كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

رؤى نقدية

 
 
 
 
 

آسيا أرجنتو: انتهيتُ مع التمثيل وتبّاً للنظام القائم!

كارلوفي فاري - هوفيك حبشيان

 

استضاف مهرجان كارلوفي فاري في دورته التاسعة والأربعين (4 ــ 12 الجاري) الممثلة والمخرجة الايطالية آسيا أرجنتو (1975) التي اشتهرت بأدوارها في أفلام كبار السينمائيين، من أبيل فيرارا الى أوليفييه أساياس مروراً بكاترين بريا، فطوني غاتليف وصوفيا كوبولا. كانت أرجنتو، وهي إبنة مخرج أفلام الرعب الايطالية داريو أرجنتو، في التاسعة عندما وقفت أمام الكاميرا للمرة الاولى. عاشت طفولة صعبة وقاسية، محاولة الفوز بانتباه والدها، البعيد دائماً، المنشغل أبداً. لم يلتفت لموهبتها الا عندما بلغت السادسة عشرة، فأسند إليها دوراً في فيلمه "أصدقاء القلب".

كتبت أرجنتو الشعر، عزفت الموسيقى، تشبعت بالثقافة المضادة على أنواعها، عانت أشكالاً مختلفة من التهميش والفوبيا، تمرّدت كثيراً، مثلت بلغات ثلاث، ولم تتوانَ عن اجتياز الأطلسي لترمي نفسها في حضن مخرجها المفضل أبيل فيرارا. أخرجت ثلاثة أفلام، آخرها، "سوء الفهم"، عُرض في مهرجان كانّ الأخير خارج المسابقة. في لقاء "النهار" معها، كشفت انها توقفت عن التمثيل وان الحكمة والمصالحة مع الحياة دقتا أخيراً أبوابها.

أنتِ غائبة منذ عشر سنين عن الاخراج السينمائي. كل هذا الوقت كي تنجزي فيلمك الثالث "سوء الفهم"؟

- السبب الأول هو انني تزوجتُ ورزقتُ بطفلي الثاني. الزواج يضعك في حال من الجمود. لكن، مهلاً، لا تعتقد انني كرستُ كلّ وقتي للاهتمام بطفل. أجريتُ الكثير من الأبحاث. ثم، كانت فترة انتقالية في حياتي رحتُ أتأمل خلالها في نوعية الأفلام التي يجب ان أنجزها. نضجتُ على المستوى الانساني، وصارت لديّ رؤية اخرى للسينما والحياة. ابحاثي لم تتمحور على السينما فحسب، بل شملت الموسيقى والأدب. هكذا عملتُ دائماً. اعتبر ان الفنون كلها تجتمع لبعث الوحي فيّ. قد أستلهم من كتاب أو من أغنية أو من حوار أو من غرافيتي على جدار. سواء مثّلتُ أو أخرجتُ، أشعر دائماً بأنني وسيط. هناك شيء أهم وأقوى مني يجري تناقله من خلالي. العمل الفني، ولا سيما السينمائي، خلافاً لما يشاع، لا ينتمي إليَّ فقط. في السينما، أحاول ان انسى ما اعرفه وما تعلمته طوال سنوات عملي. الدروس التي تعلمتها تجعلني، بلا شكّ، أكثر ثراء كوني أمتلك حداً أدنى من الفضول، ولكن أحاول ان أرميها خلفي طمعاً بتجاوز ما أنجز من قبلي. ليس هدفي البتة ان أخرج فيلماً "على طريقة فلان"، عملي لا ينطوي على غمزات لأعمال خالدة في سجل السينما الايطالية، كما قلت سابقاً، أستزيدُ ثم أفرّغ، وما يبقى فيّ بين المرحلتين هو السينما التي أنجزها.

هل هناك أفلام عن الطفولة أحيت فيك الرغبة لانجاز هذا الفيلم؟ للتذكير، بدأتِ مسيرتك وأنت ممثلة طفلة...

- تماماً. بصراحة، أحبّ العمل مع الأطفال. هناك أفلام لا يمكن أن لا تذكرها عندما نتكلم عن سينما المراهقة أو الطفولة، من مثل "الحياة الماجنة" لفرنسوا تروفو، وطبعاً فيلم "سوء الفهم" للويجي كومنتشيني، الذي أستعرتُ منه العنوان، حطّم قلبي حين شاهدته للمرة الاولى طفلةً. هناك ايضاً "أولاد الجنة" لمارسيل كارنيه. آه، هناك ايضاً شريط ألهمني كثيراً هو "خارج الأزرق" لدنيس هوبر. العمل مع الأطفال أسهل لي من العمل مع الكبار. فيلمي ما قبل الأخير، قبل عشر سنين، كان مع الأطفال، وفيلمي المقبل بطلته مراهقة. منذ سنوات وأنا اعلّم التمثيل للصغار. حتى في الحياة، أجد سهولة في التواصل مع الأطفال، كونهم مباشرين. اذا عاملتَ الطفل بنزاهة، فسيكون نزيهاً معك. الأطفال لا يزالون يملكون شيئاً نفقده نحن الكبار مع الوقت. وهذا الذي فقدناه شيء مقدّس، قوة عظمى. عالم الاقتصاد والصناعة الذي نعيش فيه انتشلنا من الحلم وجعلنا ماكينات. لم يعد لدينا هذا الشيء الطفولي في دواخلنا. رغبتي في العمل مع الأطفال لعلها تأتي من هنا. تكاد تكون عملية تطهير لذاتي.

كيف عملتِ معهم؟

- لا أعمل استناداً الى السيناريو. تنطلق أساليبي من الرغبة في أن يتعرف أحدنا إلى الآخر. قبل التصوير، واظب هؤلاء الأطفال على زيارتي والبقاء في منزلي لفترة من الوقت. كانوا يأتون من دون أهاليهم يوم الجمعة ويغادرون الأحد. فقط هم الـ12 وأنا. هكذا تعارفنا.

هذا الفيلم أقرب الى ذوق الجمهور العريض من فيلميك السابقين، وأيضاَ أقل صعوبة. هل انت مدركة لذلك؟

- (ضحك). لم أفكر بهذه الطريقة، وإن كان صحيحاً ما تقوله. فيلمي الأخير كمخرجة، كنت في الثامنة والعشرين عندما أنجزته. كنت غاضبة ومتمردة واشعر أن العالم أجمع لا يفهمني. كأنني أنجزتُ "سوء الفهم" كي لأنتقم لماضيّ وليتبدد هذا الشعور في داخلي. في غضون ذلك، تغيرتُ وصرتُ شخصاً آخر، بتُّ أقبل ما لم أكن أتقبله في ما مضى. ولكن، مرة أخرى أردد، لم أفعلها عمداً. لم أخطط لفيلم يكون أكثر انفتاحاً على الجمهور العريض، مع ايماني بأن الخط الفاصل بين السينما الفنية والتجارية رفيع جداً.

ولكن، على الرغم من بلوغك مرحلة أخرى من النضج، ارى انك لا تزالين تلبسين تي شرت "تباً للجميع" (فاك افريوان").

- (ضحك). أعتقد ان من الضروري ان نستمر في رفع أصواتنا ضد الجهلة. أقصد أؤلئك الذين يتجاهلون أساليب حياتية اخرى، ثقافات اخرى. في هذا المعنى، نعم: تباً لهم وللجميع! تباً للذين يشعرون بالفخر لأنهم لا ينظرون الى أبعد من باحة منزلهم. تباً للنظام القائم وتباً للسيستام!

ما المكتوب على ذراعيك؟ هل هو بالبرتغالية؟

- نعم. "حقيقة وثبات". هاتان الكلمتان تعنيان لي الكثير، وللأسف لا أستطيع شرحهما الآن. أحيا من خلالهما. سقط عليّ هذا الوحي قبل أن أبدأ بتصوير فيلمي الأخير، وعندما كنت أدرس عن إحدى الثقافات القديمة المنقرضة. كتبتهما بالبرتغالية لأنها من غابات الأمازون. هذا محفّزي الآن. علّمني ان ما يجب ان أكونه ليس بالضرورة ما يمكنني ان أكونه. تعلمتُ أن اتخلى عن فكرة العيش في الخوف. انها فكرة حولتني كثيراً. وهذا الفيلم هو ثمرة التحول الذي شهدته حياتي. لذا، أريد ان أعتبر ان هذا أول فيلم في حياتي، كونه حوّلني بطريقة جذرية من شخص الى آخر.

