كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

رؤى نقدية

 
 
 
 
 

25 عاماً من السينما 50 عاماً من الحياة

إبراهيم العريس

 

بعد أسابيع من انقضاء العام الذي تذكرت فيه فرنسا رحيل فرانسوا تروفو، ها هي جمعية «متروبوليس» تقيم في بيروت موسماً يكاد يكون شاملاً لسينما هذا المخرج الفرنسي الكبير تعرض فيه عدداً من أبرز أفلامه هو الذي كان عرض في لبنان عام 1973 واحداً من أجمل هذه الأفلام وناقش خلال عرضه جمهوراً عريضاً، ونعني به فيلمه «الليل الأميركي». هنا للمناسبة نستذكر فرانسوا تروفو وبعض ملامح سينماه.

كان تروفو علماً من أعلام السينما والفن في أوروبا وفرنسا. وهو حين رحل عن عالمنا في العام 1984، كان في قمة مجده، هو الذي كان واحداً من الذين أسسوا الموجة الجديدة في السينما الفرنسية في سنوات الخمسين، كما كان واحداً من أبرز مؤسسي النقد السينمائي الحديث في فرنسا... وهو بدماثته وهدوئه وحبه المطلق لفن السينما وتكتمه الشديد على كل ما يتعلق بحياته الخاصة، كان مثالاً يحتذى. ولئن كان تروفو قد وضع نتفاً من حياته ومن سيرته في عدد لا بأس به من أفلامه، فإنه بالكاد كان يمكن لأحد أن يربط تماماً بين تلك النتف والسيرة الشخصية لصاحبها، حتى وإن كانت حكايات أنطوان دوانيل (عبر أربعة أفلام هي من أجمل ما حقق تروفو)، كانت تبدو انعكاساً لبعض حياة تروفو وأفكاره، ما جعل كثراً يعتبرون أنطوان دوانيل (ولعب الدور دائماً جان - بيار ليو منذ كان صبياً صغيراً، حتى أصبح رجلاً أخرق) صورة ما لتروفو نفسه.

حين رحل تروفو عن عالمنا خلّف وراءه أكثر من عشرين فيلماً طويلاً، كان آخرها «يا حبذا يوم الأحد» وهو فيلم بالأسود والأبيض أتى ليخفي خلف مرحه وخفة موضوعه قدراً كبيراً من الحزن. ولسوف يتبين لاحقاً أن تروفو كان حين حققه، يعرف أن مرضه العضال لن يسمح له بالعيش طويلاً. وهو حتى، من دون أن يحاول أن يجعل من هذا الفيلم وصيته الفنية، أغرقه في مزاجية حادة. ولعل ما يلفت هو ان رفيقة تروفو في ذلك الحين الممثلة فاني أردان، وضعت له ابنته الأخيرة بعد الانتهاء من العمل في الفيلم، علماً أن أمه كانت ماتت فور انتهائه من تصوير فيلمه الأول «الضربات الأربعمئة» قبل ذلك بربع قرن بالتمام والكمال.

وربع القرن هذا هو، بالتحديد، عمر فرانسوا تروفو المهني. فمساره كمخرج، والذي ابتدأ في العام 1959 انتهى في العام 1984. لكن حب تروفو للسينما وذوبانه التام فيها كانا قد بدآ قبل ذلك بزمن طويل... بالتحديد، وكما يخبرنا في فيلمه الأول، منذ كان صبياً، يهرب من الصف ليتسلل إلى صالات السينما ويشاهد الأفلام، ومنذ كان، في غفلة عن حراس الصالات، يسرق صور الأفلام المعلقة على الجدران.

السينما والحياة

مع فرانسوا تروفو، يصح تماماً القول إن الحياة هي السينما والسينما هي الحياة، وعلى أية حال، كان هو، كما نعرف، صاحب القول الأشهر في حب السينما: «من يحب السينما يحب الحياة.. ومن يحب الحياة يحب السينما». ومن هنا لا يعود غريباً ذلك الاندماج بين السينما والحياة لدى هذا الفنان الكبير.

في الحياة إذن، ولد فرانسوا تروفو يوم 6 شباط (فبراير) 1932 لأمه جانين دي مونفران... التي كانت حملت به من دون زواج. وإذ تزوجها لاحقاً رولان تروفو، قبل هذا الرجل أن يمنح الطفل اسمه ورعايته... ولكن لشهور قليلة، بدا الطفل بعدها وكأنه عبء على الزوجين البائسين اللذين صار كل همهما التخلص منه أو الحد من نزعته التمردية حين شب عن الطوق. أما هو فسنعرف بعد عقود طويلة أن سؤالاً واحداً راح يقلقه: من هو أبوه؟

وفي السينما، ولد فرانسوا تروفو، بعد مخاض سنوات، في العام 1959، حين أنجز فيلمه الروائي الطويل الأول «الضربات الأربعمئة» وعرضه في المسابقة الرسمية لمهرجان «كان» لذلك العام، حيث نال جائزة الإخراج. والحقيقة أن الولادة كانت في ذلك اليوم مزدوجة: ولادة مخرج، وولادة الموجة الجديدة في السينما الفرنسية. وكان مخاض هذه الولادة الأخيرة قد دام نحو عقد من السنين. أي منذ تحلق تروفو وجان لوك غودار وأريك رومر وكلود شابرول وجاك ريفيت، من حول «أبيهم» جميعاً بالتبني أندريه بازان، ومن حول مجلة «كراسات السينما»، راغبين في تثوير الفن السابع عبر خلق نمط جديد من العلاقة مع الشاشة.

المهم هنا، هو أن العام 1959، كان مفصلياً في حياة تروفو، حيث من النقد والاهتمام الثقافي بالسينما، إلى الإخراج، خطوة خطاها، في نفس الوقت الذي قام فيه شابرول وغودار والآخرون بخطوات مماثلة. وكان السر أفلاماً من غير كلفة باهظة، لا نجوم كباراً فيها ولا ديكورات، أفلاماً تخرج السينما الفرنسية من بلادة وثرثرة كانت تعيش فيهما.

وهكذا، اذا كانت سيرة فرانسوا تروفو قبل 1959، تبدو متنوعة ومتموجة ومأساوية أحياناً، فإن سيرته بعد 1959، تبدو ممتزجة تماماً بأفلامه وهنا حتى «الأسرار» المتعلقة بحياة تروفو الشخصية خلال النصف الثاني من حياته وحتى مماته، إذا كان زمن قد مضى قبل الكشف بسبب تكتم تروفو، وظهوره الأنيق الدائم تحت سمات الرجل الذي لا مشاكل لديه، فمرة أخرى لابد من القول إن الإمعان في دراسة تفاصيل افلامه، سيقول لنا الكثير: سنجد الرجل غير المستقر، الذي يغير امرأته في شكل متواصل... وهو ربما صاحب كل ممثلة مثلت معه، من كلود جاد إلى كاترين دونوف، ومن فرانسواز دورلياك إلى جولي كريستي، وصولاً إلى فاني آردان آخر نسائه. وسنجد الإنسان القلق الباحث عن انتماء عائلي لا يجده أبداً. وسنجد الرجل الشهواني الذي يبحث في منتصف الليالي عن عاهرات يقضي معهن وقتاً.

في ثنايا أفلام تروفو سنجد كل شيء. لكننا سنجد أيضاً، وبخاصة، السينما. وإلى جانب السينما سنجد ذلك الولع بالأدب البوليسي، وبالعلاقات بين الناس... وبأمور عديدة هي التي شكلت العلامات الأساس في نحو دزينتين من أفلام حققها تروفو... وخاض عبرها، عدداً لا بأس به من الأنواع السينمائية.

والحقيقة أن في وسعنا أن نتبع هنا تقسيماً لسينما فرانسوا تروفو يأتي على الشكل التالي:

الأفلام التي تدنو من الذاتية عن طريق الأنا - الآخر: أنطوان دوانيل، وقام بالدور جان - بيار ليو كما أشرنا، منذ أول فيلم في هذه المجموعة («الضربات الأربعمئة» 1959)، وحتى الأخير «الحب الهارب» (1978) مروراً بـ «قبلات مسروقة» (1968 )، و «منزل زوجي» ( 1970 ). والحقيقة أن في إمكاننا أن نضيف إلى هذه الأفلام الأربعة فيلمين قصيرين لتروفو هما «البستون» (1957) و «أنطوان وكوليت» (1962). في «الضربات الأربعمئة» كان أنطوان دوانيل في الرابعة عشرة، مشرداً في الشوارع هائماً بحب السينما يتساءل حول العائلة والحرمان. أما في «قبلات مسروقة» فلدينا أنطوان وقد صار راشداً الآن يعيش ارتباكاً واضحاً أمام كل امرأة... لكنه لا يزال حالماً. من حول انطوان هذا، وضع تروفو في هذا الفيلم جملة من شخصيات غريبة وحنونة في فيلم مسلٍ لكنه عميق.

في «منزل زوجي» يحدث لأنطوان أن يصعد في السلم الاجتماعي فيتزوج. ولكن من دون أن يتخلى عن أحلامه وارتباكه وإخفاقاته. وإذا كان تروفو قد حقق هذا الفيلم استجابة لطلب هنري لانغلوا (رئيس السينماتيك الفرنسية) الذي حين شاهد «قبلات مسروقة» عبّر عن رغبته في أن يشاهد ثنائيّه يتحرك على الشاشة من جديد، فإنه - أي تروفو - عاد وحقق لاحقاً «الحب الهارب» ليصور أنطوان دوانيل في لحظة رسم جردة لحياته وقد أضحى الآن في الخامسة والثلاثين، متذكراً كل اللحظات الكبيرة والحاسمة في تلك الحياة، وقد عزم على أن يظل مراهقاً إلى الأبد.

بين الأدب والمسرح

بعد تلك المجموعة الأولى من أفلام تروفو تأتي مجموعة ثانية تتألف من فيلمين ويطلق عليها اسم «تروفو والطفولة». والحقيقة أن هذين الفيلمين لا يمكن أبداً فصلهما عن المجموعة الأولى، حتى وإن لم تكن لأي منهما علاقة مباشرة بسيرة تروفو الذاتية. فالفيلم الأول وعنوانه «الطفل الضاري» ، هو عمل بالأسود والأبيض حققه تروفو في العام 1969، انطلاقاً من حكاية حقيقية يرويها دكتور يدعى آيتار (يقوم تروفو بدور الدكتور في الفيلم) عن اكتشافه لطفل منعزل ضار، وتولّيه أنسنته وتربيته. والحقيقة أن هذا الفيلم إنما يكشف اهتمام تروفو الدائم ليس فقط بمسألة الطفولة، بل كذلك بمسألة العلاقة مع الأب. إذ، حتى لو كان هو الأب هنا، فإن الطفل أيضاً (بتمرده وعلاقته بالآخر: الدكتور) يبدو صورة مواربة لتروفو... في علاقته، مثلاً، مع أندريه بازان. أما الفيلم الثاني الذي يكمل هذه «المجموعة» فهو «مصروف الجيب» الذي حققه تروفو في العام 1976، من حول أستاذ وزوجته الحامل وعدد من تلامذته... حيث - بقدر كبير من الحنان والتعاطف - يصف لنا المخرج الحياة اليومية لأولئك الصغار الذين يعيشون على هامش حياة الكبار، في هواجسهم اليومية ومخاوفهم. هنا أيضاً، في هذا الفيلم، لم يفت النقاد أن يروا جزءاً من سيرة - ولو متخيلة - لفرانسوا تروفو. وكذلك فعل النقد بالنسبة إلى فيلم «آديل ه». الذي حققه تروفو لاحقًا عن سيرة ابنة فكتور هوغو.

