كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

رؤى نقدية

 
 
 
 
 

محمد بسطاوي .. الرحيل الأبيض

الدار البيضاء- محمد شويكة

 

ليس من باب تضخيم المسار الفني للممثل المغربي الراحل محمد بسطاوي (1954 - 2014)، ولا بانزياح العقل أمام الانهيار الوجودي للكائن تجاه الموت - وإِنْ كان ذلك خصلة إنسانية رفيعة – أَنْ نُبَالِغَ في القول بأنه كانت، وستظلّ، للرجل حيوات في المسرح والسينما والتليفزيون.. إذ لم يَدَّخِر الراحل جهداً إلا واستثمره في فن التمثيل الذي ظَلّ مُخلصاً له حتى الجُرعة الأخيرة من حياته.. فقد امتلك هذا الفنان فعلاً من الخصال الإنسانية والفنية ما تشهد عليه علاقاته وكذا الأدوار الكثيرة التي تقمّصها على الرُكْحِ والشاشتين الكبيرة والصغيرة... 

اختار الرجل أسلوب البساطة الطوعية وكأن لقبه العائلي مُستوحى من البساطة ذاتها، تلك التي لا يستقيم الفن بدونها، فلا يمكن أن تستقر روحٌ مُتكبرةٌ في جسدِ فنانٍ معطاء مهما عَظُمَ شأنه. من الصعب أن نختصر مساره في دور مُعيّن وإن تميز بحق في التعبير عن شخصية «البدوي» التي رفعها إلى مستوى يتجاوز الصورة النمطية الهجينة والمائعة التي شاعت بين الممثلين والناس معاً، واستطاع أن يكون الصوت الحي لتلك الفئة الاجتماعية في كل المحافل.

صَدَمَنَا موته المفاجئ، وهو الذي لم نحس يوماً بأنه يبلغ من العمر الستين.. إنها صدمة الفقدان، تلك الرجّة التي تجعلنا نتأمل عطاء بعض الرجال الذين أفنوا زهرة حياتهم في بناء الصرح الفني الذي يناسبهم.. وَدَّعْنَاهُ بكثير من الحزن، لكن عطاءه سيضمن له ذكراً دائماً بين الأحياء، كما تدل على ذلك أقوال مَنْ عايشوه وأحبوا فنه:

صباحات اللقاء والفراق

محمد الشوبي - ممثِّل

صباحٌ للقاء وصباحٌ للفراق.. ذات صباح بارد، في شتاء 1986، كنت نازحاً جديداً من مراكش، نحو العلم والمعرفة في الرباط، نازحاً بالخصوص نحو الإبداع والفن، فَارّاً من جحيم الجامعة، كثيرة اللغط، بعد أن قضيت بها سنتين، في ذلك الصباح تعارفنا نحن الطلبة المقبولين بالمعهد العالي للفن المسرحي، عن ذاك الفتى النحيف بجلبابه الصوفي الذي يحمل خطوطاً «كالبيليكول»، اسمه فوزي بنسعيدي الذي كان من راع انتباهي أولاً، ومعه شابان أشعثان بلحى سوداء كما عهدناها في الكلية لدى الطلبة القاعديين، يدخنان سيجارة، ويتأملان الوجوه، عرفت بعد ذلك أن الأول طالب معنا، اسمه عبد العاطي لمباركي، والثاني كان صديقاً له بحي التقدم اسمه محمد البسطاوي، لم أكن أعرف أننا سندخل تجارب مسرحية فيما بيننا، ولم أكن أعرف أننا سنكون من أبطال فيلم جميل ذكي عنوانه «ألف شهر».. ما كنت أعرفه هو تلك السحنات الطيبة التقاسيم، الجادة، المُصمّمة على نقل العمل الإبداعي إلى مستواه العالمي مسرحاً وسينما، تلاقينا وتلاقينا وتلاقينا.. دربنا الإبداع والفن، تقاطعاتنا الفكر والجمال، هواجسنا وطن يرقى لكل ما هو سامٍ وعظيم، ومشينا كل هذه المسافات محققين النجاح تلو النجاح، عازمين على تشجيع ما يجب أن يشجع فينا، وانتقاد ما يجب أن ينتقد، لا نهادن بعضنا البعض، حتى لا يتسلل الإخفاق لكياننا، إلى أن وصلنا صباحاً بارداً آخر، في شتاء 2014، حيث كنا ننتظر البسطاوي أن يتعافى من وعكته الصحية، ويخرج لنكمل المسير، لكنه ترجّل من سفينتنا وذهب حيث سنذهب جميعاً، وتركنا نبادل بعضنا البعض الدموع حرقة على فراق هذا البطل الكبير.. عندما رأيت وجهه غارقاً في رحيله، كان كذلك أشعث كما رأيته في صباح اللقاء، لكنه في صباح الفراق صار أبيض، لونته سنين الحب الذي جمعنا، رحمك الله يا رفيق.

رجل الدراما المُتعدِّد

عامر الشرقي- ناقد سينمائي

أصبح محمد بسطاوي في أواخر الثمانينيات عماداً لفرقة «مسرح اليوم»، ووَاصَلَ بعد ذلك رحلته المسرحية من خلال فرقة «مسرح الشمس»، التي حرص فيها على أن يكون مُتجدّداً في العطاء. بعد ذلك تم الانتباه إلى هذا الفنان من طرف المخرجة فريدة بورقية وأسندت له دوراً في فيلمها «دواير الزمان»، الذي يمكن اعتباره المنتوج الفيصل بين مرحلة تكوين الشخصية الفنية، ومرحلة تطويرها التي ستأتي فيما بعد من خلال مجموعة من الأفلام منها: «أولاد الناس»، «جنان الكرمة»، «وجع التراب»...

يُلاَحِظُ الكثير من المتتبعين أن الفنان محمد بسطاوي قد برع بشكل كبير في أداء دور البدوي، لكن المتتبع للأعمال التي شارك فيها هذا الفنان يلاحظ أن شخصية البدوي ترتدي رداءً جديداً في كل مرة مع بسطاوي، فالبدوي التاجر أو الفلاح أو المستخدم كان يظهر في كل مرة بشكل يؤكد قوة بسطاوي الذي يظهر دائماً مُتجدّداً دون السقوط في التكرار.

استهوته كذلك الشاشة الكبرى ولَعلّ أجمل ما قيل في هذا المُبدِع هو شهادة أحد المثقفين، حيث قال: «إنك على الشاشة تظهر بقوة أكثر من إنسان». وهكذا شَكّلَ حضوره في مجموعة من الإبداعات قيمة مضافة أغنت الإبداع والتجربة، وذلك من خلال مجموعة من الأفلام شارك فيها مثل: «باي باي السويرتي» لداوود أولاد السيد سنة 1998، والذي برز فيه، إلى جانب الفنان عبد الله ديدان مُجسّداً لثيمة التيه والبحث عن معنى للوجود. حضر كذلك بسطاوي بشخصية مُغايرة تماماً في فيلم «طيف نزار» لمخرجه كمال كمال (2001).

توالت الأدوار مع العديد من المخرجين المغاربة والأجانب (فوزي بن سعيدي، دانيال جيرفي، محمد العسلي...)، وتأكد معها أن لبسطاوي قيمة أساسية في السينما المغربية.

جانب آخر من حياة هذا الفنان هو أنه مُهتم ومُنشغل دائماً بواقع السينما ومآلها، لأن حضوره في المجال الإبداعي لم يكن صدفة، بل قناعة راسخة وبكون السينما والثقافة واجهتين لتأكيد الوجود والذات. هكذا شارك بسطاوي في إشعاع العديد من الملتقيات والمهرجانات السينمائية بالمناطق البعيدة عن المركز، بل أصبح بعضها مرتبطاً به وبعطاءاته، فقد حرص على الحضور الايجابي في العديد منها، مهرجانات وملتقيات عديدة ستحتفظ بعبوره وإضافاته ومساهماته في تطويرها.