للمناسبة، ما رأيكِ بالتيارات النسوية التي تستعين بالعري لايصال صوتها؟

- كمرأة، لا مشكلة لي مع العري. لكن كلّ شيء يتوقف على النحو الذي يُستخدم به والهدف الذي يخدمه. المرأة لا تزال محل رغبة وكبت في عالمنا. اشبّهها بمستوعب فارغ يرمي فيه البشر فانتازماتهم. استخدام العري سلاح ذو حدين؛ من جهة يتيح للمرأة أن تحقق ذاتها وتؤكد طموحها بتجاوز الأعراف البالية، ومن جهة ثانية يلبي استيهامات الرجل. فهذا الجسد الفاني الذي يغلّف أرواحنا لا يزال نوعاً من تابو الى يومنا. أسأل نفسي كم من التابوهات علينا تحطيمها، وكم من الوقت سيستغرق تحطيمها. التابو يأتي نتيجة خوف معين. لِمَ يخاف الناس من العري؟ سؤال ليس له جواب عندي.

ما الذي يلبي طموحك اليوم، الإخراج أم التمثيل؟

- الإخراج طبعاً. حالياً، توقفتُ عن التمثيل. استكشفتُ انواعاً عدة من الفنّ، كان التمثيل أحدها. حاولتُ الموسيقى والتصوير الفوتوغرافي وتصميم الأزياء. العظيم في الاخراج انه يتضمن هذا كله. فأنت شاعر وتقني معاً. المخرج فنان بـ 360 درجة.

ولكن، هل أنتِ جدية في رغبتك التوقف عن التمثيل؟

-ـ نعم. توقفتُ عن التمثيل في السنة الماضية. حسمتُ قراري. كان التمثيل خيبة في حياتي. الآن أفكر في ما يجب أن أفعله وليس في ما أنا قادرة عليه. لم أكن فرحة كممثلة. سعيدة جداً بكل الأفلام التي لعبت فيها أدواراً، ولكن 30 سنة تمثيلاً، هذا كافٍ. حالياً أشعر بأنه يجب ان أنكبّ على كل تلك القصص التي تصلني وتنتظر مني ان أنقلها الى الشاشة. في هذه المرحلة بالذات، لا يتناسب التمثيل مع حياتي الروحية ومعتقداتي. المستوعب الذي يرمي فيه الناس استيهاماتهم ينطبق ايضاً على التمثيل. لا أريد ان أكون في هذا المستوعب حالياً. الى ذلك، مسألة الايغو مشكلة حقيقية تأكل الممثل من الداخل. لم أعد قادرة على التحمل!

حتى اذا طلب أبيل فيرارا منك العودة عن قرارك؟

ــ مثلتُ في فيلمين له. نحن صديقان. أفضّل ان أكون مساعدة له على أن أمثّل في أحد أفلامه.

ما مكانة الدين في حياتك، هل انت مؤمنة؟

- أؤمن بكلّ شيء. أؤمن بأن الله ليس أنا. هذا اولاً. فهمتُ يوماً ان الله ليس أنا. الله هو الطبيعة، الله هو أنتَ. اذا أنت موجود والطبيعة موجودة، فهذا يعني ان الله موجود. أؤمن بوجود شيء رفعني وحماني طوال حياتي وجعلني أصمد امام الصعوبات. أنا مدينة لهذه القوة العليا. وهذه القوة موجودة في كل الديانات. انه الله بحسب وعيك وفهمك.

هل تجدين انك تنتمين الى تقليد معين مرتبط بالسينما الايطالية؟

- كنت كذلك، لكن الآن لا. لا أخفي ان السينما الايطالية ألهمتني كثيراً عبر الماضي. أتكلم عن سينما الستينات، يومها كانت لنا سينما حرة. الغريب في "سوء الفهم" انه ينتمي جمالياً الى الستينات، أمّا على مستوى الحوادث فهو فيلم ثمانيني. يعتقد المرء للوهلة الاولى انه امام فيلم من نوع علم الخيال. في الحقيقة، لستُ فخورة كثيراً بالسينما الايطالية اليوم. هناك بعض السينمائيين المهمين لكنهم قلة، خلافاً للحركة التي كانت في الماضي. وزارة الثقافة الايطالية لم تعطنا فلساً واحداً لنستثمره في الفيلم، علماً اننا كنا نعرف ان هذا الفيلم سيمثل ايطاليا في الخارج، ولم يكن مصيره ان يولد ويعيش ويموت في ايطاليا كما الحال مع معظم الأفلام الايطالية. ليس لديّ وساطات ولا أعرف هذا او ذاك من السياسيين والمتنفذين، لذا لم أنجح في جذب انتباههم. لكنني فخورة جداً لكوني خارج هذه الحظيرة. لا أريد ان أنجز أفلاماً محصورة في جغرافيا معينة، تهمّني الأفلام المهاجرة.

hauvick.habechian@annahar.com.lb

خارج الكادر - إنقلاب ايليا سليمان

هـ. ح.

فيلم ايليا سليمان يُعَدّ انقلاباً في المشهد السينمائي العربي. هو من الأعمال القليلة التي تتناول الواقع الفلسطيني من دون شعارات او قبضات مرفوعة لتحرير الأراضي المحتلة، مع ان الحوادث تجري في هذه البقعة الجغرافية المتوترة والساخنة. علماً ان هذه الجوهرة ما كانت لتظهر الى العلن لولا الدعم المادي والمعنوي للمنتج الفرنسي المنتحر أومبير بالسان (1954 - 2005). "يد الهية" أحدث فتحاً في مهرجان كانّ عام 2001 حيث نال جائزة لجنة التحكيم، وهذا ما شرّع الأبواب أمام سليمان ليصل الى شريحة أوسع من المشاهدين، فتحول فجأة الى مخرج عابر للقارات، مع انه لم يقدم أيّ مساومة جمالية ولم يلجأ الى ايّ تنازل عن اقتناعاته السياسية. بيد ان العالم استوعب جيداً هذه الرؤية لفلسطين ونضالها المستمر منذ عقود. استند سليمان الى الرواية الفردية التي يتعاطف معها كل انسان، بعيداً من سينما المواقف وردود الأفعال، وارتقى الى لغة بصرية متماسكة عبّر خلالها عن رغباته واحلامه. مع سليمان، ازدادت قيمة الفكرة التي مفادها ان المحلية هي العالمية.

"يد الهية" قصيدة سينمائية استمع سليمان من أجل تأليفها الى همسات القلب أكثر من استماعه الى صراخ المنصات. يا له من موزاييك لوّنه بريشة مغمسة في الفكاهة والعاطفة والخيال والرؤية المتفلتة من كل حدّ. كل شيء يبدأ مع مجموعة شبان يطاردون بابا نويل، قبل ان يطعنوه، في واحدة من اروع اللقطات السينمائية على الاطلاق. في هذه الافتتاحية ذات النكهة الغريبة، عبّر سليمان عن رغبته في قتل الأب السينمائي. في استمرارية لهذا المشهد الرمزي، نكتشف في اللقطة التالية كاهناً يعبر بسيارته زواريب الناصرة موجّهاً شتائمه الى كل من يعترض طريقه، ملقياً عليه التحية. الكاميرا داخل السيارة، ووحده المشاهد يسمع الشتائم. الأب، أبو الشخصية التي يضطلع بها سليمان، حاضر بقوة في الفيلم، فهو بجسده الضحل مرمي على فراش احد المستشفيات في انتظار الموت، او في انتظار ان يقوم مجدداً، تماماً كقيامة البلاد التي يعيش فيها.