فرانسوا تروفو، المولع بالسينما حتى الوله، وحتى الاندماج الخالص... والمولع كذلك، من خلال السينما بكل أنواع الفنون والأداب، كان لا بد له في أفلام أساسية حققها أن يغوص في الأدب وفي الفن... كما في السينما نفسها، معلناً أن ما من خلاص لكآبة الكون ورتابة الحياة إلا في الفنون وعبرها. ولعل في إمكاننا أن ننظر إلى واحد من أول وأجمل أفلامه وهو «فهرنهايت 451»، المأخوذ عن رواية للأميركي راي برادبري على أنه فعل إيمان حقيقي بالأدب وبالكتابة في شكل عام. هذا بالنسبة إلى الأدب والكتاب، أما بالنسبة إلى السينما، فإن تروفو هو الذي سيحقق في العام 1973، واحداً من أجمل الأفلام التي حققت عن السينما في تاريخها: «الليل الأميركي» الذي هو، من خلال لعبة الفيلم داخل الفيلم، ومن خلال تصوير تروفو لنفسه كمخرج يحقق فيلماً جديداً له، قدم تحية حب لهذا الفن الذي ما كان في وسع مخرج من طراز تروفو أن يفصله عن الحياة نفسها. ولم يكن صدفة أن يفوز هذا الفيلم، عام عرضه، بأوسكار أحسن فيلم أجنبي في هوليوود، مع أن لا حكاية فيه ولا خدع سينمائية، بل فن السينما في نقائه الخالص.

وإلى جانب الأدب والسينما، وإلى جانب حكاية الحب الرومانسية التي كانها واحد من أول وأجمل أفلامه، «جول وجيم» كان للمسرح كذلك نصيب من فن تروفو، وذلك عبر فيلم «المترو الأخير» وهو أحد من أجمل الأفلام التي حققها وأقواها. ولقد فاز «المترو الأخير» في العام 1980 بعشر جوائز سيزار متوجاً مسار تروفو وفنه، قبل أربع سنوات من رحيله. وهذا الفيلم الذي يلعب بطولته كاترين دونوف وجيرار ديبارديو، تدور أحداثه في باريس أيام احتلال النازيين الألمان لها، من حول ممثلة مسرح هرب زوجها من النازيين فتولت هي إدارة العمل مكانه، فيما اختبأ الزوج في قبو المسرح، يشهد حزيناً، غراماً يتقد بين زوجته وممثل المسرحية الرئيسي. هنا وبصرف النظر عن موضوع الفيلم و «رسالته» عرف تروفو كيف يعيّش متفرجيه وسط أجواء المسرح ويصوّر زمن الاحتلال الفرنسي تصويراً خلاقاً... ما جعل الفيلم فيلم أجواء ولا يزال يعتبر إلى اليوم واحداً من أجمل الأفلام الفرنسية التي حققت خلال الربع الأخير من القرن العشرين.

في الأدب أيضاً، ولكن هذه المرة في الأدب البوليسي التشويقي الذي كان من الطبيعي لعاشق سينما هيتشكوك أن يشغف به أيضاً، حقّق فرانسوا تروفو خمسة أفلام - منها ثلاثة بوليسية خالصة، واثنان يقتربان، قليلاً أو كثيراً، من عالم السينما البوليسية، ومعظمها مقتبس من روايات أميركية الأصل.

إطلالة تروفو الأولى على فيلم التشويق كانت إذاً، مبكرة، أي في العام 1960، حين حقّق «أطلقوا النار على عازف البيانو» من بطولة شارل أزنافور... وهو فيلم تختلط فيه الجريمة بالفن بعالم الليل بالحب، من خلال حكاية عازف يعمل في بار ليلي ويعيش مكتئباً هناك منذ انتحار زوجته واكتشافه خيانتها له. وهناك في البار يلتقي نادلة تقرّر أن تخرجه من الحال التي هو فيها... لتعيده إلى فنه، لكن الثمن لن يكون زهيداً.

وفي العام 1968، اكتشف تروفو، ضمن قراءاته البوليسية كاتباً لم يكن معروفاً في ذلك الحين هو ويليام آيريش، وعلى الفور وقع في هوى أول رواية قرأها لآيريش ليحقق انطلاقاً منها فيلمه «العروس كانت ترتدي ثياب الحداد»، من بطولة جان مورو، عن عروس قتل زوجها يوم عرسهما، فتقرر - وتنفّذ - انتقامها العنيف والبطيء من كل أولئك الذين اكتشفت أنهم تآمروا على عريسها وخطّطوا لقتله وقتلوه.

يومها ما إن عرض هذا الفيلم وراح يحقق نجاحاً، حتى كان تروفو قد شرع في تحقيق تال له، عن رواية أخرى لويليام آيريش عنوانها هذه المرة «حورية الميسيسيبي»، وجعل البطولة لكاترين دونوف، في دور عروس آتية من أميركا ليقترن بها صناعي فرنسي ثري كان تعرّف بها عن طريق المراسلة.

أما آخر حبة في عنقود هذه المجموعة فهو الفيلم الأخير الذي حقّقه فرانسوا تروفو: «يا حبذا.. يوم الأحد» (1984) والذي عاد فيه إلى الأسود والأبيض وإلى بساطة الموضوع وكأنه يترك عبر فيلم تشويقي - كوميدي، وصيته السينمائية الأخيرة. هذا الفيلم اقتبسه تروفو، على عادته في أفلامه التشويقية، من رواية للكاتب تشازلز وليامز، لكنه حوّر كثيراً في المناخ العام ليربط الفيلم بما اعتاده من مناخات... ولقد نجح الفيلم ما كان يعد بانطلاقة جديدة لهذا الفنان، كان من أوائل مشاريعها فيلم «السارقة الصغيرة» الذي رحل من دون ان يبدأ في تصويره، فحقّقه كلود ميلر، الذي كان شاركه في كتابة السيناريو.

شراب أزرق «مشبوه» لتنقية المجتمع من حروبه وشروره

بيروت - فجر يعقوب

لم يشأ صنّاع الفيلم اللبناني «فيتامين» إطلاق عنوان «فياغرا» عليه لسبب مرتبط ربما بنوع الكوميديا التي يذهبون إليها. هذا ليس فألاً سيئاً على أية حال. ربما يبدو العنوان أكثر حرفية وإغراء من التوجه الحرفي المباشر للجمهور الذي قد يتقلب هنا على جمر إغراء المصطلح من دون أن يحظى بالكثير مما هو رابض في مخيلته التي ترتبط هنا بمفعول الحبة الزرقاء السحرية. الفيلم لا يوفر هذا ولا ذاك. يطلق العنان لمخيلة كوميدية، أقرب إلى الفانتازيا الريفية المشبعة بالموقف، بالطبع من دون أن يتجاهل الدعوة للعودة إلى «الضيعة» التي تتصدى لها نجمته زمردة (ماغي بوغصن) حتى أنها تقنع بسحرها وشقاوتها وجنونها التحري جمال ابن مدينة بيروت «كارلوس عازار»، للعودة في النهاية إلى هواء الضيعة وترابها ويعاف الحياة المدينية التي كان يغرق فيها لاهياً ومستأنساً بين فتياته الكثيرات، وهو له وجهة نظر خاصة هنا مقتنصة من سحر الأفلام التي يذهب فيها التحري السمين للبحث عن زميله الأكثر ذكاء فيعثر عليه تائهاً في مغامرة عاطفية ينشد فيها سكينة وطمأنينة روحية ولا يعثر على ضالته. حياة المدن تغرقه في الضياع واللاجدوى، فنجده منطوياً على نفسه تائهاً ومغللاً بوعي وجودي سطحي على الأغلب، وليس أمامه إلا الانطلاق في مغامرة سيُكلّف بها حتى يعثر على الترياق الروحي المفقود في المدينة.

سينما هذا الجمهور

بالطبع، لا يمكن اختزال فيلم «فيتامين» للمخرج اللبناني إيلي ف. حبيب الذي يعرض في الصالات اللبنانية منذ منتصف الشهر الماضي، بالحديث عن نجميه فقط. وفق بعض الاستبيانات فهو يحظى بأعلى نسبة مشاهدة وحضور حتى اللحظة. في الفيلم سنطل على رواية كلود صليبا (المؤلفة) على ضيعة بير المير التي هزمت فيها زراعة الحشيش على يد الدولة، وهي الزراعة التي كان يعتاش منها كثر، ما تسبب بانصراف الشباب خلف أرزاقهم في هجرة جماعية وبقي فيها بعض المسنين والمسنات الذين يعيشون على الذكريات الوردية التي غرقوا وتجللوا بها يوماً. ذلك العجوز الذي كان يرفع الأثقال بيد واحدة ها هو اليوم بقايا إنسان يسير على متكأ حديد بالكاد يمكنه رفع قبعة القش. وذلك البئر الذي كان يدفق بالماء بالكاد تستطيع العمة العجوز أن ترفع ربع سطل منه. وكذلك ضرع البقرة الذي يجف وينتج بضع قطرات من الحليب، وحقل القصب اليابس وشعر المسنات الذي لا يعود يكفي لإظهار حسنهن وجمالهن، وحتى العصفوران العاشقان في القفص يتأثران بأحوال الضيعة كما يخبرنا عجوز بذلك.

