كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

رؤى نقدية

 
 
 
 
 

آلان رينيه: السينما ساحة للتلاعب بالحياة

فيكي حبيب

 

لا ثقل السنوات التسعين ولا شبح إعياء أو مرض، تمكَنا من محاصرة آلان رينيه («أب الموجة السينمائية الجديدة في فرنسا»)، داخل أسوار منزله الباريسي، مانعين إياه من السفر مع فيلمه الأخير إلى برلين حيث كان عرضه العالمي الأول قبل أسبوعين تقريباً، بل مشروع سينمائي جديد، انكبّ عليه صاحب «هيروشيما يا حبي» خوفاً من أن تباغته الساعة... وهذا ما كان.

رحل رينيه السبت الماضي بعد أيام قليلة من تتويج «حياة ريلي» في برلين بجائزة «الدبّ الفضي عن فيلم يفتح أفاقاً جديدة».

ولا شك في ان هذه الجائزة عنت له كثيراً، إن لم نقل أكثر من أي جائزة أخرى حصدها خلال مسيرته السينمائية الحافلة. فهي ليست مجرد تمثال صغير من شأنه ان يوضع على الرفّ في انتظار ان يتآكله الغبار، بل جائزة تكريمية لقيمتها المعنوية أثر كبير في نفس صاحب «لم تشاهدوا شيئاً بعد»... لا لأنها تأتي في نهاية الدرب، ولا لأنها موجّهة من مهرجان يحبه رينيه كثيراً، بل لأنها اعتراف أخير بشباب ابن الـ 91 الدائم وبقدرته على منافسة شبان السينما العالمية في مسابقة واحدة، بل مقارعتهم في التجديد وفتح «آفاق جديدة».

وقد تكون هذه الجائزة سبباً كافياً ليتوقف قلب رينيه عن الخفقان ويستكين، بعدما كافأه مهرجان برلين للمرة الثالثة (نال جائزة الدب الفضي سنة 1994 عن فيلم «تدخين/ لا تدخين» وسنة 1998 عن فيلم «نعرف الأغنية») بجائزة تفوح منها رائحة الشباب، في ما يُشبه الثأر من مهرجان «كان» الذي خذله أكثر من مرة في عقر داره... هو الذي ظل حتى الرمق الأخير يحارب الزمن ويتحدى علامات الشيخوخة.

وكم كان مفاجئاً بالنسبة إلى جمهور مهرجان برلين خلال انعقاد الدورة الأخيرة، إعلان منتج فيلم «حياة ريلي» جان لويس ليفي بعد نهاية العرض انّ رينيه منهمك بفيلم جديد يعدّ له الآن.

وأضاف: «كان عليّ أن ألتقيه السبت الماضي لنناقش المسودة الأولى للسيناريو الذي بدأ العمل عليه مع لوران إيربيه. طلب مني تأجيل الموعد إلى الاثنين لأنه لم ينته من العمل بعد، فأجبته انه عليّ أن أكون في برلين لتقديم «حياة ريلي»، فقال لي من دون تردد: «حياة ريلي» يجب ألا يُعيق إقلاع الفيلم الجديد».

أمجاد الماضي

آلان رينيه الذي اعتاد أن يُفاجئ جميع أولئك الذين ينتظرون من سينمائي في مثل سنه أن يتقاعد ويعيش على أمجاد ماضيه المشرق، لم يتمكن من معاندة الطبيعة هذه المرة... فكان أن «باغته» الموت وهو في غمرة انهماكه بالفيلم الجديد، قبل حتى أن يعرض فيلمه الأخير(«حياة ريلي») في الصالات الفرنسية (يبدأ عرضه في 26 الشهر الجاري) ويكتشف أصداءه عند جمهور بلاده بعدما كان لجمهور برلين أفضلية العرض الأول. وهناك شهدت «الحياة» الانقسام الكبير من حوله بين من اعتبر الفيلم تتويـــجاً لمسيرة سينمائي لا يتوقف عن الإبداع ومن رأى فيه سقطة مدوية في تاريخ حافل بالإنجـــازات. فماذا عن هذا الفيلم المأخوذ عن مســـرحية «حياة ريلي» للكاتب البريطاني آلان أيكـــبوم الذي يتعاون معه رينيه للمرة الثالثة بعــــد «تدخين/ لا تدخين» عام 1993 و«مخاوف خاصة في أماكن عامة» عام 2006؟

«ما يهمني في كل أفلامي هو الشكل»، يقول رينيه. ولعل فيلم «أن تحب وأن تشرب وأن تغني» (وفق العنوان الفرنسي لـ «حياة ريلي») هو فيلم «شكل» قبل أي شيء آخر. فهو، ونتيجة انصراف المخرج في السنوات الأخيرة عن التصوير الخارجي واستبداله بالعمل داخل الاستوديو، يتميز بديكور مسرحي حيث لا أبواب في المنازل بل ستائر ولوحات من القماش المرسوم أسوة بديكورات الخشبة من دون أن ننسى التمثيل الذي يبدو أقرب إلى المسرح منه إلى السينما، وشغف رينيه بالرسوم المتحركة التي كانت حاضرة في الفيلم بتوقيع بلاتش الذي يعدّ أحد أبرز فنانيها... وليس هذا الأسلوب بمنأى عن المضمون الذي رأى فيه بعضهم تشديداً على تصوير الحياة والحب وكأنهما مسرحية مؤلفة من فصول لا تنتهي. ولعل ما يعطي هذا الانطباع هو عبثية المواقف التي تصادفها الشخصيات الرئيسة التي تنقلب حياتها رأساً على عقب بعد أن تكتشف أن أيام صديقها «جورج ريلي» باتت معدودة نتيجة إصابته بمرض لا مفرّ منه.

وإذ تستهل الأحداث مع الطبيب «كولين» (إيبوليت جيراردو) وزوجته «كاترين» (سابين أزيما رفيقة رينيه في الحياة) وهما يتحاوران في شؤون الدنيا، يتعمد رينيه نسف الخط الفاصل بين الفن والحياة في الدقائق الأولى من فيلمه، فلا نتمكن من معرفة ما إذا كان ما يقولانه جزءاً من يومياتهما أو جزءاً من النص المسرحي الذي يعملان عليه طوال الفيلم. وسرعان ما نصل إلى العقدة التي ستسيّر الأحداث والمسرحية جنباً إلى جنب، باكتشاف «كاترين» مرض «جورج ريلي». وهنا ستفتح الستارة أمام زوجين آخرين: أولاً صديق «ريلي» الحميم «جاك» (ميشال فيليرموز) وشريكته «تمارا» (كارولين سيلهول)، ثم زوجة «ريلي» «مونيكا» (ساندرين كيبرلين) وشريكها «سيمون» (أندريه دوسولييه) الذي هجرت «ريلي» من أجله.