سيِّد الشاشة والحياة

عبد الإله الجوهري - ناقد ومخرج

كان التليفزيون لمحمد بسطاوي بالمرصاد رغم أن الرجل كان يتوجّس منه خيفة، فشارك في مسلسلات أولى نذكر منها «أولاد الناس» و«دواير الزمان» و«جنان الكرمة» لفريدة بورقية.. مسلسلات صنعت له مجداً وفتحت له قلوب الجماهير المغربية، مجدٌ سيتكرس أكثر خلال السنوات الأخيرة مع سلسلات ومسلسلات عديدة كـ«وجع التراب» لشفيق السحيمي و«الحياني» لكمال كمال و«ياك حنا جيران» لإدريس الروخ و«كنزة فالدوار» لهشام العسري، فضلاً عن أنه سيقدّم للتليفزيون أجمل الأدوار وأقواها في أفلام تلفزية وقعها أشهر المخرجين المغاربة، أفلامٌ يصعب حصرها، لكن من الممكن الإشارة إلى بعضها، خاصة تلك التي خلفت صدى طيباً في النفوس المُتطلعة لكل ما هو أصيل، ونذكر: «علال القلدة» لمحمد إسماعيل و«انكسار» لعبد الكريم الدرقاوي و«علام الخيل» لإدريس أشويكة و«رحيل البحر» لفريد بورقية و«سيد الغابة» و«الصَّالحة» و«الرگراگية» لكمال كمال و«المهمة» و«الدم المغدور» لعادل الفاضلي.. أما السينما فكانت مجاله الأحب للخلق والإبداع، إبداعٌ أرحبُ بعشرات الأدوار الخالدة المتميزة في أفلام وقعها أشهر المخرجين المغاربة والأجانب، أفلام بدأها بشريط «كنوز الأطلس» للمخرج محمد أوملود العبازي، وكرّس حضوره في عوالمها مع داود أولاد السيد في فيلم «باي باي السويرتي»، تجربةٌ جعلت منه المطلوب الأول في عشرات المشاريع الفيلمية، مشاريعٌ تحولت إلى علامات مضيئة في مسار السينما المغربية والعالمية، وأذكر هنا مشاركاته بأدوار مفارقة للواقع والفن في أشرطة مغربية مثل «عطش» و«جوهرة بنت الحبس» لسعد الشرايبي و«طيف نزار» و«الصوت الخفي» لكمال كمال و«طرفاية» و«في انتظار بازوليني» لداود أولاد السيد و«ألف شهر» لفوزي بنسعيدي و«أيادي خشنة» لمحمد عسلي و«أولاد البلاد» لمحمد إسماعيل و«جوق العميين» لمحمد مفتكر.. وقد استفادت السينما العالمية كثيراً من خدمات بسطاوي، سواء تلك المصورة في المغرب أم خارجه، وهي عشرات الأدوار في الأفلام التي احتضنتها مدينة ورزازات أو غيرها كـ«قواعد الارتباط» للمخرج الأميركي ويليام فريدكين و«باريس بكل ثمن» للمخرجة الفرنسية ريم الخريسي و«مراسلون خاصون جداً» للفرنسي فريدريك أو بورتان و«تازة» للمخرج الكندي دانيال جيرفي...

شساعة التعبير...

إدريس الروخ - ممثل ومخرج

كنت وأنا الطالب آنذاك في السنة الأولى من المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي أرى فيك مستقبل المسرح المغربي برفقة محمد خيي ومحمد الشوبي ويوسف فاضل وعبد الطيف خمولي، واللائحة تضم عدداً من الأسماء الوازنة في ساحة الإبداع المسرحي والسينمائي والتلفزي، منهم من أبهرنا بعطائه ورونق أدائه، ومنهم من أدهشنا بطريقة إخراجه أو بجودة كتاباته.. وآخرون كانت رحلتهم في سفر الإحساس مجرد غلطة في الاختيار، ومن ثم كانت اختباراً في النزول بأقرب محطة بغرض تغيير الاتجاه، ومنهم من أعجبه السفر دون أن يتزوّد  بأدوات الرحلة.. وها هم الآن في محطات الفن يعيشون بأمراض الرحلات الفجائية...

كانت رحلتك مكتملة: تحب التمثيل والممثلين.. تحب الأداء الجميل والإحساس باللحظة.. تحب التلقائية في كل شيء...

هكذا كانت شخصيتك.. وهكذا هي شخصياتك.. في المسرح تتمرّد على الخشبة.. تُشعلها ناراً من الأحاسيس.. ترسم بجسدك خطوطاً يصعب على علماء الخرائط أن يعيدوا رسمها.. تقفز كالفراش.. تتوحّد مع الضوء.. تختلط مع الديكور.. شاسع أنت في تعبيراتك بين صوت قوي يصلنا بتلويناته في الصفوف الخلفية من الصالة كأنه قريب منا وكاريزما جسد يذكرنا بشخوص مسرحيات إبسن وتشيكوف.

كم اجتمعنا في (بلاتوهات) التصوير، ومررنا من مدينة لأخرى، ومن مخرج لآخر، ومن شخصية لأخرى.. تعبنا.. سئمنا.. تهنا.. لم نعد كما كنا، ولكننا لم نفقد الأمل في المستقبل.. كنت عندما تحس بأن الدنيا تضيق بك تنظر إلى السماء.. وتتصرف كالمتصوفة.

فوق الخشبة كجبل

عبد اللطيف فردوس - كاتب مسرحي

تدفعني متابعة الأعمال المسرحية أو التلفزية أو السينمائية إلى الاعتراف بأن الرجل مُتعدّد في تفرده، مُتنوّع في اختلافه.. فمنذ أول عمل مسرحي تابعته للسي محمد مع فرقة مسرح اليوم، بوغابة، وأنا أرصدُ مسارَ ممثل محترف في الأداء، تحس به وهو فوق الخشبة، يحمل رسالة المخرج بكل صدق وأمانة، لكن كان يعمل على نقلها إلى الجمهور بطابعه الخاص المُتميز، المختلف من عمل لآخر، فالبسطاوي في «بوغابة» ليس هو في أية مسرحية أخرى من مسرحيات مسرح اليوم، وليس هو البسطاوي في مسرحيات مسرح الشمس. فوق الخشبات كان يحفر اسمه في عالم الممثلين الناذرين المتميزين، في نفس الوقت الذي كان ينقش فيه ذكراه ومكانته في قلوب عشاق الفن الرفيع والأداء الجميل، المبني على الاقتناع برسالة ما كان يقدّمه، قبل التفكير فيما كان يتقاضاه.. ليس سهلاً أن يجد الممثل موقعاً إلى جانب سيدة الخشبة ثريا جبران وفطاحلة الفن الرابع من عبد اللطيف الخمولي وعبد الواحد عوزري ومحمد خيي وآخرين. كان زاد المرحوم في سفره وغوصه المسرحي ثقافة واسعة ومعرفة بالحياة وتقلبات الأهواء.. كان فوق الخشبة كجبل الثلج لا نرى منه إلا ثلثه البارز، لكن قوته نابعة من العمق الخفي.

على الشاشة، كان (سي) محمد من القلائل الذي كنت تحس بأدائه يختلف من مسلسل لآخر، ومن مسلسل لفيلم تلفزي أو شريط سينمائي. أداؤه مدرسة يمكن اعتمادها للتأكيد على أن الوقوف فوق الخشبة ليس مثله وراء الكاميرا، كما أن الأداء وراء الكاميرات يختلف حسب ما تلتقطه، سواء أكان فيلماً تلفزياً أم سلسلة أم مسلسلاً أم شريطاً سينمائياً.

 

أحوال البحر في السينما المصرية

د. أمل الجمل

لا يزال الأدب العربي مُتفوِّقاً على السينما في تناوله للبحر، فالسينما العربية هي الأخرى رغم أن كثيراً من أفلامها لا يخلو من مشاهد للبحر والشواطئ، لكنها مشاهد وظّفت البحر كديكور، أو ظلّت مشاهده تقترن بالراحة والعطلة والصيف والاستجمام، وإن كانت الأفلام المغاربية، خصوصاً التي تناولت الهجرة غير الشرعية، دارت معظم أحداثها في عرض البحر، وكذلك كثير من الأفلام الوثائقية. 

«نحن أمواجٌ.. إذا استراحت، تموت» كلمات للشاعر الفارسي صائب التبريزي تكاد تتقاطع مع شخصية بطل «البحر بداخلنا» للمخرج أليخاندرو أمينار، فعندما أصيب بالشلل وعدم القدرة على الحركة كان كالموج الذي تحوّل للسكون وشعر أنه كالميت، لكن موته مؤجل، فأخذ يبحث عن الموت الرحيم ليستريح. وعنوان الفيلم مأخوذ من إحدى قصائد بطله «رامون»، التي يقول فيها إن البحر لم يكن يوماً بعيداً عن ذهنه، البحر منحه الحياة، كما أنه سلب منه الحياة.. البحر كان يعني بالنسبة إليه الحرية، والمكان المليء بالغموض، لم يستطع أحد فهمه.. إنه مثل الموت نتحدّث عنه لكن لا نعرف ماذا بعده.. لا نعرف ما يُوجد أسفله. 

كان البحر يشغل مكانة أساسية في الإبداع الشفاهي والكتابي منذ القِدم، في الكتابة النثرية والشعرية، ورغم أنه - حتى في ظِلّ كتابات حنا مينا وآخرين - يُؤكد البعض أنه لا تُوجد في الأدب العربي روايات أو قصص تدور في البحر وعن البحر، وأنه قد تكون هناك ثمة نصوص عن الصيادين، عن الموانئ والشواطئ، لكن البحر كبحر، كلجة، كمحيطات، كحضارة، كصراع، كموقف فلا تُوجد أعمال أدبية عربية تناولته بالشكل اللائق كما حدث في الأدب والسينما العالمية. 

