كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

رؤى نقدية

 
 
 
 
 

نادية لطفي : اسمي مستوحى من فاتن حمامة 

كتب الخبرهيثم عسران

 

الفنانة نادية لطفي إحدى نجمات زمن الفن الجميل. قدمت العشرات من الأفلام السينمائية المميزة في مسيرتها الفنية التي امتدت إلى أكثر من 30 عاماً.

في لقائها مع {الجريدة}، تتحدث نادية عن دخولها مجال الفن وعن ذكرياتها مع العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، وسبب ابتعادها عن الشاشة مبكراً.

·        هل عارضت أسرتك دخولك عالم الفن؟

رغم أن والدي كان من أصول صعيدية، فإنه تحمّس لدخولي مجال الفن، خصوصاً أنني أحببت الفن منه ومن والدتي، وكل أسبوع كنا نذهب إلى السينما لنشاهد الأفلام الجديدة سواء عربية أو أجنبية. كان والدي يحب مشاهدة الأفلام العربية ووالدتي، بحكم أنها بولندية، كانت تفضل الأفلام الاجنبية. لذا اعتبر نفسي محظوظة بالنشأة في بيئة فنية دعمتني في البداية رغم رفض باقي أفراد عائلتي، فلم تكن النظرة إلى الممثل آنذاك قد وصلت إلى الرقي كما اليوم.

·        كيف جاء دخولك المجال الفني؟

التقيت المنتج الراحل رمسيس نجيب في إحدى المناسبات العائلية وكنت في مرحلة الشباب، فأبدى إعجابه الشديد بي وتوقع لي مستقبلاً في التمثيل كبيراً، بعدما تحدثت معه. وتكررت اللقاءات بيننا إلى أن رشحني للمشاركة في فيلم سينمائي مع المخرج الراحل نيازي مصطفى.

·        هل تتذكرين المرة الأولى التي دخلت فيها موقع التصوير؟

بالتأكيد. كنت برفقة المنتج رمسيس نجيب الذي عرَّفني إلى المخرج نيازي مصطفى في إستوديو الأهرام، وأجرى لي اختباراً أمام الكاميرا وأوهمني أن الأخيرة تصورني رغم أنها لم تكن تعمل، فيما لم أكن أعرف تفاصيل عن الكاميرات. تعاملت بتلقائية مع الموقف، وهذه التلقائية جعلته يرشحني لفيلم جديد كان يحضر له.

·        حدثينا عن الفيلم؟

كان الفيلم يحمل اسم {سلطان} مع الفنانين الكبيرين فريد شوقي ورشدي أباظة. ظهرت في دور صحافية تسعى إلى إجراء حوار مع شخص مطارد من الشرطة بمساعدة خطيبها الذي جسد دوره أباظة وظهر في شخصية ضابط شرطة.

·        من اختار لك اسمك الفني {نادية لطفي}؟

اسمي الحقيقي بولا شفيق، وهو اسم لم يكن مناسباً للسينما آنذاك واعتبره الأستاذ رمسيس نجيب لا يليق بفنانة سينمائية جديدة. في تلك الفترة، كان يُعرض فيلم {لا أنام} للفنانة فاتن حمامة وكانت شخصيتها نادية لطفي قد حققت نجاحاً كبيراً، لذا فضل الأستاذ رمسيس أن يسميني نادية لطفي، وأنا أحمل الاسم منذ ذلك الوقت.

·        هل كانت لديك رغبة في الاستمرار في السينما؟

بالتأكيد، وإصراري على النجاح هو الذي جعلني أتمكن من الاستمرار في السينما. أتذكر مقولة الأستاذ يوسف السباعي عندما التقيته للمرة الأولى في العرض الخاص لفيلمي الأول {سلطان} بأن أستمر على المستوى نفسه في الأعمال، وكنت أضع هذه المقولة أمام عيني في كل اختيار أوافق عليه كي لا أندم لاحقاً، لذا كانت خطواتي الفنية محسوبة جيداً ولا يتخللها ما أشعر بالندم عليه.

·        كيف كانت علاقتك بالعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، خصوصاً أنكما تعاونتما في فيلمي {الخطايا} و{أبي فوق الشجرة}؟

عبد الحليم شخصية لا تتكرر، فهو إنسان متواضع وشخص كريم ولم ينس أبداً من وقفوا إلى جواره وساندوه في بدايته، وعلاقته مع أصدقائه كانت متميزة فلم يصبه الغرور رغم النجاح الكبير الذي حققه سواء في الغناء أو التمثيل. وكنت استشيره في أمور كثيرة، وكانت علاقتنا الإنسانية جيدة وأعمالنا السينمائية ناجحة جماهيرياً بشكل كبير.

·        لماذا لم تتعاونا سوى في فيلمين؟

كانت خطوات عبد الحليم حافظ في السينما محدودة بعد النجاح الكبير الذي حققه فيلم {الخطايا}، فكان يسعى دوماً إلى اختيار أعماله والتأني فيها بدرجة كبيرة. وطبيعة الأدوار النسائية في أعماله لم تكن مناسبة لي، إلى أن فوجئت باتصاله بي وترشيحي لبطولة فيلم {أبي فوق الشجرة}، وبسبب إقناعه لي وافقت على الفيلم رغم خوفي في البداية نظراً إلى اختلاف طبيعة دوري فيه عن الأعمال التي كنت أقدمها.

·        ما هو أفضل فيلم لك في السينما؟

قدمت أفلاماً متميزة كثيرة، وأعتز بالمشاركة فيها من بينها {النظارة السوداء}، {أبي فوق الشجرة}، {الخطايا} و{الناصر صلاح الدين}، لكن لا يوجد فيلم محدد أعتبره أفضل ما قدمت سينمائياً.

·        كيف ترين السينما راهنا؟

الأعمال الجيدة أصبحت نادرة جداً، خصوصاً مع انسياق المنتجين والفنانين إلى تقديم أعمال هدفها الربح فحسب، لذا فضلت أن أبتعد بعدما شعرت بالتغيير الذي لم يكن مناسباً لشخصيتي وللمكانة التي حققتها لدى الجمهور.

الجريدة الكويتية في

07.07.2014

 
 

«شباب امرأة»...

شفاعات تفضح إمام على صفحته 

كتب الخبرأحمد عويس 

«أمك باعت البقرة اللي حيلتها علشان تيجي الجامعة ياإمام»، إحدى الجمل التي اعتمدها مخرج الفيلم الراحل صلاح أبو سيف في بداية فيلمه «شباب امرأة» ملخصاً بها حال بطلنا وكيف ضحت أمه لأجل إتمام تعليمه... في السطور التالية نعرض الفيلم برؤية معاصرة.

تجلس الإعلامية ريهام سعيد وبصوت رخيم تسأل عبد الوارث عسر: قتلتها ليه؟! ليصمت الرجل قبل أن تباغته الإعلامية المعروفة بأدائها الاستعراضي: راضٍ عن نفسك؟؟ عارف أنك قتلت نفساً بشرية وبمنتهى القسوة؟

على فضائية أخرى، الإعلامي مفيد فوزي يوجه أسئلته النارية إلى إمام (شكري سرحان): تسمح لي أفتش في ضميرك؟ و... غيرها من أسئلة دفعت إمام إلى الصمت.

فيما تعليقات (comments) متسلطة من {شفاعات} على ما كتبه {إمام} على صفحته الشخصية على موقع التواصل عبّر فيها عن سعادته لخروجة مع أصدقائه، لترد كاريوكا عليه: {مش عوايدك تخرج من غير ماتقولي يا إمام}، ليفتضح أمره أمام الجميع، الأمر الذي يثير سخرية المحيطين بإمام والذين لاحظوا تحميل كاريوكا أغاني عاطفية لعبد المطلب من موقع {ساوند كلاود} على صفحته الشخصية، وهو الأمر الذي لاحظته شادية التي تحب إمام وتنصحه بالابتعاد عن شفاعات في محادثات جانبية كثيرة بينهم  على {الإنبوكس} (inbox).

في فيلم {شباب امرأة}، الشاب إمام (شكري سرحان) القادم من الريف ليدرس في القاهرة، يستأجر إحدى الغرف في منطقة القلعة، والتي تملكها شفاعات (تحية كاريوكا)، تعجب برجولته وشبابه وتحاول غوايته، وتنجح في ذلك فعلاً. ويمضي معها في هذا الطريق ليتعثر في دراسته، حتى يقتلها عسر في النهاية انتقاماً منها وخوفاً على مصير إمام.

يبدأ الفيلم بجملة «أمك باعت البقرة اللي حيلتها علشان تيجي الجامعة يا إمام»، والجملة نفسها في رؤيتنا العصرية للفيلم تصلح لأن يضعها أحد أصدقاء إمام كـ{هاشتاغ» يسخر منه ومن حاله، أو تستخدمها حبيبته (شادية) في محاولة لاستعادته وإعادته إلى الطريق السليم، وهي ذاتها التي ذكره بها حسنين (عبد الوارث عسر) لينصحه بمحاولة التحرر من أسر شفاعات، قبل أن يطالبها بأن «تترك اللجام للحمار الذي يدور في الطاحونة كي لا يكل يوماً، في إيحاء يقصد من وراءه أنها تستغل الشاب إمام  في تحقيق رغباتها».