اللقطتان، المؤسستان لأسلوبية سليمان، اللتان تسبقان الجنريك، تنبئان المشاهد بأنه يدخل الى مساحة جغرافية لا مكان فيها للأوهام. بهذه النبرة التهكمية، التي يكرسها منذ الدقائق الأولى، يتابع سليمان فيلمه واصفاً الحياة اليومية في الناصرة وجوارها بستاتيكية لا تحتاج الى حوارات كثيرة، ذلك ان سينماه اصلاً لا تؤمن بالكلام. فهذه سينما تصوّر ناساً افتقدوا في ما بينهم الروابط الاجتماعية التي لم يبقَ منها الا الفراغ والملل والضجر، وسليمان حريص على ان يُرينا هذا الجانب بكادرات ثابتة نادراً ما يحتوي الواحد منها على أكثر من شخص. عدم اللجوء الى الكلام، لسليمان نظرية اخرى في شأنه: كونه لم يتبع دراسات أكاديمية ولم يتعلم تاريخ السينما، دخل المجال السينمائي بالسذاجة نفسها التي صنع بها روّاد السينما أفلامهم.

سينما سليمان، التي ترتكز على عوامل الترداد والتكرار والتنويعة، تضع تجليات العنف في المأزق الفلسطيني جانباً، لتصف الحالة التي قد تنتج من هذا العنف عبر مجموع شخصيات حكم عليها ان تتحرك ضمن مسافات ضيقة لا تستطيع تخطيها. لكن التكرار هنا ليس فقط أسلوباً، بل رغبة في خلق شيء تأملي في الصورة. التكرار هو ضرب متوازن. عندما يضرب أحدهم بيده على الطاولة برتابة معينة، وذلك أكثر من مرة، يخلق نوعاً من الايقاع، باعتبار ان الضربة الثانية التي هي بحجم الضربة الأولى تبني على الأولى أو على الصدى الذي يصدر منها.
لا حقائق جاهزة في سينما سليمان، لا في هذا الفيلم ولا في غيره. بالنسبة اليه، يخطئ السينمائي عندما يعتقد ان ما يحصل أمام كاميراه هو الحقيقة المجسدة: المخرج يصوّب الكاميرا الى مكان، بينما تكون الحقيقة احياناً على بعد سنتيمترات. فسليمان يسعى الى خلق امكانات توصل المساحة الشعرية إلى نوع من الدمقرطة، يستطيع المشاهد من خلالها ان يتشارك عملية انجاز الفيلم على النحو الذي يراه، وليس فقط بالشكل الذي يريده المخرج. اما المشهد الختامي الشهير الذي عُرف بـ"النينجا"، فاعتبره جان لوك غودار "استعمالا عبقرياً للمعطيات السينمائية". ومَن يستطيع ان يجادل المعلم السويسري حينما يعطي رأياً في فيلم أو مشهد؟ 

النهار اللبنانية في

10.07.2014

 
 

فيلم الجمال الساكن لماركو بيلوكتشو..

معالجة درامية لقضية مثيرة للجدل

نجاح الجبيلي  

إن الفكرة والشعور لا ينفصلان أبداً في أفلام المخرج الإيطالي "ماركو بلوكتشو " (مواليد 1939). من بداياته المبكرة في الستينات مع فيلمي "قبضات في الجيب" و"الصين قريبة" يتحرى السيد " بيلوكتشو" ، الذي يبلغ من العمر 74 عاماً، أفكاراً عظيمة الشأن والأهمية – حول المجتمع الإيطالي والسياسة والصراع ما بين العقيدة والعلمانية في العالم الحديث والسلطة والمثالية والرغبة الجنسية- بحماس ملتهب وأحياناً ميلودرامي

زوده بلده المحلي بجملة من المواد وتعامل مع مشاهد عامة مؤلمة مثل صعود موسوليني (فيلم فنسير) وإرهاب الألوية الحمراء في السبعينات ( فيلم صباح الخير أيها الليل) بالقسوة الأخلاقية والعاطفة المجردة من السلاح. يدور فيلمه الأخير المصنوع عام 2012 بعنوان"الجمال الساكن" حول"ألوانه أنغلارو" وهي امرأة ماتت في شباط عام 2009 بعد أن بقيت في حالة موت الدماغ لمدة 17 سنة. قرار أبيها لإزالة أنبوب التغذية والسماح لها بالموت ساندته المحاكم الإيطالية وعارضه الفاتيكان ورئيس الوزراء الإيطالي في ذلك الوقت سلفيو برلوسكوني. وكان مصير السيدة أنغلارو قد أصبح موضوع جدل واسع وشديد في إيطاليا

يوظف السيد بيلوكتشيو مناخ هذا الجدال- مثل تجمع محتجين في مستشفى بـ"أودين" واجتماع البرلمان للتصويت على شرعية الطوارئ- لأداء نوع من المسح الشعاعي للجمهورية الإيطالية وبعض من مواطنيها. وهو يتتبع ثلاث مجموعات من الشخصيات التي تعكس صراعاتها الدراما الأكبر المعروضة على شاشات التلفزيون في كل مكان. سيناتور (توني سرفيللو) يجد نفسه واقعاً بين ضميره ومتطلبات ولاء الحزب. ابنته (ألبا رورفاتشر) تلتحق بالمحتجين على حق الموت وتعقد علاقة رومانسية مع شاب من الجانب الآخر. ممثلة (إيزابيل أوبير) تتبع قصة أنغلارو بينما ابنتها تضطجع في حالة إغماء. طبيب شاب (ميشيل ريودينو) يحاول أن ينقذ مدمنة (مايا سانا) تريد الموت يأساً.

كل مقطع من السرد يدور حول قضايا تثيرها قضية أنغلارو وأحياناً تهبط بضجة عالية بينما ترتفع الأصوات وتتخذ الأوضاع. وكما يحدث في غالب الأحيان في الأفلام ذات الحبكات المزدوجة ثمة مشاكل في البناء. القوة العاطفية لمشاهد ومواقف محددة تضيع في فوضى التفاصيل

لكن إذا كان فيلم "الجمال الساكن" لا يصنف ضمن أفضل أفلام السيد "بيلوكتشيو" فإنه مع ذلك يظهر نفسه أحياناً في أفضل أعماله. إذ أن بصره ، بسبب الجمال الكامن واللامعقول الواضح للحياة الإيطالية، يبقى حاداً كما هو الحال في تذوقه للأداء الحي. وكادره ،الذي يضم أحسن الممثلين الإيطاليين اليوم (إضافة إلى السيدة أوبير التي لا تضاهى)، لا يبعث على الملل أبداً حتى لو كانت القصة غير مقنعة قليلاً.

المدى العراقية في

10.07.2014

 
 

فيلم سوني "22 جامب ستريت" افضل فيلم كوميدي لهذا العام

ترجمة: ابو الحسن احمد  

بعدما شقوا طريقهم معا عبر المدرسة الثانوية (مرتين)،مرة كطالبين ومرة كشرطيين متخفيين، و مع التغيرات الكبيرة التي تنتظر الشرطيان شميدت (جوناهيل)، وجينكو(تشانينج تاتوم)،عندما يستأنفان مسيرتهما كشرطيين متخفيين في عملية سرية في كلية محلية، يلتقي جينكو بشخصية مشابهة في فريق كرة القدم، بينما يخترق شميدت مجالا لفن البوهيمي، وهنا يبدأن في التساؤل حول مصير شراكتهما. الآن ليس عليهم فقط حل القضية–بل عليهم معرفة ما اذا ستكون بينهما علاقة ناضجة. فاذا استطاع هذان البالغان (غير الناضجين) ان يتحولا من طلاب الى رجال فأن الكلية ربما يمكن ان تكون افضل تجربة سيمران بها.

و"22 جامب ستريت" هو فيلم بوليسي كوميدي من بطولة جوناهيل وتشانينج تاتوم، تصدر شباك التذاكر في بدايته، وللأسبوع الثاني على التوالي أثبت هذا الفيلم الأقل تكلفة في انتاجية قدرته على التفوق في مبيعاته على فيلم ذو ميزانية انتاجية ضخمة. "الجزء الثاني للفيلم "21 جامب ستريت" والذي تم انتاجه سنة 2012 من قبل شركة سوني قد بلغت وارداته 57.1$ في الولايات المتحدة و الصالات الكندية. ويكون بذلك قد تفوق على واردات فيلم "كيف تدرب تنينك" من انتاج شركة دريموركز انيمايشن اس كي جي, و الذي عانى من انخفاض يبلغ 11 بالمئة اي 24.35$ في بورصة نيويورك.

