم خطوة إلى الأمام»، مشدداً على أن مصر تحتاج ثورة إدارية كبرى.

من جهتها توضح  الناقدة خيرية البشلاوي أن الوظيفة الحكومية لا تجتمع مع العمل الإبداعي، وترجح أن تكون سبباً في توقف نجومية فنانين أهملوا الفن واهتموا بالجانب الوظيفي فحسب، مشيرة إلى أنه لا يمكن لشخص واحد أن يكون ناجحاً في الاتجاهين المعاكسين إلا نادراً.

تضيف: «بغض النظر عن أي شيء، فالروتين الحكومي طارد للمواهب والإبداع، ومن يتفوق فيه تكون لديه استعدادات خاصة تتنافى مع الإبداع، بدليل أن ثمة فنانين يعملون في وظائف حكومية، لكنهم لا يذهبون إلى أماكن عملهم ويحصلون على إجازات مستمرة، سواء كانوا قيادات أو مجرد موظفين، لذلك تفوّق  هؤلاء كنجوم».

الجريدة الكويتية في

17.02.2015

 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2014)