هاتف محمول

المؤكد، ووفقاً للرؤية العصرية، أن هاتفاً محمولاً ترسل منه شفاعات صورتها مع إمام إلى والدته كان كفيلاً بتغيير الأحداث. على أثر ذلك، يقتلها إمام، خصوصاً بعدما ترسل شفاعات الصورة نفسها إلى حبيبته وأهلها، وتقع الصورة أيضاً في يد أحد الأشقياء في الحارة عبر «البلوتوث» فيبدأ في تهديدهما بها، ما يسهم في إشعال ثورة إمام ليقتل شفاعات بدلاً من حسنين في رائعة أبو سيف لتخليص الشاب إمام من براثن امرأة لعوب.

تبرز عبقرية  المخرج الذي لا ينقص من قدراته عنصر الزمن، في مشهد الرجل الذي يجذب خروفاً ويربطه بشفاعات وهي تجذب إمام من يده، ليؤكد لنا رؤيته لإمام بأنه ليس أكثر من خروف تعلفه حتى يسمن لتتمكن من التهامه كيفما شاءت، ومروراً بخطوات شفاعات التي تسبق إمام بخطوة أو خطوتين كلما تنزهت أو خرجت برفقته، ليدل على أنها هي الأولى وأنه وراءها تسوقه حيث تريد.

الفيلم أخرجه صلاح أبو سيف وأدّى بطولته كل من تحية كاريوكا وشادية، وشارك في المسابقة الرسمية في مهرجان «كان» السينمائي عام 1956، وتم تصنيفه في المركز السادس ضمن أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية في استفتاء النقاد.

الجريدة الكويتية في

07.07.2014

 
 

حسن فايق الثوري... أبو ضحكة جنان 

هـ.م 

رغم قرار والد حسن فايق بألا يُكمل ابنه تعليمه، والاكتفاء بوصوله إلى مرحلة الابتدائية، وإلحاقه للعمل معه في أعماله التجارية، فإن هذا القرار منحه فرصة الذهاب إلى كازينو حلوان؛ حيث كان يجتمع كبار رجال الحي، ويحضر معهم الشيخ سلامة حجازي، ومن بعدها تعلق فايق بالفن والتمثيل، حتى طلب من والده أن ينتقل معه لمشاهدة عروض فرقة سلامة حجازي.

وحينما شعر والده بهذا التعلق كافأه عند حصوله على الشهادة الابتدائية بإقامة حفلة كبيرة قلَّد خلالها فايق سلامة حجازي، بحضور فرقة عكاشة، التي أعجب أحد أفرادها بأدائه، وطلب منه أن يأتي له في القاهرة، ولكنه لم يفعل ذلك إلا حينما قرر العمل في التمثيل بعد وفاة والده.
كانت أول رواية شارك فيها حسن فايق هي «فران البندقية» التي شاركته بطولتها الممثلة روزا اليوسف والتي كان لها الفضل في انضمامه إلى المجموعة التي كوّن بها عزيز عيد فرقة «الكوميدي العربي» عام 1915، والتي جمعته للمرة الأولى بنجيب الريحاني.

أنشأ حسن فايق فرقة تحمل اسمه، ضمت عدداً من الممثلين، من بينهم يوسف وهبي، الذي كانت علاقته بفايق شديدة الحساسية؛ إذ كان كل واحدٍ منهما يحاول إثبات فضله على الآخر، ومع ذلك كانت بداية حسن فايق في السينما على يد وهبي بطل ومنتج فيلم «أولاد ذوات» عام 1932.

أشعلت ثورة 1919 الحماسة داخل حسن فايق؛ فقد شارك الممثلين في الخروج بالتظاهرات بملابس التمثيل، وقدم مسرحية بعنوان «محمد وحنا» رداً على محاولة الإنكليز لإشعال نار الفتنة الطائفية، حضرها سعد زغلول، كذلك قدم مونولوجيست يوائم نشاط الحركة الوطنية، من دون اهتمام برد فعل الإنكليز.

تنقل حسن فايق بين كثير من الفرق المسرحية مثل فرقة رمسيس، وفاطمة رشدي، والريحاني، ثم الفرقة القومية، التي انسحب منها ومعه مجموعة من الممثلين ليكونوا في ما بعد فرقة الممثلين المفصولين، التي تم حلّها بعد فترة قليلة.

وحينما شعر حسن فايق بأن فرقة نجيب الريحاني في عز رواجها قرر الانضمام إليها، وبعدها تحول إلى فرقة إسماعيل ياسين المسرحية عام 1955، والتي انتقل منها في ما بعد بسبب عدم إعجابه بالأدوار التي كان يُرشح لها، وانضم إلى فرقة «مسرح التلفزيون».

انحصرت أدوار فايق في السينما بين دورين الأول هو الرجل ضعيف الشخصية مثل دوره في فيلم «فاطمة»، والثاني الرجل الذي يسعى إلى مصلحته، مثل فيلم «فتى أحلامي» مع عبد الحليم حافظ. ولكن فايق استطاع تحقيق جماهيرية كبيرة، لا سيما بسبب ضحكته الشهيرة التي كانت تميزه عن غيره من فنانين.

وخلال أنشطته الفنية المتعددة لم يسلم فايق من الصحافة التي كان الحديث عنه فيها مادة خصبة لها، وذلك نظرا إلى أنه عقد قرانه في عُمر الثاني والستين على فتاة في الثلاثينات، رغم عدم مرور ذكرى أربعين زوجته.

بدأت رحلة فايق مع المرض عام 1965 حينما وقع على الأرض، وأكد الأطباء الذين كشفوا عليه إصابته بشلل نصفي في الجانب الأيسر، نتيجة ارتفاع مفاجئ في ضغط الدم، وطلب من الدولة أن تتحمل تكاليف علاجه ولكن لم يستجب أحد لندائه، إذ لم يهتم بزيارته سوى ثلاثة من زملائه، من بينهم أحمد مظهر.

واستمر على حاله لمدة 15 عاماً بين الشلل النصفي وبين العزلة التي قرر الخروج منها للذهاب إلى مسرح الريحاني، وجلس إلى جوار موظفة قطع التذاكر ليشاهد الجمهور الذي كان تعلّق به، وكان يصفق، ويواظب على حضور مسرحياته، وكانت هي المرة الأخيرة التي يشاهد الجمهور إذ تعرض لانتكاسة صحية، تُوفي على أثرها في عام 1980 عن عُمر يناهز 82 عاماً.

الجريدة الكويتية في

07.07.2014

 
 

ألفريد هتشكوك معلم السينما 

محمد بنعزيز

شاهدت في مراهقتي أفلاما ولم أعرف مخرجيها، كان ذلك في مرحلة وصل فيها رواد القاعات السينمائية بالمغرب إلى 40 مليون سنويا. كانت الأفلام تتابع في القاعات وكنت أشاهدها بنهم، أمتص ما أشاهده بلذة. حين تركت الأدب واتجهت للسينما عانيت من مشاهدة أفلام بلا طاقة إبداعية، وهذا ما هيج حنيني لأفلام لم يبق منها في ذاكرتي إلا لقطة استثنائية أو وجه ممثل أسطوري... تذكر الوجوه ليس كافيا لتحديد الأفلام... لتشغيل الذاكرة أعدت مشاهدة أفلام كلاسيكية بالجملة، أتعقب لقطات شهيرة من أفلام عظيمة سبق لي مشاهدتها ورسخت في الذاكرة... لأفحص الفارق بين الفرجة التي حصلت منذ 20 سنة والفرجة الحالية... بين الفرجة العفوية والفرجة التحليلية.  

خلال هذه الرحلة في ثمار المتخيل الكوني كانت أفلام ألفريد هتشكوك في المقدمة، دون نسيان سيرجيو ليون وستانلي كوبريك... أعدت مشاهدتها كلها تقريبا، لكن ليس بالتتابع، إذ لم يكن من السهل علي مشاهدة أفلام هتشكوك بالتتابع، أفضل مشاهدة فيلم مختلف قبل العودة لسيد التشويق... لأن الغرق في نوع سينمائي واحد يضعف القدرة على ملاحظة سماته...  