إذاً، نحن أمام حالة مَحْلٍ وجفاف تضرب الضيعة التي ستعيش من الآن فصاعداً على إيقاع مغامرة زمرد ورافعة وإسعاف. ثلاث فتيات بقين في الضيعة لأسباب مختلفة بالتعاون مع وحيد الذي يستنطق مغارة جبلية ويعيش فيها بين المدافع والحشوات النارية كأنه أضغاث أحلام من حرب سابقة ويرى أن ما يحدث خارج كهفه ليس إلا مؤامرة يشترك فيها الجميع. ستقوم الفتيات الثلاث بالتعاون مع وحيد بالسطو على سيارة يتبين أن ليس فيها المال المنتظر، وأن حمولتها ليست إلا صناديق من الفياغرا تعود في ملكيتها لآل «الدح». لا تغيب عن المخرج فكرة إشراك النجمة السورية شكران مرتجى في دور مدام «الدح». ليس الدور في حاجة إلى شرح هنا. هذا الزواج غير المقدس بالنسبة لهما، يظهر علاقتهما غير إنسانية وغير سوية ويتخللها مناغشات بأصوات حيوانية قد تقود إلى فهم لمجريات الحكاية التي يريد حبيب إيصالها للمشاهد. نحن أمام ارتباط غير شرعي وزواج للسلطة برأس المال وما يدور أمامنا على الشاشة ما هو إلا تكثيف لنوع هذه العلاقة، بالتالي يمكن فهم هذا التأرجح الذي تبديه مفاصل العمل الأخرى التي لا تخلو من مبالغات ظرفية كان يمكن إعادة تدويرها في سياق مونتاجي – ربما – مع التخفيف من نوع «الإيفيهات» المفتعلة إلى حد السماجة التلفزيونية طبعاً التي سيستخدمها الجميع بغية انتزاع الضحك من الجمهور. في ضيعة بير المير التي تعيش أحداث المطاردات بين التحريين طلال وجمال اللذين يجيئان من بيروت بتكليف من آل «الدح»، سيعيش الأول على وقع غرامه بفتاة «فايسبوكية» صودف أنها كانت واحدة من الفتيات الثلاث (إسعاف)، وسينسى المهمة التي جاء من أجلها، وسيقول بصريح العبارة أنه لم يعد يقبل لعب دور محامي الشيطان، وأن على آل «الدح» التوجه إلى الدولة والتبليغ عن الحمولة المفقودة إن لم تكن مخالفة. حمولة الفياغرا الشريرة التي تلقي بها زمردة (العقل المدبر) في بير المير هي رمز القداسة الريفية العليلة هنا، فزمردة فتاة متعلمة حاصلة على شهادة في الكيمياء الزراعية من بيروت وعلى الجميع الاستماع إليها لأنها تدرك أنه المكان الأمثل، ربما بإدراك غير واع منها، ويحدث أن تمطر وتغرق البضاعة الشريرة بالماء، وحين يقبل أهل الضيعة على البئر لنقل الماء والشرب منه وسقي المزروعات به والتأثر به، سيبدأ الرجال الهرمون بمطاردة نسوة الضيعة وإشباع رغباتهم، وسنحصل على فواكه وخضار ضخمة وسيعثر الحبيب على ضالته في حبه المفقود. هذا سيبدو مفهوماً تماماً بنتيجة هذه المغامرة غير المحسوبة، ولكن حين نقع على كامل أهل الضيعة يتأثرون بشرب الماء المخلوط بالفياغرا لن يشرح لنا المخرج كيف كان يعيش الناس هنا من دون ماء، وإن كان الأمر مجازاً ما، لم تقع الفتيات الثلاث على نصيبهن منه حتى نعرف مدى تأثيره فيهن. ناهيك عن أن ضيعة بير المير في أزقتها وشوارعها الأنيقة لم يكن يظهر عليها تأثير المحل والجفاف إطلاقاً. حتى أن سناء احتفظت بـ «اللوكاندة» التي تذكّرها بزوجها من دون تعليل للسبب، إذ كيف يمكن الإبقاء عليها في ضيعة غادرها أهلوها ولم يبقَ فيها إلا بعض المسنين؟ وما نفع هذه اللوكاندة وجدواها إن لم تكن تغص بالزبائن والسياح؟ من المؤكد أن المخرج حبيب أرادها رمزاً لزمن آفل كان يعيش فيه اللبنانيون، في زمن الضيعة السعيد، على وقع الأغنيات الريفية الجميلة التي لا تستعاد اليوم.

سينما طموحة ولكن... باللون الرمادي

الدار البيضاء – مبارك حسني

يندرج شريط «هم الكلاب» الذي مثل السينما المغربية في الكثير من المهرجانات والمناسبات، ضمن مجموعة أفلام مخرجين مغاربة من الجيل الجديد يرتكزون في عملهم السينمائي على صورة غربية الشكل بموضوع مغربي صميم. ﻻ يستند هذا التوجه إلى تميز ما، وﻻ إلى جديد، بمقدار ما يروم الحكي لتحقيق جماهيرية ما، بخاصة في الغرب لتدليل المبدعين الشبان على قدرتهم على مجاراة هذا الغرب في ما يعدونه مميزاً له من تقنية حديثة ومن حرية طرح رأي في الخارج. أما في المغرب فللظهور بمظهر المنخرط في الهم العام والقادر على «تصوير» جريء و «ثوري» إن أمكن تحقيق ذلك. «هم الكلاب» فيلم يجعلنا نتبين هذين المعطيين عيانياً.

حراك بنغمة رمادية

من جهة الموضوع، يتعلق الفيلم بما عرفه العالم العربي من ربيع على ما يبدو، أي بذلك الحراك البشري الذي انطلق في الشوارع العربية مطالباً بالتغيير. سينمائياً لن يحلم مخرج بثيمة أقدر على جلب اﻷنظار، ومغربياً تظهر حركة 20 فبراير بما حركته مجتمعياً وسياسياً مجاﻻً للتخصيب والتوظيف الصوري السينمائي في سابقة تمنح المخرج ريادة، شريطة التناول في العمق بالانحياز الحقيقي للطرح «التمردي» للحركة بما أعلنته دفاعاً عن العدالة والكرامة والمساواة ضداً على ما تسميه بسطوة المستبدين أي الـ «هؤﻻء» أو الـ «هم» الذين تمت اﻹشارة إليهم في عنوان الشريط بأداة لغوية لا غير، في حين ظلت الإشارة الفعلية المحددة لهم عامة. وحامل فكرة الشريط هذه أشخاص متحلقون حول شخصية محورية هي «المجهول» أو صاحب الرقم السجني 404، أوجده المخرج كما لو كان قسراً في خضم تظاهرات، بما أنه ينتمي إلى زمن سابق وحركة سابقة هي إضرابات سنة 1981 ذات الخلفية النقابية والمنحى السياسي اليساري، والتي خلفت ضحايا وأسرى، وكانت فاصلة في تاريخ المغرب السياسي.

هي حيلة «أدبية» جاذبة إذاً، تمنح الكتابة متسعاً للتوظيف السردي والتوالدي للحكايات، استعارها المخرج في مجال سردي مختلف يعتمد على الحكي بالصورة، وهو ما قد يمس ببلاغة الخطاب المقصود تأثيره في المشاهد. قصة الشريط إذاً، هي حكاية «المجهول» الذي وجده صحافيون في الخضم تائهاً ومختلفاً ومن دون أسس تركيز في واقع يتجاوزه، ويحاولون عبر طموح تحقيق سبق تلفزي ما، إفراغ مخزونه من الغرابة ومما راكمه من «تاريخ» غير مدون لكن يحمله في جسده وشرايينه وفي عمق عينيه.

نتتبع الفيلم إذاً، نزوﻻً في رحم ذاكرة وفي حمى حراك جماهيري، وفي الأماكن السود لمدينة الدار البيضاء عبر تواز سردي غير محمود وﻻ مضمون العواقب. الفيلم ليس له حينذاك سوى ركوب أسلوب التحري كي يطور ماكينة الحكي التي نسجها بتوخي النهل من لغة وحوادث وقفشات الشارع. نرى مغرباً بلون الرماد والبين بين من خلال رصد شخص لا يعرف حركية الزمن المتنامية بعد أن سجن ذات تظاهرة عارمة، وبعد أن قضى ردحاً من الزمن خارج الحياة بمعناها الطبيعي. التوقف هنا له ميزة القول أن لا شيء تغير وبأن العيش ليس مرتبطاً بالتطور والتغيير والنمو، بل فقط بالمسايرة والمهادنة ولو كانت كل الظروف تعاكس الطموح للرقي، وتعاكس كل عيش أفضل.

نرى الفكرة تمتح من الشائع المجتمعي الذي نعرف أنه ينبني على الإشاعة والعاطفة والأمية والقصدية السلبية التي تتراوح بين المُغرض والمبيَّت والمعتقد العام وإن كانت مشيدة على النية الحسنة، لكنها سينمائياً مثيرة وفي ذلك ما يفسر خضوع المخرج لها، بل وحفرها بالعمق واسثتمارها طويلاً وفي كل المناحي ولو أفقدت العمل السينمائي تركيزه الخاص، طالما أن كل شيء خيال في خيال لا يمس الخطوط الفاصلة، وبما أن الحرية في القول الملون بالسواد مسموح بها منذ زمن.

خلفية سينما الأنفاق

النقل في الفيلم يبدو في الحقيقة محترماً وجريئاً لكنه ﻻ يضيف جديداً بعد أن جُرب في أفلام مشابهة سابقة، ما يخلق تياراً في حد ذاته كما أشرنا إلى ذلك أعلاه. تيار له شكل خاص نتبينه هنا أيضاً. فالمخرج يتميز هنا بتخيره الأجواء السينمائية المقبلة من سينما الأندرغراوند النيويوركية والسينما المستقلة والفردية الفرنسية التي يصنعها سينمائيون ﻻ يدخلون ضمن سينما الإنتاج التجاري، ولهم رغبة في التعبير إبداعياً، وليس فقط تحقيق الفرجة العابرة. كما بالاعتماد على جماليات التصوير «التلفزي» في تأسيسه على الكاميرا المحمولة والسرعة وخلط الصور واللقطات واللعب أحياناً على التوثيق الحي وأحياناً على الاختلاق اللحظي للصور ما يسفر عن تركيبة تتراوح ما بين الواقعي المحض والمتخيل. هذا من دون نسيان أثر التكنولوجيا «الإنترنيتية» وتصورها الخاص للصورة وإنتاجها المتسم بالضآلة والصخب والضجيج والسيل والأثر المفارق عند المشاهدة. هذا كله يجعل الشريط منخرطاً في عصره العام وفي عصر المجتمع الذي يود الحديث عنه. لكنه في المحصلة الأخيرة يمنحنا عملاً سينمائياً عاماً، قد ننقله من مجتمع إلى آخر ومن زمن إلى آخر، من دون أن تتغير الأمور كثيراً، بما أن الهدف الكامن وراء تحقيقه هو التأثير السينمائي الجماهيري مع الإلحاح على بعض مميزات الوضع المغربي الذي لم تعد مناطق الظل والرماد فيه خافية على أحد منذ ما لا يقل عن عقدين من نشر شتى الوثائق وفتح الدواليب السرية والدراسات التي تفضح وتبين وتفتح الأبواب على المعرفة التي كانت متخفية.

صحيح أننا هنا أمام فيلم يحقق فرجة سينمائية ممتعة وحقيقية، لكنه عمل سينمائي من أعمال العصر الشبابي المغربي الذي تنقصه المعرفة العميقة للأشياء التي لا تنقذها الصورة الحديثة، ولا التناول الشبيه بما يحقق شباب مجتمعات غربية.

«سيلما» حراك سلمي يهزم قسوة العنف ويعيد العنصرية إلى الواجهة

مونتريال - «الحياة»

بعد ما يقرب من 50 عاماً على الأحداث التي أدت إلى اعتراف سلطات الولايات المتحدة الأميركية بالحقوق المدنية للسود، يبدو أن مسألة العرق لم تنته فصولاً. فما شهدته مؤخراً بعض المدن الأميركية (خاصة فيرغسون ونيويورك) من تظاهرات احتجاجية دامية، أعاد إلى أذهان السود أن ممارسات الشرطة العنصرية لم تتغير وأن اليوم أشبه بالبارحة ومعركة الحقوق المدنية لم تحسم بعد.

نموذج نضالي

هذه المشاعر التي يتقاطع فيها الإحباط بالأمل ترددت أصداؤها عبر الفيلم الدرامي التاريخي «سيلما» -Selma الذي بدأت عروضه الأولى في صالات مونتريال في التاسع من كانون الثاني – يناير الجاري، ولاقى إقبالاً واسعاً قل نظيره. الفيلم أميركي طويل ( 122 دقيقة )،من إنتاج أوبرا وينفري (تلعب فيه بنفسها دور آلي لي كوبر إحدى أبرز شخصيات الحراك السلمي للمرأة السوداء). وهو من إخراج آفا دوفيرناي عن سيناريو بول ويب. أما أدوار البطولة فأسندت إلى كل من ديفيد اويلو ممثلاً القس مارتن لوثر كينغ داعية الحقوق المدنية للسود الأميركيين، وتوم ولكنسون في دور الرئيس الأميركي الأسبق ليندون باينس جونسون.

