كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

رؤى نقدية

 
 
 
 
 

نبيل المالح:

قوى المعارضة في الخارج خانتنا وتركتنا نستجدي

سامر محمد إسماعيل (دمشق)

 

خاض المخرج السوري المخضرم كما كل أبناء وطنه في المتاهة السورية، لكنه آثر الابتعاد عن لهيب الحرب الدائرة، مسافراً إلى دبي، تاركاً قلبه في دمشق، مدينته التي قدم لها مثل ما قدم لسوريا أهم الأفلام في تاريخ سينما بلاده حيث يعد «نبيل المالح - 1936» من جيل الرواد؛ فبعد دراسته السينما في تشيكوسلوفاكيا عام 1964 عاد «المالح» إلى بلاده في ستينيات القرن الفائت ليعمل في المؤسسة العامة للسينما، حيث قدم عدة أفلام روائية قصيرة كان أبرزها: «إيقاع دمشقي» و «نابالم» ليقدم في عام 1969 أول فيلم روائي قصير له بعنوان «إكليل شوك» وليقدم بعدها فيلمه «المخاض - 1970» ضمن الثلاثية السينمائية الروائية «رجال تحت الشمس» التي تعتبر أول فيلم سوري طويل ونال عليه جائزة مهرجان قرطاج السينمائي؛ ليساهم المخرج السوري في تكوين حساسية سينمائية خاصة عبر أفلامه «الفهد - 1969 وفيلمه «بقايا صور- 1980» وفيلم «تاريخ حلم - 1983» وفيلم كومبارس - 1993- جائزة أفضل إخراج القاهرة السينمائي».

«السفير» التقت المخرج السينمائي نبيل المالح وكان معه الحوار الآتي:

·        ] بعد ثلاث سنوات من الغيابٍ عن منزلكَ في حي المهاجرين بدمشق كيف تبدو لك اليوم سوريا وقد شارفت الحرب على الدخول في عامها الخامس؟

ـ سؤال يفاجئني يومياً .ترى ما الذي جرى ...وهل أكثر السيناريوهات فانتازية كانت قادرة على استقراء ما جرى ...لقد تجاوز الأمر خيالي وخيال من يحيطون بي وحتى أكثرهم تشاؤماً.. وفي الحقيقة، لربما كنا جاهلين بمكونات تراكمت لتصنع هذا الحاضر المقيت. على أي حال، وبالرغم من تفاؤلي الدائم، أرى أن خارطة الأحداث اليوم قد غدت أكثر عتمة وغموضاً، والسنوات الأربع الماضية كانت ثمناً باهظاً لحلم بسيطٍ وأساسي، والناس في العالم قد نسوه لأنه غدا ممارسةً يوميةً، بينما نفتقده ويبتعد عنا في كل يوم.. حلم الحرية.. الديموقراطية والكرامة الإنسانية. هل الكرامة الإنسانية مكلفة إلى هذا الحد؟

·        ] ماذا عن فيلمك الجديد «الوشم السابع»؟ حدّثنا عنه، عن فكرته، شخصياته، وخطوط الصراع فيه؟ جهة تمويله إن وجدت؟

ـ «الوشم السابع» كان هاجساً سينمائياً بالنسبة لي قبل «الثورة» بزمن طويل. لقد كان حلمي أن أسرد لنفسي، لأطفالي وللناس وثيقة عن الأربعين سنة الماضية من حياة سوريا.. سنوات الاستبداد والفساد والطغيان وامتهان الكرامة الإنسانية، وطبعاً كنتُ أعرف أنني لن أجد جهة منتجة، ولكن الأمر كان ذا أولوية بالنسبة إلي. المهم أن فكرة «الوشم السابع» تتمركز حول استحضار ستة أحداث متميزة في العقود الأربعة الماضية، أي حقبة مصادرة حزب البعث لمقدرات سوريا، وذلك عبر دمج الشخصي بالعام، والأيام أو الأحداث التي تركت وشمها على أرواحنا ومصيرنا، أما الوشم السابع فهو «الثورة».

والآن، ليست لدي أوهام حول إمكانية إنتاج هذا العمل لسببين، أولهما أن الجهات المُنتجة المحتملة قد أعطت الخبر الساخن اليومي أولوية، وثاني الأسباب، هو قناعتي بأن الحدث السوري قد غدا أكبر من ذلك بكثير، وأن هنالك أولوية لبقائنا كشعب ومصير.. وإيقاف آلة الموت والقتل.

·        ] أنت من المخرجين السوريين الذين اشتغلوا على شخصية وطنية لسينما بلادهم؛ أين وصلت اليوم في هذا التحدي الفني؟

ـ لا أعتقد أن السينما قادرة على فعل شيء الآن، فيما عدا توثيق المجزرة التي يتعرض لها شعبنا الآن.. والأحداث التي نشهدها اليوم، إضافة إلى أن المستجدات الكثيرة جعلت الكثيرين يفقدون البوصلة ويلجؤون إلى الدعوات لله القدير الذي يحل كل المشاكل، بينما هم يعرفون أن ذلك لن يحدث.

أعترف بأنني غدوت حافلاً بالشكوك، فهنالك هذا التشرذم لقوى المعارضة والذي أفقدها مصداقيتها وقدرتها على القيادة، وأخيراً جاء عنصر سيريالي إلى المشهد السوري، عنصر داعش والقوى الظلامية السلفية التي قلبت جميع المفاهيم والقيم وأرجعتنا قروناً إلى الوراء، في وقت كنا نعتقد فيه أنفسنا بأننا شارفنا على الاقتراب من تخوم القرن الحادي والعشرين، وأن لا شيء يفصلنا عنه سوى نظام آن أوان اجتثاثه، فلقد استوى هذا النظام على غصن التاريخ وقد بدأ بالتعفن. حاولنا وحاولت أن أكتب هذا الزمان بشكل سينمائي، ولكنني عجزتُ كما عجز الآخرون، وما كتبته حتى الآن أصغر بكثير مما يجري. ونحن نمر في مرحلة انقلاب تاريخي، بل إن التاريخ والجغرافيا معرّضان لكتابة جديدة.. إننا نمرْ بما يشابه سقوط بيزنطة أو نهاية الحرب العالمية الأولى.. رسم جديد للخرائط والقوى.

·        ] ولكن ماذا عن الجيل السينمائي الجديد في سوريا والذي يبدو مختلفاً في تطلعاته ورؤاه ومشاربه الفنية؟

ـ في حياة الشعوب، أربع سنوات تعتبر زمنا قصيراً، ولكنها في الحالة السورية كانت طويلة ومضنية، وفيها نشأ جيل جديد من الأفراد.. مئات آلاف الأطفال بدون مدارس؛ ومئات آلاف العاطلين عن العمل الذين يحلمون برغيف الخبز؛ وملايين النازحين ولم تعد الأحلام هي تلك السائدة فيما قبل «الثورة». الحلم المشترك الوحيد بين البارحة واليوم هو العيش بكرامة، وهو الحلم الذي يبدو متباعداً في كل يوم. ومن هنا يمكننا أن نتصور نوعية الجيل السينمائي الجديد الباحث عن مكان له، وقد صهرته نار الصراع وشاهد في خلال السنوات الأخيرة ما لم تشاهده الأجيال الأخرى، وكان شاهداً على سقوط وتدمير وطن بشكل مذل وقبيح.

إننا نعلم أن السلطة قد حاولت وتحاول أن تقدم صورتها عبر السينما والتلفزيون، وهي لا تخرج في ذلك عما دأبت عليه طوال أربعة عقود من تزييف للحقائق، محاولة تكريس صورة الأبدية كما تراها.. أبدية استمرار خدعة السلطة المفضوحة، وكل ذلك واضح وليس بحاجة إلى براهين، ولكن المشكلة كانت في الطرف الآخر؛ طرف «الثورة».

لقد افتقدت «الثورة» منذ البداية القيادة الكاريزمية الواضحة، ولم يكن فيها من شيء حقيقي سوي في بداياتها التي كانت تصرخ «الموت ولا المذلة» و «الشعب السوري واحد واحد» وغيرها من الشعارات التي صنعت ألق تلك الأيام ونقاءها.

·        ] السينمائيون في سوريا شهدت شريحتهم انقساماً حاداً في ظل الحرب بين سينمائيي خارج وسينمائيي داخل.. كيف تقرأ هذا الواقع وتقيمه اليوم؟

ـ هذه معضلة ممتدة إلى شرائح المجتمع كافة وليست خصوصية مجتمع السينمائيين. الداخل والخارج.. ما هذا الفصام وما هي أصوله؟ الجميع يحملون أحلاماً، والجميع لديهم زوجات وأطفال ورغبات في عيش كريم. ليس هنالك من اختلاف سوى في استنباط حلول حياتية آنية تفرضها شروط الحرب والدمار. رأى البعض في الغربة نجاة من آلة الحرب ورأى آخرون أن البقاء هو الأسلم؛ ولكن أحدا لا يملك الشرعية ولا المكان لتخوين الآخر؛ فمعظم الذين رحلوا يعيشون ظروفاً قد تكون أقسى وأشد مضاضة. ولا أعتقد أن هنالك حرباً بين سينمائيي الداخل والخارج، وإنما هي الظروف التي يتواجد فيها كل منهما، ففي النهاية، كل منهما مواطن يريد العيش في بلده حيث تحترم مواطنيته وكرامته.