من تلك الأفلام التي بصمت ذاكرتي "المتهم خطأ" le faut coupable  1957وفيه نتعرف على موسيقي مجد (هنري فوندا)، ينهي عمله في الفجر ويعود لبيته، يُدخل معه قنينتيْ حليب، يطلّ على ولديه ويجد زوجته روز ساهرة تنتظره. ما أسعده. فقط أن نقوده قليلة بينما تشتكي زوجته من ألم "ضرس العقل". ذهب لطلب قرض لعلاجها فصار متهما... نعرف بأحاسيسنا أن كريستوف باليستريرو بريء... نشهد ونعجز عن إنقاذ رجل محبوب يحطم الظلم حياته، لكن ليس لديه ما يثبت به العكس، توجد أربع نساء تشهدن ضده. هذا اليقين النسائي دمر أعصاب زوجته قبل أن يدمره هو، هي واثقة أنه برئ... لكن لا إثبات لها... تفكر... تستنتج بتهور أن أسنانها هي سبب اللعنة... بينما المتفرج متجمد ينتظر فك العقدة التي حبكها هتشكوك... وفي خضم الهاوية التي يتجه لها كريستوف سريعا تلقي الشخصيات نظرة على مسارها لتفحص هل تستحق ما يحصل لها... أين الخطأ؟ 

بعد 55 دقيقة من  التوتر على أشده، لم يحسم شيء بعد، لكن الكوارث تلوح في الأفق... يحتفظ كريستوف بالصليب في زنزانته... كان بحاجة إلى الله... هنا يظهر فهم هتشكوك لشخصياته... لم يكن يفرض عليها وجهة نظره... بل كان يترك الشخصية تتطور وفق قوانين السرد وطبيعة القصة التي يرويها... فالقصة هي التي تملي النبر الذي تروى به. وهتشكوك يرويها باقتصاد، بالكاميرا في الموقع الصحيح... بأقل كلام وبأدق ملامح الوجوه التي تقتنصها الكاميرا... 

في منتصف الفيلم يتغير اتجاه الأحداث... تصير روز في البؤرة وينطلق الفيلم في اتجاه جديد يكشف تكاليف أخطاء العدالة... فالسيدة روز دمرتها الأسئلة وأدخلتها مستشفي لتعالج عقلها بدل ضرسها... 

في فيلم نورث باي نورثوسيت أو  1959  La Mort aux troussesينتقل هتشكوك من محنة البرجوازية الصغيرة إلى الجاسوسية في الحرب الباردة، ولكن أسلوب الرجل ثابت. فتماسك القصة والتشويق حاضران هنا أيضا... نتعرف على السيد روجي (غاري غرانت) الذي يعمل في مجال الإشهار وهو جد منظم، يتهم صدفة بأنه السيد كابلان ويُختطف. وكل ما يلي ذلك لا مجال فيه للصدفة. لأنه في الفيلم تكفي صدفة واحدة

لن أتحدث هنا عن السيناريو بل عن الإخراج الذي يدقق في عالم الجاسوسية العزيز على هتشكوك. عمل الكاميرا وهي تتبع هدفها لتقنصه، تتوالى كادرات متحركة عند سياقة روجي في المنعطفات وطبعا أثناء المطاردة الغريبة بالطائرة... حين يجري روجي نحو سيارة الأجرة تقنصه كاميرا هتشكوك فوق مبنى الأمم المتحدة... بحيث يظهر البطل أصغر من نملة... وبعدها مباشرة... تتلصص الكاميرا على مبنى الكونغرس... من زجاج يحمل اسم المكان: وكالة المخابرات الأمريكية.  

هنا يجري نقاش بارد عن سلامة روجي الذي يظن الأعداء أنه الجاسوس الوهمي كابلان... لكن المدير (البروفيسور) سعيد بما جرى صدفة... وهو معني بخططه البوليسية أكثر من سلامة المواطنين... وهنا يرمي هتشكوك بغمزة ساخرة تجاه إدغار هوفر الذي يدافع عن أمن أمريكا ويقيس الأرباح ببرودة لا وزن فيها لحياة البشر – يوجد تشابه بين الممثل الذي قام بالدور في فيلم هتشكوك والمدير هوفر. وقد خصص له كلنت إيستوود فيلمه الأخير وقام ليوناردو ديكابريو بدور هوفر 

ويعزز هتشكوك هذا الغمز للحظة تاريخية معينة بظهور اسم الرئيس الأمريكي نيكسون في الجريدة التي نشرت خبر جريمة القتل التي اتهم فيها روجي... للإشارة صور هتشكوك مبنى الأمم المتحدة من كاميرا في شاحنة لأنه لم يحصل على رخصة...  

كان نصف ساعة الأول من الفيلم كافيا ليقدم الشخصيات ويعرف بالحدث ويوصله إلى درجة تعقيد كبيرة ضمنت تشويق المتفرج... لم يستغرق التمهيد للتحول ثم حصوله فظهور نتائجه أكثر من خمس دقائق. كل مشهد هو تحول، دفعة إلى الأمام، وهذا ما يجعل الإيقاع سريعا يتحدى الملل... 

لقطات هتشكوك معدة بعناية، وبما أنها تصور الحركة فإن المخرج يعتمد على الستوري بور بقوة... يرسم تفاصيل ما سيصوره بقلم الرصاص ليتجنب الارتجال غير القابل للمونتاج... وهتشكوك هنا وفيّ لموقفه الرافض للمشاهد الوثائقية في أفلامه.

في الفيلم نرى احترام تتابع وتصاعد الإخبار بالصور، نرى الحدث دون شروح. ونشرح لأنفسنا، نخمن، نصيب مرة ونخطئ مرارا لأن هتشكوك يفاجئنا بختم اللقطة قبل أن يتلاشى التوتر ليمر لغيرها، حتى الحوار يبني التتابع بدل أن يكسره، إذ يستخدم المخرج الجمل التي ينطقها الممثل كرابط للانتقال لحدث أو مكان آخر. مثلا تتساءل الأم هل السيد كابلان يرتدي ملابس تخفيه عن الأنظار؟ فيسرع ابنها لقياس بذلة كابلان... وهكذا نرى بوضوح ما يجمع اللقطات في المونتاج، نرى الربط (raccord) بحركة الكاميرا وبالنظرات وبأيقونات صغيرة مثل الدبوس... 

وهذا يعزز الوحدة البصرية للفيلم... حتى اللباس يخدم هذا، ففي الكثير من أفلام هتشكوك يمر نصف ساعة وما زالت الشخصيات بنفس ملابسها. في فيلم نورث باي نورثوسيت بقي غاري غرانت بنفس البذلة ساعة و49 دقيقة. وهذا دليل على وحدة الحدث والزمن في الفيلم. على تماسك القصة وإيقاعها السريع. يوظف هتشكوك نظرية الوحدات الثلاث الأرسطية بتقديس بدل أن يزعم الثورة عليها... وهو بتصويره للحدث، يفسر لنا سخريته الشديدة من المخرجين الذين يكتفون بتصوير أشخاص يثرثرون... وهنا يتفوق هتشكوك بلغته السينمائية حتى على الذين يتهمونه بالحس التجاري لأنه لم يقدم وجهة نظر مكشوفة ليقبلوا ضمّه إلى حزب سينما المؤلف.

في تفسيره لمصادر إبداعه وتركيزه على الحدث، اعترف هتشكوك أنه لا يقرأ الأعمال الخيالية، بل يقرأ سيرة أشخاص حقيقيين وكتب الرحلات وأخبار الجرائم فقط في الجرائد. يضيف "الأدب الذي يأخذ جاذبيته من الأسلوب لا يعجبني، لأن ذهني يعمل بشكل بصري إلى حد ضيق جدا". 

حين أشاهد أفلام هتشكوك أشعر كأني أقرأ كليلة ودمنة بعد تقليص مساحة الأمثال والوعظ فيها. هتشكوك أيضا لا ينسى الدلالة. فبين الأحداث المتسارعة يزرع حكما موجزة، مثلا في نورثوسيت تشتكي البطلة من ان الرجال الوسيمين لا يؤمنون بالزواج، وهي لا تتحدث عن الحب حين تكون جائعة... ففي كل اللقطات محتوى سيكولوجي أو معرفي... أو ما يسمى العبرة في السرد القديم. فعبرة السطر الأخير هي الغاية. ينطبق هذا أفلام هتشكوك الذي يبدو أنه يبدأ أفلامه من نهايتها. عن نورثوسيت  يروي كاتب السيناريو أن رغبة هتشكوك في تصوير مطاردة على نصب الرؤساء الأمريكيين هي التي دفعته لإنجاز الفيلم.

حين قدم هتشكوك هذا الفيلم للصحافة عرف الإخراج بأنه تصوير أجساد جميلة، وهذا ينطبق على كل أفلامه، هنا نرى قدرة الجاسوسة على الغواية، على الدفع بخصمها للهاوية، ثم وهي تقع في حبه وتبكي... وبذلك يغير المتفرج موقفه منها... يفهمها ويسامحها. في العصافير يتكرر الرجل الوسيم الذي يتحدى الجميلات بينما تسيطر عليه أمه... كانت الغواية جزء أساسيا من ترسانة المخرج

في 1963  انتقل هتشكوك من تصوير صراع البشر فيما بينهم إلى صراعهم مع الطبيعة، كان ذلك فيلم "العصافير" وفيه منح البطولة لمانكان تمثل لأول مرة... فيلم بشخصيات قليلة، رجل وامرأة يدخلان في تحدي التفوق في الذكاء... تشتري عصافير مدجنة، يدخل الرجل فيسألها فتتظاهر بما ليس عملها... لكن الرجل يعرفها... شابة مدللة تعاني ملل الأغنياء، بسبب صدفة تبعها عناد تجد نفسها في أجواء ريفية... تريد رد ما تعتبره إهانة لذكائها من طرف رجل وسيم... في الحوارات عمق نفسي عن الأمومة والفقدان...  وفيه عدوانية نرجسية أيضا.  