الرمزية الروسية 

لو تأملنا علاقة البحر بالسينما المصرية نجد أنها ترجع لعام 1928 بفيلم «البحر بيضحك» من إخراج استفان روستي وأمين عطا الله، وكان عبارة عن ثلاثة اسكتشات كوميدية - اثنين منها راقص - تدور أحداثها على شاطئ البحر. وفي عام 1935 ظهر فيلم «البحّار» إخراج وتأليف توجو مزراحي عن الظلم والفقر، وتم اختيار مهنة البحّار كي تمنح فرصة غياب الزوج لإطلاق اتهامات بالخيانة الزوجية. ثم ظهرت أفلام غنائية واستعراضية مثل «شاطئ الغرام» 1950، «أبي فوق الشجرة»، ثم تنوّعت أكثر مثل «البحر بيضحك ليه؟» للقليوبي، «رسائل البحر» لدواود عبد السيد، «القبطان» سيد سعيد، «ليلة القبض على فاطمة» لبركات، السيد البلطي» توفيق صالح، «المدمرة إيلات»، إضافة إلى عدد كبير من الأفلام التجارية.

ربما تأثرت السينما المصرية بنظيرتها الروسية عندما وظّفت البحر كرمز لتُشكِّل «بورتريه» نفسي، والحالة الجوانية للشخصيات وللأجواء المحيطة. فجعلت من صخب البحر والأمواج العنيفة مردافاً للقتل أو الاغتصاب أو الغضب وغيرها من المشاعر كما في ختام أحد المشاهد في «سوّاق الأتوبيس» بعد لقاء حسن بأخته الحاجة فوزية وزوجها ورفضهما مساعدة والده يتحرّك حسن – نور الشريف - إلى طرف السطوح أمام البحر والحزن يغطيه كأنه سيصاب بالجنون أو يفقد صوابه، ويبدو كشخص تائه ضاقت به الدنيا فأصبح مثل غريق في بحر رمادي مُضطرب الأمواج كما في اللقطة التالية التي يختتم بها عاطف الطيب مشهده الساحر.. مع ذلك لم تنجح أغلب الأفلام المصرية في الغوص في معاني البحر، كثقافة وامتداد حضاري، كصراع دائم بين الإنسان والطبيعة، لم تنجح في محاولة فك ألغازه، وفهم ثنائيات التناقض بين انسجامه وصراعه، بين صخبه وصمته، في كشف عمق أسراره عبر التاريخ وتعاقب الحضارات.  

قوة إلهية

البحر في «القبطان» لسيد سعيد حاضر في أغلب مشاهد الفيلم، في الخلفية لتحديد المكان وهويته، لكن يظلّ أهم مشهد الذي يتضمّن الطفل الفلسطيني الضائع عندما كان مريضاً ويحتضر فيضعه القبطان على شاطئ البحر ويبتعد عنه قليلاً ليتأمله وينتظر قدوم موجات من البحر لتعيد للطفل الحياة، لأن القبطان يرى أن الإنسان يتكوّن من الشمس والمياه والطين، وأنه في ظلّ الشمس العلوية التي تغطيه والطين الذي يتوسّده الطفل ستأتي أمواج البحر لتشكّل العنصر الثالث، ومن هنا تنبثق الحياة مُجدّداً وهو ما حدث بالفعل. إلى جانب مشهد آخر نرى فيه البطلين الشابين الحبيبين – المفروض الحبيب الشاب قتل الضابط الإنجليزي والحبيبة تواطأت في إخفائه – فبعد إطلاق الرصاص عليهما من جنود الاحتلال الإنجليزي نراهما يجريان كالطيور المُحلِّقة باتجاه البحر، وكأن القتل حرّر الأرواح من الجسد المنهك فأسرعت للقاء البحر واستكمال الحرية. 

وفي النماذج الفيلمية الأربعة التي استحضرها هنا نجد البحر أحد شخوصها، وإِنْ بدرجات متفاوتة، وأحد مكوِّنات العالم السينمائي، وفضاء تجري فيه الأحداث، وتتنفَّس فيه الشخصيات؛ البحر في كل منهم يعد أحد الرموز التي ينطوي عليها النص السينمائي، وبعيداً عن اختلاف الرمز أحيانا في كل منهم وتعدّد معناه ما بين الخير والشر، الحياة والموت، أو الشك والريبة والحيرة، لكنه يظلّ رمز الخصوبة وحركية الحياة وفعّالياتها، مثلما يمنح المتلقي الإيهام بالواقع وتكوين وبناء المعنى وتشكيل موقف الشخصيات من العالم.. وتلك المعاني الرمزية تتضح في علاقتها بكامل البنية السردية للفيلم.

عند سيد سعيد في «القبطان» يبدو البحر في نصه التحتي وكأنه قوة إلهية يلجأ إليها الجميع، الظالم والمظالم، الضحية والجلاد، العدو الغاشم والأهالي الذين يعانون الاحتلال، كما أنه كان وطناً للاجئين الفلسطينيين في أعقاب هزيمة 1948. أما البحر عند داوود عبد السيد فرمز مباشر وصريح إلى قوة كونية كبرى أو أحد آلهة الإغريق، فالبطل يصرخ في لحظة غضب ويأس:«جت لك وأنا مش محتاج وأديتني رزقي، ودلوقتي جيت لك وأنا جعان وبتحرمني.. ظلم ده ولاَّ فوضى؟»، هذا الرمز ذاته نكاد نجده تقريباً في «بس يا بحر» لخالد الصديق فنسمع والد البطل يقول: يا بحر قضيت عمري في كد وشقاء معاك لحد ما أصبتني بالشلل، واليوم سلّمت لك ولدي.. أنا أعرف إنك عنيد وجبّار.. أترجاك، أتوسّل إليك أن تكون رحيماً مع ولدي». كذلك كان البحر عند توفيق صالح خصوصاً عندما يدور الحديث عن السيد البلطي الذي هوى جنية البحر واختفى في أغواره ولا يزال ينتظر عودته الجميع، وكأنهم يبحثون عن المُخلِّص، فيصبغون عليه أوصافاً إلهية؛ «كان كله رجولة/ كان يحكم بين الناس بالعدل/ كلمته تخيف الجميع/ لا أحد يقدر أن يقف في وجهه/ كان رجلاً جباراً/ جسمه كبير/ لم يخش السلطة ولا السلطان/ ما في رأسه ينفذه».

البحر عند داوود  إحالة إلى صورة استعارية تنسج الرغبة في عالم الحلم، عالم السعادة، بينما على العكس من داوود نجد البحر عند خالد الصديق مرادفاً لعالم البؤس والشقاء ولا تتحقق فيه الرغبات، بل إنه يؤذي الإنسان فيقتل ويتسبَّب في الإصابة، البحر عنده غدار، غير معطاء، بينما عند داوود كأنه رحم الأم يحمي بطله الذي يلجأ إليه في لحظات سعادته وحزنه، يلجأ إليه بمفرده أو مع صديقه للاستئناس والحكي والاسترخاء والابتعاد عن البشر أو طلباً للرزق، أو مع حبيبته بعد لقاءات الحب والسعادة، حتى قابيل – صديق البطل - عندما يهرب من بين الأطباء حتى لا يجري الجراحة خوفاً من فقدان الذاكرة يفرّ إلى البحر كأنه ملاذه الآمن. فالبحر عند داوود يسمح بالعودة إلى الطبيعة الأولية للإنسان، يتيح الفرصة للإنسان أن يستعيد نفسه، فبطله يحيى كان يكف عن الثأثأة مع البحر، ومع نفسه، وكأن البحر معادل لذاته. مع البحر ينتقل الإنسان إلى عالم آخر موازٍ لعالم البشر، فنسمع يحيى يقول: «لما بقيت وحيد بقيت حر.. ولقيت البحر يناديني». 

بينما عند خالد الصديق عندما يخرج الرجال إلى البحر تُصبح القرية كالقبر، ساكنة، مهجورة وكأن البحر قضى على الحياة فيها بعد أن ابتلع الرجال، فرغم أنه من المفترض أن البحر هو الحياة. لكنه بعد أربعة أشهر من الكد والشقاء والغربة وضياع الحبيبة، والحياة المُهدَّدة بالخطر يتسبَّب البحر في موت البطل، ويكاد يقتل أمه وأباه من الحزن. ويمهد المخرج لعودة الرجال من البحر بمولد طفل.  

أما رؤية توفيق صالح للبحر فتظهر منذ بداية الفيلم من خلال شخصية البطل- ابن الشخصية الأسطورية الغائبة- وهو يقول في مقدمة الفيلم: «الحمل أصبح ثقيل؛ الشط لم يعد مثل الأول، جارت علينا الأيام، واللي أنت بنيته يا سيد يا بلطي محدش بعدك قدر يُعيده. عيال امبارح بقوا معلمين النهاردة، ناس كتير زحفت على الشط ولقمة العيش بقت صعبة.. يابا ساعدني ودلني على الطريق دا أنا ابنك». فمن خلال الجُمل السابقة ندرك أن البحر كان مصدر الرزق للكثيرين لكنه لم يعد يكفي. وصار فيه حالة من العجز وعدم القدرة على التواصل مع البحر واستخراج خيراته. كما أن كل شخصيات الفيلم الذكور لهم علاقة قوية بالبحر إن لم يكن البحر بالنسبة لهم مرادفاً للحياة، بدءاً من سيد البلطي الذي اختطفته جنية البحر، وتحميل شخصيته أشياء أقرب للمُخلِّص ولقوة كونية تمتلك مفاتيح الرزق والجبروت والعدل في آنٍ. كذلك استخدم الفيلم مركب الصيد الجديد المنتظر بإمكانياته الحديثة كمعادل رمزي لمناقشة فكرة القديم والحديث والصراع بينهما، فمن خلال انقسام الصيادين حوله خوفاً من أنه سيتحكّم في أرزاق الناس يطرح المخرج رسالته على لسان أحدهم: الحكاية هي نفسها لكن الزمن جعلها تأخذ شكل تاني، السيد البلطي كان يفرض سلطته بقوة جسمه وذراعه، والآن عبد الموجود يتحكّم في الناس بأمواله».