من الصعب أن نتخيل فيلم حافل بالاشارات والتنوع كما هو الحال في"22 جامب ستريت"، الى الحد الذي تحبس فيه الأنفاس. فقد شكل فريق العمل المكون من المخرج ينلوردو ميلر، وكاتبي السيناريو مايكلو اورين اوزيل وروثمان، والنجوم تنتظر الشرطيان شميدت (جوناهيل)، وجينكو (تشانينج تاتوم) ، شكل فريقا استطاع ان يخلق اجواءا خاصة بالفيلم وبهم. فالاشارات المتنوعة التي يبثها الفيلم لا تتوقف أو تبطئ ،بل انه يعيش بها في حالة حركة لا تتوقف. فهو يعتمد مراجع خيالية متنوعة، وهذه المراجع السينمائية لكل من"21 جامب ستريت" ،الفيلم والمسلسل، هي مشاريع مختلفة قام بأدائها ممثلوها، وفي كل الاجزاء، مما فرض قيودا على الميزانية تختلف عن الافلام المماثلة، بل أكثر من ذلك بكثير. فمن المرجح ان هنالك الكثيرمن الاشارات التي قد يستغرق اكتشافها جميعا عدة مشاهدات. وهذه الاشارات المليئة بالمواقف هي ليست فقط مصدر للفكاهة في الفيلم. فالكوميديا الخاصة بالكلية هي اسلوب سينمائي فكاهي بحد ذاتها.و"22 جامب ستريت" هوفكرة جيدة حيث يحتضن تماما كل سلوكيات الكلية المسموح اكتشافها في هذه الحقبة. فقد ركز "21 جامب ستريت" على الزمر المختلفة في المدرسة الثانوية التي تؤول الشخصيتين اليها، وهذه المرة تظهر الزمر مماثلة في الكلية، لكنها فريدة بما فيه الكفاية بحيث لا يبدو هذا الجزء كإعادة كاملة لسابقه. ان الشخصيات والتجارب المختلفة التي يؤديها كل من دينكو وشميدت تساهم في تصعيد الدراما بين الشخصيتين.

"في متناول أيدينا نجاح كبير، وانه بالتأكيد بسبب جوناوتشانينج" – قال روريبروير، رئيس شركة سونيللتوز يعفي جميع أنحاء العالم، في مقابلة. فقد كان يتكلم بثقة " تبقى لدينا فصل الصيف وحتى فصل الخريف، وبما في ذلك عيد الميلاد. ذلك هو الوقت المناسب بالنسبة لنا".

كان من المتوقع ان يجلب"22 جامب ستريت"65 مليون دولار في عرضه الاول، وفقالBoxOffice.com. سونيو التي فوجئت بتحقيقه 50 مليون دولار في أول عطلة نهاية أسبوع له.

بالأضافة الى النص القوي والاخراج، فان)22 جامب ستريت(ماكان ليحقق اداءه الحالي لولا اثنين من نجميه :جوناهيل و تشانينجتاتوم الذي يعتبر هذا الفيلم واحد من افضل اعماله كممثل كوميدي، فكونه اخرق تماما، يجعله ملائما جدا للتخفي في البيئة الجامعية للفيلم. فقد برز تاتوم ليصبح قوة كوميدية ضخمة، وسرعان ما اصبح مقاربا لهيل، وهذا يأتي من حقيقة أنه يلعب دور الشخص الواضح بشكل جيد جدا. وكل منهما يكون مضحكا بما فيه الكفاية وبتلقائية، ولكن هيل وتاتو ماستطاعا ان يكونا اكثر اثارة للضحك معا مما هما عليه بشكل منفصل. لديهما كيمياء ممتازة، وسيكون من المؤسف ان لا يعملا معا باستمرار إلى جانب سلسلة جامب ستريت.

وهناك ممثل آخر تميز باداءه في الفيلم هوآيس كيوب. فإن بعض من أطرف لحظات من الفيلم لم تكن ستتفجر لولا قدرته على أن يكون ذلك الشخص المزعج، لكنه مزعج فقط بالنسبة لأولئك المشتركين معه في الشاشة. فعلى الرغم من أن ظهوره على الشاشة اقل من بقية زملائه النجوم، فانه يعوض عن ذلك من خلال استحواذه على كل مشهد يظهر فيه.وايضا يعود بقوة، رغم قلة مشاهد ظهورهم كل من:نيك أوفرمان،بيترستورماير بدور"الشبح" وايتراسيل كصديق جينكو في 

الكلية، امبرستيفنز باعتبارها لا تتعمد الاضحاك، لكنها بخلاف ذلك تمثل حبا رائعا يعترض طريق شميدت.

المدى العراقية في

10.07.2014

 
 

عناقيد الغضب

كمال لطيف سالم  

• تمثيل: هنري فوندا

• جين درويل

• إخراج: جون فورد

هذا الفيلم مأخوذ عن رائعة الكاتب الأمريكي جون شتاينبك الذي حصل عند صدورها على جائزة بوليتزر عام 1932.م توجت بجائزة نوبل عام 1961.

والرواية تدور أحداثها في ولاية أوكلاهوما حيث التحق الكاتب عام 1935 بمجموعة العمال المهاجرين وشاركهم الحياة في أكواخهم ثم سافر الى كاليفورنيا وعمل معهم وعانى من الاستغلال وعندما انجز الرواية اطلق عليها عنوان "أنشودة القتال الأمريكية." والفيلم مثله هنري فوندا وأخرجه جون فورد والفيلم يتلخص في أسرة جود التي تضم ثلاثة أجيال ينتزعها القحط والكساد في مزرعتها في أوكلاهوما فتخرج قاصدة كاليفورنيا في سيارة قديمة يحولونها الى شاحنة وخلال الرحلة المتعبة بموت الجد وأخيراً يصلون الى كاليفورنيا حيث يجدون في انتظارهم الفوضى الاجتماعية والصراع بين العمال وأرباب العمل ويتعرضون لسوء المعاملة والاستغلال والمجاعة. والفيلم بأكمله يأخذ جوا من التعميم والنظرة الشاملة بحيث تأخذ المضادات الشخصية لأفراد أسرة جود ابعاداً اجتماعية وسياسية بل ودينية وتظهر لقطات الفيلم الأراضي الحمراء والرمادية التي أصابها القحط وهي تحت لهيب الشمس ولفح الرياح الساخنة التي تحيلها الى هشيم وترى صغار الفلاحين وزراع القطن يصيبهم الدمار حيث تستولي على أراضيهم الشركات والبنوك وهنا نرى الجميع يصاب بالشلل والموت.

ان هذا الفردوس الذي كانوا يحلمون به ما هو إلا عالم منهار مدمر. والفيلم كما أراده المخرج جون فورد يجري على مستويات مختلفة، فعلى مستوى الشخصيات نرى تأثير الهجرة إلى الغرب على توم وأمه وأخته والواعظ المرتد جيم كاسلي إضافة إلى ظروف الكساد الذي ضرب الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تعتبر جنة الله في أرضه وكانت بالنسبة لملايين البشر من جميع مشارب الحياة في الثلاثينات لم تعد أمريكا جنة إنما صارت أشبه بالجحيم وكان الناس في كل مكان يتساءلون لماذا؟

وكان الناس يسافرون سيراً على الأقدام أو بالسيارات القديمة كمخلفات للإنتاج الكبير باحثين عن الحلم الأمريكي المضيع . وكان فيلم "عناقيد الغضب" في تلك المرحلة التي أخرجها المخرج الأمريكي الكبير جون فورد والذي اخرج العديد من الأفلام المهمة ناهيك عن الممثل هنري فوندا الذي برع في أفلام كثيرة منها "بحيرة البجع" وكانت أخته جين فوندا هي الأخرى قد برزت على صعيد السينما في هوليود.

المدى العراقية في

10.07.2014

 
 

ريتشارد ويليامز.. مبدع "مَنْ ابتكر روجر رابيت"

ترجمة: عباس المفرجي  

حين احتفل رسام الصور المتحركة ريتشارد ويليامز بميلاده الثمانين في شهر آذار كان محط تهليل واسع الانتشار كواحد من أكثـر الشخصيات تأثيرا في صناعة أفلام الكارتون. تمتد مسيرته الفنية من صنع دعايات تجارية صغيرة الى أفلام رئيسية هوليوودية عالية الكلفة، منها فيلم "التقدير للعصر الذهبي" للرسوم المتحركة، " مَنْ ابتكر روجر رابيت " ( 1988 )، فيلم نُسِب الى شكل فني من نشاط يدوي وحيد كان انقضى وقته. 