بدأ الفيلم بأجواء مرحة انقلبت مأساة... وفيه بلغ هتشكوك قمة إبداعه، فالسرد بسيط، دون أن يكون مبتذلا أو مملا. لا فلاش باك يجعل الساعة تدور للخلف ولا حلم يقطع التتابع. يزيد قصر زمن الأحداث وتماسك تعاقبه من قوة التشويق. يحل الليل وينقطع الكهرباء فتتكثف لحظات الرعب بالصوت والصورة والضوء... تشتعل الأسئلة في ذهن المتفرجين كما في ذهن الشخصيات... تتصور الشابة التي تبحث عن نفسها أن مهاجمة الغربان المتوحشة للقرية سببه لعنة تستهدفها... كما في الحكايات الشعبية والقصص الدينية القديمة، حيث المرأة هي سبب اللعنة والعقاب الإلهي للبشر بطوفان من الجراد والضفادع...   

في "فرنزي"1972   تصير النساء ضحايا لا مصدر لعنة. وهنا عاد هتشكوك لموطن طفولته في لندن حيث كان والده بائع خضر... بعد صدمة الجثة الأولى الطافية في نهر التايمز نتعرف على الفاكهاني بطل الفيلم عاشق الفواكه وعاشق نوع خاص من النساء... يعجب بمطلقة جميلة تدير شركة لتزويج العزاب. يجعل هتشكوك شخصياته تنطلق من وضعيات مشبعة بالتناقضات، وهذا ما يسهّل عليه اللعب على المفارقات والسخرية لإمتاع المتفرجين.

بين حين وآخر يجني الفاكهاني تفاح النساء بطريقة سيئة، وقد خلد هتشكوك ذلك في صورة أسطورية فيها لسان متدلي وعينين مفتوحتين بشدة... تعبير حسي عن الموت... ومن اجل لمسة كوميديا سوداء نتعرف على محقق جائع، يعشق اللحم بالبطاطس بينما تقدم لهم له زوجته وصفات معقدة غير صالحة للأكل... عزاءه أن الطباخة الفاشلة تساعده بإشارات ذكية للقبض على المجرم الذي خزن جثة في شاحنة بطاطس... ثم عاد للبحث عن الجثة ليدخل في معركة معها... تلطمه برجلها ويكسر أصابعها... 

ما الذي أودى بالمجرم؟

هوسه بدبوس تزيين ربطة عنقه. يقال إن كل واحد منا يحمل الحجر الذي يتعثر فيه

في فرنزي حقق هتشكوك سردا أنيقا. إيقاعا سريعا لا يسمح للمتفرج بتخمين أو استباق أحداث الفيلم. الحدث يعرض والفكرة يستخلصها المتفرج. يجري الحدث وتظهر نتائجه معقدة في خمس دقائق، وتكون النتيجة مقدمة لحدث آخر، فيلم بتفاصيل صغيرة يتم تنسيقها لتغدو صرحا مبهجا... عمل الكاميرا كان بارزا، خاصة حين تقوم بترافلينغ طويل للخلف لتنزل السلم دون قطع... 

في هذا الفيلم، استخدم هتشكوك الكثير من اللقطات التي يعمد لها المخرجون الشبان لاستعراض عضلاتهم في اللعب بالكاميرا. هتشكوك لم يكن بحاجة لهذا الاستعراض واستخدمه خاصة في لقطة شهيرة بعد مرور ستين دقيقة من الفيلم. لهذا قال فرنسوا تروفو عن "فرنزي" أنه فيلم بأسلوب مخرج شاب

كان ذلك علامة على الطزاجة الإبداعية للمخرج الذي لم يستطع أحد منافسته في شباك التذاكر. ولا في إثارة الجدل، ولقد خصص له تروفو حوارا مطولا نشر في كتاب. كما خصص له المخرجان الفرنسيان الآخران ضمن الموجة الجديدة: كلود شابرول وإريك روهمر كتابا يحتفيان فيه بعبقريته (1). وهذا صادر عن متخصصين في مجلة دفاتر السينما التي تعتبر معبد تقديس الإخراج la mise en scène في العالم ككل

في هذا الكتاب يروي  Chabrol و Rohmer  أن هتشكوك في بداياته أخرج فيلمين فاشلين فرأى أن مستقبله مهدد كمخرج، فورا أوقف تجاربه وتصالح مع المطالب التجارية للمنتجين وانخرط في إخراج أفلام بوليسية. وهكذا بدل أن يرفع الجمهور إليه، توجه إلى الجمهور، وأخذ يزرع فيه الشك في كل لقطة.

مخرج كان مجرد ذكر إسمه دعاية في حد ذاته، وذلك بفضل تميز أسلوبه. وهو ما وقف عليه الكاتبان المخرجان. وقد استخلصا أن هتشكوك أبدع في خلق الأجواء التي تؤثر على الجمهور، مستخدما خياله في البرويتاج. وظف ميلودراما شعبية برمزية مؤثرة تلتقط جحيم الحياة اليومية. وهو يتجنب ما يُسهل تموقُف المتفرج من بداية الفيلم مع أو ضد. أي لا يصور شخصيتين واحدة على حق والأخرى على خطأ، بل في أفلامه صراع بين نزهاء،وهذا يضاعف التشويق، وإذا حصل خطأ ما فهو خطأ النوع البشري لا خطأ فرد معين

تتميز أفلام هتشكوك بالتبعية المتبادلة بين الشكل والمضمون. يصور اللحظات الضعيفة في السيناريو بسرعة، يتجاوزها ليركز على اللحظات القوية. وهو بذلك يقوم بنقد ذاتي استباقي أثناء التصوير.

يتصور هتشكوك الفيلم كخطوط لها اتجاه معين، يركز كثيرا على الحبكة ويتجنب التحولات الفجائية غير المبررة. في أفلامه لكل لقطة هدف، وهو يرفض الكليشيهات، أو ما يسميه الكاتبان pauvres trucs . يعتمد الدقة في صنع اللقطات، لديه بساطة ودقة في الكادراج cadrages. ماهر في استخدام كادر كبير متحرك grand plan mobile.

ختاما، أرى أن كتاب روهمر وشابرول اعتراف من رواد سينما المؤلف بعظمة هتشكوك. والحق ما شهد به الخصوم

بمثل هذه الأفلام والكتب أسترجع عافيتي الإبداعية التي تتعرض للانتهاك كلما شاهدت فيلما بئيسا. أستنجد بهتشكوك وكوبريك وسيرجيو ليون، لكي لا يلتبس علي ما هو سينما بما ليس سينما.

(1)Hitchcock Claude Chabrol Eric Rohmer 1957

موقع "سينفيليا" في

08.07.2014

 
 

مهرجان فاس للموسيقى العريقة : سفر حضارات

فاس ـ المصطفى الصوفي

تعتبر مدينة فاس المغربية من بين المدن العتيقة، التي تحبل بفيض تاريخ عريق، وثقافة مجيدة متجذرة في أعماق التاريخ، ثقافة خصبة ومتنوعة، رسمت معالمها الإبداعية الكثير من الفنون التراثية الأصيلة، وتجليات صوفية وفكرية، فضلا عن ثقافات مختلفة تعاقبت عليها حضارات مختلفة.
وتشتهر المدينة، وهي العاصمة العلمية للمملكة، بكونها تحضن أقدم جامعة في العالم العربي، وهي جامعة القرويين، التي تخرجت منها شخصيات علمية وأكاديمية مغربية ومن بلدان عربية وغيرها، هذا بالإضافة إلى العديد من المآثر التاريخية والمواقع الحضارية، والمزارات وغيرها.

وبما أن المدينة كانت مهد العلوم وما تزال، كان لابد  لمختلف أشكال الثقافة والفنون العريقة أن تزهر هناك، وتعرف ازدهارا كبيرا، ومنها الموسيقى، ممثلة في الموسيقى الأندلسية والملحون وطرب الآلة، وغيرها، في هذا الصدد، حضيت المدينة العريقة كل عام، بشرف تنظيم مهرجان دولي كبير، أطلق عليه اسم(مهرجان فاس للموسيقى العريقة العالمية)، الذي ينظم بمبادرة من مؤسسة روح فاس، وبدعم من شركاء عدة.

ويعتبر هذا المهرجان، من أبرز التظاهرات الدولية التي تنظمها مؤسسة روح فاس ، فهو يندرج في إطار سعيها إلى جعل الفنون والقيم الروحية في خدمة التنمية البشرية والمجتمعية والتقريب بين الشعوب والثقافات. حيث استطاع منذ انطلاقته ان يضمن لنفسه مكانة متميزة على الصعيد العالمي، كتظاهرة عالمية متخصصة في الموسيقى العريقة والروحية، التي تجمع ثقافات وحضارات عدة، وقد اختير العام 2001  من طرف هيئة الأمم المتحدة، كواحدة من التظاهرات التي ساهمت بشكل ملحوظ في حوار الحضارات والثقافات.