وإذ يقرر هؤلاء إشراك «ريلي» في المسرحية التي يحضّرون لها علّه ينسى مرضه، تتصاعد الحبكة سريعاً، ليصبح «جورج ريلي» الشغل الشاغل للأزواج الثلاثة... فالأحاديث كلها عنه، والعواطف متجهة صوبه، والحكايات تنسج من حوله، أما هو فيبدو وكأنه يلعب بالجميع ومع الجميع من دون أن نرى له وجهاً على طول الدقائق الـ 108 (مدة الفيلم)... أما ذروة الأحداث فتصل حين يطلب «ريلي» من السيدات الثلاث كل واحدة منهن على حدة مرافقته في رحلته الأخيرة إلى تينيريف. وطبعاً سيحتدم الصراع حين تدرك كل واحدة منهن أنها لم تكن الوحيدة التي اختارها، أما أزواجهنّ فيبدو أن لا حول لهم ولا قوة أمام سحر «ريلي» الذي لا يضاهيه سحر.

فهل نحن أمام مسرحية؟ أم فيلم سينمائي؟ أم مشهد من الحياة؟ أم أننا أمام الخيارات الثلاثة مجتمعة ليقول لنا عبرها آلان رينيه فلسفته في أن الحياة ليست إلا مسرحية أو فيلماً سينمائياً، ولهذا لا بدّ أن تستمتع بها طالما ما زلت قادراً على الحب والشرب والغناء!

ولعل رحيل رينيه «المباغت» بعد العرض العالمي الأول للفيلم حسم الأمر وأتى بالجواب القاطع: إننا أمام وصية أخيرة لمبدع كبير جعل من السينما على الدوام نوعاً من التلاعب بين الناس، حتى وإن كانت أفلامه الأولى اتسمت بمأسوية تواكبت مع نزعة تجديدية ربطته بالموجة الفرنسية الجديدة مع أن إبداعه أتى سابقاً عليها وفي أحيان كثيرة أكثر تميزاً. ورينيه المولود العام 1922 بدأ الإخراج أواسط الخمسينات بأفلام وثائقية تعتبر من تحف هذا النوع على الصعيد العالمي ولا سيما منها «ليل وضباب». أما سينماه الروائية والتي غالباً ما اقتبسها من نصوص أدبية كبيرة تحمل تواقيع مرغريت دورا («هيروشيما يا حبي») وآلان روب غرييه («العام الماضي في مارينباد») وجان كايرول (موريال أو «زمن العودة») وجورج سمبران («انتهت الحرب»)، فإنها اتجهت لاحقاً صوب الامتزاج بالمسرح كما بالغناء ليتابع إنتاجها كنوع من «التسلية بين أصدقاء» مع كتاب وممثلين وتقنيين تحولوا في العمل معاً إلى ما يشبه الفرقة السينمائية (على وزن الفرقة المسرحية). ومن ابرز أفلامه الأخيرة «الحياة رواية» و«أريد العودة إلى الديار» و«العشب المجنون» و«ليس على الشفتين».

الإثنين، ٣ مارس/ آذار ٢٠١٤ (٠٠:٠)

السينما الفرنسية تفقد جزءاً من ذاكرتها وخيالها بوفاة آلان رينيه

باريس - أ ف ب

توفي السينمائي الفرنسي آلان رينيه صاحب أفلام مثل «هيروشيما مون امور» و «ليزيرب فول»، ليل السبت - الأحد في باريس عن 91 سنة.

وطبع آلان رينيه سينمائي الذاكرة والخيال الانتقائي والخارج عن كل تصنيف، تاريخ السينما الفرنسية من خلال أعمال كبيرة جسدت باكوراتها فترة التجدد المعروفة بـ «الموجة الجديدة».

تُناهز افلامه الطويلة، العشرين. ولد في حزيران (يونيو) 1922 في فان (موربيان). برز شغفه بالادب في سن مبكرة. في سن الثالثة عشرة صوّر فيلماً قصيراً بعنوان «فانتوماس». أوقف دراسته الثانوية وتسجّل في معهد الدراسات السينمائية العليا في باريس في العام 1943.

وبدأ مسرته كفني مونتاج، ثم انتقل الى أفلام الفن. فأخرج «فان غوخ» (1946) و «غيرنيكا» (1950) و «غوغان» (1951) و «التماثيل تموت ايضاً» (1953) التي حازت جوائز في مهرجانات كثيرة. وحققت له شهرة في مجال الافلام الوثائقية تعززت بشكل باهر من خلال فيلم «نوي اي برويار» (ليل وضباب) في العام 1955 الذي يتناول فيها معسكرات الموت النازية.

الشاعرية الخارجة عن المألوف في أفلامه الروائية الاولى مثل «هيروشيما مون امرو» (هيروشيما حبي) (1985) و «العام الماضي في مرايينباد» (1961) فاجأت الجمهور والنقاد. وعزز فيلما «مورييل» (1962) و «الحرب انتهت» (1966) وهي تأملات في الذكرى والذاكرة والحرب والالتزام، تميز السينمائي وموهبته.

فاز فيلمه (قلوب) وهو كوميديا فيها اجواء حزينة وحالمة حول موضوع العزلة جائزة الاسد الفضي عن فئة افضل اخراج في مهرجان البندقية العام 2006. وقبل ذلك في العام 1995، حاز جائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية عن مجمل أعماله.

وبعد غياب دام ثلاث سنوات، عاد العام 2009 الى الاستديوات لتصوير فيلم «ليزريب فول» وهي تأمل فيه الكثير من الخيال في الرغبة مع سابين ازيما واندريه دوسولييه. وصور بعد ذلك «لم تروا شيئاً بعد» (2012) و «ايميه بوار ايه شانتيه» (2014) الذي عرض في مهرجان برلين الذي يبدأ عرضه في فرنسا في 26 آذار (مارس) الجاري في فرنسا.

تزوج في البداية من فلورانس مالرو، لكنه كان على علاقة مع سابين ازيما التي تزوجها في العام 1998.

الحياة اللندنية في

07.03.2014

 
 

عودة إلى ثقافة السينما

القاهرة - «الحياة» 

مبادرة سينمائية من نوع جديد تفتتحها شركة افلام مصر العالمية بعنوان «زاوية» بدءاً من 12 (آذار) مارس الجاري في قاعة سينما أوديون في وسط القاهرة بالفيلم السعودي الروائي الطويل «وجدة» في حضور مخرجته هيفاء المنصور.

وأكدت المنتجة والمخرجة ماريان خوري أن مبادرة «زاوية» تسعى إلى التشديد على أهمية السينما وإعادة نشر الثقافة السينمائية في مصر، معلنة أن إدارة المبادرة ستعمل على استخدام دور العرض المتاحة في الساحة المصرية لتقديم مختارات بديلة من الأفلام العربية وكل أنحاء العالم في شكل مستمر طوال العام.

وسيلقي البرنامج الخاص بالقاعة الضوء على الأفلام المحلية المستقلة وذلك لتشــجيع الشباب من المخرجين المصــــريين والعرب وتسويق أعمالهم وإتاحاتـــها لجمهور السينما، حيث علـــى هامــش اختيار فيلم جديد أسبوعياً، سيتم تقديم فعاليات خاصة وورش عمل وندوات حول الأفلام المعروضة.