لا يزال الأدب العربي مُتفوِّقاً على السينما في تناوله للبحر، فالسينما العربية هي الأخرى رغم أن كثيراً من أفلامها لا يخلو من مشاهد للبحر والشواطئ، لكنها مشاهد وَظّفت البحر كديكور، أو ظَلّت مشاهده تقترن بالراحة والعطلة والصيف والاستجمام، وإن كانت الأفلام المغاربية، خصوصاً التي تناولت الهجرة غير الشرعية، دارت معظم أحداثها في عرض البحر، وكذلك كثير من الأفلام الوثائقية.

 

كرونولوجيا الصنوبر الأخضر

صفوان الشلبي

احتفلت السينما التركية بمئويتها في نوفمبر/تشرين الثاني 2014، لتطوي بذلك سيرة حافلة بالتطوّر أحياناً وتراجُّع عابر أحياناً أخرى، لتنهض ثانية فتصل إلى العالمية بفوزها للمرة الثانية بـ «السعفة الذهبية» لمهرجان «كان» السينمائي في دورة السنة الماضية، والتي نالها نوري بيلجه جيلان عن فيلمه «سبات شتوي». 

تُلقّب السينما التركية بالصنوبر الأخضر (يشيل تشام) نسبة إلى شارع بحي التكسيم يحمل نفس الاسم تقع فيه معظم شركات الإنتاج منذ عام 1922، وقد بلغ عدد شركات إنتاج الأفلام السينمائية حتى عام 2014 ستين شركة. الولادة الفعلية للسينما التركية انتظرت حتى عام 1914 مع أول فيلم أخرجه فؤاد أوزكِناي بعنوان «هدم النصب الروسي في آياستفانوس»، وهو شريط وثائقي. بعد ذلك وفي سنة 1917 أخرج سدات سماوي أول فيلمين روائيين «الجاسوس» و«المخلب». ثم في نفس العام، أخرج فكرت شادي كاراغوزلو أوغلو فيلمه «بيجان وكيل الخرج»، وقَدّم فيه شخصية محلية اقتبسها من بخيل موليير وشارلي شابلن، وقد لقي الفيلم نجاحاً واسعاً دفع مخرجه إلى إخراج سبعة أفلام لنفس الشخصية. ثم أخرج عميد المسرح التركي فهيم أحمد أفندي ثلاثة أفلام، من تصوير فؤاد أوزكِناي أول سينمائي تركي. 
ويمكن القول بأن محسن ارتوغرول انفرد بالإخراج السينمائي منذ عام 1922، وحتى 1938، ويُعد المؤسس الأهم للسينما التركية، كما لعب الدور الرئيسي لثمانية أفلام، وكتب سيناريو 15 فيلماً، وأخرج 37 فيلماً، كما قَدّمَ للسينما التركية أول فيلم ناطق وأول فيلم استعراضي بعنوان «في أزقة إسطنبول»، وأول فيلم مُلَوّن بعنوان «حائكة السجاد». 

أنهى المخرج فاروق كِنْتش تفرّد محسن ارتوغرول بالإخراج لمّا قَدّمَ أول أفلامه «قطعة حجر» سنة 1939، ثم أتبعه بأول فيلم بوليسي بعنوان «علي الجسور»، وفيلم آخر ناطق هو «كِفِرجِك باشا». كما قدّم للسينما التركية نجمين جديدين أصبحا في ما بعد من أشهر نجوم الشاشة التركية، وهما النجم آيهان إشِك، والنجمة بلغين دوروك. بعد ذلك ظهر المخرج بهاء غَلنْبَفي الذي درس فن التصوير السينمائي في فرنسا، وقَدّمَ ثلاثة أفلام، هي: «حورية البحر»، «الناي الحزين» و«الحصير الدامي». وفي هذه المرحلة أخرج شكر سِرمالي فيلم «السر المنسي» وآيدن أراكون «الصرخة» كأول فيلم رعب تركي. لكن رغم نشاط السينما التركية وتأسيس شركات جديدة للإنتاج في هذه المرحلة، بقيت السينما تستظل بعباءة المسرح التركي وبمعايير فنه. وستعتبر مرحلة 1951 - 1960 مفصلية في تاريخ السينما التركية، حيث أنجبت مخرجين جدداً محدثين، وممثلات وممثلين ومصورين وكاتبي سيناريو مبدعين، وأنتجت ما يقرب من ستمئة فيلم في مجالات مختلفة كالتاريخي والوطني والعاطفي والغنائي والكوميدي والواقعي.

تبلور مفهوم الفن السينمائي مع بزوغ نجم عمر لطفي أكاد، الذي أخرج السينما من تحت عباءة المسرح، وأسّس لنفسه سينما تحمل نَفَساً وتعبيراً خاصين به ظهرت في أعمال مخرجين من بعده ساروا على نهجه. أهم أفلام عمر لطفي أكاد «باسم القانون» مُستلهماً عمله من شخصيات حيّة وأحداث استخدمها من البيئة الطبيعية، ليتبوأ مكانة مرموقة في تاريخ صناعة السينما التركية. ثم قدّم فيلماً بعنوان «يوجد حريق»، وتناول هموم المدينة الكبيرة وقضاياها في فيلمه «المدينة القاتلة». ظهر أيضاً المخرج متين أركسان كأحد الرواد المبدعين، وكانت أول تجربة له مع واقعية حياة الريف من خلال فيلمه «الحياة المظلمة»، الذي يروي سيرة الشاعر الضرير العاشق فيصل، وحقّق نجاحاً باهراً بفيلمه «بطل الجبال التسعة». وقد تميزت في هذه المرحلة كذلك أعمال كل من ممدوح أون وعاطف يلماز وآيدن أراكون. 

بعد أن استولى الجيش على السلطة المدنية في 27 مايو/أيار 1960، ظهرت حركة الواقعية الجديدة، فأنجبت «ما بعد الليل» للمخرج متين إركسان، ثم تبعته أعمال أخرى ذات مضمون اجتماعي مثل «من أجل الشرف» لعثمان سَدِن، «شاه المحتالين» لعاطف يلماز، «القدور المكسورة» و«قطرة من نار» لممدوح أون. وتعتبر مرحلة 1961 - 1970 عصراً ذهبياً للسينما التركية، حيث سجّلت السينما صعوداً وارتقاء كبيرين، وتأسست شركات أفلام جديدة، وقد بلغ عدد الأفلام المُنتجَة خلال هذه المرحلة 1783 فيلماً. وظهر ما يزيد على ثلاثين مخرجاً من خارج المسرح؛ كتّاب سيناريو عظام أمثال فيدات توركالي (كتب لاحقاً سيناريو المسلسل التركي ما ذنب فاطمة) وطارق دورسون وكمال طاهر. كما ظهر على الشاشة أكثر من عشرين وجهاً جديداً، أصبحوا في ما بعد نجوماً يشار لهم بالبنان، مثل فكرت هاكان، أكرم بورا، فاطمة غيريك وتوركان شوراي. 

لكن الجيل السابق من المخرجين حافظ على مركز الصدارة في معظم مهرجانات السينما التي نُظمت في أنتاليا وإسطنبول وإزمير وأضنة، فقد أخرج متين إركسان أفضل أعمال تلك المرحلة مثل «انتقام الأفاعي» عن رواية للكاتب فكير بايكورت، و«المذنبون بيننا»، الذي يفضح فيه الحياة البرجوازية. كما تطرّق ارتم غوريتش بجرأة إلى إضراب العمال في فيلمه «المستيقظون في الظلام»، وطرح خاليد رفيي قضية الهجرة الداخلية في فيلمه «طيور الغربة»، الذي نال جائزة أفضل فيلم في مهرجان أنتاليا السينمائي. إلى جانب ذلك برز نمط سينمائي يسعى وراء الكلفة المنخفضة والربح السريع بغض النظر عن المضمون وظهرت فورة الإنتاج السريع بالجملة فأُطلق عليها من باب السخرية مصنع الأفلام الجاهزة تشبيها لها بمصانع الألبسة الجاهزة! وحسب إحصائية أجرتها بلدية إسطنبول فقد دخل السينما سنة 1965 ما يقرب من 35 مليون مشاهد!