حقبة قاتمة

يسلط «سيلما « الضوء على حقبة قاتمة من تاريخ الولايات المتحدة الأميركية كانت قد شهدت عام 1965 سلسلة احتجاجات شعبية منظمة للمطالبة بحق التصويت للسود أسوة بمواطنيهم البيض. وسرعان ما تطورت إلى معركة لنيل الحقوق المدنية تزعمها قادة من الأفارقة السود والأميركيين البيض وقضى بعضهم دفاعاً عنها كونها جزءاً لا يتجزأ من المبادئ الديموقراطية. كما يركز على رمزية «سيلما» ليس كاسم لمدينة في الجنوب الأميركي تقطنها غالبية من السكان السود وحسب، وإنما كمهد لثورة سلمية أرّخت لحركة نضالية تحررية وجوبهت بشتى أنواع القمع والعنف والإذلال وسقوط الضحايا خاصة يوم «الأحد الدامي» في7 آذار (مارس) عام 1965. حينذاك انطلقت من سيلما مسيرة ضخمة ضمت في بدايتها حوالى 3200 شخص وظلت تكبر ككرة الثلج حتى وصلت إلى حوالى 25 ألفاً بعدما قطعت مسافة 85 كيلومتراً سيراً على الأقدام وحطت رحالها في مدينة منتغمري عاصمة ولاية الاباما التي يشكل السود حوالى 50 في المئة من سكانها ولا يتمتع بحق التصويت منهم سوى نسبة ضئيلة لا تتعدى 2 في المئة. كما كان حاكمها تيم روث (جورج دالاس) واحداً من أشرس المعارضين للاعتراف بالحقوق المدنية للسود ورمزاً للفصل العنصري في أميركا. ويلفت الفيلم إلى دور المرأة الفاعل والمؤثر في الحراك السلمي لمدينة سيلما عبر الشخصية التي تمثلها اوبرا وينفري في دور آني لي كوبر الناشطة الأميركية من أصل افريقي والمناضلة من أجل حق التصويت في الانتخابات. وهي التي اشتهرت بمواقفها الجريئة وإصرارها على تسجيل اسمها في لوائح بلدتها سيلما وإقدامها على صفع رئيس الشرطة فيها بعد أن أمعن في حرمانها من هذا الحق بشتى الوسائل.

وفي السياق ذاته يقدم الفيلم صورة مشرقة لمارتن لوثر كينغ ليس كرسول لحركات اللاعنف أو كقائد تاريخي وحسب، وإنما كـ «ديبلوماسي ومفاوض بارع» استطاع، لأول مرة وفي لحظة تاريخية معقدة، أن يقنع رئيس الولايات المتحدة الأميركية الأسبق ليندون جونسون بإصدار قانون يعطي حق التصويت للسود الأميركيين.

وخلافاً لهذه الصورة البراقة كان جهاز «اف بي آي» الأميركي يجري خلف المفاوضات محاولات حثيثة لإجهاضها ويترصد كينغ في حركاته وسكناته، ويتسلل إلى حياته العائلية ويحاول تشويهها والإيقاع بينه وبين زوجته كوريتا سكوت كينغ (الممثلة كارمن ايجوجو) من خلال تسجيلات كاذبة تتهمه بالخيانة مع زوجات أخريات.

أقوى من العنف

وينتهي الفيلم باستعراض حاشد لآلاف المتظاهرين الذين وصلوا لتوهم إلى باحة مونتغمري الرئيسية فخاطبهم لوثر كينغ (يظهره الفيلم بشخصية كارزمية جذابة) بكلمة حماسية شدد فيها على أن «حراكنا السلمي أقوى من العنف وأننا سننعم بشمس الحرية قريباً». إلا أنه وإن لم ينعم بما وعد به أو أن إيمانه بمقولة «حلم واحد يغير العالم « لم يتحقق، إلا أنه تحول بعد اغتياله عام 1968 إلى رمز وطني مقاوم لدى كل إنسان لا فرق أسود أو أبيض تنتهك حقوقه المدنية.

يبدو من خلال عرضه الأول أن «سيلما» قد حظي بشبه إجماع من جمهور النقاد الكنديين. فالناقد في جريدة «لابرس» مارك اندريه رأى أن « توقيت الفيلم قد جاء في لحظة تاريخية مواتية جداً على مختلف المستويات العاطفية والتجارية ما يعزز ترشيحه المنتظر للفوز بجائز اوسكار». في حين اعتبره اوديل ترامبلي الناقد في صحيفة «لو دوفوار» فيلماً «يؤرخ لحقبة تاريخية من النضال السلمي لحركة السود الأميركيين لم يتطرق إليها أو إلى حياة قائد مسيرتها كينغ أي فيلم روائي أو درامي على هذا القدر من النجاح» .

أما زميله مانون دومي فيعتقد أن «سيلما» هو» أفضل وأكثر أفلام السير الذاتية صدقاً، رغم تطوره الدراماتيكي البطيء وتوتراته العرقية التي تكشف كيف تمزّق النسيج الأميركي الاجتماعي».أما مؤسسة «ميديا فيلم» الكندية فأشادت ببراعة المنتجة آفا ماريا دوفرناي في «معالجتها للبعد الاستراتيجي لقيادة مارتن لوثر كنغ وكيف أن الاحتجاج اللاعنفي يكون في أقصى فاعليته لدى مواجهته بالعنف».

قال نقاد إن فيلم «سيلما»مرشح قوي للفوز بجائزة أوسكار. وبرعت المخرجة آفا ماريا دوفرناي في معالجة البعد الاستراتيجي لقيادة كنغ وكيف أن الاحتجاج اللاعنفي يكون في أقصى فاعليته لدى مواجهته بالعنف. واختيرت مدينة سيلما تحديداً بسبب وحشية شرطتها وقسوة حاكم الولاية العنصري جورج والاس.

الشمال أولاً... وللعالمية والعربية مكان

غوتنبرغ - قيس قاسم

يفرض الإقرار بكونه أكبر المهرجانات السينمائية في دول الشمال، تحديات دائمة على مهرجان غوتنبرغ السينمائي، من بينها المحافظة على مستواه والمجيء بأفكار جديدة وابتكار ثيمات تزيد من حيويته وتكرس تفرده كمنصة لعرض وتقديم سينما شمال أوروبا وفي شكل خاص الإسكندينافية منها، وأيضاً الموازنة الدقيقة مع عالميته التي تفرض أيضاً شروطها عليه. وهذا ما يفلح في تحقيقه وفي شكل لافت كل عام إلى درجة صار السؤال بالنسبة للمتابعين والجمهور لا عن جودة مستواه كمهرجان أوروبي جماهيري الطابع، بل عما سيقدمه من مقاربات جديدة تُشبع رغبة جمهور سويدي طموح يكرس جُل وقته في هذة الفترة من كل عام من أجل متابعته والمشاركة في فاعلياته ومشاهدة أكبر مقدار من الأفلام المعروضة فيه.

فن تشكيلي وسينما

وكما توقع المدير الفني للمهرجان يوناس هولمبيري، فإن عدد التذاكر المباعة ربما سيتجاوز هذة السنة كل سابقاتها لأسباب ذكرها في المؤتمر الصحافي وكتب بعضها في مقدم كاتالوغ الدورة الثامنة والثلاثين. ومن بينها زيادة الأفلام المعروضة، والتي بلغت 500 فيلماً ثلثها من دول الشمال والبقية من كل قارات العالم. وتوافقاً مع الذكرى المئوية لعرض أول فيلم تحريك سويدي، نظمت الدورة برنامجاً خاصاً لهذا النوع من الأفلام ما سيوسع من مساحة المعروض منها إلى جانب ما سيرافقها من فاعليات أُطرت في عنوان «الفن التشكيلي والسينما» وعليه ستشهد معارض المدينة ومتاحفها عروضاً كثيرة لفن «الفيديو آرت» وسيشارك سينمائيون ورسامون تشكيليون في الحديث عن سينما التحريك في ندوات مختلفة تقدم مراجعات تاريخية لهذا الفن ونماذج قديمة من بينها فيلم فكتور بريدال الأب الروحي لسينما التحريك في السويد «الشراب السحري». كما ستحضر الفنانة والسينمائية التشيكية ميكائيلا بافلاتوفا التي تعد واحدة من بين أبرز المشتغلين في حقل التحريك. وعلى المستوى العربي ستكون هناك مشاركة من خلال فيلم «النبي لجبران خليل جبران» الذي ساهم في إنجازه مجموعة مخرجين من بينهم الخليجي سعيد حارب، مخرج مسلسل التحريك التلفزيوني «الفريج» إلى جانب روجرز آلز وجوان جراتر وتكفلت بإنتاجه الممثلة سلمى حايك التي تلعب فيه دوراً صوتياً. والفيلم كما بات معروفاً مقتبس من كتاب جبران خليل جبران الشهير. وسبق أن عرض في مهرجان «أجيال» في الدوحة.

عرب في كل مكان

السينما العربية حاضرة في شكل جيد هذا العام، رغم غياب مصر، وأفلامها توزعت على خانات كثيرة وذات قيمة اعتبارية على عكس السنوات الماضية حيث انحصر تقريباً وجودها في تظاهرة «القارات الخمس»، ففيلم «تمبوكتو» لعبدالرحمن سيساكو وضع بين «الماستر» الذي ضم أسماء سينمائية مهمة من بينها الراحل آلان رينيه ولاف دياز، ياسيكا هاوزنر، برونو دومون وفريدريك وايزمان. فيما أدرج «الوهراني» للمخرج الجزائري لياس سالم ضمن أفلام «أسبوع النقاد». واختارت الدورة، التي تستمر من مساء اليوم الجمعة حتى الثاني من شهر شباط (فبراير)، فيلم الأردني ناجي أبو فوّاز «ذيب» بين «مفضلات المهرجان». وفي «الكوميديا الإلهية» وهي التسمية الجديدة لخانة «الكوميديا» القديمة مع تغييرات في محتواها، سيعرض الفيلم اللبناني «غدي» لأمين درّة وإلى جواره فيلمان كثُر الحديث عنهما، الأول كراوتي - بوسني مشترك في عنوان «جزيرة الحب» ومخرجته ياسميلا جبانيتش في تجربتها الكوميدية الأولى بعد ما عرف عنها شدة عتمتها السينمائية، والتي تجلت بوضوح في فيلمها الرائع «لهؤلاء الذين لا يبوحون بالحكايات» عن النساء البوسنيات المغتصبات أثناء الحرب الأهلية اليوغسلافية. أما الثاني فمن إسرائيل القليلة الكوميديا وعنوانه «دوافع صفر» التي وضعت فيه مخرجته تاليا لافي، وربما من المرات القليلة، المرأة كبطل في حكاية تدور أحداثها في ساحات الجيش، وعليه حصلت على جائزة أفضل فيلم في الدورة الأخيرة لمهرجان ترايبكا السينمائي. أما في قسم «أصوات جديدة» فأدرج العمل الأول الطويل لباتين قبادي «مردان» والمرشح عن العراق للمنافسة على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم غير أميركي. ومن إنتاج كردستان العراق، أيضاً، سيُعرض فيلم شوكت أمين كوركي «ذكريات منقوشة على حجر». أما شريط «أنا مع العروس» فأخذ مكانه بين أفلام «أوروبا أوروبا» لاشتراك الإيطاليين أنطونيو أوجوجليارو وغابرييل ديلغراندي مع السوري خالد سليمان الناصري في إخراجه، فيما ظل «فيلا توما» بلا وطن، كما ورد في كاتالوغ المهرجان، بعد أن نسبته مخرجته سهى عراف أثناء عرضه في مهرجان فينيسا إلى فلسطين ما أثار حفيظة إسرائيل التي طالبتها بإعادة مبالغ الدعم التي قدمتها للفيلم.