وأكدت خوري انها تهدف من خلال المبادرة الى دمج التعليم مع الترفيه من خـــلال برنامج «التعليم والسينما»، بالتعاون مع المدارس والجـــامعات المصرية «الى نشر التعليم من خلال السينما وذلك لمساعدة الأجــــيال الشـــابة في تطوير الحاسة النقدية والفنية والتحليلية لديهم». وتأتـــي مبادرة «زاوية» بعد نجاح «بانوراما الفيلم الأوروبي» التي أصــبحت من أهم الفعاليات السينمائية في مصر منذ افتتاحها في 2004.

مبادرة شبابية

وقد وقع الاختيار على سينما أوديون لتكون المقر الدائم الأول لـ «زاوية». ويأمل فريق العمل من الشباب الذي يعمل تحت إشراف المخرجة والمنتجة ماريان خوري انتشار «زاوية» في كل أنحاء مصر في المستقبل حيث تؤمن المنتجة والموزعة ماريان خورى بأن استعادة جمهور السينما لن تكون إلا عبر أطفال المدارس، بأن نزرع فيهم الارتباط بالسينما. وتقول إنها منذ 10 سنوات تحاول تغيير الثقافة السينمائية السائدة، ولهذا تدعم وبقوة مشروع التعليم والسينما، وفي الوقت نفسه لا تبدي تحفظاً على «السينما التجارية» باعتبارها موجودة في العالم كله، وتحظى بجماهيرية لدى قطاعات واسعة من المجتمع... وتقول خوري ان «زاوية» تنخرط في «سياق تجربة «سينمنيا» التي أعتقد أننا بدأناها في وقت مبكر، ولم تكن هناك الأجواء الحالية نفسها التي تتقبل السينما المختلفة، ولا التكنولوجيا الموجودة فى الوسائط التي نعرض من خلالها... فحينها كانت التقنية السائدة هي الـ 35 ميللي، وبدايات الديجيتال، ولم يكن هناك هذا الدور الكبير لمواقع التواصل الاجتماعي، وكل هذا العدد من القنوات التي تستطيع من خلال برنامجها التسويق للمشروع.

لكنّ هناك فارقاً اليوم، وأعترف بأننا في المبادرة الأولى اخترنا موقعاً خاطئاً... فجمهور المولات وقتها لم يكن ليستطيع التفاعل مع هذه السينما، ووقتها كنا نحتاج الى تغيير ثقافة المشاهدة، أما هذه المرة فقررنا أن نبدأ في سينما «أوديون»، لنصل الى كل سينمات مصر بحيث تكون هناك زاوية للسينما المستقلة.

سينما مستقلة

وإذ يُعرض فيلم كل أسبوع، تؤكد خوري ان الهدف «إعطاء الفرصة للمشاهدين ليستطيعوا متابعته، وستكون هناك أفلام من العالم كله سواء عربية أو مصرية أو أوروبية أو أميركية... المهم أن تكون مستقلة، «مع العلم ان ليس من شروط الفيلم المستقل أن يكون خالياً من المتعة، فمثلاً فيلم «اختطاف» الذي عرضناه ضمن فعاليات البانوراما يشبه تماماً فيلم «كابتن فيليبس» لتوم هانكس، وستكون لدينا أفلام كوميدية وفيها كل الأنواع».

وإذ تُسأل ماريان خوري عن دوافع تفاؤلها وحماستها تجيب: «ما لمسته خلال البانوراما أن جزءاً كبيراً من جمهورنا كان من الأطفال الذين بدأنا معهم منذ 10 سنوات من خلال قسم التعليم والسينما، وهو ما تطور هذا العــام فأصبحت لدينا مدارس مختلفة ومتعددة تأتي بطلابها لحضور العـــروض، وكنا نخاطب كل مدرسة بلغتها وثقافتها، وأملي في الشباب الذي سيدير «زاوية» كبير، وآمل أن يواجهوا المعوقات ويحلّوا المشاكل بأنفسهم، وأيضاً الجمهور الكبير الذي حضر عروض الأفلام القصيرة وقمنا بعرضها مرتين متتاليتين، فهناك حماسة حقيقية وصادقة سواء من الجمهور أو من الصناع وهو ما يعطيني دوماً أملاً في المستقبل».

وعما إذا كانت تأمل بأن يصبح هناك جمهور ثابت لهذا النوع من السينما تقول خوري: «بالطبع فرويداً رويداً تستطيع التغيير لو كنت مصرّاً وقادراً على تحدي المعوقات، فهذا العام في الـ «بانوراما» جذبنا عشرة آلاف مشاهد، والأفلام جذبت قطاعات كبيرة من الجمهور والتنوع الذي راعيناه لبّى أذواقاً كثيرة».

وأخيراً عن مسألة التعليم والسينما، توضح خوري: «منذ الدورة الأولى للبانوراما ونحن نحرص على فتح قناة اتصال بيننا وبين الأجيال الصغيرة والطلاب، وعلى ان نجد أفلاماً تخاطب عقول التلاميذ ومناهجهم وفي الوقت نفسه تتحدث بلغتهم ومواضيع تهمهم... وصنعنا أيضاً علاقة مع المدرّسين وكيف يحضرون طلابهم لمشاهدة أفلام لها علاقة بدراستهم أو يتم استخدامها كوسيلة إرشادية لتوضيح مناهجهم، وهو ما يمكن أن يعــطي الطلاب فرصة ومساحة جيدة للنقاش، فقدمنا هذا العام ورشة عمل وعلـــى مدار يومين كاملين وجّهناها الى المدرسين أنفسهم وكيف يمكن أن يتعلموا تقنيات وأدوات جديدة للتدريس، وخُصص أول أيام الورشة للمدارس الحكومية، والثاني للمدارس الخاصة، وقدمنا تجربة جديدة هـــذا العام من خلال طريقة تستخدم في العالم مع السينما والتعليم وهي عمـــل ملف لكل فيلم يكون فيه ملخص للأحداث وخلفيته وأسئلة موجهة من المدرس الى طلاب متدرجة ومتنوعة وتصلح لكل الطلاب ليبدو الأمر بالنسبة اليهم كلعبة ممتعة وبمستويات متدرجة وكان لدينا 15 فيلماً».

أما الغرض من هذا، فهو «خلق علاقة للطفل بالسينما وهذه هي الطريقة الوحيدة التي نستطيع بها استعادة الجمهور وأن نعيده مرة أخرى للسينما كطقس من طقوس الحياة اليومية وكيف تصبح قاعات العرض مملوءة عن آخرها. نحن هنا نحاول تغيير الذوق العام، وللعلم هذا هو واجبنا كمواطنين قبل أن نكون سينمائيين، وأن نجعل السينما جريئة وجديدة ومسلية وأن نغير مفاهيم الثقافة السينمائية».