لكن بدخول التليفزيون وجهاز الفيديو إلى البيت التركي، وُجِدَ بديلٌ عن السينما بالنسبة لفئة كبيرة من الجمهور. نتج عن ذلك تقلّص عدد صالات السينما من ألفي صالة إلى خمسمئة صالة فقط! وبعدما كان يُنتج نحو ثلاثمئة فيلم سنوياً أصبح الإنتاج ثلاثين فيلماً سنوياً. كما طغت أفلام الإثارة لتنهار صناعة السينما. ناهيك عن الأوضاع السياسية والاقتصادية. كل هذه العوامل أدت إلى تذبذب في هبوط وصعود مستوى السينما التركية خلال الفترة (1970 - 1995). ورغم ذلك لم يكن هذا عائقاً أمام ظهور مخرجين ملتزمين ومبدعين كيُلماز غونِي، علي أوزغِنتورك وعمر كافور أوصلتهم أعمالهم إلى نيل جوائز محلية وعالمية.

مع فيلم «قاطع الطريق» (1996) ستحيا السينما التركية من جديد وصولاً إلى أيامنا. هكذا، ستعود السينما التركية بعد مرور 82 عاماً على ولادتها لتعيش حيوية ونشاطاً ملحوظين. ملايين الدولارات تُصرف على إنتاج الأفلام، وملايين المشاهدين يتدفقون على صالات السينما، ليرتفع عدد من وقف أمام شباك التذاكر من بضعة آلاف في تسعينيات القرن الماضي إلى خمسين مليون ونصف سنة 2013. وارتفع عدد صالات السينما من 130 صالة في التسعينيات إلى 2093 صالة سنة 2012.

وكان فيلم «قاطع الطريق»، الذي لم يعتد عليه المشاهد التركي من قبل، فيلماً أميركياً يحوي في داخله مفاهيم تركية من سيناريو وإخراج يافوز تورغول، الذي قَدّمَ فانتازيا تحكي قصة شخص يُدعى باران خرج باحثاً عن خصمه بعد أن أمضى 35 عاماً في السجن. فقد أمّن هذا الفيلم لشباك التذاكر إيرادات عالية جداً، وجذب إليه أكثر من مليونين ونصف مشاهد. تلاه سنة 2001 الفيلم الكوميدي «فيزونتِلي» من إخراج يلماز أردوغان، وبلغت تكاليف إنتاجه 2.5 مليون دولار (مبلغ مرتفع بالنسبة للأفلام التركية) ليحطّم الرقم القياسي بعدد المشاهدين الذي حقّقه «قاطع الطريق» خلال شهر ونصف. ومن الأفلام الأخرى التي أعادت الحيوية والنشاط لشباك التذاكر نجد فيلم «مع السلامة»، «البيزنطية العاهرة»، «كل شيء سيكون جميلاً»، «بروباغاندا» وغيرها. لكن الجدير بالاهتمام أن مشاهدة الأفلام الكوميدية كانت هي الأكثر؛ فتركيا عاشت في بدايات القرن الحالي أزمة اقتصادية، وأصبح الناس يتوقون إلى التسلية.

مواسم وجوائز

اهتمّ العاملون في الحقل السينمائي التركي بتطوير صناعة السينما عن طريق تشجيع العاملين في هذا الحقل، فأُسست سنة 1946 «جمعية صانعي الفيلم المحلي»، ثم «رابطة أصدقاء الفيلم التركي»، ثم تأسست مهرجانات مُتخصّصة شبه رسمية حافظت على استمراريتها مثل مهرجان أضنا السينمائي، ومهرجان المكنسة الطائرة السينمائي الذي ينظم في أنقرة ويختص بأعمال المرأة في الحقل النسائي. ومهرجان إسطنبول الدولي للفيلم القصير ويختص بالأفلام الوثائقية. ثم مهرجان مرسين السينمائي ويختص بأعمال كتّاب السيناريو.

أما مهرجان أنتاليا البرتقالة الذهبية السينمائي الدولي فهو من أقوى وأهم المهرجانات التي تحظى باهتمام عالمي. بُدأ تنظيمه سنة 1964 لتكريم السينما التركية، ثم أصبح مهرجاناً دولياً يحتلّ مكانة بارزة وحدثاً مهماً للسينما العالمية، وقد نُظّمت دورته الحادية والخمسون في أكتوبر/تشرين الأول 2014.

تاريخ السينما التركية حافل بالتتويج في مهرجانات السينما العالمية فمنذ بدايات صناعة السينما التركية شارك المخرج محسن ارتوغرول في مهرجان البندقية بفيلمه «بائع القضاميّ»، وحصل على ميدالية شرف سنة 1934. كما شارك المخرج سامي إيان أوغلو بفيلمه «المدينة البيضاء» ونال جائزة خاصة في سويسرا سنة 1955. ونال الثنائي صباح الدين أيوب أوغلو ومظهر شوكت إبشير أوغلو الجائزة الثانية (الدب الفضي) في مهرجان برلين الدولي للسينما سنة 1956، ومن إخراج متين إركسان نال فيلم «الصيف الظامئ» الجائزة الكبرى (الدب الذهبي) في مهرجان برلين الدولي للسينما سنة 1964، كما تُوِّجَ عمر كافور بالجائزة الكبرى في مهرجان ميلانو سنة 1980 عن فيلمه «يوسف وكنان». وفي عام 1982 تُوِّجَ فيلم «هازال» لمخرجه علي أوزغِنتورك بالجوائز الأولى في مهرجانات برادس وسباستيان ولاهاي وبالدوقة الذهبية في مهرجان مانهاتن. وأحرز يلماز غونِي السعفة الذهبية لمهرجان كان السينمائي سنة 1982 عن فيلمه «الطريق». ونال «الوجه الخفي» للمخرج عمر كافور جائزة لجنة التحكيم في مهرجان فريبورغ، وجائزة أفضل فيلم لمهرجان مونتريال لسنة 1991. كما أحرز فاتح أكين الدب الذهبي في مهرجان برلين لسنة 2004 عن فيلمه «خلف الجدار»، وأحرزت المخرجة يشيم أوسطا أوغلو جائزة أفضل فيلم في مهرجان سان سيباستيان لسنة 2008 عن فيلمها «صندوق باندورا». ونال فيلم «الاحتمال البعيد» لمحمود فاضل جوشكون جائزة النمر الذهبي في مهرجان نوتردام لسنة 2009، وأحرز فيلم «العسل» لسميح كابلان أوغلو الدب الذهبي في مهرجان برلين سنة 2010. كما أحرز كآن موجدجي عن فيلمه «سواس» جائزتين في مهرجان فينيسيا ومهرجان أبو ظبي لسنة 2014.

 

رونيه فوتيه خيارات السينما.. مبادئ الفرد

عبد الكريم قادري

خيارات السينمائي قبل أن تكون فنية تواكب أو تواجه مدرسة ما، هي خيارات مواقف ومبادئ تنبع من قلب كل فرد، هذا الأخير الذي يرسم لنفسه درباً يسير عليه، كي يصل لنقطة مستقبلية تكون الهدف، وبين بداية الطريق وقطف الحلم، مسافات شوك وورد، وبينهما أمور مُتفرّقات، وعليه فإن هناك من يتخلّى عن حلمه في أول خطوة وبمجرد وخزة شوكة، بعدها يلبس عباءة الآخر، الذي يُغدق عليه بالرضا، إذ يُشبعه بشحنات الأيديولوجيات المقيتة، وما تحمله من مُفارقات مُتعدّدة، ليتبخّر الحلم، ويذوب في عالم الهشاشة، أما الجهة الثانية فصاحبها لا يتزعزع، مهما كانت الطريق وعرة وطويلة، ومهما كان وقع الشوك وحتى الرصاص عليه، فيبقى الحلم مستمراً، لأن صاحبه قوي، وحامل رؤى ومبادئ، ولديه إيمان كامل بنبل ما يسعى إليه، وملتزم بقضيته الكبرى، يسير على طريقه ولا يلتفت لما يلمع، لأن قلبه أكثر لمعاناً، وهذا الخيار الصعب جَسّده ميدانياً وعلى مدى عقود من الزمن المخرج الفرنسي الملتزم رونيه فوتيه (1928 - 2015)، الذي رحل عن عالمنا الشهر الماضي.

عدسة تخترق الرصاص

آمن المخرج رونيه فوتيه بأن التنديد وحده لا يكفي، وأن رؤية الأشياء بعينيك خير من أن تسمع بها، لذا بعد أن أكمل مسيرته النضالية مع المقاومة الفرنسية في مواجهة الآلة النازية العمياء، والتي كُلِّلَتْ بانتصار الحلفاء ومعهم فرنسا، سلمه الجنرال شارل ديغول وسام الصليب، نظير دوره المحوري في المقاومة.