وبالنسبة للأفلام الوثائقية فحصّتها معقولة هذا العام من بينها: «ماء الفضة - سوريا: صورة ذاتية» للسوري أسامة محمد الذي سيساهم مع عبدالرحمن سيساكو في ندوة في عنوان «العنف والمقاومة» وفيها سيناقشان مع الجمهور دور السينما في تناول ظاهرة العنف والتطرف الديني. كما أُدرج ضمن البرنامج رغم تقادمه النسبي فيلم «شلاط تونس» لكوثر بن هنية إلى جانب الوثائقي السوداني «على إيقاع الأنتونوف» لحجوج كوّكا الذي يسجل فيه فصولاً من الحرب بين الشمال والجنوب وعلاقة الشعب السوداني تاريخياً بالموسيقى وكيف يستخدمها مواطنو ولايتي النيل الأزرق وجبال النوبا كوسيلة للدفاع عن النفس في مواجهة غارات طائرات «الأنتونوف» وهي تُسقط قنابلها عليهم.

سينما الشمال

يجمع غوتنبرغ مثل بقية المهرجانات العالمية أفضل ما هو معروض في المهرجانات الكبيرة التي تسبقه ويقدمها لجمهوره دفعة واحدة وخلال مدة زمنية محدودة. واللافت أثناء مراجعة برنامج الدورة الـ38 لمهرجان غوتنبرغ السويدي وجود أكثر من عشرين فيلماً مهماً فيه عرضت قبله في أبو ظبي، ما يشير إلى تقارب في ذائقة مبرمجي المهرجانين في شكل يستدعي النظر إلى الأمر بتمعن، وإلى قراءة بعض المهرجانات العربية بمقاييس أبعد من محليتها. كما يحرص غوتنبرغ على إضافة أهم الأفلام التجارية والمتنافسة على جوائز الأوسكار إلى برنامجه لتقارب توقيت إقامته مع إعلانها بفارق أن الدخول لمشاهدتها أرخص بكثير للجمهور من مشاهدته في الصالات السينمائية خلال الأيام العادية. لكن، يظل اهتمامه الأكبر بسينما الشمال فيسعى جاهداً لتقديم الجديد منها ويدخل أفضلها إلى مسابقة «التنين» التي تبلغ جائزتها مليون كرونة سويدية (ما يعادل 150 ألف دولار أميركي) ومن المفارقات التاريخية أن المخرج النرويجي الكردي الأصل هشام زمان قد حصل عليها مرتين متتاليتين على فيلميه «قبل سقوط الثلج» و «رسائل إلى الملك» وهذا ما لم يحدث خلال تاريخ المهرجان قط، ما يشير ضمناً إلى ظهور جيل من المخرجين المهاجرين في إسكندينافيا يتمتع بمواهب لا يمكن التغافل عنها، وأيضاً إلى تطور لافت في السينما النرويجية التي كرست الدورة لها برنامجاً خاصاً وكرمت في «منجز العمر» الممثلة العملاقة ليف أولمان عن مجمل أعمالها السينمائية وستعرض لها بالمناسبة فيلمها الأخير «الآنسة جولي» الذي وقفت فيه خلف الكاميرا كمخرجة، كما سيكون فيلم الافتتاح «مفتاح منزل المرايا» من الجارة الإسكندينافية.

أما السينما الدنماركية فتظل صاحبة المفاجآت الكبيرة التي ينتظرها الجمهور السويدي بترقب، ومن بين ما ستقدمه فيلم «تدفق» العمل الروائي الطويل الأول للمخرج الدنماركي العراقي الأصل فنار أحمد، إلى جانب أفلام أخرى منتقاة بعناية من فنلندا وآيسلندا.

قصص مستقلة تقارب السينما

راسم المدهون

وحـــدها درامــا القصص المستقلة من تنجح في إقامة علاقة وثيقة بين الدراما التلفزيونية والسينما. في هكذا أعمال تجدنا أمام «رواية» تلفزيونية كاملة خلال سهرة واحدة، أي أننا من جديد أمام فن الدراما البصرية وقد استعاد ميزته الأهم والأكثر جاذبية وأعني التكثيف والاتكاء على الصورة في درجة أساسية، مع ما يعنيه كل ذلك من البعد عن الثرثرة والزوائد وكل ما لا يقدم ولا يؤخر ولا يؤثر حذفه في تماسك العمل أو بنيته.

هي دراما يركب كاتبها الصعب، إذ عليه في تقاليد الحلقات الثلاثين أن يقدم ثلاثين رواية تلفزيونية تمتلك كلها الجاذبية والتشويق وتحمل في الوقت ذاته قيماً ومضامين فكرية إنسانية واجتماعية راقية ومفيدة للمشاهدين.

بعض هذه الأعمال يقوم على وجود شخصيات محددة الأسماء والملامح لكنها تعيش في كل حلقة أدواراً جديدة وتواجه مصائر متباينة، فيما يقوم الأهم على حلقات ذات قصص جديدة في كل شيء بما في ذلك الشخصيات ذاتها، والتي تنسحب في نهاية كل حلقة لتأتي بعدها شخصيات جديدة تعيش في الحلقة اللاحقة قصصاً وحياة مختلفة تماماً.

النوع الثاني إذ تتغير شخصياته وأبطاله يتغير ممثلوه بالطبع وهي ميزة تمنحه تنوعاً وخصوبة ضروريين لإكساب الدراما عوامل نجاح أكبر، بل حتى لمنحها مساحة أوسع لملامسة قضايا الحياة وشؤونها التي لا تحصى دون إيقاع الملل في نفس المشاهد.

مع ذلك هي دراما لا يعشقها المنتجون ولا شركات الإنتاج، بل هي إلى حد كبير لا تروق للممثل الذي لا يجد رغبته في دور تلفزيوني لحلقة واحدة يخرج بعدها من العمل كله مفسحاً مكانه في الشاشة لغيره من الممثلين ومعهم أحـداث قصة أخرى.

ولأننا نتحدث عن دراما تلفزيونية تقارب السينما أو بكلمات أخرى تشبهها (في التكثيف على الأقل)، فإننا بالتأكيد نتحدث عن فن أكثر إبداعاً أو إذا جازت العبارة أكثر فناً.

هل يستطيع الفن أن يكون أكثر فناً؟

نعم هو يستطيع حين يقارب لغة بصرية ذات جماليات خاصة أي لغة الصورة التي لا تحتاج في غالبية الأحيان عوامل إسناد من خارجها تكبلها بقيودها.

الحياة اللندنية في

23.01.2015

 
 

"قط وفار".. عندما يلعب الشعب مع السلطة!

محمود عبد الشكور

يمثل الفيلم الكوميدى "قط وفار" الذى بدأ عرضه ضمن أول مواسم السينما المصرية السينمائية للعام 2015، عودة جيدة لكاتب السيناريو المعروف وحيد حامد، حيث يقدم هنا كوميديا الموقف ببراعة، مستلهما قصة كتبها عبد الرحمن فهمى، ولكن دون أن يترك حامد إحدى أشهر أفكاره التى قدم حولها تنويعات كثيرة فى أفلامه، أعنى بذلك لعبة القط والفار المستمرة بين الشعب/ المواطن العادى، والسلطة التى تحكمه.  

لدينا نماذج سابقة كتبها وحيد حامد تتأرجح بين جدية فيلم "الغول" الذى ينتهى بقتل رمز السلطة الراسمالية المتوحشة بطريقة تسقط بوضوح على حادث قتل الرئيس السادات (رمز السلطة السياسية)، وبين كوميديا "الإرهاب والكباب" السوداء التى تنتهى بتواطؤ البطل مع الشعب الذى ينتمى إليه، وخروجهم معا من المجمع تحت نظر ممثل السلطة (كمال  الشناوى فى دور وزير الداخلية)، وكان بطلنا (عادل إمام بطل فيلم الغول هو نفسه بطل الإرهاب والكباب) قد نجح فى أن يقود شعب المجمّع لكى يهتف بعبارة أصبحت شهيرة ومبشرة بثورة جياع تقول: "الكباب الكباب .. ولا نخللى عيشتكو هباب".

فى "قط وفار" تأخذ التنويعة فرصة جديدة للإنطلاق، بل إنها تقترب هنا من حكايات الكوميكس، يترجم ذلك المخرج تامر محسن فى فيلمه الروائى الطويل الأول بصريا بتقسيم الشاشة بين بطل الفيلم الشاب حمادة الفار (محمد فراج)، ووزير الداخلية عباس القط (محمود حميدة)، ولكنه ليس تقسيما متكافئا، وإنما يبدوان معا كجزء من رسوم قصة مصورة، ولحسن الحظ توقف المخرج عند مشاهد قليلة استخدم فيها هذا الأسلوب، بعد أن وصل المعنى المقصود.

من عصر مبارك

لكن الفيلم يربط حكايته بعصر مبارك تحديدا ، حيث تظهر صورته لتدل على زمن الأحداث، ولا يعنى ذلك أن اللعبة انتهت، أو أنها لا يمكن أن تتكرر فى عصر ما بعد مبارك، وإنما أعتقد أن الإختيار يستهدف تقديم اللعبة فى حالة نموذجية، فقد شهدت سنوات مبارك الأخيرة ذروة غير مسبوقة من استغلال النفوذ والسلطة، كما شهدت بالمقابل تحايلات شعبية فى مواجهة ذلك، كنا تقريبا أمام حالة من العصيان المدنى المستتر، الحكومة تنهب وتترك الفتات فى صورة مرتبات، بينما الناس لا تعمل أصلا، ثم تطور الأمر الى احتجاجات، فثورة شاملة.

اختار وحيد حامد يوما واحدا هو عيد الحب لكى يقدم من خلاله معظم مشاهد فيلمه، وقدم اللعبة الدرامية التى يتقنها بامتياز، إذ يبدأ عادة من الدائرة الخاصة جدا، ثم يوسع الدائرة بذكاء لتجد أن ما هو خاص يقودك الى العام جدا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، يمكن أن تلاحظ ذلك فى أفلام كثيرة سابقة له ، تبدأ مثلا من حدث بسيط جدا (فقدان مدرس لتلميذة كانت فى رحلة مع الفصل الى حديقة الحيوان كما فى فيلم "آخر الرجال المحترمين")، لتجد نفسك فى النهاية أمام القضية الأعمق المقصودة والخطيرة ( وزن وثمن الإنسان فى المجتمع المصرى).

مشكلة حمادة الفار بطلنا الشاب خاصة ومزدوجة: إنه يعانى من تسابق رجال الحارة على حب والدته (سوسن بدر فى دور مميز رغم مشاهدها القليلة)، هى تقريبا تبدل أزواجها كما تبدل ملابسها، وهناك مشكلة أخرى هى أن حمادة شاب خجول للغاية، وغير قادر على مفاتحة زميلته فى العمل بأنه يحبها.