الحياة اللندنية في

07.03.2014

 
 

ربيكا هول:

الرومانسية حياة المرأة لكن العصر عصر الرجل

باريس – نبيل مسعد 

تعرّف الجمهور العريض إلى الممثلة البريطانية ربيكا هول في العام 2008 من خلال فيلم «فيكي كريستينا برشلونة» الذي أخرجه وودي آلن، وتقاسمت بطولته مع بنيلوبي كروز وسكارليت جوهانسون وخافيير بارديم. ومنذ ذلك الحين، لمعت هول في أفلام عدة ناجحة أبرزها: «المدينة» للسينمائي والممثل بن أفليك، و «أيرون مان 3» لشين بلاك، و «ليدي فيغاس» لستيفن فريرز. وها هي الآن بطلة مطلقة لفيلمين مهمين هما «وعد» للفرنسي باتريس لوكنت والمأخوذ عن عمل أدبي ألفه ستيفان زفايغ في ثلاثينات القرن العشرين، ثم «دائرة مغلقة» الذي يتعرض لحكاية جاسوسية كاتمة للأنفاس، وأخرجه جون كروولي.

فيلمان مختلفان كلياً في مضمونهما، يسمح كل منهما لربيكا هول بتقديم الدليل على طاقتها الدرامية المتعددة الوجوه والتي تضعها في مرتبة ممتازة وسط فنانات جيلها من الممثلات الأميركيات والأوروبيات. وهول هي إبنة المخرج المسرحي البريطاني المرموق السير بيتر هول، وتبلغ من العمر 31 سنة ولمناسبة ظهور الفيلمين المعنيين في دور العرض، زارت هول باريس وهنا حوار معها:

·        أنت بطلة فيلمين لا علاقة بينهما، ففيلم «وعد» ينتمي إلى اللون الرومانسي، بينما الثاني «دائرة مغلقة» يدور في عالم الجواسيس والمغامرات الخطرة. حدثينا عن العملين وعن ميلك الشخصي كممثلة الى نوع محدد من الأدوار؟

- صحيح أن الفيلمين مختلفان إلى درجة كبيرة، فبينما يروي «وعد» حكاية غرام غير مباح بين زوجة شابة ومساعد زوجها في أعماله، يتناول «دائرة مغلقة» الموقف الخطير الذي تجد فيه محامية نفسها إثر اختيارها من الاستخبارات البريطانية لتشارك في دعوى قضائية تتعلق بحركة إرهابية حساسة. وكلما حققت المحامية في الموضوع اتضح لها أن الأمور مختلفة عما قيل لها في الأساس، الأمر الذي يجعلها في قلب دائرة مغلقة يصعب الفرار منها.

أنا فخورة بمشاركتي في هذين الفيلمين، خصوصاً بفضل النوعية المتفوقة التي تميزهما. غير أنني كممثلة أشعر وكأنني تسلمت هدية من السماء تكمن في الفرصة التي أتيحت لي من أجل كسب ثقة الجمهور وأهل المهنة على السواء في مجالين بعيدين من بعضهما بعضاً، مثل الدراما العاطفية والمغامرات العنيفة. أما عن ميلي الشخصي، كممثلة، تجاه أحد الأنواع، فلا أخفي عليك أنني مولعة بالكوميديا، وقد جربت هذا اللون في فيلم «فيكي كريستينا برشلونة» وسعدت بهذه التجربة إلى درجة تفوق الخيال. لكنني لا أرى نفسي متخصصة في لون محدد مهما أحببته، وأفضّل ممارسة التنويع وهو يظل أفضل وسيلة معروفة لتحقيق الذات واكتساب الخبرة اللازمة في كل ميادين فن التمثيل.

·        أنت مقنعة إلى أبعد حد في شخصية المحامية في فيلم «دائرة مغلقة»، فهل تدربت قبل بدء التصوير مع أشخاص ينتمون إلى عالم المحاماة؟

- نعم هذا فعلاً ما حدث، إذ حصلت من خلال الشركة المنتجة للفيلم، على تصريحات خصوصية سمحت لي بحضور جلسات مغلقة في المحاكم العليا في لندن، واستطعت كذلك التحدث طويلاً مع محامين وحتى مع قضاة من أجل أن أتشرب العقلية السائدة في هذا الوسط بالتحديد. ومع ذلك بقيت بعض الأبواب مغلقة في وجهي كلياً، واضطررت أن ألجأ إلى خيالي وإلى محادثات طويلة مع المخرج جون كروولي، من أجل أن تبدو تصرفات الشخصية التي أؤديها منطقية، كما أن شريكي في بطولة الفيلم الممثل إيريك بانا ساعدني وقدم لي النصائح المفيدة بفضل انتمائه أصلاً إلى عائلة محامين.

·        أنت معروفة كممثلة مسرحية مخضرمة، إضافة إلى أعمالك في السينما، فهل ساعدتك شهرة والدك في خوضك تجربة المسرح وأنت بعد عشرينية، أي في مطلع الألفية الحالية؟

- هذا صحيح، وأنا لا أنكر فضل والدي عليّ وعلى حياتي الفنية.

·        من النادر أن تعترف فنانة بمثل هذا الشيء؟

- ولماذا أنكر ما هو واضح مثل الشمس في عز النهار؟ أنا ابنة أحد ألمع المخرجين المسرحيين البريطانيين، وقد قررت منذ صباي أن أحترف التمثيل المسرحي، فأنا كنت أتابع عمل أبي عن قرب وألتقي أهم نجوم المسرح اللندني في بيتنا مرات عدة في الأسبوع. لقد كبرت في جو مسرحي أصيل، وبعد ذلك انضممت إلى مدرسة مرموقة تعلّم فن الدراما وتخرجت فيها بتفوّق. وقد منحني والدي فرصة الظهور في مسرحيات من إخراجه وأنا بعد في بداية العشرينات من عمري. ولا شك في أن مثل هذه الفرص لا تتاح لجميع الشابات اللاتي يرغبن في ممارسة مهنة التمثيل. أنا محظوظة وأعترف بذلك، الأمر الذي لا يقلل من درجة موهبتي بالمرة، فلولا قدرتي على أداء الأدوار المعروضة عليّ لما حصلت عليها، حتى من أبي، إذ إنه لن يسمح لنفسه أبداً بتقديم عرض رديء لمجرد إرضاء شخص عزيز عليه.

مسؤولية أثقل

·        وهل تنوين ممارسة الإخراج المسرحي مثل والدك؟

- أعجز عن الإجابة عن مثل هذا السؤال في الوقت الحالي لأنني مشغولة جداً بنشاطي كممثلة ولا أفكر في غيره، لكنني لا أدري ماذا سيكون ميلي المهني في السنوات المقبلة، وإذا كنت سأشعر في يوم ما بالحاجة إلى خوض تجربة مختلفة عن التمثيل وربما أثقل منه من حيث المسؤولية.