هذه السنة، وقبيل حلول شهر رمضان المبارك، وفي أجواء شهر شعبان المشبعة بأحاسيس ومشاعر مفعمة بقيم روحية، تم تنظيم الدورة ال 20 من هذا المهرجان، وذلك في الفترة الممتدة من 13 الى 21 من شهر يونيو الماضي، وذلك برعاية سامية من العاهل المغربي الملك محمد السادس.

ثراء الكنوز الفنية الصوفية

وقد انطلق فعاليات الدورة، بتنظيم حفل قني ضخم، أقيم بفضاء باب الماكينية التاريخي، وهو الحفل الذي أحياه نحو عشرين فنانا من المغرب، وخارج المغرب، وجسد بكل تفاصيل الإبداع المبتكر على مستوى الإخراج، شعار الدورة، وهو ( منطق الطير... حين تسافر الحضارات).

وقد حلق الفنانون المسافرون الحالمون، بالجمهور، على مدة ساعتين من الزمان، في سماء الانتعاش الروحي والموسيقي، حيث سحر التراث والموسيقى العريقة الكونية، تكشف للعالم مدى ثراء الكنوز الفنية الصوفية، التي ترفرف بقلوب عشاقها بعيدا بعيدا، بحثا عن صفاء السريرة، ونقاء الروح المتلألأة بزهو الضوء، حيث تخفي تلك المقامات، هيروغليفية طيور فردوسية لها أجنحة خفاقة بريش الجنة.

تلك كانت لحظات حفل الافتتاح الذي حضرته عقيلة العاهل المغربي الأميرة لالة سلمى، لحظات مزهوة بعنفوان قصص تاريخية روتها حناجر طيور فردوسية بمواويل ربانية ليس لها مثيل، حيث مضمون القصة العرض، لصاحبه المتصوف فريد الدين العطار، كمصدر الهام للبشرية، تستحضر بكل الرقة الأنيقة روح المغامرة التي يتحلى بها الإنسان، فضلا عن صراعاته وتأثيراته وعلاقاته مع الأشياء والموجودات والآخر، إنها لوحة فنية توثق لسفر الثقافات فيما بينها، وعناقها الابدي، ذلك ما باح به منطق الطير، حين حلق عاليا عاليا، وانشد من حناجر الذهب ترانيم ربانية ليست ككل الترانيم.

وقدم حفل الافتتاح، الذي اشرف على تصوره الفني مدير المهرجان الدكتور فوزي الصقلي، وأخرجه المخرج الفني العالمي تيري بوكيث، وأبدع موسيقاه  الفنان الإيراني اراش شاركيشيك، للمتلقي صورة أبهى لمشروع إبداعي وفلسفي وصوفي، سافر بالجمهور إلى القرن ال 13 من خلال مزيج فني بين الموسيقى العريقة والرقص والمسرح، حيث اختزل العرض في مجسم لطائر ضخم، يحلق بشكل بديع في تفاعل مع الموسيقى وإيماءات الجسد، بحثا عن رحاب الحرية والتخلص من ربقة الأنا، بما لها وعليها من هموم وحيرة وانفعالات وتعب مسافات، وصراعات وأحزان.

رحلة خرافية وأسطورية

هكذا كان حفل الافتتاح، الذي جمع بين الغناء والرقص التراثي والمسرح، والمقامات الشعرية والفن والسينما، قصة مبتكرة، ومحاكاة صوفية، يذكر فيها المتصوفة فريد الدين العطار، كيف قرر طائر الهدهد، ان يجمع سربا كبيرا من الطيور، للقيام برحلة خرافية وأسطورية، من خلالها يستطيع السرب لقاء طائر(السيمرغ) سلطان الطيور، وملكها، رحلة طويلة من خلالها يعبر السرب سبعة انهار، وسبعة مقامات روحية، يقدم فيها كل مرة احد الطيور كالببغاء والطاووس، والحجل والعندليب والنسر مرافعة بمنطق مختلف، تقدم للمتلقي سمو المواويل ونبلها، وانعكاساتها  على مختلف مناحي الحياة الإنسانية، أملا في عناق صفاء الروح.

في هذا الإطار قال مدير المهرجان ومؤسسة روح فاس الدكتور فوزي الصقلي، بالمناسبة أن هذه الدورة حاولت ان تجعل من قصة للعطار مصدر إلهام حقيقي، لاستحضار المغامرة الإنسانية للاجتماع، وللتبادلات وللصراعات وللتأثيرات ولسفر الثقافات...إنها مغامرة  لتاريخ البشرية، والسعي من أجل المعنى، وذلك بلغات متعددة تضاء أحيانا ببعض النفحات النورانية الكونية، وفي غالب الأحيان تستضيء بوفرة اللغات البابلية، والتأويلات أو وجهات النظر.

وأضاف أن نداء منطق الطير، هو جوهر مهرجان فاس للموسيقى العالمية العريقة، خلال كل السنوات العشرين الماضية، وكذا المنتدى، وان حوار الثقافات لا يمكن أن يكون غاية في حد ذاته كما هو الحال بالنسبة لمجلس الطيور في كل مرحلة من مقاماته، إنما هو رحلة نحو نقطة محورية، وهي طائر (السيمرغ). إنها معرفة ديناميكية ـ يوضح الصقلي ـ حيث يتم استدعاء كل ثقافة من أجل التحول، والبحث والتحسن ومواجهة نفسها في المرآة الخاصة بها، و من أجل البحث عن أثمن ما تحمله في طياتها، ومن أجل المسير، والحديث عن سنغور، في ليله للوصول إلى فجر الكونية.

مفكرون ومتصوفة وفلاسفة

واحتفلت الدورة بالمناسبة بمرور عشرين سنة من الرحلة الموسيقية والفنية عبر محطات مختلفة للتراث والثقافات والحضارات العالمية، وبمختلف التعابير الموسيقية والفنية التي أبدعتها ثقافات العالم منذ فجر التاريخ، وذلك من خلال عروض فنية وموسيقية غاية في التشويق والإثارة والمتعة البصرية. عروض انكشفت بعمق التدرج بمناسبة حفل موسيقي او معرض أو فيلم او ندوة فكرية. كما ان مؤسسة روح فاس أبرزت من خلال الدورة استلهاما من ال 20 سنة الماضية الغنية بإبداعاتها ولقاءاتها الثقافية، واستشرافا لمستقبل فنون تراثية تحتفي بها مدينة فاس عبر مهرجانها، الذي ظل على الدوام يشكل مرحلة فاصلة في سفر الروح لعدد كبير من المفكرين والمتصوفة والفلاسفة كابن رشد وابن ميمون وابن الفارض والسهروردي، والحلاج، وابن بطوطة وابن خلدون وغيرهم، وذلك لاكتشاف فيض من الإبداعات الرائعة، تلامس في تجلياتها الضوئية معالم فن صوفي نبيل يقدم البهى والأشهى في هدوء وسكينة ليس لها مثيل.

وتوزعت سهرات المهرجان، الذي شهد أيضا تنظيم أنشطة تربوية بيداغوجية، وبرامج موجهة للشباب، ومعارض، وعروض أفلام، وزيارات ثقافية، بين عدد من الفضاءات التاريخية، التي جمعت بين سحر التراث والفنون والمآثر العريقة، فضلا عن وداعة الطبيعة بحدائقها الأندلسية الغناء وفسحة الهواء الطلق، في موسم الصيف، وهي فضاءات "متحف البطحاء" و"ساحة باب بوجلود" وحدائق "جنان السبيل"،  "باب الماكينة"، ثم "دار عديل" و"دار المقري" و"دار التازي"، التي تعتبر من الدور العتيقة التي تفوح عبق تراث قديم.

مشاركة دولية مكثفة

وكانت مختلف القارات الخمس في هذه الدورة، ممثلة بفنانيها الكبار، وروادها الموسيقيين الوازنين، حيث قدم الفنان (روبرتو أليانا)، الصوت الرنان، إبداعا مبتكرا خاصا للمهرجان، كما تميزت الدورة بمشاركة (توماتيتو) رفقة (باكو دي لوسيا) اسطورتا "القيثارة الفلامنكية" الاسبانية الأوربية، فضلا عن (فرانسواز أطلان) من ارلندا و(لوزميلا كاربيو)، من بوليفيا، و(روبيرطو ألاغنا) من فرنسا، و(بارديك ديفاس) من أسيا الوسطى، ورقية تراوري من مالي، وذاكر حسين الموسيقي الهندي الأكثر شهرة في فن الطبلة وغيرهم.