·        ] أفهم من كلامك أنكَ ما زلت مؤمناً بوحدة الشعب السوري؟

ـ طبعاً الشعب السوري واحد واحد.. أنا مؤمن بذلك حتى العظم. والشخصية الوطنية ليست قائداً ميدانياً أو حامل مسدس، وإنما هو ذلك الإنسان البسيط المتواضع الذي يعشق وجوده مع الآخر ويحترم هذا الوجود.

·        ] الكارثة السورية أظهرت عنفاً كبيراً لجهة انتفاضة كومبارس عارمة كنت قد تنبأت بها في فيلمكَ «الكومبارس» كيف ترى اليوم إلى هذا الواقع في ظل موجة الإرهاب والتطرف العارمة التي تضرب العراق وسوريا؟

ـ في كل نقاشاتنا اليومية وصداماتنا وادِّعائنا المعرفة والذكاء، نكتشف مدى عجزنا عن إيقاف نزف وهدر الدم السوري، لقد كثُر اللاعبون، وهي قوى لا تعنيها سوى مصالحها ومخططاتها البعيدة، وغدا من الصعب استعادة المبادرة إلى أيدي السوريين أصحاب العلاقة. إنني ولسوء الحظ يائس من مصير هذه الحالة.

·        ] البعض يرى أن اليسار السوري وضع يده في يد قوى اليمين المتطرف الممثل بالإخوان المسلمين.. ما رأيك بذلك؟

ـ أعتقد أن في ذلك بعض الظلم لليسار السوري، خاصة أننا نعلم عن كمية الأموال الموظّفة لاختراق «الثورة» التي لم تكن في بداياتها ذات مظهر إسلامي، ولكن قوى اليمين المتطرف ركبت الموجة الشعبية الرافضة للنظام، وإن كان ذلك لا يعفي اليسار من مسؤوليته تماماً عن هذا الاختراق الذي دمّر الحالة العامة.

·        ] برأيك هل استطاعت السينما في سوريا عبر خمسة عقود من الإنتاج أن تكون مرآة واقعها وصوت مجتمعها؛ أم أن ما قدمته لم يتعدَ عدة أفلام جيدة لمخرجين بعينهم كان كل طموحهم هو تحقيق حضور في المهرجانات العربية أوالدولية؟

ـ لا أعتقد أن الطموح الأساسي كان في تحقيق حضور في المهرجانات العربية والدولية، فلقد كان الطموح الحقيقي هو في التأسيس لسينما وطنية، وهذا ما تحقق في العديد من الأفلام، حيث كانت الجوائز في المهرجانات نتيجة ولم تكن هدفاً بحد ذاتها.

·        ] أريد أن أعرف رأيكَ عن مهمة السينما بعد أربع سنوات من الحرب وتذابح الأخوة واختفاء مدن وتهجير ملايين من السوريين داخل بلادهم وخارجها؟

ـ مهمة الفن والفكر والسينما بعد أربع سنوات من الدماء والدمار..؟ تبدو الإجابة واضحة، ولكن الخطاب الثقافي كان غائباً تماماً لدى قوى المعارضة، وبدت الثورة وكأنها لا تملك الروح، وبالتالي لا تملك الشرعية، ونحن نعلم أن الثورة هي ثقافة الثورة أولاً وأخلاقياتها ومفاهيمها التي تعطيها الشرعية لأن تقود نضالاً تحررياً ما، وأنا كواحد من السينمائيين أشعر صراحة بأن قوى المعارضة في الخارج قد خانتنا وتركتنا نستجدي فرص قول ما نتمناه ونرغب فيه من تكريس واحترام لعشرات الآلاف من الأفراد الذين غابوا وتركوا الوطن أمانة بين أيدينا. لقد قمنا كلنا بخيانتهم؛ ولكن الثورة هي الحدث الأكثر شرفاً في تاريخنا المعاصر، بل إنها ستصبح النبراس الذي يضيء المستقبل في حال عودتها إلى أصولها المبدئية.

·        ] أنتم من الجيل الذي انتمى بقوة لسينما حملت على عاتقها مهمة التغيير والمواجهة مع السينما التجارية الرخيصة.. هل تعتقد أن ذلك أدى إلى خسارة الكثير من شرائح الجمهور التي كنتم تدافعون عنه في الأفلام التي حققتموها؟

ـ في الحقيقة، لم تكن هنالك مجابهة مع السينما التجارية الرخيصة، لسبب واحد هو أن إنتاجها توقف عملياً في الداخل السوري وتحولت رؤوس الأموال للإنتاج التلفزيوني؛ ولكن المشكلة هي في حصر الاستيراد بالمؤسسة العامة للسينما الذي كان مناسباً من أجل تمويل إنتاجها ولكنه أغرق السوق بأفلام من الدرجة الثالثة أبعدت المشاهد عن الصالات وخلقت مشاهداً عجائبياً، إضافة إلى تقصير أو عجز الجهة المسؤولة عن الترويج والتسويق للأفلام السورية، لا سيما إذا علمنا مثلا أن ثلث ميزانيات الأفلام الأميركية مخصص للدعاية والإعلان والترويج.

·        ] إذاً أنت تعتقد أن التلفزيون في سوريا هيمن نهائياً على مخيلة الجمهور؟ فهل من الممكن اليوم أن تسترد السينما هذا الجمهور من سباته التلفزيوني الرمضاني؟

ـ لا أعتقد أن السينما قادرة على استرداد الجمهور، فالسينما الوطنية تقاتل في سبيل بقائها، وهموم مخرجيها أصبحت في دائرة المعاش اليومي وبعيدة عن الانهماك في البحث عن أدوات إبداعية مبتكرة أو مشاريع ذات طموح سينمائي بعيد. لقد استعار السينمائيون من التلفزيون الخطأ القاتل بأن الصورة هي لسرد حكاية، ونحن نعلم جيداً أن السينما هي حالة أكثر من أن تكون حكاية. السينمائي الحقيقي ليس حكواتياً وإنما هو مرآة لحالة.

·        ] في ظل موات معظم صالات العرض وانكفاء القطاع الخاص عن مغامرة الإنتاج كيف يمكن الخروج إلى حالة سينمائية فاعلة؟

ـ المهم الآن هو الخروج من هذا النفق المظلم الذي وجدنا أنفسنا فيه نحن السوريين. نفق نريد الخروج منه إلى آفاق عالمنا المشرْعة. المهم الآن هو وقف نزف الدم والبشر.

·        ] وهل السينما قادرة على صياغة واقتراح فضاء آخر للمدينة السورية في ظل الحرب القائمة؟

ـ هذا أمر منوط بحركة الأشياء والبشر والمستجدات والمناخ السياسي المقبل، وأنا شخصياً أشعر بيأس على الأقل للمدى القصير، ولكنني مؤمن بقدرة الشعب على صنع غد مختلف دفع ثمنه غالياً.

·        ] كيف تقرأ مستقبل السوريين في ظل كل هذه الانقسامات؟ ألا نستطيع التعويل على الطليعة الجديدة من المخرجين الجدد في سوريا وسط كل هذا الخراب؟

ـ أعرف أن الحدث السوري الدامي لن يخلف رماداً ميتاً وإنما تراباً خصباً لأجيال قادمة حافلة بالإشعاع والرغبة في الحياة. أجل سيكون هنالك جيل سينمائي مختلف، صهرته نار الحدث السوري وشكّلت منه معدناً أكثر صلابة وأعمق جوهراً.

السفير اللبنانية في

30.01.2015

 
 

40 عام على رحيل أم كلثوم

النموذج الخالد

الياس سحاب

ذات يوم، وعندما كان الفنانان العملاقان محمد عبد الوهاب وأم كلثوم يستعدان لتقديم لحن «انت عمري» على المسرح للمرة الاولى (الخميس 6/2/1964)، نظر محمد عبد الوهاب ملياً الى أم كلثوم وقال لها: «خذي بالك يا ثومة، تاريخي الفني كله الآن بين يديك، فإما أن تصعدي به الى السماء، وإما ان تهبطي به الى الارض». ويبدو أن أم كلثوم لم ترتح لهذه العبارة فردت فوراً: «ماذا تقول يا محمد، أنت ملحن دخلت في الخلود وأنت على قيد الحياة، أما أنا فمطربة، يحبني الناس في حياتي، ولكنهم قد ينسونني بعد رحيلي بعشر سنوات».

ويبدو ان الدقة قد جانبت أم كلثوم تماماً في القسم الثاني من حديثها، الخاص بها كمطربة، فها هي اربعة عقود كاملة تمر على رحيلها تقترب وها نحن نقترب كثيرا من عشرينيات القرن الحادي والعشرين، اي انه يكاد يمر قرن كامل على تربعها في عشرينيات القرن المنصرم على عرش الغناء العربي، بعد أن ازاحت عنه في فترة قصيرة نسبياً كلا من فتحية أحمد ومنيرة المهدية، وهي ما زالت تتربع حتى يومنا هذا في موقع «سيدة الغناء العربي»، الذي يبدو انها قد احتلته طويلا.

لا شيء يدعو للاستغراب، فها هي مئات من السنين قد مرت على رحيل كل من فيفالدي وباخ وبتهوفن وموزار، وأسماؤهم ما زالت في قمة التألق، وموسيقاهم ما زالت ملء الأسماع جيلاً بعد جيل.

الذي كان يدعو الى الاستغراب هو ان توجد، في امة من الأمم، مطربة على هذا القدر من تعدد المواهب الكبيرة، ومن رسوخ القدم في تربة وجذور فن الغناء عند أمتها، ولا تدخل بعد ذلك مجال الخلود الفني الدائم والمستمر والمتواصل.