·        هل تعتـــبرين أن نجوميتك السينمائية الدولية الآن هي نتيجة طبيعية لشهرتك في المسرح البريطاني؟

- لا أعتقد ذلك بالمرة، وعلى رغم تعلمي الكثير من خلال تجربتي المسرحية لا أستطيع القول إن نجاحي في السينما يتعلق بأي شكل من الأشكال بما فعلته فوق الخشبة، وربما انني أستمد هنا وهناك من عملي المسرحي بعض المقومات التي تجعلني أمثّل أي دور سينمائي يعرض عليّ بطريقة معينة فضلاً عن غيرها، لكنني في النهاية أعترف بأن التمثيل أمام الكاميرات يتطلب عكس ما يحتاجه المسرح تماماً. لقد أدركت مع مرور الوقت ما الذي يجب تفاديه فـــي السينما بالنسبة الى ما اعتدت فعله كل ليلة في العمل المسرحي، وأقـــصد بذلك الإيقاع البطيء إلى حد ما في الأداء، والتمعن في التفاصيل حتى يفهم المتفرج الحبكة جيداً ويتــأقلم مع عقلية الشخصيات الموجودة أمامه، ثم التكلم بصوت مرتفع وواضح وممارسة الحركات الكبيرة بالأيدي والتمادي في التعبيرات بالوجه حتى يستــطيع المتفرج الجالس في الصف الأخير، متابعة العرض من دون أن تفوته التفاصيل. وكل ذلك لا يفيد في السينما إذ إن المطلوب هو السرعة والتخفيف قدر المستطاع من حدة المشاعر والحركة، لأن الكاميرا تكبّر الأشياء الصغيرة عشرات المرات.

·        أنت إذاً صاحبة نجوميتين، واحدة في المسرح والأخرى فوق الشاشة الفضية، أليس كذلك؟

- نعم، وأنا مدينة لنجوميتي السينمائية لوودي آلن الذي منحني أحد الأدوار المهمة في فيلمه «فيكي كريستينا برشلونة» إلى جانب عمالقة من طراز خافيير بارديم وبنيلوبي كروز وسكارليت جوهانسون.

الجمهور النسائي

·        في فيلـــم «وعد»، تؤدين شخصية امــــرأة شابة متزوجة من رجل يكبرها سناً إلى درجة كبيرة وتقـــع في غـــرام الموظف المسؤول عن إدارة أعمال الــــزوج، وهو شاب مثلها، لكن الذي يحدث هو بقاء الـــزوجة مخلصة لشريك حياتها والمــوظف كذلك لرب العمل ولا يبوح أي منهـــما بمشاعره للثاني. والحبكة تدور في أيام الحرب العالمية الأولى، أي قبل العام 1920. هــل تعتــبرين مــــثل هذه الرومانسية معاصرة على رغم التغييرات التي طرأت على العقليات عبر مرور الأعوام؟

- نعم، وأنا متأكدة كلياً من ذلك، لكن الذي يحدث هو أن المرأة تجد نفسها الآن في موقع يجبرها، إذا أرادت أن تقتحم ميدان العمل إلى جوار الرجل، على تجاهل رومانسيتها وتقمص شخصية غير شخصيتها الطبيعية حتى تبدو شجاعة وقاتلة إلى حد ما، وإلا وجدت الطريق مسدوداً أمامها. صدّقني إذا قلت لك إن الرجل هو المسؤول الأول عن فقدان المرأة جوهر هويتها في هذا الزمن لأنه لا يؤمن بقوة الرومانسية إطلاقاً وينظر إلى أي إمرأة تبرز مثل هذه الصفة على أنها ضعيفة ويمكن الضحك عليها بسهولة. الرومانسية هي حياة المرأة، وأعتقد بأن الجمهور النسائي يشاركني وجهة نظري هذه ويقبل على مشاهدة الفيلم ربما أكثر من مرة.

·        وهل أنت إمرأة رومانسية في حياتك الشخصية؟

- نعم، وهذا الشيء يربطني بالشخصية التي مثّلتها في «وعد»، لكنني لست جاسوسة إطلاقاً ولا محامية، وبالتالي لا علاقة لي بالدور الذي أديته في فيلم «دائرة مغلقة» سوى أنه من أحلى أدواري لأنه سمح لي بممارسة التنويع في عملي، وهذا ما أتمناه كممثلة.

·        ما هي مشروعاتك الآنية؟

- الدخول إلى الأستوديو من أجل إنهاء تسجيل الشريط الصوتي لآخر فيلم مثلت فيه واسمه «تجاوز»، وهو من إخراج وولي فيستر، علماً أن تاريخ نزوله إلى الصالات السينمائية الأميركية هو 14 نيسان (أبريل) المقبل.

الحياة اللندنية في

07.03.2014

 
 

عالم محمد خان:

البحث عن فارس في المدينة

محمود عبد الشكور 

(1)

لو شاهدت أفلام السبعينات المصرية، ثم شاهدت فيلم "ضربة شمس"، لن تبذل جهدا كبيرا فى استنتاج أنك أمام مولد سينما مختلفة ومخرج مختلف هو محمد خان، ورغم أن الفكرة مستلهمة من فيلم مايكل أنجلو أنطونيونى الأشهر "تكبير الصورة"، إلا أن فايز غالى مؤلف "ضربة شمس"، لم ينقل الفيلم الأجنبى، ولكنه صنع عملا متماسكا وجيدا، له حبكة بوليسية، إلا أنه بالأساس فيلم عن الصورة.

بطلنا شمس (نور الشريف) المصور النشيط، كان يعتقد أن الصورة السريعة واللقطة الخاطفة وحدها تجعله يفهم كل شئ، ثم اكتشف أن الأخطر هو ما وراء الصورة،  الأخطر هو المشهد بأكمله وليست اللقطة الواحدة، المظهر خادع تماما: فرح يحضره رجال أعمال كبار يكشف عن جريمة قتل تقود الى سلسلة جرائم، وعصابة ضخمة تتاجر فى الآثار، تجربة شمس بمثابة ضربة زلزلت كيانه، وما بين مشهد البداية فى حجرة منزله الضيق، ومشهد النهاية فى قلب ميدان التحرير الواسع، تتحول الشخصية الى القراءة الأعمق لصورة عصرها وزمانها ومكانها.. تغيّرتْ حياة شمس الى الأبد بعد أن أصبح فى قلب الصورة، وكان قد تعوّد فقط على أن يكون فى خارجها.. هذا هو معنى الفيلم البديع.

ولأن الفيلم اصلا عن الصورة، فقد أتاح السيناريو أن ينطلق المصور سعيد شيمى، ورفيق عمره محمد خان لينقلا صورة القاهرة فى فيلم روائى بطريقة لم يسبق إليها إلا فيلم "حياة أو موت " فى الخمسينات، انبهار شيمى وخان بالمكان ليس معلقا فى الفراغ وليس مجانيا، ولكنهما يبحثان عن الإنسان فى المكان، كل موقع تصوير يرتبط عضويا بالشخصيات والدراما والمغزى المطلوب، صالة البلياردو مثلا أمام دار القضاء العالى،  ليست إلا الترجمة البصرية لبداية اللعبة بين شمس وصديقه رجل الشرطة (حسين الشربينى) مع العصابة المجهولة، أما عربات المترو فهى خط النهاية للمغامرة، اللقطة الإفتتاحية  من شباك شمس التى تجعل السيارات خارج التركيز البؤرى فتظهر ضبابية غائمة غير واضحة المعالم (تماما كاللقطة الإفتتاحية لفيلم أنطونيونى ايضا نقطة زابريسكى) هى الترجمة البصرية لرؤية شمس قبل خوض التجربة، محمد خان هو ترجمان مدينة القاهرة بغير منازع، هذه الشخوص جزء من المدينة، ضوضاء الشوارع هى جزء من فوضى الشخوص وأزمتها (قال لى المخرج محمد خان أنه طلب من كمال بكير مؤلف الموسيقى التصويرية أن يعطى انطباعا بأننا فى غابة وحشية فاستخدم أيقاعات الطبول).
وهناك دوما مسحة تسجيلية واضحة لإعطاء نبض الحياة ومذاقها، لدرجة أنك تسطيع أن تصنع فيلما كاملا عن القاهرة من اللقطات الطويلة لها فى أفلام محمد خان الروائية، أصبحت تلك اللقطات وثائق بصرية:

هكذا كان الإكسلسيور فى السبعينات، وهناك الكاتدرائية بالقرب من عبد المنعم رياض، والتى أزيلت بسبب أعمال بناء كوبرى السادس من أكتوبر، وهذا هو الكوبرى المعدنى فى ميدان التحرير (لحقتُ أيامه الأخيرة فى بداية الثمانينات)، وتلك ساحة السيارات أمام دار القضاء العالى حيث معظم الموديلات صغيرة وعلى قدّها، لاحظ أيضا أنه لا توجد فى الفيلم فتاة أو سيدة مصرية واحدة محجبة، هناك واحدة فقط تظهر فى لقطات المطار ملامحها آسيوية.

اكتشف شمس فى النهاية أن هناك مافيا تولد فى بلده (من الأفلام المبكرة جدا التى تتحدث عن طبقة البيزنس الجديدة)، وأنها ليست بعيدة عنه كما اعتقد (قتلت صديقه الصحفى وحاولت قتل صديقه الشرطى بل وقتله هو مع صديقته)، اتسع الكادر أمام المصور النشيط، شاهد امرأة رائعة الجمال  مثل فينوس تحترف القتل (ليلى فوزى فى دور صامت مذهل)، أىّ مظهر خادع هذا ؟ تمزقت صورة شمس بين عدة مرايا تعبيرا عن شروخ فى داخله، كان لابد من ضربة لكى يستفيق، فى النهاية، تستقبله الكاميرا مع فتاته (نورا)، تصعد معهما سلم التحرير المعدنى (قام سعيد شيمى بتصوير المشهد الطويل باستخدام ونش الكهرباء الذى يستخدم فى تركيب لمبات الأعمدة لإعطاء تأثير صعود الكرين)، ينفتح الكادر على عالم جديد، من لقطة متوسطة الى لقطة واسعة جدا، بينما تستقبل العاصمة يوما آخر، فى انتظار الشمس التى ستجعل الصورة أوضح، حتى لو لم تكن أجمل.

(2)

لو كانت هناك خمسة أفلام كبيرة فى تاريخ محمد خان فسيكون من بينها فيلم "الحريف"، ولو كانت هناك خمسة أفلام تشهد على موهبة المشخصاتى لا النجم عادل إمام فسيكون من بينها فيلم "الحريف"، ولو كانت هناك خمسة أفلام مميزة تناولت حياة المهمشين فسيكون من بينها نفس الفيلم.

عُرض الفيلم عام 1984، كتب قصته محمد خان وبشير الديك، وانفرد الديك بالسيناريو والحوار ليدشن نموذجا ناضجا لما يطلق عليه "فيلم الشخصية"، فى هذه النوعية القليلة فى السينما المصرية تختفى الحبكة التقليدية، وتصبح المشاهد ضربات فرشاة فى لوحة الشخصية المحورية، عندما تكتمل الملامح ينتهى الفيلم، ولكن البطل هنا ليس فارس العامل فى ورشة الأحذية فقط، ولكن يشاركه البطولة الشارع ( تفتتح الفيلم كلمات أمينة جاهين بصوت أحمد زكى:   فيه ناس بتلعب كوره في الشارع.. وناس بتمشي تغني.. تاخد صوره في الشارع.. في ناس بتشتم بعض.. تضرب بعض.. تقتل بعض في الشارع .. في ناس تنام ع الأرض في الشارع.. وناس تبيع العرض في الشارع.. في الشارع أخطاء كتير صبحت صحيحه.. لكن صحيح هتكون فضيحه.. لو يوم نسينا وبوسنا بعض في الشارع).

فى أفلام خان يبدو المكان والإنسان وجهان لعملة واحدة، مهنة فارس صنع الأحذية، والحذاء أيضا وسيلته للعب الكرة فى الساحات، انفصل عن زوجته، ولكنه يحتفظ بحبها، أما ابنه فهو نقطة ضعفه، وعنوان بهجته، الكرة لم تصنع له ثروة، لأنه يلعب فى دورى المهمشين غير الرسمى، ولأنه يتعرض للإستغلال من مهمّش آخر (عبد الله فرغلى)، بطلنا ليس شريرا بل "فارس"، الاسم الذى يستخدمه خان كثيرا لتمجيد أبطاله، عندما قلت له : "أنتم نشأتم فى زمن عبد الناصر.. لذلك ظل البحث عن فارس يلازمكم حتى بين الغلابة" ، أعجبه المعنى كثيراً، ضحك ولم يعلّق.

فيلم "الحريف" بورتريه بحجم أحلام الناس العادية، منسوج بتفاصيل إنسانية مؤثرة، واقعية خان ليست خشنة أو صادمة، هو يحافظ على واقعية المشهد، ولكنه يترك بينك وبينه مسافة لكى تتأمله، شريط الصوت كيان حى، تستطيع أن تصف هذا الشريط  عنده بأنه فيلم مواز من الصمت والأصوات، كاميرا سعيد شيمى تلتقط أدق التعبيرات، تم التصوير فى ساحة عبد المنعم رياض، الفيلم من إنتاج أفلام الصحبة مبدعى فيلم "سواق الأوتوبيس"، جمعوا قروشهم، واعتمدوا على أنفسهم، عاطف الطيب يتابع الإنتاج.

كان الدور أصلا لأحمد زكى، اختلف مع خان، ذهب الدور لعادل إمام، الممثلون الموهوبون الذين يتحولون الى نجوم، تختلط نجوميتهم مع الشخصيات التى يلعبونها، يبدون على الشاشة فى معظم الأحيان بنفس شخصيتهم كنجوم، يقدمون فى كل عمل "الشويتين بتوعهم"، أفلام قليلة جدا توارى فيها النجم عادل إمام، ليفسح الطريق للشخصية المكتوبة التى يلعبها، فى "الحريف" أحد نماذج هذا الاستثناء، مغزى الفيلم هو أن الشوارع ليست أماكن، ولكنها بشر وحواديت، ومعنى رحلة فارس الحريف هو أنفروسيةالمهمشين من نوع خاص، إنها فى قدرتهم على التحايل لكسب الرزق، وانتزاع لقمة العيش، وإنقاذ الحب والعاطفة رغم كل الظروف، هذه التنويعة هى نغمة محمد خان  الأثيرة: القاهرة والناس بنظرة شاعرية ومتعاطفة.