ومثل أمريكا الشمالية، (ودي غي) أسطورة "شيكاغو بلوز"، الذي حضر للمرة الأولى بالمغرب رفقة أكبر رواد الموسيقى الأسطورية في الثقافة الأفروأمريكية، هذا فضلا عن مشاركات أخرى لفنانين من الصين وفلسطين وهنغارايا وبلغاريا وكازاخستان وأوزبكستان ، الذين احيوا سهرات ليالي المدينة العتيقة والليالي الصوفية بفضاء دار التازي.

ومثل المغرب نخبة من الفنانين والفرق التراثية، بالإضافة الى تنظيم حفل عربي يهودي أندلسي شارك فيه خيرة من  الفنانين المسلمين واليهود، ممثلين غنى وجمالية التراث الثقافي والفني والإنساني الكوني.

وكان من بين ابرز المشاركين في دورة هذا المهرجانان الذي صنفته إحدى المجلات البريطانية ضمن المهرجانات الثلاث الأوائل في العالم، الفنان العراقي كاظم الساهر، الذي شارك هذا العام للمرة الثالثة على التوالي، حيث تم منحه المفتاح الذهبي لمدينة فاس في إحدى دورات المهرجان السباقة، تقديرا لفنه الرفيع، ولمشاركاته العربية والدولية المتميزة، فضلا عن فرق ومجموعات تراثية مغربية وعربية منها مجموعة (عبيدات الرما) المغربية التي غنت أمام ما يقارب من 170 الف متفرج في الهواء الطلق، وهو الحفل الذي كان الأكبر للفرقة على الإطلاق، وقدمت خلاله لوحات فنية وشعبية، ومقامات موسيقية عريقة امتزج فيها التراثي بالشعبي، والروحي بالثقافي والإنساني والوجداني الجميل.

تكريم نيلسون مانديلا

وشهدت الدورة تكريما خاصا لإيقونة النضال الإفريقي الراحل نيلسون مانديلا ضد الميز العنصري ، وكل ما يسيء إلى روح الإنسان، وذلك من خلال عقد عدد من الندوات واللقاءات في إطار منتدى فاس ( روح للعولمة ) والتي تمحورت حول شخصية مانديلا، الذي ناضل ضد الذل والهوان والعنصرية، بالإضافة الى تنظيم سهرة فنية ضخمة إحياء لروح مانديلا، وجمعت الأسطورتين (يوسو ندور) ب(جوني كليك) بفضاء باب الماكينة التاريخي.

كما عرفت الدورة، تنظيم اوراش فنية وندوات تمحورت حول الثقافات والهويات، وذلك في إطار" منتدى فاس "، الذي عقد هذا العام تحت شعار " ثقافات وهويات في تحول "، (السياسة وفق منظور نيلسون مانديلا) و(المجتمعات متعددة الثقافات و تحديات العيش جنبا الى جنب) و(المغرب و تحديات التنوع)، و(المقاولة والقيم الروحية)، و(هل يمكن إنتاج نموذج من نيلسون مانديلا بالشرق الأوسط)، وذلك بمشاركة نخبة من الباحثين والأكاديميين الدوليين ومن عالم الفكر، مغاربة وأجانب.

روعة الموسيقى الأفرو أمريكية

وكان مسك ختام الدورة تنظيم حفل فني كبير، طابقه روعة الموسيقى الأفروامريكية، اقيم فضاء باب الماكينة التاريخي، وأحياه الفنان (بودي غي) عازف القيتارة، وأسطورة بولز شيكاغو، والذي شارك لأول مرة في هذا المهرجان، رفقة فرقة(هوت ايت براس) من شيكاغو أيضا، والتي كانت ضيف شرف الحفل الفني، وقدمت للجمهور لوحات فنية جسدت بكل تفاصيل الإيقاع الحي أوجاع السود ومآسيهم ومعاناتهم من سموم العنصرية وآهاتها، وتمردهم، للتخلص في عهود العبودية.

وشكل الحفل فني مناسبة حقيقية للجمهور لاكتشاف عالم أخر للموسيقى الأمريكية والإفريقية بكل تنوعها، خاصة تاريخ مدينة شيكاغو التي تميزت بتيارات موسيقية مختلفة، والتي شكلت احد المقومات والمنابع الأساسية للموسيقى الأمريكية المعاصرة.

إلى هنا يمكن التأكيد على أن هذا المهرجان، الذي يكرم الموسيقى العريقة بكل ألوانها المختلفة، التي تروم تقريب الثقافات وترسخ لروح التعايش بين مختلف الحضارت والشعوب، وبالنظر إلى آفاقه الكونية، وقيمه الإنسانية، وصل صداه الى عدد من البلدان، حيث ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية منظمة(روح فاس) التي تنظم كل سنتين مهرجان وملتقى فاس من خلال برنامج يشمل عشرين مدينة أمريكية . وقد نظمت لهذه الغاية جولة في شهري أكتوبر ونونبر 2006 شملت العديد من المدن الأمريكية، قدم خلالها حفل موسيقي في الكيرنيجي هول بنيويورك . وتعميم (روح فاس) من خلال هذه التظاهرات ينطلق الآن من مدينة فاس باتجاه مختلف أرجاء العالم ، فقد عبرت الكثير من المدن كميلانو، وتورينو الايطاليتين ، وبرشلونة، وإشبيلية ، مورسيا، والعاصمة مدريد، ولندن، عن رغبتها في أن تصبح بمثابة محطات تتناوب على بث رسالة المهرجان ولقاءات فاس والتي تتلخص في حوار القيم الروحية من خلال الموسيقى وخلق ثقافة تدعو إلى السلم مدعمة بعولمة متعددة تحترم القيم الأخلاقية والروحية، وتساهم بشكل كبير في زرع مبادئ التسامح والتعايش الكوني عبر نبل وسمو الموسيقى الروحية التي تتكلم كل اللغات.

الجزيرة الوثائقية في

08.07.2014

 
 

«الخط الأحمر الرفيع».. موقف صريح ضد الحرب!

عبدالستار ناجي

حينما خرجت من قصر المهرجانات القديم في برلين، بعد العرض الاول لفيلم «الخط الأحمر الرفيع» لترانس ماليك عام 1999 كنت في أمس الحاجة الى «فنجان قهوة» لاستيعاب الدلالات العميقة التي اشتغل عليها هذا المبدع السينمائي، وهو يذهب الى موضوع الحرب، ليعلن موقفا صريحا، عبر طرح فلسفي عميق لدلالات ذلك الخيط الرفيع الذي يفصل بين معطيات ودلالات الحرب، نفسياً وسياسيا واجتماعيا، اشتغال ابداعي على الصورة والمضمون الأداء والموسيقى والصيغة الجمالية للتصوير، فيلم لا يفارقك، فيلم يظل خالدا في الذاكرة، فيلم من النوعية النادرة حيث السينما المؤلف والسينما القضية، والسينما الموقف.

الفيلم يعتمد على رواية بنفس الاسم صاغها المؤلف الاميركي جيمس جونز، وتصدى لكتابة الفيلم «السيناريو» والاخراج أحد أهم عباقرة السينما الاميركية «ترانس ماليك» وكان عرضه الاول عام 1998، والعنوان مأخوذ من قصيدة لروديارد كيبلينغ بعنوان «تومي».

الرواية والفيلم يذهبان الى قراءة خيالية من معركة جيل اوستن، في احدى الجزر في المحيط الهادي، ابان الحرب العالمية الثانية.

حيث نعيش ايام تلك المعركة، وبشكل متخيل، حيث الكتيبة الاولى وفوج المشاة 27 وفرقة المشاة 25 عبر عدد من الشخصيات منهم بنك تولت وشون بين وجيم كافيزال والياس كوتيس وبن شابلن.

كما ان الفيلم يمثل عودة المخرج ترانس ماليك الى السينما بعد انقطاع لقرابة العشرين عاما، معتمدا في هذه العودة موقف الفوج الثالث والتسعين في معركة «بالاكلانا» في «حرب القرم».

وقبل ان نذهب الى الفيلم، نشير الى انه حصد اجمالي قدره 98 مليون دولار، بينما بلغت الميزانية 51 مليون دولا، كما ترشح الفيلم لسبع جوائز اوسكار، وفاز يومها في برلين بجائزة الدب الذهبي عام 1999.

الفيلم يعتمد على حملة عسكرية في احدى الجزر المحتلة من قبل اليابانيين ابان الحرب العالمية.

ولكن المحور الرئيسي يعتمد البناء على الاحاسيس الانسانية، والتأمل في الاشياء، في العلاقات الانسانية، في حركة الريح والغيوم والاشجار والزرع، عبر تصوير مذهل، بالاضافة للاحاديث بين الجنود، عن كل شيء، بالذات العلاقات التي تحيط بهم، ومواقفهم من بعضهم بعضا والغزو.

كل منهم يذهب الى الحرب بمنظوره الخاص، الكولونيل «نيك فولتي» والبريطاني «جون ترافولتا» وغيرهم، كل يريد من هذه الحرب النصر في آخر مشواره، دون النظر الى الخسائر، او التضحيات او ارواح الاخرين.