لا شك بأن حنجرة أم كلثوم الاستثنائية، التي لا يجود الزمان بمثلها من قرن الى قرن، كانت الموهبة الاولى التي صنعت منها هذا النموذج الفني الاستثنائي، لكن العامل الذي قد يكون الأكثر تأثيراً في عبورها بوابة الخلود، هو تربيتها الموسيقية، منذ نعومة اظفارها، (ولدت في مطلع القرن العشرين او قبل ذلك بسنة) وحتى تجاوزها سن العشرين (انتقلت الى القاهرة في العام 1923)، هذه التربية الفنية الراسخة والطويلة في حضن الإنشاد الديني، الذي ملك عليها أحاسيسها سنوات طويلة، حين كانت المنشدة الاولى في فرقة الإنشاد الديني التي كان يديرها والدها الشيخ ابراهيم البلتاجي، قبل ان تنتقل تدرجاً، وعلى يدي الشيخ ابو العلا محمد، الى إنشاد القصائد العاطفية، ثم الطقاطيق والمنولوجات والادوار على ايدي كل من محمد القصبجي وزكريا أحمد.

والحقيقة أن تاريخ الغناء العربي طيلة القرن العشرين قد عرف نفراً يعد على اصابع اليدين من المطربات المرموقات، لعل بعضهن قد اطلعن على اصول الإنشاد الديني، كما على تراث القرن التاسع عشر (وخاصة تراث القصيدة الغنائية والدور الغنائي)، لكن أياً منهن لم تصل الى درجة الممارسة المباشرة لكل فنون الإنشاد الديني، ولسنوات طويلة، مثل التجرؤ على احتراف الغناء الدنيوي، كما فعلت أم كلثوم.

ومع أن أم كلثوم قد عرفت في حياتها الفنية الطويلة اثني عشر ملحناً. هم الثلاثة المذكورون اعلاه، اضافة الى أحمد صبري النجريدي وداود حسني ورياض السنباطي وفريد غصن، قبل الخمسينيات، ثم بعد ذلك محمد الموجي وكمال الطويل وبليغ حمدي ومحمد عبد الوهاب وسيد مكاوي (حسب التسلسل التاريخي)، فإن بالامكان ان نقول اليوم وقد اصبحنا على مسافة طويلة من ختام إنجازات هذه الظاهرة الفنية الخالدة، ان عظمتها الكلاسيكية انما تختصر في اربعة ملحنين هم: ابو العلا محمد، ومحمد القصبجي، وزكريا احمد، ورياض السنباطي (حسب التسلسل التاريخي).

لكن أفدح ما اصاب الذكرى الفنية لأم كلثوم، كما اصاب ذكرى زميلها في الخلود محمد عبد الوهاب، ان الأضواء لم تعد تُلقى لدى الأجيال العربية الجديدة، الا على المرحلة الاخيرة من حياتها الفنية الشامخة، مع ان معظم اسرار خلودها تكمن في مرحلتها الكلاسيكية الاولى والمتوسطة، أما مرحلتها الاخيرة فكانت من ثمار خلودها، ولم تكن من اسباب ذلك الخلود.

40 عام على رحيل أم كلثوم

جنازة الست

محمد شعير

لماذا ارتدت أم كلثوم النقاب فى العام الذي حكم فيه الإخوان مصر؟ منذ عامين تقريباً، حدثت الواقعة. فوجئ أهل مدينة المنصورة في دلتا مصر، بإلباس بعض المجهولين تمثال سيدة الغناء العربي فى المدنية نقاباً، في إشارة إلى وضع مصر تحت حكم الإسلاميين. ولكن لماذا أم كلثوم؟
يقودنا السؤال إلى مشهد آخر تماما، حدث منذ أربعين عاما تقريباً. مشهد جنازة «الست» التي صنفت بأنها من أكبر ثماني جنازات فى التاريخ الإنساني (شارك فيها نحو 4 ملايين). كل مصر فى الشارع، لم يتحدث أحد عن «الحرام» أو «الحلال» الكل يبكي فقد غابت الست التي وضعها التاريخ فى المكانة التى لم يضع فيها أحد، هي «الفلاحة» التي حكمت العالم العربي بحنجرتها، هي جزء من تاريخ الفن الحضاري العربي وجزء من تاريخ الزعامات الشعبية أيضا. إنها المرأة اللغز، أو السر، صوت السماء. مئات الكتب وآلاف المقالات حاولت البحث والإجابة عن سؤال: سر هذه السيدة. سر خلودها، برغم تعاقب أزمنة وحكام وثورات ومطربين وملحنين..

كانت جنازة أم كلثوم هي آخر الجنازات الشعبية فى تاريخ مصر.. بعد ذلك تحولت هذه الجنازات إلى جنائز رسمية باهتة، قبلها كانت جنازة سعد زغلول «الأكبر والأعظم» بل تفوق جنازة عبد الناصر. رفعت فيها الجماهير النعش على اكتافها من ميدان الأوبرا وحتى مدافن الإمام. وكان الحزن شاملا كل الفئات والطبقات والأحزاب..فسعد هو «الأب الروحي للأمة كلها» حسبما يشير نجيب محفوظ في مذكراته. وهو الأمر ذاته الذي حدث مع النحاس باشا عام 1965، الذي فرض عليه حصاراً شديداً، ومُنع من الظهور أو الإشارة إلى أي اخباره فى كل وسائل الإعلام، ويوم وفاته حذرت السلطة الناصرية الجمهور من «التجمع» وتهديد المشيِّعين بحجة ان الشعب مولع بالجنازات.. فقد خرج الملايين لتشييع زعيم الوفد واعتبرت الجنازة يومها رد اعتبار شعبي للوفد وزعيمه.

لم تكن جنازة عبد المنعم رياض جنازة تقليدية عادية، نحن أمام قائد عسكري استشهد برصاص العدو، وكان في الصفوف الأولى يتفقد قواته. طغى على المصريين – كما يقول الكاتب محمود عوض - وقتها شعور بأن استشهاد رياض هذا أعاد الاعتبار إلى العسكريين جميعاً، هذا النوع الجديد من العسكريين الذين يقع على أكتافهم إعادة الاعتبار للعسكرية المصرية وإعادة بناء القوات المسلحة. فضلا عن شعور آخر بالغضب الإيجابى».

لم تكن الجنازة تقليدية، خرجت جموع المصريين بعفوية للمشاركة، حتى أن عبد الناصر ذاب بين الناس، الذين اقبلوا عليه يعزوه ويخبروه «معك ثلاثين مليون عبد المنعم رياض..»، وسط هذه الجموع اختفى طاقم الحراسة تماما، ليحيط هؤلاء الناس بالرئيس وتتشابك ايديهم لتصبح طاقم حراسة للرئيس الذي قال يومها لمعزيه: ذهبت إلى الجنازة لمشاركة الناس وليس لتقبل العزاء فى رياض، العزاء الوحيد عندي، وعند عبد المنعم رياض، وعند كل العسكريين المصريين، هو تحرير الأرض». الأمر ذاته حدث مع عبد الناصر نفسه الذي سار فى جنازته أربعة ملايين مصري فى القاهرة وحدها وأقيمت له جنازات شعبية فى كل المحافظات، بل في عدد من الدول العربية. وكذا الأمر فى جنازات عبد الحليم حافظ، وطه حسين، وهي الجنازات التى سار فيها الملايين، خرج الناس لوداعهم احتفالا بقدرة الإنسان على الخلق والإبداع... أما محمد عبد الوهاب فقد كان حظه أنه مات فى عهد مبارك الذي كان يخشى شعبه، وهو نفس ما حدث مع نجيب محفوظ.. الذي تحولت جنازته الى جنازة رسمية بفضل السيد الرئيس الذي كان حضوره كفيلا بتحويل جنازة أي رمز شعبي إلى أمر رتيب، تخنقه القيود الأمنية. أم كلثوم هي رمز ذوبان كل الطبقات، والقيود..إنها السحر الذي تخشاه السلطة حتى بعد رحيلها ..من هنا قد تتنقب أم كلثوم..وقد تنسى رسمياً!

(كاتب مصري)

40 عام على رحيل أم كلثوم

ثلاث مقالات للست.. أم كلثوم تكتب!

رشا عبد الوهاب

«أم كلثوم تغني».. ربما كلنا يعرف تلك الحقيقة، ولكن المدهش أن «الست» كما يسميها المصريون كانت «تكتب» أيضاً للصحافة، مقالات رأي بين الحين والآخر.

وحسب الصحافي مصطفى أمين امتلكت الست قدرات ذهنية، وبلاغة وسرعة بديهة ما يؤهلها لتكون صحافية بارعة.. بل يشار إليها بالبنان. ولكن لأن مصر بها آلاف الصحافيين، وأم كلثوم واحدة، فقد تفرغت للغناء فقط، لتستمر في قلوب كل عشاق صوتها من المحيط إلى الخليج. أم كلثوم ليست أسطورة الغناء العربي، التي لم يزاحمها أحد على مكانتها حتى الآن فقط، هي أيضاً واحدة من أساطين «الكتابة» الصحافية.. وهذا وجه غير معروف لكثيرين. فقد مارست الصحافة بين الحين والآخر لدعم أصدقائها أصحاب المجلات. وتحديداً المصريين منهم، بعد أن كانت الصحافة المصرية أو معظمها يديرها أجانب في بدايات القرن العشرين. كانت أم كلثوم غاضبة دائماً في بدايات شهرتها الفنية، كانت ترى أن كل الجرائد المصرية يتحكم فيها غير المصريين، وكانت تضطر للإعلان عن حفلاتها في جرائد يدير إعلاناتها أجانب.