ذكرى شخصية أخيرة: قرأت عن الفيلم قبل أن أشاهده بسنوات، لفت نظرى الهجوم الساحق الذى قاده ناقد شهير (هو الراحل أحمد صالح) متهما خان بسرقة فيلم "روكى" الشهير، مع تغيير أحداثه من الملاكمة الى الكرة، أتذكر أن خان قام بالرد، عندما شاهدت الفيلم، اختلفت مع الناقد الشهير فى رأيه.

طبعا خان تأثر بالسينما العالمية، ولكنه لم ينقل فيلم "روكى"، لا يكفى أن يكون البطلان مهمشين ولهما ابن لكى نتحدث عن النقل، الأهم من ذلك أجواء وتفاصيل الفيلم المصرى: "روكى" هو فى كل أجزائه التنويعة الأشهر على فكرة الصعود وتحقيق الحلم الأمريكى بكل خصوصيته، أما "الحريف" فليس فيه صعود وإنما دوران، فارس يظل فى طبقته لايغادرها، بل إنه لن يغادر الشارع (من الساحة الى التاكسى)، والفوز فى مباراة لم يعد وسيلة للصعود وتحقيق الذات أو للإلتحاق بفريق فى الدورى الممتاز، ولكنه أصبح مجرد وسيلة لإدخال السرور على ابنه، "روكى" أحرز هدفا حقيقيا فى مرمى الفشل، أما هدف فارس فهو إعتبارى وشرفى.

(3)

فيلم "أحلام هند وكاميليا" من أهم وأفضل ما قدم خان فى مسيرته كمخرج، ومن النماذج المبكرة جدا على ما أطلقت عليه "الواقعية المتفائلة"، إنها تعتمد ايضا على التفاصيل، ولا تجمّل الصعاب والمشكلات، ولكنها تفتح دوما طاقة نور، وتتعامل مع الشخوص بحب  وبإعجاب،  يوما ما ستتذكرهم الحياة، هناك ضوء فى آخرالنفق، وهناك أمل لأن هناك حلم.

ثلاثة نماذج يقدمها الفيلم، ويرسمها ببراعة: خادمتان وشاب اسمه عيد (أحمد زكى .. لاحظ دلالة الاسم الساخرة)، امرأتان بمائة راجل، إذا كانت الطبقة الوسطى قد انهارت فى فيلم "سوبر ماركت" لمحمد خان بسبب الإنفتاح، فإن الطبقة الفقيرة أصلاً فى "أحلام هند وكاميليا" قد سحقت سحقا، الرجال فى الفيلم عموما شخصيات منفرة تستغل النساء (عثمان عبد المنعم  الجشع ومحمد كامل المدمن)، تنتقل هند وكاميليا من مكان الى مكان، ومن عمل الى عمل.

لاتوجد حبكة، وإنما هى دائرة من الخيبة والفشل، ولكن محمد خان يرى أن أثمن ما يمتلكه هؤلاء الحلم، وهذا ما نراه فى مشهد النهاية البديع: يضيع المال والذهب، ولكن هند وكاميليا يعثران على الطفلة "أحلام"، ابنتهما المشتركة، وطبعا دلالة الاسم واضحة، يجرى الثلاثة أمام بحر مفتوح، وسماء صافية،الواقع قد يحرم الغلابة من المال، ولكنه لن يستطيع أن يسلبهم أحلامهم. كان يمكن أن تتحول التفاصيل البائسة للشخوص الى ميلودراما من الدرجة الثالثة عند أى مخرج آخر، ولكنها اكتسبت شاعرية عند هذا المخرج الكبير، لأنه يستهدف تمجيد صمود المهمشين وحبهم الحياة رغم كل شئ.

لا تنس أيضاً أن الفيلم يبدأ بكتابة أسماء أبطاله على اللوحة الإليكترونية الملونة أعلى مبنى محطة مصر، وكأنه يقول هؤلاء الناس هم الجديرون بأن نحكى عنهم، وأن نراهم، وأن نرسم كفاحهم بالأطياف الملونة.

دور نجلاء فى الفيلم من أفضل أدوراها هى وعايدة رياض التى تتألق فى أفلام محمد خان، قال لى المخرج محمد خان إن نجلاء فتحى فتنت بالشخصية التى لعبتها فى الفيلم لدرجة أنه عندما زارها قبل التصوير، فتحت له الباب بملابس الخادمة لكى يقتنع نهائيا بأنها الأنسب للدور، ورغم قصر دور أحمد زكى إلا أنه من أفضل أدواره، لا مثيل لقدرة هذا المشخصاتى على تجسيد النماذج الشعبية، "عيد" نصاب ولص وكل شئ سئ، ولكنه يمتلك قلبا يحب، إنسان بسيط كان يمكن أن يكون إنسانا رائعا فى ظروف أفضل، الفيلم بأكمله يملأ مشاهده بالشجن وبطاقة تفاؤل وثقة عجيبة، المدينة أيضا حاضرة بقوة، ليست الشخصيات التى نراها فى الفيلم إلا الهوامش على صفحات كتاب المدينة القاسية.

(4)

إذا كان محمد خان هو  مخرج المدينة/ القاهرة وترجمانها بامتياز، فإنه أيضا مخرج أجمل فيلم عن الريف المصرى وهو "خرج ولم يعد"، وإذا كان خان يصنف عادة على أنه مخرج واقعى، إلا أن فى أفلامه غلافا شفافا من الرومانيتيكة الآسرة التى انطلقت الى ذروتها فى "خرج ولم يعد" ثم فى "فى شقة مصر الجديدة". "خرج ولم يعد" نص محكم يكاد يكون ضد المدينة التى ليست إلا مستودعا للضجيج، والتى تقتل الأحلام، والتى تحوّل الإنسان إلى رقم في طابور.

عاصم توفيق يدعو صراحة الى العودة الى الطبيعة والى الجذور معا، ويرسم حكايات حب عابرة لكل الجسور (سواء فى علاقة الموظف بالفلاحة التى لم تكمل تعليمها، أو فى علاقة كمال بك مع زوجته الفلاحة عايدة عبد العزيز)، وبينما يسقط منزل المدينة فيمحو حياة سكانه، يظل منزل الريف راسخا وقويا، وفى حين تبدو شخصيات المدينة منفرة وأقرب الى الأشباح، تتحول شخصيات القرية الى بورتريهات تشتعل حيوية وحبا للحياة، وفى حين تعبرأغنية "زحمة" عن المدينة المتوحشة، يصدح صوت الكروان ملهما بأحلام باتساع السماء.