انتهت مرحلة بالنسبة لفوتيه وبدأت أخرى، مع فضاء الصورة وعوالمها السحرية، إذ أَلَمّ بتفاصيلها وعناصرها الجمالية سنة 1948 ، بعد أن تحصّل على شهادة الدراسات السينمائية من المدرسة العليا، من هنا يكون رونيه فوتيه قد أعدّ العدّة، واكتسب سلاحاً يُمكّنه من الانخراط في مقاومة أخرى، أكثر اتساعاً، يُناصر بها المظلومين والمقهورين والمغلوبين على أمرهم، الذين اكتشفهم صدفة في القارة السمراء، بعد أن عايش أوضاعهم من خلال جولاته في بلدانها، وهذا بتكليف من رابطة التعليم الفرنسية، التي سخّرته من أجل أن يلمع وجه فرنسا المظلم، من خلال إخراج فيلم يُبيّن من خلاله الفتوحات الكبيرة التي حققها التعليم الفرنسي في البلدان الإفريقية التي تحتلها، لكن فوتيه واجه واقعاً مُراً هناك، عكس ما تُظْهِرُ آلة الدعاية الفرنسية، التي كرّستها كبلد حضارة مساواة وحرية وعدل، ذهبت لبلدان إفريقيا كي تحرّر شعوبها من التخلف والعبودية، ولأن فوتيه نقي لم يشأ أن يتورط في هذه اللعبة، وعاد مُحمّلاً بفيلم وثائقي عنونه بـ«إفريقيا 50»، أظهر من خلاله وجه الاستعمار البربري، ليكون فيلمه هذا أول وثائقي مناهض للاستعمار، لكن النظام الفرنسي أدخل المخرج للسجن سنة كاملة، وقام بحجز النسخة الأصلية للفيلم لأكثر من 40 سنة كاملة، ولم يُفرج عنها سوى سنة 1995.

في قلب المعركة

بعد عديد المتابعات والمضايقات والمنع الذي كان يتعرّض له رونيه فوتيه في فرنسا، قرّر هذا الأخير التوجّه إلى تونس، وهناك بدأ يمارس عمله السينمائي من جديد، حتى أن بعض المعلومات تشير بوضوح إلى أنه أول من اكتشف الممثلة الإيطالية المولودة بتونس كلوديا كاردينالي(1938)، والتي أشركها في فيلم قصير بعنوان «العقد الذهبي»، وقد حقّق الفيلم نجاحاً مُعتبراً بمهرجان برلين السينمائي، ومن هنا اشتهرت الممثلة محلياً، في المقابل لفتت انتباه العديد من المخرجين، لتدخل عوالم السينما الإيطالية وتصبح نجمة بارزة، لكن المخرج كان ملتزما بالفيلم الوثائقي النضالي، لتتاح له الفرصة من جديد، بعد أن احتك بالعديد من اليساريين، على رأسهم المفكر الكبير فرانس فانون (1925 - 1961)، الذي كان يقيم في تونس رفقة الكثير من قادة الثورة الجزائرية، ليظهر رغبته في الالتحاق بصفوف الثورة الجزائرية (1954 - 1962)، ليصوّر أحداثها، وينقل وجهة نظر الثورة المُغيبة عالمياً، ليكون له ذلك، خاصة أن الكاميرا كانت بمثابة الحلقة المفقودة للثورة، وقد سبقه لها المخرجان بيار كليمون وسيسيل دي كوجيس، هذه الأخيرة أخرجت وثائقياً على خلفية مجزرة القرية الحدودية الواقعة بين الجزائر وتونس، بنفس اسم القرية، وهو «ساقية سيدي يوسف»، حيث كلفها الفيلم سنتين سجناً نافذاً.

وهناك في قلب الجبال والغابات أسّس رونيه فوتيه أول مدرسة جزائرية لتعليم وتلقين مبادئ السينما، والتي التحق بصفوفها الكثير من المناضلين، على رأسهم صاحب السعفة الذهبية محمد لخضر حمينه (1934)، وأحمد راشدي (1938)، وغيرهما من المخرجين الذين رحل بعضهم، والبقية نشطّوا الساحة السينمائية الجزائرية بعد الاستقلال، وأبرز أعمال المخرج رونيه فوتيه في تلك الفترة فيلمه الوثائقي «الجزائر تحترق» 1958، الذي نقل من خلاله العمليات المنظمة لجيش التحرير الوطني، وقد أسقط الفيلم بعد عرضه في العديد من دول العالم الفكرة التي كانت تروّجها فرنسا ومفادها بأن التفجيرات والهجمات التي كانت تحدث تقوم بها مجموعة من المخربين والإرهابيين و«الفلاقة»، ومن هنا ساهم صاحب «أبناء العم الثلاث» بشكل كبير في محو هذه الصورة العبثية المسوقة، وعندما استقلّت الجزائر سنة 1962، استكمل الرجل مسيرته في الجزائر المستقلّة، حيث ساهم في تأسيس وهيكلة وتقنين قاعات السينما والهيئة المسيرة لها، وبعد أن تأكد بأن السينما في هذا البلد أصبحت بخير غادرها سنة 1966 إلى فرنسا، ليواصل صاحب «الناقوس» رحلة الكفاح والنضال ضد الرقابة على السينما في فرنسا والعنصرية، وحقوق المرأة والتلوّث.

أكثر المخرجين عُرضة للرقابة

«أصوّر ما أراه، ما أعرفه، ما أعتبره حقيقة»، هذا ما قاله رونيه في أحد لقاءاته الإعلامية، لكن يبدو أنه من الصعب على السينمائي أن يسير عكس التيار، ومنها تصعب عملية تصوير الحقيقة، التي وهب حياته لها، ومن هنا منعت الحكومة الفرنسية معظم أعماله السينمائية، من بينها «إفريقيا 50، الجزائر تحترق، الناقوس، الجزائر أمة، أن تكون في العشرين في الأوراس»، هذا الأخير تم عرضه في مهرجان كان دورة 1972، وحصد من خلاله جائزة النقاد، ازدادت الضغوط وقرارات منع عرض أفلامه، لذا دخل سنة 1973 في إضراب عن الطعام دام 33 يوماً، من أجل إبعاد السياسة عن المصنفات الفنية، وقد نجح بالفعل في هذا المسعى إلى حدٍ ما، وفي أحد مقابلاته قال: «صحيح أن الرقابة لم تعد موجودة، ولكن الرقيب لا يزال موجوداً، وغالباً يتجسّد في جيش من الأشباح في المحطات التليفزيونية، مهمتها إقناعك بأن فيلمك لن يهم أحداً من المشاهدين، وأن أفكارك الغريبة تُزعج الجميع بلا استثناء»، وقد اعترف العديد من المثقفين الفرنسيين بأهمية هذا المخرج الذي كان مناضلاً في سبيل الحرية وإعلاء كلمة السينما المجدية، دون الاختباء وراء شعارات التنديد التي كان ينتهجها الكثير من السينمائيين، كما أبان عن جدوى الفيلم الوثائقي وقوته وواقعية الصورة التي ينقلها، ليكون بمثابة الصوت الثاني، الذي عكس بواسطته صورة شعوب إفريقيا، التي كانت لا صوت لها، ما عدا الصور السلبية التي ينقلها الغرب، ومنهم الفرنسي مخرج الأفلام الوثائقية جان روش (1917 - 2004)، الذي اكتفى بنقل طقوس السحر والشعوذة وعادات وتقاليد القارة السمراء، وقد أعاب عليه المخرج السينغالي صمبان عصمان (1923 - 2007) هذا، بقوله بأنه كان يصوّر الأفارقة كحشرات، لكن روش دافع عن نفسه أكثر من مرة بقوله «ربما تكون نظرتي ذاتية وتعكس ميولاتي وتصوّراتي الشخصية في علاقتي بالقارة السمراء، لكن عيني تبقى موضوعية ولا تحاول لا تزييف ولا تزويق واقع الأفارقة، كان سهلاً بالنسبة لي أن أفعل مثل الدعاة الغربيين الذين يطالبون باستقلال البلدان الإفريقية، لكنهم باطنياً يحتقرون الإنسان الأسود، ولا يحاولون المرة فهم حضارته وثقافته»، لكن كان بوسع روش أيضاً أن ينقل جانباً من الظلم الذي سلطه الاستعمار على واقع إفريقيا التي كان يعرفها جيداً، وهي من الأشياء الثمينة التي ميزت رونيه فوتيه على غيره من السينمائيين الفرنسيين.

 

أكثر الرجال المطلوبين .. لجعل العالم أكثر أمناً !

محمد الفقي

من النادر أن نعثر على فيلم جيد يتناول ظاهرة «الجهاديين»، فالسينما الأجنبية والعربية -على السواء- عوّدتنا أن تأتي هذه الأفلام إما مُفرطة في سطحيتها، أو زاخرة بالمطاردات المُستهلَكة الممطوطة والمكرورة، حتى مَللنا من تكرار استخدام «الجهادي» بوصفه العدو والشرير والقبيح؛ وبوصفه الذريعة الدرامية الجديدة -بعد العدوين النازي، والسوفياتي- في استعراض قدرات النجوم والمخرجين على تنفيذ مشاهد الأكشن والعنف والمطاردات. لكن فيلم «أكثر الرجال المطلوبين - A MOST WANTED MAN» عام (2014) يأتي استثناء من تلك النوعيّة. الفيلم عن رواية للكاتب البريطاني جون ليكاريه، صدرت عام 2008، وقام ببطولته الممثل الأميركي الراحل (فيليب سيمور هوفمان: 1967 - 2014).