لذا كانت تفرح إذا كتب عنها في مجلة أو جريدة يملكها مصري مغمور على أن تمدحها جريدة المقطم. لذا شجعت أم كلثوم الصحافي المصري الأشهر محمد التابعي على إصدار مجلة «آخر ساعة».. كانت تسأل عن المشروع بلهفة شديدة، وفى ليلة صدور «آخر ساعة» في تموز 1934، اتصلت أم كلثوم تطلب العدد قبل طرحه للبيع بأربع وعشرين ساعة، فقد كانت مسافرة إلى باريس وهي لن تنتظر أن يأتيها العدد الأول من المجلة بالبريد.. ويحكي مصطفى أمين أن أم كلثوم كان لها في مؤسسة «أخبار اليوم» نصيب، هي أحد مؤسسي الدار، فقد تبرعت لمصطفى أمين بـ 18 ألف جنيه (قد تعادل الملايين بأسعار هذه الأيام) لتأسيس الدار والجريدة، وطلبت منه أن يظل الأمر سراً، ولكن أمين باح بالسر بعد سنوات، ما أغضب أم كلثوم التي خشيت أن يطالبها بعض أصدقائها من الصحافيين بتمويل جرائدهم أيضاً. ربما لأنها شريكة، كانت تمارس بين الحين والآخر الكتابة؛ مقالات فى قضايا متعددة. قبل ذلك أملت مذكراتها على علي أمين الذي نشرها في «آخر ساعة» عام 1937 تحت عنوان «مذكرات الآنسة أم كلثوم»، وتعددت مقالاتها في الصحف والجرائد، برغم أنها كانت تخاف من الصحافيين وتهرب منهم. وبصعوبة بالغة كانت توافق على إعطاء أحاديث صحافية، وتالياً مجموعة من المقالات التي نشرتها أم كلثوم على مدى تاريخها الفني، وربما يعلم بأمرها الملايين للمرة الأولى برغم عشقهم لصوتها على مدار نصف قرن من تربعها على عرش الغناء العربي وأيضاً حتى يومنا هذا. (كاتبة مصرية)

جمهوري

شتان بين ذلك اليوم الذى وقفتُ فيه لأول مرة أغني فى حفلة عامة في القاهرة عام 1925 وبين هذه الأيام.. كنت فى ذلك اليوم أحس أنني أقف أمام لجنة امتحان، وصحيح أنني كنت كالتلميذة التى حفظت دروسها (صم)، ولكن كان هناك دائماً شعور بالخوف من جمهور المستمعين..حتى أنني لم أنم فى تلك الليلة بعد أن انتهت الحفلة على خير ما يرام. ولكن على مر الأيام والحفلات صرت أجد لذة كبرى فى الوقوف أمام الجماهير، وأنقلب الأمر فأصبحتُ أشعر وكأنني مدرِّسة وأن المستمعين هم التلاميذ. وإني لأجد متعة طيبة في أن أراقب الجمهور الذي يستمع إلي، وأدرس بعض شخصياته النادرة الطباع، وكأنني أشهد فيلماً مسلياً.ومن هؤلاء الذين أتسلى بمراقبتهم فى أثناء حفلاتي الغنائية:

1ــ الرومبو:

وهو شخص رقيق جداً، ما أكاد أبدأ الأغنية حتى يضع يده على خده، ثم يستمع إلي في شرود عميق، وبين كل مقطع وآخر يرتفع صدره وينخفض فى تنهيدة تعبر عن مبلغ أساه. وأراه سابحاً فى الفكر والتنهيدات، ثم يفيق فجأة حين يسمع تصفيق المستمعين، ليشاركهم التصفيق. وأحياناً أرى هذا المستمع (الرومبو) جالساً إلى جانب جوليت وعندئذ يضيف إلى ما يفعله بعض النظرات يصوبها إليها بين حين وآخر، ليرى تأثير عبارات الأغنية على وجهها، وأشعر به فى هذه اللحظة كأنما يقول لها: انت سامعة؟

وما دمت قد تحدثت عن المستمع (الرومبو) فلأتحدث عن نوع آخر من المستمعات وهي:

2ــ العاطفية

وهي إنسانة أراها تجلس فى مقعدها قبل أن أبدأ الغناء وقد راحت تصلح من تواليت وجهها، وبعد قليل أجدها ــ وأنا فى عز الأغنية ــ قد أخرجت منديلاً من حقيبتها وراحت تجفف دموعها وهي تفرح إذا كانت عبارات الأغنية مفرحة، فيها لقاء بين الأحبة، وتبكي إذا كانت عباراتها تصف لوعة الهجر وطول الحرمان.. فإذا ما انتهت الوصلة، كان وجهها من فرط التقلبات العاطفية في أشد الحاجة إلى عملية «تواليت» أخرى.

وثمة نوع آخر من المستمعين هو:

3ــ العصبي

وهذا المستمع كثيراً ما يضحكني بتصرفاته، فهو عادة يكون هادئاً جداً قبل أن أغني، ثم يطرب فتهتاج أعصابه ويصيح بين كل مقطع وآخر بكلمات «أعد» و»كمان يا ست» ولا يكتفي بذلك، بل يتنطط على مقعده من فرط النشوة ولا يبدي اعجابه بالتصفيق كغيره، بل يقفذ بطربوشه فى الهواء. وأذكر أنني لاحظت فى إحدى الحفلات أن هذا المتفرج حضر حاسر الرأس ــ بغير طربوش ــ فقلت فى نفسي: «الحمدلله فلن يكون هناك طرابيش تقفز فى الهواء». ولكن ما إن أنهيت أحد مقاطع الأغنية، حتى رأيت صاحبنا يختطف طربوش جاره ثم يقذف به فى الهواء! وبمناسبة الحديث عن (العصبي) يجدر بي أن أتحدث كذلك عن مستمع آخر أحب أن اسميه:

4ــ البطانة:

فهذا المستمع لا يلذ له الاستماع لي إلا وهو يردد معي الأغنية التي أغنيها، ولست أدري لماذا..أهو يتدرب على الغناء أم أنه لا يطرب من صوتي وحده. وفي بعض الأحيان أجد تسلية لطيفة في مشاهدة هذا المستمع وهو يتمايل يميناً وشمالاً وقد تقلصت عضلات وجهه، وبرزت عروق رقبته، وهو يحاول أن يمشي معي في الغناء. وكثيرا ما أتوقف أثناء الغناء فجأة قبل أن أتم المقطع لألاحظ ما سيفعله، فأراه عندئذ يلتفت حوله وهو يبتسم، كأنما يداري خجله عن جيرانه المستمعين. ولا بد أن أتحدث أيضاً عن ذلك المستمع الذي لا أدري إن كان سخيفاً أم ظريفاً أم الاثنين معاً..ذلك هو:

5ــ المهرج

وأكاد أشك في أنه يحضر حفلاتي ليستمع إلى غنائي أكثر من رغبته فى أن يثير حوله انتباه الناس، إن هذا المستمع ينفرد بين بقية المستمعين بأسلوبه الغريب في إبداء الإعجاب، فهو لا يصفق بيديه، بل يأتي معه بقطعة الخشب ليدق بها على الأرض أو المقعد كلما انتشى طرباً، وهو لا يقول «أعد» ولا «من الأول يا ست» مثل غيره، بل يطلق (زغرودة) طويلة تثير الضحك فى جنبات المسرح؟ وهناك الكثير من أنواع المستمعين الذين يستحقون أن أتحدث عنهم لولا أن الحديث قد يستغرق صفحات المجلة كلها. من هؤلاء يتألف الجمهور الذي يحبني وأحبه.

(مجلة الكواكب)