رحلة داخل الجزيرة، ومن قبلها داخل الانسان، للوصول الى لحظة المواجهة، حيث لا نتيجة سوى الموت، للفائز والخسران.

الجثث المشوهة المكشوفة في كل مكان، في معركة لا ترحم حيث يسيطر اليابانيون على الجبال والتلال المرتفعة، بينما يحاول الجنود الاميركان الصعود الى النصر.

ما يحصل لاحقا، هو الموت والدمار، الذي يتخلله كثير من التأمل وكثير من التحليل للجوانب النفسية، بالاضافة الى كم من المشهديات، التي تأخذنا الى جهات استطلاعية تقوم بها عدد من الفرق، هي في حقيقة الامر تماس مع الموت، وتماس مع الواقع بكل المه وقسوته، وعنفه الارعن.

حديث عن العلاقات والحب، والحنين، والعودة الى الوطن وحديث عن العلاقة بالارض، والطبيعة، والسكان الاصليين الذين لا يهمهم من هو المحتل الياباني او الاميركي، ولهذا يعيشون حياتهم بكثير من العفوية، والبدائية، دون النظر لكل الحرب التي تحيط بهم، فقد شبعوا من الحرب، وعرفوا ان الخلاص بالسلام الذاتي.

خلال تلك الحرب، يكتشف الجميع، انه لا علاقة لهم بهذه الحرب، وانه لا رصيد لهم، فلماذا يزج بهم في حرب هم في غنى عنها.

في الفيلم عدد بارز من النجوم ومنهم بنك نوليك وجيم كافيزال وشون بين والياس كوتياس وبن شابلن وجون كوزاك وادريان برودي وودي هارلسون وجون ترافولتا وجورج كلوني وكم آخر من الاسماء.

الخط الاحمر الرفيع، هو الفاصل بين الحياة والموت، وبين الليل والنهار، وبين كل الاشياء التي تحيط بنا، وعلينا ان نستوعب الاشياء وذلك الفاصل الرفيع، حتى دون الذهاب الى الموت، للاكتشاف ودون سقوط الضحايا والابرياء، وتدمير كل شيء، حتى نعرف حقيقة ذلك الخط، الذي يجب عدم تجاوزه لاكتشاف آثاره المدمرة.

حينما كتب ترانس ماليك، كان عدد صفحات السيناريو 300 صفحة، ولكنه عاد، ووضع سناريو آخر عمق خلاله الجوانب البصرية، الفلسفية، وبدلا من مشاهدة جندي مقتول قسوة، راح ماليك الى الدلالات، حيث شجرة محروقة، وطبيعة مدمرة، وطائر رائع بجناح مكسور، وغيرها من الدلالات المذهلة، التي اضافت بعدا فلسفيا وموقفا صريحا من الحرب.

ذهب ماليك لمواقع عدة قبل التصوير، ومنها بنما وكوستاريكا، قبل ان يستقر في الغابات الممطرة في استراليا، حيث اختار الموقع للتصوير، مما ساهم في رفع الميزانية، خصوصاً في ظل اصرار ماليك على قائمة النجوم الذين ارادهم في الفيلم. لايصال فكرته.. وأعلن موقف عالي المستوى من الحرب.. والدمار الذي يليق بالبيئة.. والانسانية.

أطرف ما يروى عن تجربة اختيار النجوم، ما جاء على لسان شون بين (أحد أبطال العمل) الذي ترك رسالة على هاتف ترانس ماليك قال فيها: «اعطيني دولارا واحدا، وقل لي أين اقف امام الكاميرا فقط». وهذا يعني ان كثيراً من النجوم ذهبوا في ذلك الاتجاه من أجل المشاركة في فيلم من توقيع ترانس ماليك.. وفي فيلم يذهب الى العمق الفلسفي للحرب.

بالاضافة الى العمق البصري الذي رسخ مضمون وفكرة العمل، كانت الموسيقى التصويرية الرائعة، التي صاغها الموسيقار هانز زيمر وأيضاً الموسيقار جون باول، ونشير هنا الى ان زيمر يعتبر من أكثر صناع الموسيقى في العالم ترشيحاً للاوسكار.

اليوم حينما اكتب من جديد عن «الخط الأحمر الرفيع» وبعد ربع قرن من الكتابة عنه للمرة الأولى، استطيع أن استعيد جوانب مما كتبت في تلك الفترة، واصفاً الفيلم بانه احد اروع افلام الحرب المعاصرة التي رأيتها، فيلم يتجاوز الكثير من الأفلام التي ذهبت الى موضوع الحرب، لأن ترانس ماليك ذهب الى الموضوع ببعد فلسفي.. عميق.. ولكنه قاس.

فيلم عن الدمار الجسدي والنفسي، حيث الحرب حين تنطلق رصاصتها، تتحول الى غول لا يرحم.. يستحق كل شيء.. الحب.. والعاطفة.. والحلم.. والعلاقات.. والأرض.. والاخضر واليابس.

طيلة الفيلم نظل نشعر باننا متورطون كمشاهدين، مع الجنود الأميركان، في موقع في السفح.. وهناك على التلة جنود يابانيون لا يكفون عن امطارنا بالرصاص والقصف.. دائماً هناك مرتفع.. ونار لا تتوقف.. ورغبة في الاختباء.. والبحث عن الأمان.. ولا شيء الا الموت.. والدمار.. وحركة الشمس.. والظلال.. والوجوه.. الهاربة من الموت.. الى الموت.

فيلم «الخط الأحمر الرفيع» ترشح لجوائز اوسكار عدة من بينها افضل تصوير ومخرج وصورة وصوت وسيناريو مقتبس وموسيقى أصلية، ورغم انه اخفق بالفوز بأي من تلك الترشيحات، الا انه فاز بالدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي في دورته التاسعة والأربعين عام 1999.

سينما من نوع مختلف، هي السينما التي يقدمها ترانس ماليك، ومن شاهد له فيلم «شجرة الحياة» 2011، (الفائز بالسعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي)، يعلم باننا امام مخرج فيلسوف مبدع، يعمل على الاشتغال طويلا، على البعد الفلسفي للموضوع الذي يذهب اليه، ومشاهدة فيلم لترانس ماليك، هي في الحقيقة عبارة عن قراءة عشرات.. ولربما مئات الكتب والمراجع في ساعتين من الزمان.

في رصيد ماليك أفلام اهمها «الأرض السيئة» 1973، و«الخط الأحمر الرفيع» 1998، و«العالم الجديد» 2005، و«شجرة الحياة» 2011.

فيلم قد يعتقد المشاهد بانه سيذهب لمعرفة الدور البطولى الذي قام به الجنود الاميركان خلال معركة «جواد لكاتال» من ايقاف التقدم الياباني في المحيط الهادي، ولكن الفيلم يذهب الى ما هو أبعد، حيث يورطنا بحكاية افتراضية لمجموعة من الجنود من مشاة البحرية الذين انهكتهم الحرب عبر معركة نشاهد منها «أهوال الحرب».. وويلاتها من أجل البقاء على الحياة.. لا شيء يفكر به جميع الجنود إلا البقاء احياء.. فكيف لهم الوصول الى تلك المعادلة الصعبة، والنيران تنهمر عليهم مثل المطر في شتاء استوائي.

فيلم يقول وبكثير من الصراحة.. «اللعنة على الحرب» و«اللعنة» على من يوقد نارها!». ونحن نقول أيضاً... انها سينما الحرب.. وسينما الموقف.

النهار الكويتية في

08.07.2014

 
 

«الغواصة».. أهم فيلم ألماني عن الحرب

عبدالستار ناجي 

قدم المخرج الألماني وولفغانج بيترسن واحداً من أهم افلام الحرب في السينما الألمانية والسينما العالمية من خلال فيلمه التحفة «الغواصة» استناداً إلى رواية بذات الاسم للروائي الالماني لوثر جونثر بوفهايم وبطولة النجم الألماني يورغن بروكناو.

القارب، او الغواصة، سينما من نوع مختلف، تجري احداثه خلال الحرب العالمية الثانية، ويحكي الفيلم قصة «متخيلة» عن الغواصة «يو 96» وطاقمها الذي يضم مجموعة الجنود، الذين قرروا الذهاب بعيداً في مهمتهم القتالية، كما نتابع في ذلك الفيلم الذي ترجم ودبلج لاكثر من خمسين لغة، لحظات الترقب والاثارة خلال مجموعة المعارك التي خاضتها تلك الغواصة.

وهو واحد من أغلى الاعمال السينمائية الالمانية، التي تم انتاجها في عام 1981، حيث تجاوزت كلفته «32» مليون مارك الماني «بما يعادل 18.5» مليون دولار وهو رقم كبير قياساً باي انتاج الماني أو أوروبي في تلك المرحلة، الا انه استطاع ان يحقق النجاح وقبل كل هذا او ذاك، يحقق الهدف المحوري، حيث مسألة الانسان الالماني ومقدرته على مواجهة اقسى الظروف واللحظات، كما حصد الفيلم اكثر من «80» مليون دولار كعوائد من الاسواق العالمية.