مستذكرا انتصاراته العديدة – وكذلك بعضا من كبواته البارزة – . يعزو ويليامز الكثير من نجاحه الى القرار الذي اتخذه في نهاية الستينات، حين أنزل بنفسه مرتبته في شركته الخاصة، عالية الربح والحائزة على جوائز تقدير متعددة. في ذلك الوقت، على الجانب الآخر من الأطلسي، كان بعض من صنّاع الرسوم المتحركة العظام لسنوات الثلاثينات والأربعينات بدأوا بالتقاعد. وحين أعفتهم شركتا ديزني وورنر بروذرز من خدماتهم، بدأ ويليامز باستئجارهم. خلال العقود القليلة التي تلت، أصبح معا مديرا ومساعدا لأمثال ميلت كال، مبدع شخصية شير خان، النمر في فيلم " كتاب الغابة " لديزني؛ آرت بابيت صاحب مجد غوفي [ الصديق المخلص لميكي ماوس، وعلى عكس بلوتو هو كلب ناطق ]؛ وغريم ناتويك، الذي صنع أغلب رسوم " سنو وايت "، كما ابتكر بيتي بوب [ شخصية الفتاة الكارتونية الشهيرة في الثلاثينات، وأصلها كاريكاتور عن المغنية هيلين كين ].

أول المستأجرين كان كين هاريس – باغز باني [ الأرنب، بطل مسلسل لووني تونز ] وآخرين – (( الأفضل بين الكل، بشكل يمكن إثباته، )) يقول ويليامز. (( كان في القمة بين رسامي تشاك جونز [ صانع رسوم متحركة ومخرج ومنتج أفلام كارتون ] ويمكنك بطريقة ما أن تكتشف مشهدا لكين هاريس في الفيلم، إذ كان يرسم بشكل أجمل من أي رسام آخر. )) على نحو مناسب، بدأ لقاؤهما الأول بضحك. (( فُتِحَ باب المصعد وما أن خطا خارجه لم أستطع تمالك نفسي، )) يقول ويليامز. (( ’ أجل، أجل ‘، قال هاريس، ’ أنا أبدو شبيها بضبع. ‘ وكان كذلك. كان تشاك جونز هو الذي شبهه بالضبع. ))

في غضون العقدين التاليين، كان ويليامز وفريقه الحالم من الرسامين منهمكين في بعض من أكثر الأعمال تميزا ونجاحا في تلك الفترة. نسختهم عام 1972 من " كريسماس كارول " فازت بالأوسكار، وحاز فيلمهم التلفزيوني، " موهبة زيغي "، على جائزة إيمي. في هوليوود جهّز ويليامز مشاهد التايتل لسلسلة أفلام " بينك بانثر "، وكذلك " من ابتكر روجر رابيت "، وكان من نتيجتها حصوله على جائزتي أوسكار أخريين.

لكن ربما هما المشروعان الآخران اللذان سيحددان أخيرا بشكل افضل العلاقة بينهما؛ المشروع الذي ينجح والمشروع الذي يفشل. الفاشل كان " اللص والإسكافي "، فيلم رسوم متحركة طويل ملهم بحكايات الشعوب الصوفية واستحوذ على فكر ويليامز طوال مسيرته الفنية. من منتصف الستينات وجّه كميات كبيرة من الوقت والمال، وكذلك خبرة المتعاونين معه، في مسار تحقيق طموحه بإنتاج أفضل فيلم رسوم متحركة صُنِع يوما. بعد العديد من البدايات الخاطئة، تمّ أخيرا إبعاده من مشروعه الخاص به من قبل مناصريه في بداية التسعينات. لكن من هذا الحطام الخرِب ظهر انتصار غير متوقع.

جمع ويليامز سوية كل ما تعلمه عبْر السنين واستضاف سلسلة من الصفوف التعليمية العليا في الرسوم المتحركة، التي أدّت في النهاية، في عام 2001، الى نشر كتاب " أدوات البقاء لصانع الرسوم المتحركة "، كتاب هو وسيلة مساعدة تعليمية مميزة لجيل جديد من طلاب وأصحاب مهنة على حد سواء. قبل خمس سنوات، أصبح الكتاب مطبوعا على مجموعة من أقراص الدي في دي، وفي شهر نيسان هذا العام تحوّل الى برامج على الآي باد. 

(( كانت أقراص الدي في دي تطورا واضحا لعرض الحركة، )) يشرح قائلا. (( لكن الآي باد مصنوع لها تماما. كنا حصرنا أفلاما جديدة، وكنا قادرين تماما على التلاعب بالأجزاء الخلفية والأمامية من الرسوم لنرى بالضبط كي نحصل على شيء ما من الحركة. سيكون هذا أداة للناس لدراسة الرسوم المتحركة، وهو أيضا شيء يمكنهم في الحقيقة استخدامه على مكاتبهم. ))

برغم أن توقير ويليامز للمهارات الحرفية الكلاسيكية لصانعي الرسوم المتحركة الأوائل هو جوهر عمله، لكن كان يُنظر اليه دائما بوصفه الحلقة بين العصر الذهبي للرسوم المصنوعة باليد وعصر الديجتال الحالي. كانت هذه الصلة مدركة في بداية صفوفه عندما تسجل على نحو غير متوقع 12 من رسامي بيكسار [ ستوديو أفلام للرسوم المتحركة بالكومبيوتر ]. (( كانوا انتهوا لتوهم من صنع فيلم " توي ستوري "، الذي لم يُطلق للعرض بعد، لذلك لم يكن الانطباع الذي سيتركه معروفا. كنت أعرف أنه أول فيلم مشغول بالكومبيوتر، لذا شعرت بأن من واجبي أن أخبرهم أنني لا أعرف شيئا عن الكومبيوتر. قالوا أن هذا لم يكن السبب وراء تسجيلهم، وفي نهاية الكورس قالوا أن 90% مما تحدثت عنه ينطبق عليهم. يبدو أحيانا كما لو أن كل شيء تغيّر، لكن في الواقع لم يتغير شيئا على الإطلاق. ))

وُلِدَ ويليامز في كندا عام 1933، وتربّى في تورنتو. والدته كانت رسامة صور إيضاحية، وهي نفسها عُرِض عليها يوما العمل في ديزني. (( أخذتني لمشاهدة " سنو وايت " عندما كنت في الخامسة من العمر وقالت لي فيما بعد أنني لم أعد الشخص نفسه أبدا. لا لأنني كنت خائفا مثل كل الأطفال الآخرين، الذين ظنوا أن المخلوقات كانوا حقيقيين، )) يقول هو. (( كنت أعرف أنهم رسوم، وذلك ما سحرني. )) في سن الرابعة عشرة زار ويليامز فعلا ستوديوهات ديزني والتقى والت، (( وربما تعتقد أنها كانت ذكرى واضحة، لكن ليس لي سوى ذكريات غامضة عنها )).