حينما أغني

غنيتُ وأنا طفلة صغيرة، لا أعرف من أمور الدنيا إلا ما يعرفه الأطفال. غنيتُ وأنا لا أشعر بما أقول، ولا أحس بحلاوة النغم في فمي، ولا أعرف بهزة الطرب في قلبي، وكنت إذا صفق الناس عجبت، وساءلت نفسي: لماذا يصفقون؟! وهكذا لا أستطيع أن أقول إنني عشقت الغناء طفلة، أو أن أدَّعي أنني كنت أردد القصائد والموشحات بدلاً من البكاء. لقد غنيت لـ «القمة» لا لـ «النغمة».. غنيت لأعيش، لا للفن ولا لآلهة الفن الجميل. وعندما كنت طفلة أغني في الأفراح، كانت أمنيتي أن تحدث مشاجرة واحدة على الأقل بين المدعوين، أو بين أصحاب الفرح، لأتفرج، وأستريح من عناء المغنى! والليلة المتعبة عندي هي التي تمر بسلام، فلا يحدث فيها ضرب، ولا يقع جري، ولا ترتفع فيها الكراسي في الهواء، ولا تتكسر الفوانيس على رؤوس المدعوين، ففي مثل تلك الليلة الهادئة كنت أضطر أن أكرر القصيدتين الوحيدتين اللتين كانتا كل محصولي من «الغنى» في تلك الأيام! كنت أصعد إلى المسرح لا يهمني شيء، ولا أبالي بشيء، ولا يخيفني شيء.. وأي شيء يخيف طفلة صغيرة لا تعي ما تفعل، ولا تفهم كلمة واحدة مما تقول. وكبرتُ وبدأ حظي يكبر معي، وبدأتُ «تذوق الفن»، عند ذلك بدأتُ أتهيب المسرح، وأرهبه، وأخشاه، وأشعر كلما غنيت أنني مقبلة على امتحان رهيب، وأن المستمعين هم أولئك الممتحنون الذين لا يرحمون، ولا يتساهلون، ولا يقبلون عقد امتحان ملحق للراسبين. وقد يحدث أحياناً أن أذهب إلى حفلة من الحفلات، وأنا على تمام الاستعداد لها، مزاج رائق، وصحة طيبة، فلا أكاد أفتح فمي للغناء حتى أتمنى لو أخذوا مني كل ما أملك، وعتقوني لوجه الله.. ولا أغني. وفي بعض الليالي، قد تكون صحتي ليست على ما يرام، ومزاجي لا يصلح للغناء، وإنما أذهب لأداء واجب، فلا أكاد أفتح فمي حتى تترقرق دمعة في عيني، وتظل حائرة، ثم لا ألبث أن أنسى الناس وأغني لنفسي، وقد أفتح عيني وأنظر للجمهور ولكنني لا أراه! أتصور المكان وليس فيه أحد سواي، لا أسمع أصوات التصفيق، ولا صيحات الاستحسان، فإذا كررت مقطعاً فإنما أكرره لأنني أريد ذلك، لا لأن صوتاً ارتفع يقول لي: «كمان». في مثل هذه اللحظات أغني وأنا أحلم، وتصبح القطعة الغنائية قطعة من قلبي، فإذا قلت «سافر حبيبي» فإنني أتخيل أن لي حبيباً، وأنه أسلمني للألم والعذاب. وإذا أنشدت «غنى الربيع» أحسست أن الدنيا كلها ربيع يغني: الأطيار تغني، والأشجار تورق، والوجوه تبتسم، والنسيم يراقص الغصون على أنغام الطير، وأرى الورد نعسان حقاً، والكون يشاركني فرحي، والجو يعني «كل لحن بلون».. ثم أتلفت وأبحث عن الحبيب الذي تخيلته فلا أجده، وأشعر أنه غاب عن قلبي الحائر، وأناديه: «كلمني»! وأذكره بالماضي الذي أعيش فيه، وأقول له: «طمني»، وأسأله عن حال فؤاده. هل قسا وأنا صابرة؟ هل غضب وأنا راضية؟ ثم أنظر حولي فإذا أنا وحيدة حقاً، وإذا الأزهار جفت فوق الغصون، وإذا الشمس غابت من أفق الأحلام، وإذا الأرض صحراء جرداء لا فيها زرع ولا ماء. وفي بعض الليالي أنتهي من غنائي وكأنني أنتهي من حلم، فيوقظني تصفيق الجمهور في نهاية المقطوعة، فأحس بالرعدة في جسمي، وأشعر شعور النائم حين يستيقظ بعد حلم رائع ويتمنى لو أنه لم يفتح عينيه، وعاش إلى الأبد في ذلك الحلم الجميل! وهناك ليلة في عمري لا أنساها، تختلف عن كل ليالي حياتي، ليلة أن غنيت في النادي الأهلي، وكانت ليلة العيد، وأقبل الملك فاروق. مفاجأة.. أحسست عندئذ أن في قلبي عيداً سعيداً، وأن في قلبي موسيقى تعزف بأعذب الألحان. وأحسست في الوقت نفسه برهبة، وخوف. وحرت ماذا أغني في حضرة المليك؟! ورحت أغني.. ولم أشعر بشيء بعد ذلك، ولم أعرف أنني أجدت، ولم أعرف أنني فشلت. بعد ذلك بأيام كنت في محطة الإذاعة، أسمع الشريط الذي سجلت عليه أغاني الحفلة، فأغمضت عيني، ورحت أسمع، ولم أتمالك نفسي، فوجدتني أصيح: الله.. يا أم كلثوم!

(أخبار اليوم ــ 25 تشرين الثاني 1944)

موسم النرفزة

ألم تلاحظوا أن كل إنسان في مصر أصبح عصبياً هذه الأيام؟ الوزراء عصبيون، والصحافيون أشد عصبية من الوزراء، والزعماء «متنرفزون» والشعب أكثر نرفزة من الزعماء، والنساء ساخطات، والرجال غاضبون، والإضرابات في كل مكان، وكل إنسان في مصر يقول: «شكل للبيع»! وليس السبب في كل هذا الغلاء كما تصر الصحف، ولا السبب الحركات الشيوعية، المفاوضات والخلافات الحزبية.. ولكن اكتشفتُ السبب الوحيد في كل ما نراه الآن من عصبية الشعب المصري هو التليفون! تصور مثلاً وزير التجارة يستيقظ في الصباح ليشرف على حالة الغلاء.. ويسأل عن صحة البرتقال والسكر والزيت! ويطلب الوزير في التليفون وكيل وزراء التجارة، فيرد عليه حلاق صحة السيدة زينب ويتنرفز وزير التجارة ويعود ليطلب رقم الوكيل فيرد مستشفى رعاية الأطفال في إمبابة! ويضرب وزير التجارة السماعة بشدة ويعود فيطلب نمرة وكيل التجارة.. وهنا يسمع رداً متقطعاً، وأزيزاً متواصلًا.. ثم صراخاً في الأسلاك، ثم طقطقة في السماعة.. فإذا تحمل الوزير كل هذا ولم يصب بالإغماء، جاءت النمرة مشغولة! وتزداد عصبية وزير التجارة ويعود إلى طلب الرقم من جديد، فإذا الوكيل لا يرد، ويعجب الوزير كيف أن الوكيل ليس في مكتبه، فيزداد عصبية، ويطلب سكرتير الوكيل، وبعد أن ينقطع التليفون سبع مرات، يعلم أن الوكيل موجود في مكتبه من الصباح الباكر، فيطلب أن يحادثه، فيحول له السكرتير «السكة»، ثم يسمع الوزير صوت الوكيل، وهو يبدو من بعيد كأنه وزير تجارة مراكش يتكلم مع وكيل وزارة الصين! ويصرخ الوزير ليسمعه الوكيل، ويتنرفز الوزير والوكيل والسكرتير الذي يتدخل كل خمس دقائق في الحديث ليصلح السكة، وليتوسل لسنترال الوزارات ألا يقطع محادثة معالي الوزير.. ويهدأ الجو. وتنتظم المحادثة، ويبدأ الوزير في ذكر ما يريد أن يقول للوكيل.. وفجأة، يدخل صوت في التليفون ويصيح: أنا أبوعوف.. أنا أبوعوف.. عم محمد البقال موجود؟ ويصرخ وزير التجارة: عم محمد مين يا جدع! ويتدخل السكرتير ويقول: إنت بتتكلم مع وزير التجارة، ويقول الصوت ببرود عجيب: خلي محمد البقال يكلمني يا وزير التجارة! ويتنرفز الوزير والوكيل والسكرتير، وأبوعوف أيضاً، ويذهب الوزير إلى مكتبه وأعصابه فوق جلده والعصبية تركب السيارة معه بجوار السائق بدلاً من الساعي! ويدخل الوزير مكتبه بهذه الحالة، فيتخانق مع التجار، ويتشاجر مع المستهلكين، ويختلف مع الموظفين.. ويزداد الغلاء! ووزير الخارجية كذلك... يبدأ صباحه مبكراً، فيتكلم في التليفون مثلاً طالباً سفير إيطاليا.. وبعد أن يقول له: «هاو دو يو دو؟» وأهلاً بحلفائنا الأعزاء، يكتشف أن هناك لخبطة في الخط، وأن الذي يرد عليه هو سفير روسيا. ولما كنا ضد الشيوعية، فإن الوزير يسرع ويقفل السكة. ثم يعود الوزير فيطلب رقم السفير البريطاني، وإذا الذي يرد عليه هو حانوتي باب الخلق!! ويسأله الوزير عن موعد الجلاء مثلاً، فيجيبه «الساعه الثالثة من ميدان الإسماعيلية». ويحاول الوزير عبثاً أن يتصل بمكتبه، ولكن المكتب لا يرد، ثم يرد المكتب، ثم تنقطع المحادثة، ويتنرفز الوزير، ويذهب إلى مكتبه عصبياً، فيتخانق مع سفير بريطانيا، وأميركا، وروسيا، وسفير اليمن أيضاً... وتخرج الصحف تقول إن علاقتنا مع الدول كلها سيئة.. وهي لا تعرف أن المسؤول التليفون! وزير المالية هو الآخر ضحية مصلحة التليفونات.. يطلب مثلاً نادي رجال البوليس، ليبلغهم سراً أنه قرر زيادة مرتباتهم، و»ما تقولش لحد»، فتختلط المحادثة بتليفون نادى الأطباء، فيطالبون هم الآخرون بإنصافهم.. فيحاول أن يبلغهم تليفونياً أنه أجاب طلباتهم.. «وما يقولش لحد».. فتختلط السكة بخط نقابة المهندسين.. ويسمعون المحادثة.. فيثور المهندسون ويطالبون بإنصافهم. ويطلب الوزير مثلاً شركة سعيدة ليبلغها أنه قرر منحها إعانة مالية، فيظهر أن النمرة التي جاءت هي نمرة مشيخة الأزهر، ويقول الوزير: سعيدة. فيرد شيخ الأزهر: سعيدة. ويبلغ المشايخ البشرى. ثم تصدر وزارة المالية بلاغاً تكذب فيه أنها قررت إعانة الأزهر، فيقوم العلماء ولا يقعدون، ويعرفون مسألة إعانة شركة سعيدة ويقولون إن الإعانة تكفي لإنصاف الأزهر والمعاهد الدينية وهيئة كبار العلماء! ويتنرفز وزير المالية وتتنرفز معه الميزانية وتضرب الطوائف.. وأنا شخصياً ضحية التليفون، وما أنا إلا فرد من هذا الشعب العصبي، أستيقظ في الصباح نشيطة متمتعة بكامل صحتي. وأمسك سماعة التليفون فإذا بأعصابي تتحول إلى شبكة تلفزيونية ملخبطة.. أسمع وَزاً، ثم يعود الوز، ثم يختفي كأنه يلعب معي لعبة «حاوريني يا طيطة»! وأعيد السماعة إلى التليفون وأبدأ في تهدئة أعصابي وإقناع نفسي بأن أزمة التليفون ستحل بعد سنتين كما تبشرنا الصحف، ثم أمسك السماعة فأسمع الوز فأفرح، وأسرع فأدير قرص التليفون بالرقم الذي أريده. وفجأة يسكت التليفون.. فأضع السماعة وأبدأ من جديد، وبعد خمس وعشرين محاولة تقريباً، أنجح في إدارة الرقم الذي أريده، وإذا بالكهرباء تتوقف ثم أسمع الجرس يدق. وأقول: هالو. ويقول صوت: هالو مين؟ أقول: أنت عاوزة مين؟ يقول: إنت عاوزة مين أقول: انت اللي طلبتني يقول: أبداً انت اللي طلبتني.. ويفقد الصوت أعصابه فجأة، ويقول: يا ستي انت اللي طلبتي.. إحنا ناس مشغولين.. إحنا ناس متجوزين.. ما تجيبلناش مصيبة ع الصبح! وأتضايق وأشتمه، ويشتمنى، وأتنرفز ويتنرفز.. ويتنرفز الشعب المصري الحليم! وأعالج نفسي بالأدوية المهدئة.. ثم أمسك التليفون وأطلب صديقتي، فترد عليَّ بعد طلوع الروح! وما أكاد أقول: صباح الخير.. حتى يرد عليَّ سبعة أشخاص في وقت واحد. وأسمع صوتاً يقول: إقفلي السكة! وصوتاً ثانياً يقول: يا محمد أفندي ما تنساش الفراخ، وصوتاً ثالثاً يصرخ: ده بقى راديو مش تليفون، وصوتاً رابعاً يصرخ: يا الدلعدي خلينا نتكلم!.... وصوتاً خامساً يقول: بعتوا القطن بكام؟ فيرد سادس ويقول: وإنت مالك يا بارد، إسمع يا محمد أفندي، ما تنساش الفراخ! فيصيح سابع بحالة عصبية: اقفلوا السكة خلينا نتكلم! ويشترك السبعة في مناقشه حادة. وتنتهي بأن يشتموا بعضهم البعض ويقفلوا التليفون.. عصبيين.. متنرفزين.. غاضبين.. مضربين. وهكذا تعودت الآن أنني إذا طلبت رقماً في التليفون لا أقول «هالوه»، وإنما أقول: سيداتي... سادتي!