الفيلم تجري احداثه بالكامل، داخل تلك الغواصة، ومن وجهة نظر الملازم، فيرنر «يقوم» بالدور هيربرت جرو ونماير» الذي تم تعيينه كمراسل حربي على الغواصة الالمانية «يو 96» في اكتوبر 1941 ابان الحرب العالمية الثانية.. ومن خلال تلك الغواصة نتعرف على قبطانها، يورغن بروكناو» وكبير المهندسين كلاوس وينمان. اللقاء الأول لفريق الغواصة يتم في ملهى ليلي، حيث تأتي بعض المفردات التي تحمل شيئاً من السخرية على قيادات التحالف ضد النازية، ومن بينها اشارة ضد رئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل.

وتمضي الأحداث، مع اقلاع تلك الغواصة، في صباح اليوم التالي، من فرما لاروشيل.. وما ان تهبط الغواصة في أعماق المحيط الأطلسي، حتى تبدأ الشخصيات تكشف عن أعماقها واختلافاتها الايدلوجية والفكرية، خصوصاً، بين اعضاء الطاقم الجاد، وبين قدامى المحاربين الذين يمتازون بالصلابة والقسوة، وبالذات القبطان «يورغن بروكناو).

وتمضي الأيام الأولى هادئة.. بطيئة.. عبر حكايات مشبعة بالملل.. والتكرار.. وفجأة يكتشف البحارة انهم يتحركون تحت سفينة ضخمة من قوافل الاعداء (الحلفاء) التي تجوب المحيط الأطلسي.. وفي الحين ذاته يتم اكتشافهم من قبل المدمرة البريطانية التي تهاجمهم، سرعان ما يتحركون هربا، بأقل كمية من الأضرار.

ثلاثة أسابيع مقرونة بالمواجهات العاصفة، فما ان تبدأ مشكلة أو مواجهة، حتى تنتهي لتبدأ اخرى اكثر ضراوة وقسوة.

وبين الظروف المناخية القاسية، وضغط الاضطرار للهبوط الى الأعماق.. تطلق الغواصة أربعة طوربيدات في اتجاه قافلة من السفن البريطانية.. تؤدي الى تدمير سفينتين، ولكن بقية السفن تظل تطارد تلك الغواصة وتواجهها بعصف قوى من القصف مما يضطرها الى الغوص في أعماق سحيقة، تعرضها الى ضغط عال، يكاد يدمرها بالكامل.

ويجد أعضاء الغواصة انفسهم بين تحديات لا توصف، قافلة من المدمرات البريطانية، والقصف المستمر.. والظروف الجوية القاسية، وأيضاً ضغط المياه على الغواصة بالذات في الأعمال السحيقة، ثم الضغط الناتج من الاختلاف بين اعضاء الطاقم والأوامر الصارمة التي يطلقها القبطان.
أهمية هذا الفيلم، ليست في المعارك التي تخوضها تلك الغواصة، بل بالمواجهات والمصاعب التي تعصف بعناصر الطاقم، نتيجة المواجهات فيما بينهم أولاً، ثم الضغوط النفسية.. وايضاً المعارك، حتى يشعر المشاهد في لحظة من اللحظات، وكأنه جزء من تلك المجموعة وانه يقع عليه ذات الضغط، وان الغواصة ستنفجر به.. ويموت.

لحظات قاسية ومدمرة، ولكنها في حقيقة الأمر تكشف عن اقتدار الجندي الألماني، الذي ظل صامداً يتلقى الأوامر.. وينفذها وهو يعلم جيدا بانه يخوض حربا لا تعنيه.. بل تعني «هتلر» وغطرسته.. وجبروته.

المغامرات في هذا الفيلم، تأخذ أبعادها، حينما تتحرك الغواصة في المنطقة القريبة من جبل طارق، حيث تطارد البواخر والطائرات والطائرات البريطانية تلك الغواصة ما يدفع طاقمها الى التوجه صوب الساحل الافريقي.. وهناك تواجه الغواصة مشاكل الغوص في الأعماق، ونفاذ الأوكسجين والخلل في السطح نتيجة الضغط العالي.. النهاية هي الدمار.. والقتل لعدد كبير من الطواقم البحرية ومن أجيال تلك الغواصة، التي كان جنودها نموذجاً للالتزام.. والانضباط.. والتضحية.

لحظات صعبة تحبس الأنفاس، بالذات، مع انخفاض الضغط.. والبرد.. ودخول المياه الى الغواصة.. وايضا الصواريخ (الطوربيدات) التي لا تكف عن مهاجمتها.. وأصابتها بكثير من الأضرار.

لحظات من الاحتراف السينمائي العالي المستوى، الذي نفذ ليجعل المشاهد، يعيش اعتقاداً بأنه حقا داخل تلك الغواصة القديمة.. التي ظلت صامدة في أحرج اللحظات ابان الحرب العالمية الثانية.

استغرقت عملية انتاج فيلم «داس بوت» (الغواصة) عامين (1979 - 1981)، وتمت عملية التصوير خلال عام كامل، وقد حرص المخرج أن تتم عملية التصوير مع الظروف المناخية وتحولاتها.. كما طلب من فريق الفيلم الالتزام بعدم قص شعورهم لمدة عام كامل، مشيرين إلى أن هوليوود، حاولت بعد الحصول على حقوق الفيلم انتاج نسخة أميركية، ورشح لها النجم بول نيومان، إلا أن الحرفية العالية التي أنجز بها الفيلم الأصلي الألماني، حال دون تحقيق الحلم الهوليوودي، ليبقى الفيلم واحدا من أهم الأفلام التي قدمت لنا بسالة الجندي الألماني، وهو يواجه كماً من الظروف لعل أبرزها أنه يخوض حربا يعلم بأنه خاسرها، فكان عليه رغم ذلك الالتزام بالأوامر، والانضباط في أقسى الظروف.. وأقسى اللحظات.. لنشاهد فيلماً سيظـل خالداً في ذاكرة السينما العالمية.

ومن اجل تحقيق هذا الانجاز السينمائي، تم تحقيق (بناء) نسختين من الغواصة، نسخة صورت بها المشاهد على سطح البحر، ونسخة للمشاهد الداخلية.

تم تصوير جميع مشاهد الفيلم بكاميرا خاصة هي (ارافليكس) قام بتصميمها المصور السينمائي جوست فاسانو، لنقل الجو الخانق داخل الغواصة.

ومن الشروط التي يتذكرها فريق الفيلم والتي أصر عليها المخرج، هي عدم الخروج نهائيا الى الخارج، بحيث تظل الملامح باهتة.. لم تلمحها الشمس.. والظهور بمظـهر الشحوب دائما.

كما يشير نجم الفيلم الالماني يورغن بروكناو بأنه حصل على تدريب لأكثر من شهر كامل لامكانية التحرك والجري داخل تلك الغواصة الضيقة، وأكد بأنه لطالما ارتطم رأسه وجسده بكثير من تلك المعدات في الغواصة، ما كان يسبب له كثيراً من الألم الذي كان يتحمله تم انتاج الفيلم بالتعاون مع التلفزيون الألماني، كما تم التصرف بالمشاهد الكاملة للفيلم لصناعة فيلم تلفزيوني من (100) دقيقة (ثلاث حلقات) عرضت من خلال الفتاة الثانية لـ«بي. بي. سي».

وفي 14 اكتوبر 2010، تم اطلاق نسخة خاصة من تلك السلسلة الكاملة مدتها 208 دقائق تمثل متعة كبيرة تضاف الى رصيد المخرج وولفغانج بيترسن.. الذي انتقل لاحقاً الى هوليوود حيث قدم عدداً بارزاً من أهم النتاجات السينمائية.

حصد الفيلم كثيراً من الكتابات النقدية الايجابية، ويعتبر أهم الأعمال السينمائية الألمانية لما تميز به من واقعية.

كما احتل الفيلم المرتبة 25 بين الأفلام الأهم عالمياً في مجلة «ابير».

ونشير هنا الى ان المخرج وولفغانج بيترسن قدم خلال مسيرته ايضاً عدداً بارزاً من الأفلام ومنها، قصة بلا نهاية 1984.. و«مرمى النار» 1993، و«الطائرة الرئاسية» 1997، و«العاصفة الكاملة»... و«تروي» 2004، وتلك الاعمال استقطبت أهم نجوم هوليوود الذين اشادوا بحرفيته.. والتزامه ومقدرته على تحدي الظروف.

فيلم «الغواصة» الألمانية، ليس فيلما عن الحرب، بقدر ما هو فيلم عن الانسان، الذي يجد نفسه تحت الضغوط، في ظل حرب ضروس.. طاحنة.. عليه ان يظل دائماً مطيعاً.. وملبياً للاوامر.. حتى لو كان غير مقتنع بها.

فيلم لا يفارقك حينما ينتهي.. بل يظل يفجر الاسئلة بداخلك حول مدى قدرة الانسان على التحمل.. والمواجهة.. والكينونة.

النهار الكويتية في

09.07.2014

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2014)