بعد تجربته مع ديزني رمى نفسه في الفن، الذي قاده، لفترة، بعيدا عن الرسوم المتحركة. (( في واحد من الغاليريهات شاهدت قاعة ملأى برسوم رامبرانت، فأجهشت باكيا وقلت ’ سحقا للرسوم المتحركة، هذا هو الشيء الحقيقي. ‘ )) بعد معهد الفن سافر الى اسبانيا حيث عيّن نفسه فنانا. (( كانت المعيشة رخيصة بحيث كان يمكنني العيش سنة كاملة من مجرد بيع لوحة واحدة. لكني لم أكن حقا أرغب بعمل بورتريهات لزوجات رجال الصناعة. وبرغم أني كنت أقنع نفسي بأن الرسوم المتحركة لا يمكن ان يخرج شيء جيد منها، لكنني حقا أردت المحاولة، والرسوم المتحركة باغتتني الى حد ما. وجدت نفسي أقوم بهذه الأشياء الصغيرة المرسومة بتسلسل قصصي ومفكرا في فيلم حول مثالين ثلاثة. ))

في منتصف الخمسينات انتقل ويليامز الى لندن للعمل على ما سيصبح فوزه الأول بجائزة البافتا [ الاكاديمية البريطانية لفنون السينما والتلفزيون ] " الجزيرة الصغيرة "، الذي موّله بالعمل في الدعاية لشركات التلفزيون المنطلقة حديثا. (( عندما أتى جماعة مستر ماغوو [ مسلسل كارتوني كلاسيكي ] لصنع بعض الإعلانات بدأت معهم كمازج ألوان، وفي غضون ستة أشهر كنت أصنع رسوما متحركة وخلال ستة أشهر أخرى كنت أقوم بالإخراج. وتلك غدت حياتي منذ ذلك الحين، عاملا إعلانات تجارية كي أكسب الوقت الذي يمكنني خلاله محاولة الاستمرار بعملي الخاص بي. ))

يصف هو " الجزيرة الصغيرة " بكونه (( مناقشة فلسفية تدوم نصف ساعة، وفيلم لشاب غض جدا، استغرق مني صنعه ثلاث سنوات ونصف وفي المراحل المبكرة ذهبت لمشاهدة " بامبي " [ فيلم كارتون كلاسيكي ] وفكّرت، يا له من هراء عذب. ذهبت لمشاهدته ثانية حين انتهيت من " الجزيرة الصغيرة " فخرجت أمشي على أربع من الذهول. كما حدث مرات عديدة منذ ذلك الحين، أدركت أنني لا أعرف شيئا. كيف فعلوا ذلك؟ الجواب كان أن ميلت كال، وكل أولئك الآخرين العظام، كانوا يعملون فيه. ))

المدى العراقية في

10.07.2014

 
 

«إنقاذ الجندي ريان»...

صورة واقعية عن الحرب

عبدالستار ناجي 

أهم ما يميز فيلم «انقاذ الجندي ريان» لستيفن سبيلبرغ هي تلك المقدرة، لتحويل الصور السينمائية، الى ما يشبه الواقع المعاش، بالذات، مشهديات الحرب التي نفذت بعناية، في محاولة لتقديم صورة مركزة عن الظروف الموضوعية التي تعصف بالجنود خلال الحروب واحترام المعارك.
والشيء الذي لا يمكن نسيانه السبع والعشرين دقيقة الأولى، التي جاءت في افتتاح الفيلم، والتي تم خلالها تصوير عملية الانزال البحري، بكثير من الواقعية التي تحبس الانفاس، والتي تطلب تصويرها عمل لأكثر من ثلاثة أسابيع، لتصوير تلك المشهديات، واعطائها مسحة من الواقعية التي تجعل المشاهد يلتصق في كرسيه. ونستطيع القول، بأن تلك الدقائق 27 هي في حقيقة الأمر اهم ما نفذ عن الحرب وويلاتها ومصاعبها، حيث التقنيات العالية المستوى، في تقديم المؤثرات الصوتية والبصرية لمشاهد المواجهة بين جنود التحالف والقوات الألمانية في النورماندي في شمال فرنسا يوم 6 يونيو 1944.

27 دقيقة لا يمكن تجاوزها، هي اختصار للألم.. والحرفية السينمائية، وايضاً اللغة البصرية، حيث استخدم مدير التصوير العالمي البولندي يانوس كيمنسكي للكادر المتحرك، على طريقة الأفلام الوثائقية، من أجل منح المشهد مساحات من الواقعية، حتى ليعتقد المشاهد انه في حرب حقيقية.

النص الروائي للفيلم يعتمد على مهمة يكلف بها الكابتن جون. اتس ميلر (توم هانكس) برفقة مجموعة قتالية من أجل انقاذ المجند جيمس فرانسيس ريان (مات دامون) الذي فقد خلف خطوط العدو، مع وصول اخبار عن اغتيال ثلاثة من الاشقاء في الحرب، ولهذا تأتي الأوامر من القيادة العسكرية الأميركية لبذل جميع الجهود من أجل استعادة ذلك المجند ولتجاوز كارثة قد تلحق بأسرته والعمل على تخفيف الألم عنها.

تبدأ احداثيات الفيلم في صباح السادس من يونيو 1944، مع بداية الانزال للجنود الاميركان على شواطئ النورماندي، حيث تواجه عملية الانزال بدفاعات شرسة من قبل جنود الاحتلال الألماني النازي.

تمكن الكابتن (جون ملير) من الهبوط وتجميع مجموعته من الجنود لاختراق الدفاعات الألمانية.. عبر مشهديات هي أقسى ما يمكن ان يشاهد الانسان عن الحرب، وبشكل هو الأقرب الى الواقعية، حيث ازيز الرصاص المتطاير.. والجثث.. والاشلاء.. والأجساد المقطعة.. والصراخ.. وكأنها لحظة من لحظات النهاية.

في تلك الأثناء، يتم ابلاغ الجنرال جورج مارشال ان ثلاثة من الاخوة الأربعة من عائلة ريان قتلوا في المعارك وان الأم المفجوعة تتلقى الأخبار عن موتهم في يوم واحد.. وحينما يتم الاستعلام عن الابن الرابع المجند ريان، تأتي الأخبار بانه مفقود في مكان ما في النورماندي... وتكون الصدفة انه مفقود خلف خطوط العدو.. من أجل تعقيد المهمة.

يبدأ (جون ميلر) مهمته مع ستة من ر جاله في رحلة مليئة بالمصاعب وتحبس الأنفاس، الموت أهون من أي لحظة من تلك اللحظات والمخاضات القاسية.

وتتوالى المعارك والمواجهات، حتى تصل الأخبار، بان «ريان» يدافع مع عدد من الجنود عن أحد الجسور الاستراتيجية المهمة في بلدة «راميل»، حيث تدور معارك أخرى لا تقل قسوة عن تلك التي شاهدناها في بداية الفيلم. حتى المشهد النهائي، حيث يقف المجند ريان، بعد ان كبر أمام قبر (جون ميلر) الذي انقذ حياته.. حيث التضحية هي الدرس الأهم في هذا العمل، الذي سيظل من التحف الخالدة في تاريخ السينما العالمية، وسينما الحرب على وجه الخصوص.

شخصياً حينما شرعت بالاعداد لهذه السلسلة، فكرت ان اضع فيلم «انقاذ الجندي ريان» في الحلقة الأولى، لقيمته الفنية وايضاً للمضامين والدلالات التي يؤكد عليها، وهي التضحية من أجل الوطن ولا نصر بدون تضحيات كبرى. في الفيلم عدد من الأسماء البارزة في مقدمتهم توم هانكس (الكابتن جون ميلر) ومات دامون (المجند ريان) وتوم سيزمور وادوراد بيرنز وباري بيبر وادم غولدبيرغ، وفان ديزل وكم آخر من الأسماء.

يقول الكاتب روبرت ودرات، في خلفيات كتابته لهذا العمل، انه في عام 1994، رأى نصباً تذكارياً في بونتي كررنرز، نيو هامبشير احياء ذكرى اولئك الذين قتلوا في الحرب لأهميته في فيتنام، ولاحظ اسماء ثمانية أشقاء الذين لقوا حتفهم خلال الحرب الأهلية الأميركية، ومن هناك استوحى معطيات قصته، مع اسقاط الحكاية على احداث الحرب العالمية الثانية.

وقد أبدى ستيفن سبيلبرغ اهتمامه بالموضوع، بعد ان اخبره بالامر توم هانكس.. حيث قال يومها سبيلبرغ بان أهم حدث خلال المئة عام الماضية كان الحرب العالمية الثانية ولابد من تخليدها واتخاذ العبر والدروس، وبالذات التضحيات الكبرى التي قدمت فكان موضوع تلك الاسرة التي قدمت ثلاثة من ابنائها وايضاً تضحيات الكابتن ميلر لانقاذ الجندي ريان.

عند عرض الفيلم، تلقى الكثير من الكتابات النقدية الايجابية، والاشادات العالية المستوى، وبالذات فيما يخص واقعية الحرب، ونقل صورة هي اقرب الى الواقع، عبر اصعب اللحظات في تاريخ تلك الحرب.

واستطيع القول، شخصياً، بان مشهد الانزال، هو أفضل مشهد معركة في كل تاريخ السينما الأميركية والعالمية لما تميز به من تخطيط وتحضير ونسق فني متطور نفذ بعناية وبحرفية يصعب وجودها.