(مجلة آخر ساعة ــ31 كانون الثاني 1951)

السفير اللبنانية في

30.01.2015

 
 

كيارستمي.. سينما تجاور الشعر

يعتبرونه في الغرب نقلة مميزة في مسار سينما تعاني من رقابة مشددة

لندن: أمير العمري

يعتبر المخرج السينمائي الإيراني عباس كيارستمي، الإضافة الإيرانية الأكبر إلى خريطة السينما العالمية، فهو صاحب الأسلوب المميز الذي وجد الكثير من النقاد والسينمائيين وعشاق السينما في الغرب، يحتفون به، ويعتبرونه نقلة مميزة في مسار سينما تعاني منذ نحو 4 عقود من رقابة مشددة، وقيود كثيرة، منحت المهرجانات السينمائية أفلامه عشرات الجوائز، واحتفت به وكرمته كما كرمت كبار السينمائيين في العالم. كيارستمي الذي أوشك على إتمام عامه الخامس والسبعين. هو أيضا «الأب الروحي» الذي خرج من معطفه عدد كبير من المخرجين الإيرانيين الذين ساروا على نهجه، وشقوا طريقهم بعد ذلك، إلى الشهرة العالمية، من أشهرهم جعفر بناهي الذي أصبح، منذ سنوات، يواجه صعوبات في العمل داخل إيران.
عن مؤسسة التراث والثقافة التابعة لوزارة الثقافة البحرينية، صدر أخيرا كتاب «كيارستمي.. سينما مطرزة بالبراءة»، من ترجمة وإعداد الباحث والمترجم البحريني أمين صالح. ويقع الكتاب في 367 صفحة من القطع المتوسط، وهو مثل كتب سابقة صدرت للمترجم والباحث نفسه، يعتمد على اختيار وتصنيف وترجمة عدد كبير من المقالات والمقابلات التي أجرها نقاد سينمائيون، معظمهم من الغرب، مع كيارستمي، ونشرت في عدد من المجلات السينمائية المتخصصة، تلقي الضوء على حياته وأفلامه، وعلى أسلوبه في العمل، ورؤيته للسينما وللواقع، كما تتطرق إلى خبرته الشخصية وموقفه مما يحدث في إيران منذ إعلانها جمهورية إسلامية. وفي تقديمه للكتاب كتب أمين صالح إن كيارستمي «يسعى إلى خلق نوع جديد من السينما، لا تعتمد عل حبكة أو أحداث دراماتيكية أو مؤثرات خاصة وحيل بصرية أو ميزانية ضخمة أونجوم محترفين، إنها سينما متقشفة لكن عميقة في الرؤية، تعتمد على إطهار التناقضات والمفارقات فيما تحتفي بالحياة اليومية وتدعو إلى التأمل والتفكير».

وفي دراسة طويلة (تشغل 35 صفحة من الكتاب) تحت عنوان «سينما ذات امتلاء شعري» استعرض أمين صالح سيرة حياة كيارستمي وبداية شغفه بالسينما، وعلاقته بالتطورات التي وقعت في إيران خلال العقود الـ3 الأخيرة، والمؤثرات التي لعبت دورا في تشكيل وعي كيارستمي بالسينما، واختياراته الفنية.

في العالم العربي احتفى كثير من النقاد، بالأفلام التي يصنعها عباس كيارستمي، وكانوا في هذا، يرددون أصداء لما يقال في الغرب، دون مناقشة، واستمروا في ترديد بعض المقولات التي تستحق المناقشة، حول «نقاء» سينما كيارستمي، ونجاحه في صنع «سينما إنسانية»، تمكنت من التفوق على السينما الغربية، بملامحها الخاصة، وطاقتها الشعرية، وذهبوا إلى القول إن كيارستمي يوجه رسائل سياسية نقدية مجازية تكمن في طيات أفلامه.

ولعل من أهم الجوانب في دراسة أمين صالح، أنها تكشف الكثير عن شخصية كيارستمي وتناقضاته الشخصية، بل وتفنيده للكثير من تلك الأفكار التي يرددها نقاده والمعجبون بأفلامه في الشرق والغرب. وعلى سبيل المثال يورد أمين صالح مثالا على تناقضات تصريحات كيارستمي، الذي يتحدث كثيرا عن تأثره بأفلام الواقعية الجديدة في إيطاليا بعد الحرب الثانية، منذ أن كان في الثالثة عشرة من عمره، ثم يقول في عام 1990 إنه لم يشاهد أكثر من 50 فيلما طوال حياته. ورغم إعجابه الموثق بأفلام الواقعية الإيطالية ورغم اتباعه أسلوبه واقعيا مماثلا يميل إلى التصوير في المواقع الطبيعية مع ممثلين غير محترفين، يعتمد على قصص واقعية وعلى الارتجال أثناء التصوير، فإنه يرفض أي مقارنة بينه وبين أفلام الواقعية الجديدة، كما يرفض اعتباره مخرجا واقعيا معربا عن رفض كل النظريات أو المذاهب الفنية بما فيها تعبير «سينما إنسانية» الذي يستخدمه كثيرون في وصف أفلامه، موضحا: «في الحقيقة أفلامي ليست (إنسانية) على الإطلاق»!