لا يمكننا الحديث عن جماليات بصرية استثنائية، ولا عن مُصارعة للقيم والمعاني الروحية والفلسفية، لفيلم قد أخذ على عاتقه أن يكون أقرب إلى منطق التحقيق والكشف الصحافي، وتقديم رؤية مُقرّبة لكيفية تعامل المخابرات الألمانية مع الظاهرة «الجهادية». 

يبدأ الفيلم بتسلل (عيسى كاربوف)؛ نصف الشيشاني-نصف الروسي، إلى مدينة هامبورج الألمانية، هارباً من أجهزة الأمن الروسية التي قامت بتعذيبه بوصفه «إرهابياً خطيراً». ويبدأ (عيسى) في الاتصال بالمجتمع المحلي المسلم في هامبورج، فيقدمون له يد المساعدة، ويستعينون بمحامية حقوقية ألمانية شابة (آنابيل)، من المدافعات عن الحقوق المدنية للأقليات المقيمة في ألمانيا، فتتحمس بدورها لمساعدته في الاختباء عن أعين السلطات الألمانية، وتساعده كذلك في الحصول على الثروة المشبوهة التي تُقدّر بالملايين، والتي كانت لوالده الروسي الراحل (الذي اغتصب أمه الشيشانية)، والمودعة في بنك يديره مصرفي إنجليزي (تومي) في هامبورج.

يراقب كل تلك الأحداث، ويحاول أن يديرها لمصلحته؛ مدير وحدة مخابرات ألمانية (بوكمان: فيليب سيمور هوفمان)، مُتخصّصة في التجسس على الجالية الإسلامية في ألمانيا. هذه الوحدة تعمل خارج الحدود الرسمية لأجهزة الأمن. وبوكمان هذا؛ بالإضافة إلى ذكائه الحاد، مُلِمٌ على نحو ممتاز بكل ما يتعلّق بظاهرة «الجهاديين» في أوروبا وخارجها. لكن بوكمان يعاني -والأجهزة الأمنية الألمانية عموماً- من عقدة مفادها أن خلية (محمد عطا)؛ التي نفذت أحداث خطف الطائرات ومهاجمة نيويورك والبنتاجون في 9/11، كانت قد تكوّنت وتدرّبت في مدينة هامبورج، تحت أنف المخابرات الألمانية، والتي كانت حينذاك في عماء معلوماتي كامل!. وفي ظِلّ هذا الشعور المُهين المُذل، يمارس (بوكمان) عمله في التجسس على الجالية الإسلامية في ألمانيا، وتجنيد بعض الجواسيس منها، لتزويده بمعلومات عن أنشطة الشخصيات الإسلامية، والخلايا المحتملة، في مقابل منح أولئك العملاء بعض الامتيازات والتسهيلات اللوجستية التي تتعلّق بالإقامة والعمل على الأراضي الألمانية.

لكن الفيلم، في الحقيقة، يذهب إلى أبعد من ذلك، حين نكتشف أن (بوكمان) يلعب حرفياً بالنار: إنه يتيح الفرصة لبعض كبار ممولي الإرهاب، القيام بتحويل أموال للجماعات خارج ألمانيا، في سبيل حصوله على معلومات عن الجهات الأخيرة التي ستصل إليها هذه الأموال في النهاية؛ أي أن هدف الحصول على المعلومات قد تحوّل لدى (بوكمان)، من وسيلة لمنع الإرهاب، إلى هدف في حد ذاته!

وهكذا يقوم (بوكمان) بإقناع المسؤولين الألمان، بل وحتى مندوبة الـ C.I.A (مارتا)، التي تقوم بالتنسيق بين الـ C.I.A وبين المخابرات الألمانية، بأن يتركوا الحبل على آخره حتى يتسلّم (عيسى) أموال أبيه القذرة المودعة في بنك (تومي)، حتى أنه يتدخّل هو شخصياً لابتزاز (تومي) لتسهيل تسليم الأموال لـ (عيسى)، والتجسس عليه، وتجنيد المحامية الحقوقية (آنابيل) لتتجسس هي الأخرى على (عيسى). وتتصاعد الأحداث، حتى يقوم (عيسى) بالتبرع أخيراً بالملايين التي ورثها إلى جمعية خيرية إسلامية، يقوم على إدارتها شخصية مشهورة تسارع بتحويل تلك الملايين إلى إحدى المنظمات التابعة للقاعدة خارج ألمانيا.

في أهم حوارات الفيلم بين (بوكمان) وعميلة الـ C.I.A (مارتا)، يتساءل (بوكمان) في لحظة صدق، مُتشككاً عن الهدف النهائي لكل ما يقومون به من جمع للمعلومات، وتجنيد للعملاء، وزرع للجواسيس. تفكر (مارتا) للحظة، ثم تجيبه: -«لجعل العالم أكثر أمناً !»، ويكرّر (بوكمان) نفس العبارة لاحقاً، وهو يُقنع رؤساءه بتسهيل وصول الأموال إلى المنظمة التابعة للقاعدة، فالأموال ستكون هي الصنارة التي سيصلون عن طريقها إلى السمكة الكبيرة التي لا يعرفونها، والسمكة الكبيرة نفسها سيتم استخدامها فيما بعد كطُعم للسمكة الأكبر منها، وهكذا دواليك، ولا ضير أن تقع بعض العمليات الإرهابية أثناء ذلك، فجعل العالم أكثر أمناً، هدف يستحق أن يسقط معه بعض الضحايا الأبرياء كجزء من تكلفة الحرب.

أداء فيليب سيمور هوفمان، بلغ أَوْجَه في التمكن من التعبير عن الشخصية التي طالما لامسها منذ أول أفلامه (عطر امرأة، 1992)؛ تلك الشخصية المُتوحِّدة مع نفسها، التي تتمتع بالذكاء، والتكبّر، والتصلّب، والعناد، واللؤم، والمُراوغة، والتي تجيد لعبة الانتظار وملاعبة الزمن. لكن هوفمان يضيف -وبحرفية عالية- إلى أبعاد هذه الشخصية التي طالما أجاد لعبها، بعداً جديداً هو الإحساس المبطن والغامض بالهزيمة والإعياء والإرهاق، في مهنة تستغرق الحياة بكاملها، حتى الشخصي منها؛ وهو ما يتماس مع مهنة التمثيل لهوفمان نفسه، الأمر الذي يضفي قدراً من الشاعرية ونحن نشاهد آخر أدواره في السينما.

يستحق كذلك كاتب السيناريو (أندرو بوفيل) الإشادة لأنه أضاف للسيناريو جهداً إضافياً لم يوجد في الرواية المقتبس عنها الفيلم؛ خصوصاً فيما يتعلّق بالاستقصاء الأمين عن الشخصيات، والآليات التي تعمل وفقاً لها المخابرات الألمانية، والأهم أنه أعاد مركزة الفيلم حول شخصية (بوكمان)، على عكس الرواية. كما قام بتحويل وجهة النظر -على نحو شديد التوفيق-، لنرى الأحداث من وجهة نظر (بوكمان)، خلافاً للرواية التي كانت تعرض الأحداث من وجهة نظري (عيسى)، والحقوقية (آنابيل).

أما مخرج الفيلم (أنتون كوربيين)، فلم يحاول -عن وعي ونضج- استعراض عضلات إخراجية لا لزوم لها، بل توارى خلف القضية التي يطرحها الفيلم، خدمة للتوضيح، ولذلك أصبح عندنا فيلم آخر يضاف إلى القليل جداً من الأفلام السياسية -سيئة السمعة بطبيعتها- التي تستحق المُشاهدة.

 

حيوات زامبريني

د. رياض عصمت

إنه زمن القصص الحقيقية في السينما العالمية أكثر من أي وقتٍ مضى. يبدو أن ذوق الجمهور يفرض ذلك، وأن القصص ذات المصداقية، التي تُؤرخ عبر مذكرات أو سير ذاتية حياة أشخاص حقيقيين، صارت هي الإلهام الأقوى للسينما الأميركية والبريطانية على وجه الخصوص. بالمقابل، عاد الاهتمام بالحرب العالمية الثانية يتصدَّر الإنتاج السينمائي من خلال أفلام عِدّة تناولت تلك الحقبة من الزمن، نذكر منها «رجال الآثار» من بطولة جورج كلوني ومات دامون وبيل موري وكيت بلانشيت، «سارقة الكتب» من بطولة صوفي نيليس وجيفري راش، «رجل السكك الحديدية» من بطولة كولن فارث، «الغضب» من بطولة براد بيت وشيا لابوف، بينما شهد آخر عام 2014، انطلاقة فيلم حربي كبير عن تلك الفترة التاريخية الغنيّة درامياً وهو فيلم «لم يُكسر»، الذي حَصَدَ تقديراً عالياً من قِبَلِ النقّاد والجمهور على حَدٍ سواء، بحيث أعاد للذاكرة نجاح فيلم «جسر نهر كواي» (1957) للمخرج الكبير ديفيد لين، من بطولة وليام هولدن وإلك غينيس. في الواقع، ليست فكرة إنتاج فيلم عن حياة لويس زامبريني جديدة، فقد اشترت شركة «يونيفارسال» حقوق القصة عام 1957، على أن يُسند الدور إلى توني كورتيس، ثم نام المشروع حتى أثار اهتمام نيكولاس بيج بعد ردحٍ من الزمن، ومرة ثانية لم يقيض للفيلم أن يُنتَج حتى ظهور كتاب لورا هيلينبراند واسع الانتشار، وتصدِّي أنجلينا جولي لإخراجه.