ونشير هنا الى ان كلفة ذلك المشهد فقط، بلغت «12» مليون دولار، وشارك في تنفيذه اكثر من 1500 مجند.

وضمن الكتيب الذي وزع مع الفيلم عند عرضه رسمياً كانت هنالك مجموعة من المعلومات النادرة من بينها استخدام تقنيات التصوير تحت الماء، واستخدام اربعين برميلاً من الدم الوهمي لمحاكاة تأثير الدم في مياه البحر. حقق فيلم «انقاذ الجندي ريان» نجاحاً فنياً وتجارياً ونقدياً عالمياً.

بدأ عرضه في «2.463» صالة دفعة واحدة يوم 24 يوليو 1988 وحقق «30» مليون في اسبوعه الاول، بلغ اجمالي الدخل في نهاية العروض «481» مليون دولار.

كما ترشح الفيلم لاحدى عشرة جائزة اوسكار وفاز باوسكار أفضل تصوير وافضل صوت وأفضل مؤثرات صوتية ومونتاج وأفضل مخرج لاسم المخرج ستيفن سبيليرغ، كما فاز الفيلم بجائزة الغولدن غلوب كأفضل فيلم. فيلم شديد الحرفية، كيف لا وهو من توقيع المخرج ستيفن سبيليرغ الذي يعتبر احد ابرز صناع السينما، وهو من مواليد 18 ديسمبر 1948، في رصيده كم من التحف السينما كمخرج وكمنتج ومن بينها «لائحة شيلندر» «الفك الفترس» «جاوس» «أي. تي» و«الحديقة الجراسية» وغيرها.

فيلم يذهب الى موضوع الحرب، لا ليقدم الحرب وبطولات الجندي الاميركي، بل ليرسخ قيم التضحيات الكبرى. قيم الكينونة بمستوى التحديات، فتلك المهمة التي يكلف بها، «ميلر» يعلم جيداً بانها مهمة انتحارية، اعتباراً من عملية الانزال العسكري على النورماندي، وصولا الى تجاوز خطوط الدفاعات، واستعادة «ريان» الذي لا يقل بسالة عن اشقائه الثلاثة الذين اغتيلوا وهم يضحون بالنفس من اجل شرف الوطن.

فيلم يشتغل على الشخصيات، بكثير من التحليل والعمق والكتابة المتأنية، وأيضاً عبر كم من المشاهد التي تحبس الانفاس والمواجهات القاسية، لعل ابرزها كما اسلفنا مشهد الانزال، ومشهد الجسر، ومن قبلها مشهديات الجنود وحكاياتهم ومواقفهم.

السنياريست روبرت درودات، الذي كتب العمل، في مسيرته العديد من الأعمال البارزة، ومنها «المواطن» مع ميل جيبسون 2000، والعالم المعظم 2013 و«ثور 2013» ولكن فيلم «انقاذ الجندي ريان» يمتاز بالثراء في الشخصيات والمضامين والقيم في الفيلم يتم استخدام عدة لغات بالاضافة الى الانكليزية هناك الفرنسية والالمانية والتشيكية.

هذا وقد بلغت كلفة انتاج الفيلم «70» مليون دولار من بينها اكثر من «40» مليون دولار اسعار النجوم بالذات توم هانكس ومات دامون. وقد حقق اجمالي دخل وصل الى «216» مليون دولار. بل انه ومنذ الاسبوع الأول لعرضه، استطاع ان يغطي كلفة الانتاج.

تعاونت ستديوهات، بارامونت» في انتاج الفيلم» مع ستديوهات، دريموريكس، التي يمتلكها المخرج ستيفن سبيليرغ. هذا وتم تصنيف الفيلم في قائمة الافلام العشرة الاهم في تاريخ السينما الأميركية، من قبل معهد الفيلم الاميركي في عام 2008.

كما يمتلك الفيلم أكبر عدد من الكتابات النقدية الايجابية حتى ان عدداً من النقاد قام بكتابة اكثر من مقالة عن الفيلم ضمن اكتشافات نقدية ايجابية عن المضامين التي ازدحم بها هذا الفيلم، الذي يتجاوز لعبة الحرب الى ترسيخ القيم الكبرى، ورغم مشهديات الحرب، الا ان الاحداث سرعان ما تهدأ، لتبدأ الحوارات، والشخصيات بالتكشف والتحليل، حتى اننا نتعاطف مع ادق التفاصيل الخاصة باحد الجنود الذين لا يمتلكون لغة المواجهة والشعور بالخوف والجبن.

ويبقى ان نقول.. فيلم «انقاذ الجندي ريان» سينما الحرب بمواصفات ترسخ قيم التضحية الكبرى.

النهار الكويتية في

11.07.2014

 
 

حمزة عوني.. وجوه متعددة للحقيقة

أمــل الجمل 

"حمزة عوني" مخرج تونسي يصعب أن يُنسى اسمه بعد مشاهدة أفلامه، لأنها تترك أثراً عميقاً في العقل والروح، لأنها تُشغل التفكير وتؤرقه طويلاً، وقد لا تترجل بعيداً عنه إلا بعد مرور زمن. الفيلم الأول لـ عوني هو "الحقيقة بالأبيض أو الأسود" 2006 ، روائي قصير، 19 دقيقة و21 ثانية.

 الشريط السينمائي مقتبس عن أغنية للأخوين رحباني. إنه ينطوي على فكرة ذكية، تم تنفيذها بأسلوب بسيط يكشف عن وعي وإدراك، وإحساس مرهف يتكشف في أسلوبه الفني وتفاصيل السيناريو الذي رسمه وكتب حواره بنفسه، بمساعدة كريم رمادي الذي ذكرت عناوين الفيلم (التترات) أنه قام بمعالجة الحوار.

بطل الفيلم رجل أُمي اسمه الهادي، لا يعرف القراءة أو الكتابة، يصله خطاب موجه إلى ابنته أمينة الطالبة بالمعهد من صديق لها اسمه يوسف. تبدأ الشكوك تساور الأب ويطلب من ساعي البريد أن يقرأ الخطاب فيتلو عليه كلمات عن الحب والغرام ولقاءات العشق، عن ليل الحزن الطويل، والعشق المهزوم، عن الشوق والألم المتلازمان.

يكاد الأب يُصاب بالجنون من صدمة المفاجأة. يسير في الطريق كالتائه، وعندما يلتقي بمعلمة ابنته أمام المعهد يطلب منها أن تقرأ له نفس الخطاب فتحكى عن شيء آخر بلغة أخرى، تحكي عن اختلاف القراءة وتبدلها، عن التربية، عن الأشكال والألوان في الكتب والتعريب، عن النظام الفاسد والمؤسسة التعليمية التي تبني شباباً عقولهم فارغة وقلوبهم ميتة. يدب شك آخر جديد في قلب الهادي، أيهما يصدق؟

إنه يريد أن يعرف حقيقة ما في الخطاب، فيذهب إلى مُنجي ذلك الرجل الذي يحيا وسط الأغنام ويهبط إلى البئر دون أن ينسى وضع شمعتين في ثنايا الحجر. يدور العتاب بين الرجلين قبل أن يقرأ منجي الخطاب فنسمع كلمات عن عدم إيمان يوسف، وشكه في وجود الخالق؟ تتحول الشكوك التي تنهش الأب من خوفه من وجود علاقة بين الشابين إلى مأزق آخر، إذ يصاب بالفزع والأرق وينفجر جنونه عندما يعلم أن ابنته التي ترتدي الحجاب لا تصلي.

عندما تعرف أمينة أن أباها تسلم خطابها تخرج للبحث عنه، فيلتقيان في النفق. يسألها: "أنت محجبة لكن لا تصلين..؟ لماذا الحجاب وما قيمته؟!" تسأله عن سر ثورته وشكه فيها؟ فيجيبها: "أنت غرست الشك في، وجعلتني أتجرعه كالسم قطرة قطرة". ترد أمينة: "إذا كنت تفكر فلتصدق أنني أقول الحقيقة". يرد: عندما يصبح للحقيقة أكثر من وجه لا تصبح حقيقة." يقول الهادي ذلك متناسياً، أو جاهلاً بأن كل إنسان يقرأ الحقيقة من وجهة نظره ومن زاويته متأثراً بشخصيته وأفكاره ومعتقداته.