يتعرض أمين صالح لتصريحات كيارستمي وأحاديثه التي تميل بوضوح إلى عدم التطرق لنقد «المؤسسة الرسمية» في إيران، ورفضه فكرة أن تكون لأفلامه أي إيحاءات أو مضامين سياسية، بدعوى أنه «لا يستطيع أن يدعو أحدا كي يصوت لصالح شخص أو معارض». وفي موضع آخر من الكتاب، يقول: «البعض يعتقد أن العمل الفني - العمل الملتزم - على سبيل المثال، عليه أن يطيح بالنظام. في رأيي أن الفيلم الملتزم يوفر فحسب معرفة معينة بشأن الكائنات الإنسانية وبيئتا». وهو مفهوم ساذج للفيلم السياسي، فليس من الممكن القول إن الأفلام التي أخرجها فرنشيسكو روي وغيره في إيطاليا، خلال الستينات والسبعينات، كانت تسعى «للإطاحة بالنظام»، بل من المؤكد أنها كانت أيضا «توفر معرفة معينة بشأن الكائنات الإنسانية» - حسب تعبير كيارستمي نفسه. إلا أن الكاتب - المترجم لا يمنح هذه النقطة وغيرها من النقاط التي تقدمت، ما كانت تستحقه من تمحيص وبحث واهتمام، فالطابع الغالب على اختيار المقالات والمقابلات المترجمة في الكتاب، الصورة الإيجابية المثالية لكيارستمي، وليس تقديم قراءة «نقدية» كانت تقتضي الاستعانة بالكتابات التي تسبح في الاتجاه المضاد هن سينما كيارستمي، ومراجعة بعض ما أثير حول أفلامه من مبالغات تعلي من قيمتها الفنية كثيرا، رغم ما هو معروف من أن وجود رقابة مشددة دينية تفرض، مثلا، إبعاد المرأة عن بؤرة الاهتمام، والحذر الشديد عند تناول المشاكل بين الرجل والمرأة، وتدعو، دفع كيارستمي وتلاميذه، إلى الاعتماد على قصص تدور معظمها حول أطفال، أحيانا بشكل يجعل للفيلم طابعا واحدا «تربويا» ذا طبيعة «أخلاقية». ولكن كيارستمي يلجأ إلى «تبرير» الرقابة وتبرير استبعاد تمثيل المرأة من الأفلام، فيجعل منه ميزة خاصة عندما يقول: «هذا لا يمنعني من العمل كمخرج سينمائي، إنها ليست مشكلة أساسية بالنسبة لنا. في المجتمع الإيراني ثمة الكثير من المشكلات.. وتلك مجرد واحدة منها».

رغم أي ملاحظات لنا على الكتاب فإنه يعتبر - بمادته الدسمة المتنوعة - إضافة حقيقية جادة للمكتبة السينمائية العربية، كونه يوفر أساسا متينا لفهم ومناقشة أفلام كيارستمي ذات التأثير الكبير في العالم، ويتيح الفرصة أمام من يرغب في تقديم رؤى أخرى، مناقضة لمفاهيم كيارستمي، وخصوصا تأثير منهجه السينمائي على الجمهور الإيراني نفسه، خاصة بعد أن وجد كيارستمي نفسه، رغم كل محاولاته الالتفاف حول الوضع الإيراني، مضطرا في النهاية لعمل أفلامه خارج إيران. وهو موضوع آخر!

الشرق الأوسط في

30.01.2015

 
 

لبلبة: التكريم أهم لحظة في مشوار الفنان

كتب الخبرفايزة هنداوي

كانت تغني المونولوجات وتقلد الفنانين والفنانات منذ كانت طفلة حتى صارت نجمة سينمائية، مشوار طويل قطعته {نونيا} أو لبلبة، الفنانة التي كرَّمها أخيراً مهرجان الأقصر للسينما الأوروبية والمصرية.
عن التكريم وعضويتها في لجنة تحكيم المهرجان كان اللقاء التالي.

·        كيف استقبلتِ خبر تكريمك في مهرجان الأقصر؟

يمثِّل التكريم سعادة كبيرة للفنان، إذ يشعر بتقدير لعطائه الفني. خلال التكريم مرَّ مشواري كشريط سينمائي أمام عيني، خصوصاً في ظل الحفاوة الكبيرة التي استقبلني بها جمهور الأقصر المتعطش للسينما.

·        لماذا قررتِ إهداء التكريم لوالدتك رحمها الله؟

لأنها أهم أسباب نجاحي. كانت رفيقة مشواري الفني، وكنت أستشيرها في أموري كافة. كانت تقف بجانبي وتدعمني، فهي لم تكن أماً فحسب بل هي الأم والصديقة والأخت، وكل شيء بالنسبة إلي.

·        تشاركين في عضوية لجنة التحكيم في المهرجان أيضاً. ما رأيك في مستوى الأفلام المشاركة في المسابقة؟

يتضمَّن المهرجان مجموعة كبيرة من الأفلام المتميزة، وهذا ليس بغريب على القيمين عليه، فهم سينمائيون كبار يهتمون بنشر الثقافة السينمائية ويحرصون على اختيار أفضل الأفلام لعرضها على جمهور الأقصر العاشق للسينما.  

·        أشرت إلى أن مسيرة حياتك مرَّت أمام عينيك أثناء لحظات التكريم، فما هي أهم هذه المحطات؟

ربما أهمها محطة عاطف الطيب الذي أعاد اكتشافي وساعدني على تغيير جلدي، وقد كنت قد قررت بعد فيلم {الشيطانة التي أحبتني} مع الفنان محمد صبحي أن أقدم أنواعاً مختلفة من الأدوار التي تناسب عمري وكان 40 عاماً آنذاك. قلت لوالدتي إنني أبحث عن التغيير من أجل الاستمرار، ما دفعني حينها إلى رفض كثير من الأدوار التي تشابهت مع أدواري السابقة. لاحقاً، خلال حضوري مهرجان {كان}، قابلت المخرج عاطف الطيب، وبعد عودتنا أرسل إليّ سيناريو فيلم {ضد الحكومة}. رغم رغبتي في التغيير كنت مرعوبة من الدور وفكرت فعلاً في الاعتذار، إلا أن الطيب قال لي إنني سأكون مفاجأة الفيلم، وفعلاً حقق نجاحاً كبيراً واستقبلني الناس بشكل مختلف.

·        ما هي أهم ذكرياتك عن الفيلم؟

ثمة ثلاثة مشاهد في الفيلم أحببتها بشدة وأرى أنها أهم مشاهدي، إلا أنني حينما عُرض لم أجدها فحزنت جداً. ولكن بعد ذلك، علمت أنها حذفت بسبب الرقابة التي رفضتها، لأنها تنتقد نظام مبارك بشدة، ولم يكن هذا الأمر مسموحاً آنذاك. الجميل أن الراحل عاطف {طيَّب} خاطري مؤكداً لي أنه سيعوضني بفيلم أهم، وفعلاً قدمت معه {ليلة ساخنة} الذي شكَّل نقلة أخرى في حياتي الفنية، وحصلت من خلاله على 13 جائزة محلية ودولية .

·        رغم أن {ضد الحكومة} سبق {ليلة ساخنة} وفيه أول أدوارك المختلفة، فإن الحديث ينصبَّ دائماً على {ليلة ساخنة} باعتباره الأهم. لماذا؟

لأسباب عدة، من بينها مساحة الدور، لا سيما أن الجمهور يلتفت إليها أكثر من اهتمامه بنوعيه الدور، أضف إلى ذلك أن المشاهد التي حذفت كانت مهمة وكانت لتترك أثراً مختلفاً في الفيلم. كذلك لا ننسى الجوائز الكثيرة التي حصلت عليها عبر فيلم {ليلة ساخنة}.

·        لماذا قررتِ أخيراً المشاركة في عمل تلفزيوني بعد سنوات طويلة من الرفض؟

فعلاً، طالما رفضت الأعمال التلفزيونية بسبب القلق والخوف من اقتحام المشاهدين من دون استئذان بعمل غير جيد، على عكس السينما التي يذهبون إليها باختيارهم، إلى أن تحدَّث معي الفنان الكبير عادل إمام وطلب مني عدم الارتباط بأي عمل لأنني سأشاركه بطولة مسلسل {صاحب السعادة}. كانت سعادتي لا توصف بعودتي إلى التعاون معه، خصوصاً أنني أثق في اختياراته وفي الشكل الذي سيقدمني به. أشير هنا إلى أننا قدمنا معاً أفلاماً كثيرة لاقت نجاحاً جماهيرياً واسعاً، وأحد الأسباب وأبرزها أن كيمياء خاصة تجمعنا لدرجة أشعر فيها أنني خلقت فنياً من أجل عادل إمام، والدليل مسلسل {صاحب السعادة} الذي حلّ ضمن الأعمال التلفزيونية الأكثر مشاهدة في رمضان الماضي، وأتمنى دائما تكرار العمل مع عادل إمام.

·        هل اختلفت معاييرك لاختيار الأعمال التي تشاركين فيها؟

إطلاقاً. معياري الأول والأهم هو السيناريو، لأنه أساس العمل الجيد، وأصبحت أملك من الخبرة ما يمكنني تمييز السيناريو الجيد من الضعيف، بعد ذلك أهتم باسم المخرج لأنه المنوط به تنفيذ السيناريو، فإن كان ضعيفاً سيفسد السيناريو حتماً.

·        ماذا عن الممثلين المشاركين، ألا يشكلون فرقاً في اتخاذك للقرار؟

لا أهتم بأسماء الممثلين المشاركين، فالممثل من وجهة نظري يجب أن يهتم بدوره فقط، ولا أتدخل في أي اختيارات، بل أركز على الشخصية التي أقدمها وأدرسها جيداً وأعرف مفاتيحها حتى أتمكن من تقديمها بشكل جيد.

·        كثير من الأطفال الذين انطلقوا في مجال الفن صغاراً، لم يستكملوا مسيرتهم وتوقفوا بعد فترة، لكنك استمريتِ بنجاح كبير. ما السر؟

ثمة أسباب كثيرة، أهمها عشقي للفن وإخلاصي له، فالفن يمثِّل حياتي كلها وله أولوية على أموري كافة. الأمر الثاني، أن شكلي لم يتغيَّر لذا ظل ارتباط الناس بي وثيقاً، ثم كان تغير طبيعة الأدوار الذي يرجع الفضل الكبير فيه إلى المخرجين عاطف الطيب وسمير سيف اللذين قدماني إلى الناس بشكل مختلف.