أما مشكلة الوزير عباس القط فهى أيضا خاصة: إنه متوتر بسبب ترتيبات حفل خطوبة ابنته فى قصره الفاخر، اختار عيد الحب للمناسبة التى دعا إليها كبار المسؤولين، وهو يخشى أن يتسلل أحد ويلتقط صورة تفسد صفاء المناسبة، ربما يراوده أيضا بعض القلق بسبب زوجة عصبية ومتعالية تلعب دورها سوزان نجم الدين.

خطان متوازيان يمثلان الشعب والسلطة، ثم يمد كاتب السيناريو المحترف الجسور فنكتشف أن الخطوط متقاطعة منذ البداية، ولكن السلطة شطرت الطرفين، سنكتشف أن والدة حمادة هى ابنة عم وزير الداخلية عباس القط شخصيا، بل إنها كانت مربية ابنته المدللة التى ستتم خطبتها، ولأن الابنة تريد زغرودة تلون فرحتها، تقوم أمها المتعالية باستدعاء والدة حمادة لإشاعة البهجة والسعادة.

عندما تموت والدة حمادة وهى ترقص فى قصر قريبها ممثل السلطة، لا تتعقد الخيوط فحسب، بل يطلق الفيلم صافرة بداية اللعب بين الشعب والسلطة، ويكون التصرف الأول هو أن يقوم ممثل السلطة باستدعاء حمادة من عمله الهامشى فى جريدة "الأهرام" فى مجال الخدمات المعاونة، وتسليمه جثة أمه التى كادت أن تفسد فرحا فخما وأنيقا تحضره كل عناصر السلطة.

ورطة معقدة

الى هنا كان يمكن أن ينتهى الفيلم، فالسلطة لا تستدعى الشعب إلا إذا احتاجته، فإذا أصبح عبئا عليها تخلصت منه فورا، لكن رئيس مجلس إدارة المؤسسة الصحفية التى يعمل بها حمادة يحاول نفاق ومجاملة وزير الداخلية، بعد أن عرف صلة القرابة بينه وبين حمادة، فيسرب رئيس مجلس الإدارة خبر وفاة ابنة عم الوزير الذى كان يريد إكمال الفرح بدون إزعاج، المشكلة أن هناك أنباء عن تغييرات وزارية قادمة، وبالتالى سيكون أمرا ضارا أن يتجاهل الوزير نبأ وفاة قريبته بعد أن عرفه كبار المسؤولين.

بناء على نصيحة رئيس تحرير جريدة معارضة يسيطر عليها الوزير، تتغير خطة رجل السلطة جذريا، يتم أولا تأجيل الفرح، ثم يذهب الوزير بنفسه وبحاشيته لاستراداد جثة أم حمادة، وإعادتها الى القصر، لتشييعها فى موكب مهيب.

تذكرت السلطة الشعب من جديد، الدائرة تتسع تدريجيا لنكتشف أن عباس القط نفسه كان يعيش فى حي الخليفة الشعبي بالقاهرة، الذي يقيم فيه حمادة، رجل السلطة نفسه لم يكن سوى مواطنا عاديا بسيطا، ولكنه لم يعد "الواد عباس" كما تناديه عجوز بسيطة تعرفه، ولكنه أصبح يتحرك بموكب، ويحيط به الجنرالات، حتى رنة تليفونه هى نغمة فيلم الكاوبوى السباجيتى الشهير "الطيب والشرس والقبيح"، يعود عباس الى الناس لكى يستخدمهم كوسيلة للبقاء فى السلطة.

يعاد ترتيب رقعة الشطرنج من جديد: يشترون بدلة جديدة لحمادة لكى يتقبل عزاء أمه بجوار الوزير، يعاين الوزير مقابر أسرة حمادة، وعندما لا يجدها ملائمة، يقرر اختيار مقابر جديدة مناسبة، تقوم زوجة الوزير بتعليم حمادة قواعد البروتوكول فى تحية كبار المسؤولين.

لا تحسب السلطة أن ألاعيبها ستواجه بوعى مضاد يبدأ تدريجيا فى الحارة، عشاق الأم المتوفاة يصرون على أن تكون جنازتها فى الحارة، حمادة نفسه يكتشف أن الوزير الذى لم يهتم بالأم وهى حية، يريد أن يستغلها كجثة، يصبح اللعب على المكشوف، الابن يلجأ الى القانون الذى يعطيه الحق فى دفن أمه بالطريقة التى يراها، والوزير يلقى بكتب القانون على الأرض، ولكن إصرار الابن يدفع أسرة الوزير الى اقتراح لعبة بديلة، حل وسط بين الشعب والسلطة.

ستتم الاستعانة بجثة مجهولة لتكون فى النعش، لا أحد سيتحقق من هوية الجثة، وبعد أن يتم العزاء الذى يشارك فيه حمادة، سيتسلم الابن  جثة الأم من المستشفى، يوافق حمادة ، ولكن بعد أن يكون قد دبر أمرا، سيؤدى ذلك الى فضيحة الوزير أمام كبار المسؤولين، الفأر سيكسب معركته مع القط، وسيقتحم أهل الحارة قصر الوزير. وبعد سنوات خمس، وفى عيد الحب أيضا، سيحتفل حمادة بزيارة مقبرة أمه، يضع وردة حمراء، نكتشف أنه تزوج حبيبته، وأنجب منها ابنة يحيط بها العشاق من الأطفال.

السهل الممتنع

لا أحد يبارى وحيد حامد فى مجال الدراما الإجتماعية والسياسية، سهولته ممتنعة، كما شرحت فإنه بارع فى صنع جديلة يختلط فيها الخاص (طرفان يحتفلان بعيد الحب)، تتسع الدائرة لتكون أكثر عمومية عندما يصبح واضحا أن حمادة يمثل قطاعا واسعا من قاعدة الهرم، بينما يمثل عباس قطاعا يجلس فوق قمة الهرم، ثم يبدو المعنى أكثر عمقا عندما يستهلك أهل السلطة والدة حمادة أثناء حياتها وبعد موتها وتحولها الى جثة، ونصل الى قلب الفكرة الخطيرة عندما يكتشف الضعفاء والمهمشون أنهم أقوياء لو اجتمعوا، الغلابة يستطيعون أيقاف تلاعب السلطة بهم لو أرادوا، هم أقوياء جدا ولكنهم لايعلمون.

تغلف هذه الأفكار مواقف كوميدية نسجت ببراعة منها مثلا حيرة الخدم لأن الوزير لم يستقر بعد هل يستمر الفرح أم يتحول الى مناسبة للعزاء، فلا يجدون مفرا من أن تتجاور كؤوس "الشربات" الحمراء بجوار فناجين القهوة السوداء، ومنها قيام الوزير وزوجته  بتفقد حالة مقابر أسرة حمادة (وهى ايضا مقابر أسرة الوزير القديمة) وسط عدد من الرجال المخدرين، ومنها مشهد رئيس الحى الذى يحتفل بسهرة حمراء مع عاهرة، يكلمه الوزير تليفونيا عن حاجته الى مقبرة جديدة نظيفة ومتسعة، فتعتقد العاهرة أنه يقصدها، ومثل مشهد تلك العجوز التى تنادى عباس باسمه مجردا فى الحارة، ثم تطلب منه أن يحضر لها عدة أرغفة من الخبز.

قدرة وحيد حامد أقوى بالطبع فى التعبير عن الطبقات الشعبية، بينما يلجأ الى الكليشيهات عند رسم شخصيات الأثرياء مثل نموذج الفناة المدللة الثرية، وأمها المتعالية، ومرة أخرى يكاد يقدم حامد تنويعات لا تنتهى فى أفلامه على تيمة المنسيين فى مواجهة الكبار، هنا أيضا تنويعة جديدة مدهشة وجيدة، ربما يعمق الفكرة أكثر أن الوزير كان أصلا من المنسيين، ثم ارتدى قناع السلطة.

عن الاخراج

قدم تامر محسن إيقاعا سريعا مناسبا وشديد الحيوية، وأدار بشكل جيد كل المواقف الضاحكة، العناصر الفنية عموما كانت جيدة (تصوير فيكتور كريدى، موسيقى محمد مدحت، مونتاج وائل فرج، ملابس ناهد نصر الله، ديكور على حسام)، محمود حميدة كان أفضل الممثلين، قدم دور وزير الداخلية بصورة مختلفة وبلمسات خاصة، لم استوعب لماذا أصر الموهوب محمد فراج على تقليد جيرى لويس فى دور حمادة الفار؟ كان الدور فى حاجة الى الكثير من البساطة وليس التقليد، حمادة ليس عبيطا أو مغفلا كما كان يبدو جيرى لويس، بطلنا الشاب كائن خجول وغير اجتماعى ومنطو ويعانى من كثرة زيجات أمه فحسب، سوزان نجم الدين أفلتت منها أخطاء في اللهجة المصرية فى كثير من المواقف، بينما كانت سوسن بدر راسخة كالمعتاد، فى مشهد مؤثر تشرح لابنها سر تعدد زيجاتها، تزوره كشبح بعد وفاتها، هذه العلاقة  منحت البسطاء بعدا إنسانيا جميلا  لا نجد مثيله عند الأغنياء أو أهل السلطة.

فى فيلم "طيور الظلام" الذى كتبه وحيد حامد،  يقول عادل إمام متأملا:" البلد دى اللى يشوفها من فوق غير اللى يشوفها من تحت"، وفيلم "قط وفار" رغم هزله وسخريته ليس فى جوهره إلا صورة للبلد من فوق، وللبلد من تحت، وتظل دوما لعبة القط والفار مستمرة بين أهل القمة وأهل القاع، ليس هناك ما يعبر عن ذلك أفضل من تعليق لآحد سكان الحارة عندما قال إنهم لو حضروا العزاء فى قصر الوزير، فلن يعود نصفهم الى منازلهم، ولكن الغلابة قادرون، مثلما شاهدنا فى فيلم "آى آى" ومثلما شاهدنا فى "قط وفار"، على انتزاع جنازة رسمية فخمة بالحيلة والذكاء، قادرون جدا لو أرادوا، بل إنهم يستطيعون أن يحولوا عيد الحب أحيانا الى عيد للإنتصار! 

عين على السينما في

23.01.2015

 
 

جميل راتب: أجمل قصة إنسانية وفنية ممكن أن تسمعها

محمد الوزيري

جميل راتب.. إنسان رحب، وسيم، شجاع في إبداء رأيه، ممثل خاص كبير الموهبة، مشغول بنفسه وليس بانتفاد الآخرين أو الحُكم عليهم، وبالتأكيد رجلٌ نبيل.

لن أكون مُبالغاً لو قُلت إن ذلك رأي -مُعظم- من عرفوه، أو قرؤوا وسمعوا عنه ممن يعرفونه، وأنا واحد من هؤلاء الذين قرؤوا وسمعوا.

من مواليد عام 1926، هناك اختلاف حول يوم الميلاد فبعض المصادر ذكرت أنه يوم 16 أغسطس، والأخرى ورد فيها أنه ولد يوم 26 نوفمبر، قاهري من أب مصري «أبو بكر راتب»، وأم فرنسية، وهذا يفسر أشياء كثيرة وكثيرة في رحلة حياته -التي نسرد هنا جزءاً منها- أطال الله عمره في صحة وصفاء.