في المشهد السابق تلتقطهما الكاميرا العلوية تعبيرا عن انسحاقهما تحت القلق والتوتر والغضب، وعندما تفتح الفتاة الخطاب وتعلن أنه تم قبولها تنتقل الكاميرا لتصبح في مستوى النظر تعبيرا عن ندية الاثنين. تبقى الكاميرا في مستوى النظر بين أمينة وأبيها طوال عراكهما، لكنها أيضا تبقى مهتزة دليلا على حقيقة عالمهما وعلاقتهما غير المستقرة المفتقدة للثقة. وهو الأمر الذي يتكرر بدلالاته في مشاهد الأب مع رجل البريد ومع المعلمة، بينما يختلف الوضع مع منجي إذ تصبح الكاميرا أكثر ثباتاً واستقراراً وثقة، فرغم العتاب بين الرجلين لكن علاقتهما تشي بثقة ما، وبقدر من الود لايزال باقياً بينهما.

أسلوب الإخراج

يعتمد المخرج حمزة عوني على اللقطات الطويلة نسبياً في ثلاثة مشاهد مع الشخصيات التي تبدو علاقة الهادي بها متوترة، فمثلاً في مشهده مع رجل البريد توجد لقطة طويلة، تستغرق نحو ثلاث دقائق، وهو زمن سينمائي طويل جداً وإن لم يكن المخرج ماهرا في شحن اللقطة بالمشاعر والأحاسيس، في ضبط الإيقاع والزمن النفسي لأبطاله لترهل إيقاع العمل. تبدأ اللقطة من يدي ساعي البريد وهو يفتح الخطاب ليقرأه: "حبي الكبير أمينة...." وتستمر الكاميرا طوال القراءة في لقطة مشهديه واحدة، تروح وتجيء بينهما، تلف من حولهما، أو تقترب من أحدهما لتبتعد عن الأخر، ثم لتقترب من الإثنين مجدداً في لقطة مقربة أو متوسطة، وخلال حركة الكاميرا المتوترة نكتشف العالم المرتبك لكلا الرجلين. 

تسجل الكاميرا أيضاً لقطة طويلة أخرى تجمع الهادي بالمعلمة التي تدعي أنها استقالت، يبلغ طولها ثلاث دقائق و43 ثانية، ومع ذلك جاء الإيقاع لاهث معبراً عن التوتر النفسي للشخصيتين. ثم تأتي إحدى لقطات مشهد عراك الهادي مع ابنته ليقترب زمنها من الدقيقة، بينما لقطاته مع منجي اتسمت بالقصر في طولها الزمني. وتميز الانتقال بين اللقطات والمشاهد بالجمع بين القطع الحاد والصريح أحياناً، أو المزج في ثلاثة مواضع ربما لأسباب مونتاجيه.

الشكوك

الشيطان يختبئ في التفاصيل. وكاتب السيناريو هنا يغرس طوال الفيلم تفاصيل تثير فينا الشكوك، ليس فقط حول القراءات الثلاث للخطاب، لكنه أيضاً يطرح شكوكاً حول الشخصيات نفسها فرجل البريد يبدو وكأنه كذاب، وسلوكه غير مستقيم خصوصاً بعد مضايقته لأمينة في الطريق واقترابه منها بالدراجة ليثير خوفها مما يجعلها تنهره وتنعته بوصف سيء، وربما لذلك فكر في الانتقام منها بادعاء ما جاء في الخطاب، فشخصيته بها لمحة شيطانية وإن كانت تنطوي على مسحة تمنح بعض البهجة والكوميدية في أجزاء من العمل. كذلك المعلمة التي تدعي أنها قدمت استقالتها، فسلوكها يجعلنا نتساءل هل استقالت حقا، أم أقيلت أو ربما طردت؟ الأمر ذاته يدعمه سلوكها بالجري وراء رجل البريد واستحواذها على الدراجة لقيادتها وهي في حالة هستيرية. ومنجي هو الأخر، رغم حالته الهادئة وسكونه الظاهري، ورغم أنه طلب من الهادي أن يتركه في سلام ويذهب لحل مشكلاته بعيداً عنه، لكنه ما أن يبدأ في قراءة الخطاب حتى نتساءل؛ هل حقاً يستقر بداخله سلام واطمئنان؟ فكل شخص منهم لا يقول الحقيقة، وكل منهم يُريد أن يفكر للآخر، بدءاً من الأب الذي يمثل الرقيب على ابنته، مرورا برجل البريد، والمعلمة، والراعي. حتى أمينة نفسها هل حقاً تقول الصدق؟ هل هي أمينة؟ لماذا لم تخبر أباها بحقيقة أفكارها بدلاً من التظاهر بأشياء لإرضائه أو عدم إثارة حنقه.

 الأسماء هي الأخرى تثير الشكوك. فلنتأمل دلالاتها. الهادي ليس بهادي، والمُنجي ليس كذلك بدليل الحالة النفسية السيئة للهادي، والحجر الضخم الذي دوي كالانفجار في قاع البئر في ختام حديثهما. وربما لذلك يختتم عوني شريطه بفقرة تقول: "لن نستطيع أن ندرك خطأنا حفاظاً على شيء من كبرياء الفضيلة فينا.. ربما لاعتقادنا الجازم بأن الحقيقة رهيبة، ونحن في غنى عنها.."  

رمزية العنوان

تتجلى رمزية العنوان على مستوى آخر من خلال الكادرات أو تصميم اللقطات التي اختارها المخرج، فمنذ المقدمة يأتي عنوان الفيلم على غلاف مظروف أبيض موضوع على خلفية سوداء، وتظل الكاميرا تقترب منهما حتى يستحوذا على الكادر بأكمله. كذلك تأطير الكادر وتكوينه في مشهد المشاجرة بين أمينة ووالدها ينطوي على معادل رمزي، فالابنة تقف في النفق متشحة بسواد العباءة والحجاب، ومن خلفها ينهمر ضوء قوي يحمل استعارة على مستويين؛ المستوى الأول معادلاً للعنوان فهي في اتشاحها بالسواد تصبح على علاقة تناقض مع الضوء الباهر في الخلفية فتبدو وكأنها "الحقيقة أبيض أو أسود"... أما المستوى الثاني فيكشف عن رغبتها في الإفلات من الظلمة، والهروب إلى النور وهو ما يحدث عندما تترك والدها وهى في حالة ثورة عليه، بعد غضبها من آرائه، فتخلع الحجاب والعباءة وتلقي بهما في تحد، وكأنها تعلن تمردها وتتركه مهرولة في اتجاه ضوء النهار.  

بقي أن نشير إلى أن المؤثرات الصوتية تسهم في خلق الجو العام للمكان والحالة النفسية للشخصيات بدءاً من صوت دوران عجلة الدراجة، وأنين الحديد الصديء بعجلاتها، مروراً بأصوات نباح كلب عابر من بعيد، وأصوات الأغنام وخرير الماء في البئر، وحركة جمع أوراق الشجر الميتة، ثم صوت محرك السيارة يرتفع وهى تنهب الأرض نهباً. أما الموسيقى فتختفي أثناء المشاهد واللقطات الحوارية، مع ذلك تبدو وكأنها نغمة شعرية محسوسة إذ تلعب دوراً مهما في تقوية الإيقاع، والتعبير العاطفي عن مزاج الشخصيات وشعورها الدفين.

وباستثناء مقطوعة في مشهد لرجل البريد، في مستهل الفيلم، تتركز الموسيقى أساساً على شخصية الهادي، وتظهر فقط في لحظات وحدته وكأنها حالة من المناجاة، وتعبيراً عن حالته الجوانية المشحونة بالانفعالات المتباينة في لحظات مختلفة من الفيلم، ما بين الصدمة والحزن والهزيمة والارتباك والحيرة، وذلك من خلال آلات موسيقية مثل: بزق – كولا – البيانو - والإيقاع المثلث. ثم يختتم حمزة فيلمه بكلمات من أغنية الرحباني: "وين هي الحقيقة؟ أنا بدي أعرف.." فيرد عليه الكورس: "أنت لا تفكر.. نحن نفكر عنك، أنت لا تتدخل.. نحن نتدخل عنك." 

عين على السينما في

11.07.2014

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2014)