الجريدة الكويتية في

30.01.2015

 
 

الأعمال النسائية الطويلة في الدورة 16 اقتصرت على شريطين فقط

30 فيلما مغربيا جديدا في المهرجان الوطني بطنجة

خالد لمنوري

أعلن المركز السينمائي المغربي أن الدورة السادسة عشرة للمهرجان الوطني للفيلم ستنظم بمدينة طنجة بين 20 و28 فبراير المقبل، بمشاركة 30 فيلما (15روائيا طويلا و15 قصيرا).

أفاد بلاغ للمهرجان، المنظم من طرف المركز السينمائي المغربي، بشراكة مع عدد من المنظمات المهنية في القطاع السينمائي، أن الدورة 16 ستشهد مشاركة 15 فيلما قصيرا، جرى انتقاؤها من طرف لجنة متخصصة، تشكلت من الممثلة مجيدة بنكيران، والمخرج حسن الدحاني، والناقد السينمائي عادل السمار.

واختارت اللجنة، خلال اجتماعها بمقر المركز السينمائي المغربي، أفلام المسابقة من بين 54 شريطا سجلت رسميا للمشاركة في المهرجان، وتضم لائحة المسابقة الرسمية للأفلام القصيرة "دوار السوليما" لأسماء المدير، و"غضب" لنور أيت الله، و"عقول فاسدة" للمهدي الخاوضي، و"دالطو" لعصام دوخو، و"دنيا" لجنان فاتن محمدي، و"حدود" لعلي الصميلي وكلير كاهن، و"جزيرة ليلى" لمصطفى الشعبي، و"جنة" لمريم بنمبارك، و"جدار" للمهدي الدكالي، و"العتبة" لعلال العلاوي، و"رحلة في صندوق" لأمين صابر، و"حوت الصحرا" لعلاء الدين الجم، و"الطفل والخبز"       لمحمد كومان، و"نقطة الرجوع" لزينب الأشهب وفؤاد عزمي، و"وسيط" لمولاي الطيب بوحنانة.

وبخصوص الأفلام الطويلة المشاركة في المسابقة الرسمية، أكد المنظمون أن لجنة مشكلة من ممثلي الهيئات المهنية، خليل الدمون، رئيس الجمعية المغربية لنقاد السينما، وإدريس الإدريسي، ممثل اتحاد المخرجين والمؤلفين المغاربة، وجمال السويسي، ممثل الغرفة المغربية لمنتجي الأفلام، ومحمد عبد الرحمان التازي، رئيس الغرفة الوطنية لمنتجي الأفلام، تكلفت بانتقاء القائمة من بين 22 عملا (17 فيلما روائيا و5 أفلام وثائقية) من إنتاج سنة 2014.

وتضم قائمة الأفلام الطويلة المتنافسة على جوائز مهرجان طنجة "أكادير اكسبريس" ليوسف فاضل، و"الشعيبية" ليوسف بريطل، و"الفروج" لعبد الله فركوس، و"دالاس" لمحمد علي مجبود، و"الوشاح الأحمر" لمحمد اليونسي، و"الأوراق الميتة" ليونس الركاب، و"كاريان بوليود" لياسين فنان، و"خنيفسة الرماد" لسناء عكرود، و"نصف سماء" لعبدالقادر لقطع، و"إطار الليل" لتالا حديد، و"جوق العميين" لمحمد مفتكر، و"رهان" لمحمد الكغاط، و"عايدة" لإدريس المريني، و"الريف 58-59" لطارق الإدريسي (وثائقي)، و"الحمالة" لسعيد الناصري.

وتتميز الدورة السادسة عشرة عن سابقاتها بانتقاء قائمة الأفلام الطويلة لأول مرة في إشارة إلى الانتقال من مرحلة الكم إلى الكيف.

ويلاحظ من خلال قائمة الأفلام الطويلة انحسار المشاركة النسائية في تجربتين سينمائيتين فقط، ويتعلق الأمر بـ"خنيفسة الرماد" لسناء عكرود، و"إطار الليل" لتالا حديد، مقابل خمس تجارب سينمائية نسائية قصيرة.

الصحراء المغربية في

30.01.2015

 
 

قلم علي ورق

بتوقيت القاهرة

بقلم :- محمد قناوى

انا من عشاق الفنان الكبير نور الشريف كممثل سينمائي ؛ أشعر معه بالمتعة وأنا اراه يقدم شخوصا علي الشاشة الكبيرة يندمج معها ويغوص في تفاصيلها مما يجعلني طوال مدة عرض الفيلم لا افرق بين نور والشخصية التي اقدمها ، وهذا الاحساس بأدائه كممثل لا يأتي إلي الا معه لذلك سعدت جدا عندما عاد نور الشريف للسينما بعد سنوات من الغياب لم يستطع التلفزيون أن يمنحه فيها التألق هي عودة رائعة من خلال فيلمه الجديد «بتوقيت القاهرة « وفي دور لا يستطيع أن يقدمه أحد كما يقدمه نوروالفيلم الذي كتبه وأخرجه أمير رمسيس في رابع تجاربه الإخراجية للسينما الروائية، وقام ببطولته جيلان من النجوم جيل الكبار يمثلهم نور الشريف وميرفت أمين وسمير صبري وجيل الشباب يمثله شريف رمزي وآيتن عامر وكندة علوش ودرة وكريم قاسم يجعل منه حالة سينمائية اراها مختلفة عما هو سائد فهو يتناول ثلاث قصص متصلة منفصلة يمثلها ست شخصيات تعيش بيننا كل يحمل منها هويته أو يبحث عنها، أو يبحث عن الحياة أو الأمل أو المستقبل... وبنهايات مفتوحة بديعة تدعونا للتفكير وتشاركنا المتعة وتثير لدينا التساؤلات وبمهارة اعتاد عليها أمير رمسيس استطاع أن يغزل حالة درامية ونفسية ينقلها للمشاهد بهدوء ودون اي ضجيج وبأداء شديد الاحترافية من الممثلين كباراً وصغاراً وأن يكسر حاجز الزمن في داخلنا ويربط الماضي بالحاضر بأسلوب رشيق وقد طرق العديد من القضايا المسكوت عنها بسلاسة ودون أي افتعال، وبذكاء بالغ دون صدام... تقوق شريف رمزي علي نفسه وصار اكثر نضجا ؛ أبدعت كنده علوش في مشهدين صغيرين، كريم قاسم كان تلقائيا ومقنعا، حيوية ايتن عامر ونضارة وجهها جعلتها مقنعة في الدور الذي أدته بعفوية. 

kenawy212@yahoo.com

خارج النص

فيلم ليه لازمة

بقلم : مصطفى حمدى

الضحك للضحك ليس عيبا، مقولة قد تخرج بها من فيلم «يوم ملوش لازمة» للنجم محمد هنيدي الذي يبدو انه قرر استعادة قاعدة عريضة من جمهوره في اخر عملين سينمائيين له. «يوم مالوش لازمة»، تجربة كوميدية تحمل الي حد كبير روح كوميديا فؤاد المهندس التي تمزج بين الفانتازيا والضحك والبساطة، الأمر لايحتاج فعلا لبحث عن قيمة أو قضية لتضحك الناس فالضحك في حد ذاته قيمة، والأجمل أن يكون هذا الضحك نابعا من مواقف كوميدية بعيدا عن فن الإفيهات الذي تم ابتذاله واستهلاكه علي مدار 15 عاما باعتباره كوميديا.

يعتمد هنيدي منذ فترة طويلة علي تفاصيل شكلية وجسدية تخصه هو كممثل لتصبح قاعدة رئيسية في صناعة الموقف الكوميدي في جميع أعماله وهي نقطة تحسب له وتحسب لأي مخرج أو مؤلف يدرك تلك النقطة وهذا بدا واضحا في كثير من مشاهد العمل، وكم كان هناك مساحة من التشابه الي حد كبير بين يحيي الذي قدمه هنيدي في هذا الفيلم وشخصية رؤوف التي قدمها في اخر اعماله «تيتة رهيبة» مع الفارق طبعا في الشكل والمضمون ولكن الشاب ضعيف الشخصية في المجمل أصبحت تيمة قريبة الي قلب هنيدي في هذين العملين.

يبقي أن روبي وريهام حجاج ممثلتان جيدتان جدا، روبي علي وجه التحديد لعبت دورا كوميديا لأول مرة وهو اختيار يحسب لها خاصة في ظل إجادتها لتجسيد شخصية الفتاة المجنونة بحب شاب لم تعرفه عن قرب.

أحمد الجندي كمخرج هو واحد من المميزين جدا في مساحات الكوميديا بداية من تجاربة الناجحة مع احمد مكي ووصولا الي تعاونه مع هنيدي، يجيد الجندي خلق المشهد الكوميدي ومنحه كافة التفاصيل التي تجعل من الحدث بطلا قبل الممثل، ويحسب لهنيدي أن انتصر للفيلم ولم ينتصر للشخصية.

«يوم ملوش لازمة» فيلم له مليون لازمة، يكفي أن يدفعك للضحك وسط أيام سوداء تعز فيها الابتسامة. 

Mostafahamdy 2009 @yahoo.com

أخبار اليوم المصرية في

30.01.2015

 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2014)