درس في إحدى المدارس التي أقامتها واحدة من الإرساليات الفرنسية في مصر؛ حتى حصل على شهادة الثانوية العامة أو التوجيهية كما كانت تُسمى، دخل بعد ذلك مدرسة -كلية- الحقوق الفرنسية بالقاهرة، وهنا تختلف المصادر مرة أخرى؛ فبعضها يذكر أنه درس فقط لمدة عام واحد في هذه المدرسة/ الكلية، وبعضهم الآخر يقول إنه أنهى دراسته كاملة فيها، تحصّل بعد ذلك على منحة لدراسة العلوم السياسية في باريس، لكن قبل باريس هناك وقفة؛ فجميل راتب أحب التمثيل منذ كان في بلده مصر، لكنه لم يستطع أن يمتهنه؛ بسبب صرامة أسرته المحافظة والثرية، وكان ذلك من جهتي الأب والأم، حتى في المرة التي استطاع أن يفلفص فيها من سيطرتهما، وقام بتمثيل أحد الأدوار صغيرة المساحة -فقط مشهد واحد- في فيلم الفرسان الثلاثة 1941؛ لم يتركه والداه في حاله، وتم منعه من التمثيل بشكلٍ تام، وطلبا من المخرج حذف ذلك المشهد الذي يظهر فيه ابنهما ذو الـ15 عاماً.. وبالمناسبة الفيلم كان من تمثيل: فؤاد الجزايرلي، عقيلة راتب، إحسان الجزايرلي، فردوس محمد، فؤاد شفيق، محمد الديب، حسين المليجي، وبشارة واكيم، حوار: بديع خيري، سيناريو وإخراج: توجو مزراحي.

نعود إلى باريس وأيام وليالي باريس.. من يحمل هذا الشغف لفن التمثيل وهو ابن الـ15 عاماً، ويجد نفسه وحده مسؤولاً عن نفسه ومصيره؛ من الطبيعي أن يعاوده الحنين والأمل، وهذا ما منحه جميل راتب لذاته قبل ما تحمله له باريس، فقرار التوقف عن دراسة مضمونة مدفوعة الأجر لا يمكن أن يكون سهلاً على ابن الذوات هذا، لكن هذا ما حدث؛ فتوقفت فلوس المنحة، وفلوس الوالدين والأقربين؛ مما دفعه إلى العمل أثناء دراسته في إحدى مدارس التمثيل في عدة شُغلانات مثل: نادل في مقهى، حمال وبائع في سوق الخضار، مترجم، وأحياناً ممثل في أدوار صغيرة للغاية.

يقول عن نفسه في تلك الفترة وما تلاها: ويومًا بعد يوم، أصبحت معروفًا كممثل، وهكذا أكملت مشواري، كانت الخطوات الأولى صعبة في البداية، ومع إصراري، بدأت أهدافي تتحقق تدريجيًا.. وصار جميل راتب واحداً من أبرز ممثلي الكوميدي فرانسيز، وما أدراك ما الكوميدي فرانسيز.. وللتعرف على قيمة وأهمية الكوميدي فرانسيز في تاريخ الثقافة الفرنسية وحركة المسرح في العالم، أحيلك إلى ما هو مكتوب في موقع المعرفة، والذي جاء فيه: تأسس الكوميدي-فرانسيس بأمر من الملك لويس الرابع عشر في 24 أغسطس 1680 لدمج الفرقتين المسرحيتين الوحيدتين في باريس، في ذلك الوقت، فرقة مسرح گينيگو وفرقة أوتل ده بورگون.. بعد وفاة موليير عام 1673، تأسست فرقة بورگون بعد دمج مسرح دو مارايس وفرقة موليير.. ولهذا يمكن القول إن الكوميدي-فرانسيس هي امتداد لتعاليم موليير، عام 1680، عرض المسرح مجموعة أعمال مسرحية لموليير وجان راسين، والقليل من أعمال پيير كورنـِيْ، پول سكارون، وجان روترو.. بعد سنتين من دمج الفرق المسرحية، تحصل المسرح على منحة ملكية قيمتها 12.000 جنيه كل عام؛ وبعد سبع سنوات بدأت الفرقة المسرحية تحمل الاسم الحالي «ممثلو الكوميدي-فرانسيز».. وجميل راتب راتب واحد من ممثلي الكوميدي فرانسيز.

ومن دون معرفة كل ما سبق كتابته يمكنك أن تعرف أن جميل راتب ممثل أتى قطعاً من المسرح، هذا الصوت المميز جداً، والمتلون بإتقان مُبهر حسب طبيعة الشخصية التي تؤدى، هو شغل مسرح على أصوله، طريقة استخدامه لتقاسيم وجهه والتعبير بكل ذرة فيها، أسلوب تحريك يديه والتعبير بجسده، والاهتمام بوجود Form لكل شخصية يؤديها، كل ذلك نابع من ثقافة ودراسة وممارسة عملية لفنون التمثيل والإخراج المسرحي، يقول هو عن عالم المسرح وعلاقته به: «لم يكن هدفي التمثيل في السينما، ولم أكن أحبّ الوسط السينمائي، وكنت أفضل العمل المسرحي ممثلاً، ومخرجاً، ولكن انتقالي إلى السينما، والتلفزيون حوّل حياتي الفنية، وكسبتُ شعبية كبيرة في مصر».

طيب متى حدثت هذه النقلة؛ سندع جميل راتب يرد أيضاً: «في أواخر السبعينيات، ذهبت إلى مصر كي أُنهي أعمالًا عائلية، قبل ذلك كنت أزورها كلّ سنتين تقريباً، وخلال تلك الزيارة تعرفت على الشاعر صلاح جاهين، كان إنسانًا، وصديقًا عظيمًا، ومن خلاله اقترح عليّ المخرج كرم مطاوع، دور البطولة في مسرحية بعنوان «دنيا البيانولا»، وافقت، وخلال فترة قصيرة انهالت عليّ العروض من أهمّ المخرجين كي أمثل أدواراً مهمة في مسلسلاتٍ تلفزيونية، ومنذ تلك الفترة، بدأت أخطو خطواتٍ جديدة في حياتي».

في منتصف حياته قابل صلاح جاهين فحدث ما حدث، لكن هناك شخصية أخرى دفعت هذا الرجل إلى الأمام بشدة وهي أندريه جيد الروائية المعروفة، التي أخذ يوسف شاهين منها رواية اليوم السادس وبنى عليها فيلماً بالاسم نفسه.

هذه السيدة الرائعة رأت جميل راتب في مسرحية أوديب ملكاً في القاهرة عام 1946 وكان عمره 19 عاماً؛ فنصحته بالذهاب إلى باريس ودراسة المسرح لصقل موهبته المتوهجة وهذا ما حدث.. هذه مرة من ثلاث مرات فلفص فيها من سيطرة أهله، المرة الأولى ذكرناها أعلاه، وهذه الثانية، أما الثالثة كانت عام 1946 أيضاً عندما شارك في فيلم «أنا الشرق».

في النهاية أريد أن أحكي حكاية بلسان صاحبها الصحفي ماجد عاطف، وقد كتبها الأستاذ حسام السكري في مقاله «ابتسامة جميلة من جميل راتب»، جاء فيه:

«زمان، في مقهى «إكسيليسيور» اللي فى وسط البلد، عيل قزعة يا دوبك لسه داخل الحضانة، راح لراجل قاعد لوحده في آخر الصالة وهاتك يا إزعاج.. أمه قامت تزعق له وتجيبه من قفاه.. الراجل قالها سيبيه يا هانم وفضل يلاعبه فوق النص ساعة.. لا اشتكى، ولا كشر، وطبعاً ولا عاكس الأم.. الراجل ده هو جميل راتب، والعيل أنا، والست تبقى أمي.. وعلى فكرة أنا عندي أربعين سنة».

تمت.

موقع "كسرة" المصري في

23.01.2015

 
 

'خرائط النجوم' فيلم يصور الجانب المظلم من بريق هوليوود

العرب/ كفاح زيني

شخصيات الفيلم سعت إلى الحفاظ على بريقها على حساب الداخل المتعفن، في تقاطع مدهش مع مدينة هوليوود اللامعة التي تخفي المأساة داخلها.

 “على دفاتري المدرسية، على الأشجار، على رمال الجليد، أكتب اسمك: الحرية”، مطلع القصيدة التي كتبها الشاعر الفرنسي بول إيلوار، أوردها المخرج الكندي ديفيد كرونينبيرغ على لسان شخوص فيلمه “خرائط النجوم”؛ شخوصه القتلة، المجانين، مرضى السرطان، ومرتكبي سفاح القربى، لنكون أمام تناقض يستثير معاني جديدة.

الأحرف البيضاء العملاقة على تلة هوليوود، تترك أثرها الرمزي في خيال من يعبر “طريق موهولاند” الواصل إلى المدينة، لترتسم الأضواء والشهرة والحلم في خيال العابر، لكن وراء ذلك في أزقة هذه المدينة، هناك المأساة وحقيقة اغتراب الشخوص.

تصل “أغاثا” ذات الـ18 عاما (ميا واسيكوسكي) إلى هوليوود، عائدة من فلوريدا حيث بقيت في مصحة عقلية لـستة أعوام، نتيجة إحراقها منزل عائلتها واعتدائها جنسيا على أخيها “بنجي” ذي الـ13 عام.

وكون بنجي نجما هوليووديا، فعائلته المكونة من “الدكتور ستافورد” (جون كوزاك)، أخصائي علم النفس ذي الشهرة الواسعة، وزوجته “كريستينا” (أوليفيا ويليامز) يحاولان إبعاد أغاثا عن العائلة منعا لأي حالة تشوّه أو عرقلة لمسيرة النجم الطفل، إلاّ أن هذين الزوجين هما في الأصل أخوان عقدا قرانهما دون معرفة بذلك.

“أغاثا” المشوهة نتيجة حادثة الحريق تعمل لدى إحدى ممثلات هوليوود “هافانا” ذات الخمسين عاما، تقوم بالدور جوليان مور، التي حصلت على جائزة أفضل ممثلة في مهرجان كان 2014 عن دورها في هذا الفيلم، وتخضع للعلاج لدى الدكتور ستافورد، نتيجة هلوسات تتعلق بأمها التي كانت إحدى نجمات سينما هوليوود، وماتت حرقا لسبب لم يتم الكشف عنه بشكل مباشر، إلاّ أنه يبدو متعلقا بـ”هافانا”.

تتقاطع رمزيا قصة كل من نجمي الفيلم “هافانا” و”بنجي” اللذين ينتميان إلى جيلين مختلفين، فكلاهما يرى أشباحا ويضيع في الهلوسات، فهافانا ترى شبح أمها، وكذلك بنجي يرى شبح طفلة قضت بالسرطان قد التقى بها قبل وفاتها بأيام في المشفى، إلاّ أن المفارقة تكمن في أن الشبح يتحدث بلغة أخته المشوهة.

النجمان يخوضان تجربة سينمائية تتعلق بحياتهما، فهافانا تقوم بدور في فيلم كانت قد أدّته أمها، وبنجي يؤدي شخصية نجم سينمائي في أحد الأفلام، والاثنان يبرزان صفات هوليوود (الاغتراب، الغرور)، ومصير كليهما تحدده “أغاثا” التي يتقاطع تشوهها الخارجي مع تشوههما الداخلي.

إذ أنها تقتل “هافانا” بعد أن أغرمت بصديقها سائق الليموزين، وتعلن زواجها “الرمزي” على أخيها الذي قتل أحد الممثلين الأطفال في الفيلم الذي يؤديه نتيجة هلوساته، أما أمهما فقد انتحرت حرقا وتوفي والدهما نتيجة هذه الصدمة.