لم تكتفِ أنجلينا جولي بكونها بين طليعة نجمات الصفِّ الأول ومن بين أعلاهن أجراً، فعادت لتخوض تجربة الإخراج الروائي ثانية بعد فيلمها الأول «في بلاد الدم والعسل» عن الحرب الأهلية في البوسنة. هذه المرة، اتجهت أنجلينا جولي إلى التاريخ المعاصر لتروي في فيلمها «لم يُكسر» قصة بطل الجري الأولمبي الأميركي لويس زامبريني، الذي تعرَّض للأسر والتعذيب في معسكر اعتقال ياباني حتى وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وأُفرج عنه ليعود إلى بلاده، ويغدو داعية دينياً يدعو للتسامح ونسيان الأحقاد، حتى نهاية حياته (2014)، عن عمرٍ يناهز 97 عاماً. 

تبدأ أهمية «لم يُكسر» (2014) من السيناريو والحوار، الذي تصدّى لكتابتهما كل من المخرجين جويل وإيثان كووين، بالتعاون مع ريتشارد لاغرافنيز ووليام نيكلسون، اقتباساً عن كتاب لورا هيلينبراند. أضاء السيناريو جوانب من الطفولة القاسية للعدّاء الأميركي ذي الأصل الإيطالي: اضطهاد زملاء المدرسة له، فقره، إحباطه، معاناته وتمرده الفوضوي الذي لم يخلّصه من ذلك كله سوى محبة أمه وصرامة أبيه وإصرار أخيه الأكبر على إحياء الأمل في روحه التائهة بتشجيعه على قبول التحدي ورفض الهزيمة والانضمام لفريق الجري المدرسي، حتى يكبر ويصبح عضواً مُحترفاً في المنتخب الوطني الأميركي، ثم يتوصّل إلى كسر الرقم القياسي في أولمبياد برلين 1936. حبكة الفيلم تبدأ من لويس زامبريني شاباً وهو يؤدي الخدمة العسكرية ضمن طاقم سرب طيران يقوم بمهام عسكرية صعبة، ويخوض معارك جوية في غاية الإثارة والخطورة عبر أجواء العدو. وما تلبث أن تأتي نقطة التحوّل الدرامية الأولى عبر سقوط الطائرة التي يركبها لويس ورفاقه في المحيط، وينجو مع زميلين على متن قاربين مطاطيين. يعصف اليأس برفيقيه الشابين، لكن إرادة لويس الصلبة تدفعه إلى بث حب البقاء في روحيهما، فيكافح الثلاثة ضد الجوع والعطش وأسماك القرش ورصاص طائرة معادية تثقب القاربين. يفارق أحد الشابين الحياة، فيلقي رفيقاه جثمانه في المحيط ليصبح مثواه الأخير، لكن اليأس لا يهيمن على روح لويس زامبريني خلال 45 يوماً من المعاناة القاسية، فيظلّ يشجع رفيقه الجريح على التمسك بحب الحياة إلى أن تنقذهما من الموت سفينة حربية يابانية ليجد الاثنان نفسيهما أسيري حرب. هنا، تبدأ نقطة التحوّل الأخرى في الفيلم، إذ يواجه لويس زامبريني في معسكر الاعتقال الياباني قائده الياباني الذي يلاحظ روح التحدي الكامنة فيه، فيستهدفه بالاضطهاد ويسومه أصناف الإهانة والعذاب فقط لأنه كان بطلاً أولمبياً معروفاً. يتحمّل لويس ما يفوق قدرة الإنسان على الاحتمال، ويصمد صموداً عجيباً. ولا يكاد يهنأ بانتقال ذلك القائد إلى موقع آخر حتى يقصف معسكر الاعتقال، ويُنقل مع المعتقلين إلى معسكر ثانٍ، فإذا بالقائد نفسه أصبح قائد المعسكر، فيترنح لويس زامبريني ويكاد يسقط، لكنه يتماسك ويعود لمواجهة كابوس العذاب. تعرض عليه المخابرات اليابانية أن يتحدّث عبر الإذاعة ليعلن زيف إشاعة موته، فيفعل. لكنه يرفض أن يتلو بياناً ضد بلاده، ويفضّل أن يتحمّل صنوف التعذيب على خيانة مبادئه، مُطالباً رفاقه في الأسر بتنفيذ رغبة قائد المعسكر في لكمه واحداً تلو الآخر كي لا يتعرضوا للعقاب. يفشل قائد المعسكر في كسر إرادة لويس زامبريني، فيرفع عموداً ثقيلاً كما يفرض عليه تحت المطر الغزير مُتحدياً التعب والضعف، حتى ينهار جلّاده الياباني مهزوماً بعد أن فشل في كسر عنفوان الشاب الأسير. وهكذا، يبقى لويس زامبريني في ظِلّ ظروف اعتقال غير إنسانية ومعاملة بالغة السوء لغاية إعلان انتهاء الحرب دون أن يُكسر، ليتم إطلاق سراحه مع باقي الأسرى، فيعود إلى وطنه مرفوع الهامة، ويُستقبَل استقبال الأبطال من والديه وأخيه وأجهزة الإعلام والناس أجمعين، بينما يهرب قائد المعسكر الياباني المريض نفسياً بهوس القمع والتعذيب ليعيش ردحاً من الزمن في الخفاء. رغم كل ما تعرّض له لويس زامبريني، ما يلبث أن يتحوّل إلى داعية ناشطاً للتسامح ولئم الجراح ونسيان أحقاد الحرب، حتى يركض حاملاً الشعلة في أولمبياد طوكيو وهو في عمر مُتقدِّم. إنها نهاية تسجيلية حقيقية تحمل دلالات عظيمة في معانيها، إذ إن الفيلم يسجل على لوحة أن غفران لويس زامبريني شمل كل الناس ما عدا قائد المعسكر الجلّاد الذي أهدر كرامته وأذلّه وعذّبه، كما أراق دماء أسرى آخرين بقسوة تنتهك القوانين والأعراف الدولية. هكذا، في الوقت الذي تحمل فيه أنجلينا جولي ختام فيلمها «لم يُكسر» رسالة تسامح إلى البشرية، فإنها تسجّل الحقيقة ناصعة في أن مُرتكب جرائم ضد الإنسانية عن سبق عمد وإصرار لا يستحق التسامح، بل يجب أن يبقى مُداناً. احتج اليابانيون على الفيلم، ووجدوه ينكأ جراحاً مُندمِلة، وصرحوا بأن ضباطاً من طراز قائد معسكر الاعتقال سيقوا إلى المحاكمة ونالوا العقاب. ولكن هل من عقاب أقسى من عقاب التاريخ؟ وهل يمكن للفن أن يغض النظر عن الفارق بين سيرة سفاح وسيرة بطل؟

لا يملك مُشاهِد فيلم «لم يُكسر» (2014) إلا أن يُدهش للإخراج المُتمكّن الذي قدّمته أنجلينا جولي، موحية بموهبة وإمكانيات وثقة المخرجين المتمرسين ممن قدموا عشرات الأفلام، بل إن مجرد تصديها لعمل حربي ضخم من هذا الطراز يُعد بحد ذاته تحدياً، لكن أفضل ما تمخّضت عنه موهبة أنجلينا جولي كمخرجة هو اكتشافها وتبنيها باقة من المواهب التمثيلية الشابة، وإدارتها لهم جميعاً بمهارة ليقدّموا أداء مُقنعاً. يتصدّر هؤلاء بالطبع الممثل البريطاني الشاب جاك أوكونيل في دور لويس زامبريني، الذي استطاع أن يجسّد الدور، مُحافِظاً على كبح جماح عواطفه ليطلقها في لحظات محسوبة بدقة. أداءٌ رفيع المستوى لممثل صاعد سيكون له حضور مُميّز سينمائياً. لا ننسى أيضاً الياباني تاكاماسا إيشيهارا بملامحه الباردة، والخالية غالباً من أي تعبير، وهو يؤدي دور قائد معسكر الاعتقال الياباني الذي لا يرحم. 

فيلم «لم يُكسر» أحد أبرز الأفلام الحربية التي عالجت حقبة الحرب العالمية الثانية باتزان ورصانة عبر قصة حقيقية لبطل أولمبي يقع في الأسر، جمعت أنجلينا جولي فيها التوثيق العقلاني مع الخيال الدرامي المؤثر عاطفياً. والطريف أن التنافس سيكون حامياً بينها وبين شريك حياتها براد بيت، بطل فيلم «الغضب». تُرَى، هل ستفعلها مسز سميث وتختطف من مستر سميث أوسكارات أكثر؟!

مجلة الدوحة القطرية في

01.02.2015

 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2014)