أغاثا المشوهة نتيجة حادثة الحريق تعمل لدى إحدى ممثلات هوليوود "هافانا" ذات الخمسين عاما، تقوم بالدور جوليان مور

نرى ماضي هافانا يتكرر في عائلة بنجي، كل شيء مُعاد، أشباح الماضي حاضرة دوما والجميع مصيره الموت، إذ أن المأساة تلتهم الشخوص التي تتخبط في معاناتها النفسية، حيث انزاحت إنسانيتها على حساب أدوارها في مجتمع النجوم، وقد تمّ حذف كل رغبة داخلية وكل تفصيل حياتي على حساب تكوين أيقونات تلائم عالم البريق في هوليوود.

شخصيات الفيلم الذي كتبه “بروس واغنر” كل أفعالها كانت في سبيل الحفاظ على بريقها على حساب الداخل المتعفن، في تقاطع مدهش مع مدينة هوليوود اللامعة التي تخفي المأساة داخلها.

شخوص الفيلم البراقة تمارس القتل وسفاح القربى -ولو كان مجازيا-، هي شرّ خالص وتعيش في عالم لا يعرف سوى الشر، فكل دوافعها توحدت في سبيل الحفاظ على المكانة، وكل شيء مبرر في سبيل ذلك، لتسجن في أمراضها النفسية، ولتموت بالتالي حرية التعبير عن دوافعها الإنسانية، هذه الحرية التي تردّدت على لسان “أغاثا” طيلة الفيلم.

عام 2001 شارك المخرج الأميركي ديفيد لينش بفيلمه “طريق موهولاند” في مهرجان كان، وكان الفيلم عن هوليوود المتعفنة من الداخل، وهو يروي قصة فتاتين تحلمان بالشهرة، جاءتا إلى أرض الميعاد “هوليوود” لتحقيق ذلك، إلاّ أنهما لم تحققا الشهرة وسقطتا في فخ هوليوود، لتتضح معالم المدينة المليئة بالشر والقتل وصراع الديوك.

ربما يتقاطع فيلم “خرائط النجوم” مع الفيلم السابق، خاصة أن الفيلمين من نوعية “السايكو”، إلاّ أن كرونينبيرغ لم يصور أفرادا أرادوا المجد فقتلوا، بل صور أفرادا نالوا المجد وماتوا أثناء سعيهم للحفاظ عليه.

العرب اللندنية في

23.01.2015

 
 

الصوم الأول.. السينما الأولى

لطيفة باقا

الطّفولة باعتبارها مجموعة من المرّات الأولى، تأخذ غالبا شكل تلك البدايات التي نستهل بها مرورنا القصير بهذا العالم. هي دهشة مكثفة، تظلّ نائمة في ذاكرتنا وكلما استدعيناها تصعد على السطح بالطراوة نفسها وبطعم الحنين ذاته.

ذكرى الصوم الأوّل هي إحدى أهمّ «المرّات الأولى» التي نجد جميعا متعة كبيرة في استحضارها، إنّها التحدّي الأوّل والمحاولة الجدّية الأولى في مسار محاولاتنا الكثيرة للانتماء إلى عالم الكبار، انتماء ياما أصرّت أجسادنا الصغيرة على تكذيبه...

صُمت لأوّل مرّة في سنّ السابعة، أو ربّما سنّ الثامنة...كلّ ما أتذكره هو أنّها كانت عطلة مدرسية طويلة وأنّ الجوّ كان حارّا وملابسي متّسخة وحلقي كان ناشفا وأنّ الزمن كان جامدا لا يتحرك في فضاء حيّنا الشعبي.

حدث ذلك، كما هي العادة لدى أغلب الأطفال المغاربة، في ليلة السابع والعشرين من رمضان، وهي ليلة مباركة ليس فقط بسبب دلالتها الدينية، بل أيضا بسبب سلوك الكبار تّجاه الصغار الذين سينجحون في إتمام يوم صومهم حتّى أذان المغرب بما يعني أنّنا سنحظى بثوب جديد وأنّنا سنُرفع فوق الدولاب (أو السلم أو الدرج) ويُقدم لنا تمر وحليب قبل أن يتمّ إنزالنا للالتحاق بمائدة الإفطار مع باقي العائلة. كلّ هذا وسط نظرات الإعجاب التي يوجهها إلينا جمهور طيّب يقدّر المجهود الجبار الذي بذلناه ونحن نمتنع عن الأكل و الشرب لمدّة يوم كامل.

بطولة الصوم، كنا ننال من خلالها نحن الانتهازيين الصغار بعض الغنائم المادية (هدايا، حلويات ونقود) والاجتماعية (بأن يحسب لنا حساب بين الأقران) وعاطفية (بأن نحظى بقبل إضافية من أمهاتنا وجاراتها)...هذا الصوم الكبير على صيغة النصر الكبير، كانت تسبقه محاولات صغيرة وفاشلة، محاولات كنا نخوضها فيما يشبه عثرات ما قبل الخطوة الأولى لدى الطفل الرضيع: صيام لا يتجاوز «تخييط» بعض الصباحات ببعض العشيات من أيام أخرى، بدون التدقيق في عدد الساعات التي قد لا تلامس سقف يوم صوم كامل من أيام رمضان.

كنت أعلم بأنّ يوما كاملا بلا أكل ولا شرب لم يكن أمرا صعبا فحسب، بل لم يكن رهانا مضمونا بالأساس، لهذا السبب سوف أصرف ذلك اليوم المشهود بأكمله في اللعب مع رفاقي الصغار في الحارة. لعبنا جميع الألعاب التي تجعلك تنسى الوقت والجوع والعطش... وعندما بدأت أولى علامات انسحاب الشمس الشريرة من سماء حيّنا بما يدل على اقتراب موعد الإفطار، أذكر أنّني صعدت إلى منزلنا في حالة مزريّة (تلك الحالة التي تعني أنّ وليمة عصا في انتظاري) وعلى خلاف العادة لم أتلق أيّ عقاب، بل فقط خضعت لمحنة الحمّام مع الفرك الشديد الذي كانت تجد فيه أمي ما يشفي غليلها.

تلك «المرّة الأولى» ستظل «مرّة أولى» إلى الأبد. ستظل بطولة من البطولات الصغيرة التي تعزّز ثقتنا بأنفسنا وتجعلنا نندمج في النسيج العام...

ثمّ إنّ صومي الأوّل كان فرصة أولى لاكتشاف مفهوم الجمهور، فقد كانت هناك عيون تنظر إليّ بحب وأنا «أفرّق» صيامي مقرفصة فوق دولاب الملابس في غرفة المعيشة...

الآن، فقط أكتشف أنّ جمهوري الأوّل كان يتكوّن من أبي وأمي وإخوتي...

إذا كنت تحب الحياة فاذهب إلى السينما

السينما كان اسمها «سينما لوبيرا»... وكانت على بعد ربع ساعة فقط على الاْقدام من بيتنا بسلا. بعض الإشاعات كانت تقول ان هناك قاعات أخرى بأسماء أخرى في المدينة القديمة أو خارج الأسوار، كما كان هناك من يتحدث عن سينما اسمها الملكي بالرباط، تعرض أيضا التاريخ والجغرافيا (هندي كراطي) وسينما مارينيون وسينما رونيسانس. وسيصل إلى سمعي لأوّل مرة الحديث عن قاعة «الساتيام آر» التي ستتحول في ما بعد إلى نقطة لقاء للمواعيد الغرامية بالنسبة لشباب الأحياء البعيدة الذين تلفظهم الحافلات العمومية خلف مسرح محمد الخامس... لكن علاقتي الأولى بالسينما كان اسمها بالتأكيد لوبيرا.

أيام الجمعة كنت على موعد مع الأفلام المصرية برفقة أختي... أفلام عبد الحليم حافظ وشادية وأفلام بروسلي و «لافييفر دو سامدي سوار» مع ترافولتا. اكتشافي لسينما الفرجة الرومانسية وسينما الحبّ والرقص والفرح وسينما البطولة والكارطي سبقت بكثير اكتشافي للأفلام المعروضة صباح يوم الأحد بالنادي السينمائي. اللحظة الفارقة كانت يوم سيسألنا أستاذ الفيزياء عمّن يريد اقتناء بطاقة «سيني كلوب» كان المقابل هو 30 درهما، رفعت اصبعي وأنا لا أعلم بعد إن كان والدي سيقبل أن ينفحني هذا المبلغ مقابل أمر لا دخل له بالتحصيل الدراسي.

في سيني كلوب سوف أتعلم أنّ الأفلام تقول أكثر مما يظهر لنا في الشاشة الكبيرة وسأتعلم أن «أقرأ» الأفلام وأفكّ شفرة الرسائل التي تبعثها الصورة، ما زلت أتذكر أنّ أحدهم قال إنّ لقطة الطيور تعني الحرية، أحببت الحرية وسينما الأحد وأصبحت أفضلها على سينما الجمعة. اكتشفت الثورة والفن والجمال في الكتب وفي القاعة المظلمة أيضا وكنت مثل كلّ عشاق السينما على موعد مع الأفلام الخارقة صباح كلّ أحد... أتذكر الآن الفيلم الصيني «المعلمة الصغيرة»، وأتذكر كيف غادرت صالة العرض وأنا أكاد أطير في البهو الواسع للوبيرا حيث أفيشات الأفلام وصور نجوم السينما. ذلك الأحد بالتحديد سوف يتوقف الموعد السينمائي لعشية الجمعة برفقة أختي وسيحل محله موعد سينما الأحد صباحا... وكنت أذهب إليه بمفردي.

ثمّ اقتربت نهاية السنة، فدخل الحارس العام فصلنا الدراسي ليطلب منا ملء استمارات الرغبات الخاصة بالتوجيه، ثمّ يخبرنا أنّ هناك إمكانية ثانية للتوجّه إلى مجال السينما والدراسة بفرنسا. رفعت اصبعي بحماسة (الحماسة نفسها تقريبا التي رفعت بها اصبعي عندما سألنا أستاذ الفيزياء عمّن يريد بطاقة نادي السينما)، وأخبرت الحارس العام وسط ضحك التلاميذ أنني أريد أن أصبح مخرجة .

دراسة السينما كانت في فرنسا، وفرنسا لم تكن توجد في المغرب، والموضوع كان يتطلب مصاريف سفر وإقامة، ووالدي الموظف البسيط لم يكن مستعدا لذلك. خلاصة القول بدلا من أن أضع «سينما» في بطاقة الرغبات الاستثنائية وضعت «أدباً» في البطاقة العادية.

السينما كانت اختيارا استثنائيا بالتأكيد...وهي حلم مجهض ما زال يراودني من حين لآخر، حتّى أنني عندما أكتب أكون في الحقيقة بصدد تجربة إخراج على الورق: فقصصي أفلام قصيرة لم تر النور بعد، تماما كما كانت تتحول «حجايات» أمي إلى صور متحركة وإلى لقطات أكاد أراها في ظلام الغرفة. السينما بمناسبة هذا البوح، معشوقتي الأولى التي انكمشت في أعماقي كما ينكمش بالون فقد كلّ الهواء الذي كان بداخله، يستعيد البالون أحيانا بعض توهجه المفقود عندما يتحقق نصّ أو «تصدق» كتابة، فيتحرك البالون سعيدا ويرتفع في السماء وعليه تطل تلك العبارة التي تقول:

«إذا كنت تحب الحياة فاذهب إلى السينما».

(كاتبة مغربية)

السفير اللبنانية في

23.01.2015

 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2014)