صحيح أن طبقة عطية (يحى الفخرانى) وكمال بك (فريد شوقى) لا تمثل معظم سكان الريف الذين لا يتمتعون جميعا برفاهية موائد الطعام المكتظة، ولا ببهجة الإمتلاك للأرض أو المال، ولكن الفيلم يقول إنه حتى هذه النماذج الأفضل من غيرها إقتصاديا يمكن أن تتحول فى المدينة الى صفر على الشمال (عطية موظف أرشيف)، ليست المشكلة إذن فى النواحى المادية فقط، ولكنها بالأساس فى أن تجد ذاتك، فى أن تستمتع بالحياة لا أن تتفرج عليها، عطية يتجاوز حتى الفكرة الرومانسية بالعودة الى الطبيعة، ليصبح أول موظف يخلع جلده تماما، ويقرر أن يعود فلاحا، أن يولد من جديد، فى ميزان البيروقراطية التليد، يكاد يصبح هذا الإختيار ثوريا تماما، ومن قدم تنغرس فى فضلات الماشية (فى لقطة مكبرة) الى أشجار موز عملاقة تكتسح التكوين ( فى لقطة عامة وواسعة جدا)، ينتقل موقف عطية من التأفف الى الإحتفال بالحياة.

كان الراحل محمد كريم حريصا فى أفلامه على تجميل المشاهد الريفية، يقولون إنه كان يقوم بغسل الماشية بالمياه قبل تصويرها، لجأ خان الى طريقة أفضل، كل شئ كما هو ولكن تعال نصوّره من زوايا مختلفة: كادرات متسعة بحجم الشاشة تجمع بين السماء والأرض، وعلاقات مباشرة بين الشخوص والطعام والفواكه والأشجار، ومشاهد داخلية دافئة وحميمة، صعود الكاميرا الى أعلى أو تحويلها البشر الى أجزاء من الطبيعة يلغى أى حياد، الأخضر والسماوى مريح الى درجة لا تتمنى معها أبدا أن تعود الى المدينة الرمادية، طعم الأكل ومذاقه ليس إلا معادلا لمذاق الحياة المفقود.

"خرج ولم يعد" فى أحد أجمل معانيه هو دعوة لكى "نحيا" لا لكى نعيش والسلام، يحى الفخرانى يقدم أحد أفضل أدواره، فارس آخر يكتشف نفسه، ليلى علوى فى دورلا مثيل له فتح أمامها أبواب الأدوار المختلفة، فلاحة شابة تتفجر طاقة وحيوية، الفطرة الصافية والقلب الأخضر، الثنائى فريد شوقى وعايدة عبد العزيز يكتسحان الفيلم حضورا وتلقائية وبساطة، كأنهما كانا يعيشان هناك منذ سنوات، فجاءت الكاميرا وصورتهما، قوة أفلام محمد خان وسبب تأثيرها فى أنه يبدأ أولا من الشخصية، ثم تخلق الشخصية مكانها وتفاصيلها وأحلامها، وكما فى  لوحة كبيرة، يضع كل مشهد لونا أو خطا، قوة أفلامه ليست فى الحدوتة التقليدية، ولكن فى تلك الشحنة التى تنتقل إليك كاملة مع نهاية الفيلم، فى أن تصبح أنت دون أن تدرى، وبصنعة فن،  وكأنك عشت بالضبط  تجربة أبطاله.

(5)

"عودة مواطن" من أفضل وأقوى أفلام محمد خان رغم أنه فيلم مظلوم حيث يمر عليه الكثيرون مرورا عابرا، قوة هذا الفيلم فى أنه يقول ما يريد بشكل بسيط وبصوت خافت ولكن المعنى خطير، مشكلة الأخ الأكبر (يحى الفخرانى) العائد من الغربة أنه سيجد الغربة بانتظاره فى وطنه، الحل المادى الذى دفعه للسفر والتغيرات العاصفة التى شهدها المجتمع جعلته أمام أسرة أخرى لا يعرفها، أمامه شخصيات إما محبطة وتائهة وفاشلة فى التكيف مع مجتمعها تماما (أحمد عبد العزيز وشريف منير)، أو متكيفة ولكن على الطريقة الإنفتاحية (ميرفت أمين وماجدة زكى)، يبدو الأخ الأكبر شريكا فى المأساة وجزءا منها : ذهب ليحقق الحلم وعاد ليكتشف أنه فقد البشر، وفقد وطنه الذى يعرفه، وكأنه أصبح مثل أهل الكهف، لم يعد أمامه إلا أن يرجع من حيث أتى، النهاية الأفضل هى ألا تفوته الطائرة، أن يعود فيتحقق المغزى المجازى البديع والمقصود تماما: من غربة فى الوطن (وهى الأقسى والأصعب كما كان يقول أبو حيان التوحيدى) الى غربة خارج الوطن وبالعكس، أو ربما يكون من الملائم أيضا أن تكون النهاية مفتوحة تعبيرا عن حيرته وتمزقه، أما أن تذهب الطائرة بدونه فهو أمر غريب ولا يتسق مع بناء الشخصيات والأحداث، ولا يمكن أن يكون المعنى هنا محاولة إنقاذ أسرة أصبح أفرادها خارج دائرة الإنقاذ.

أعتقد أن النهاية كانت فيها مشكلة رقابية لأنها كانت تؤكد بوضوح التلاعب الموجود فى العنوان بحيث يصلح أن يكون "عودة مواطن الى الوطن"، ثم "عودة مواطن من حيث أتى"، عموما، شخصية شاكر كما لعبها يحى الفخرانى كان يمكن أيضا أن تحمل اسم فارس (الاسم المفضل لأبطال خان).

الفيلم مثل كل أفلام خان شديد الثراء بصريا، وبأقل قدر من الحوار، واقعية خان ليست جارحة أو خشنة، ولكنها تعتمد الإيحاء والتفاصيل الصغيرة، منزل الأسرة وأفرادها وهم جالسون على سلم بيت من الزمن القديم، وكل واحد منفصل عن الآخر، مع التشكيلة المتنافرة من الملابس، أكثر بلاغة من مائة خطبة أو دراسة عما حدث للمجتمع من تغييرات، كأنهم يجلسون على أطلال منزل أو وطن.

فكرة الغياب والعودة الى مجتمع تغيرت ملامحه من أبرز التيمات التى استخدمها مخرجو الواقعية الجديدة فى أفلامهم، ولها تنويعات كثيرة بحيث تصلح كموضوع مستقل للدراسة (سكة سفر ودماء على الأسفلت ..الخ)، الحلم فى سينما محمد خان هو كل شئ وليس المال، البشر والمكان والمشاعر والذكريات أهم ما فى الحياة، تتراجع قيمة المال عند الأخ الأكبر فى "عودة مواطن" أمام استغناء إخوته عنه، وتتوه حقيبة النقود فى فيلم "سوبر ماركت" فلا يستفيد منها أحد، ويصبح الصراع على المال عبثيا فى "نص أرنب"، ولايبق فى نهاية أفلام محمد خان إلا فرسان مهزمون أو حالمون أو باحثون عن خيول لم تعد موجودة.

(6)

أحببت دوما أن أنظر الى فيلم "زوجة رجل مهم" باعتباره، وبالأساس، مرثية للرومانسية الضائعة قبل أن يكون إدانة للدولة البوليسية، أردت أن أرى الحكاية بأكملها من وجهة نظر بطلته منى (ميرفت أمين)، لا من وجهة نظر هشام (أحمد زكى) التى تناولتها كل المقالات المكتوبة عن الفيلم، نعم نحن أمام فيلم سياسى بامتياز يدين نموذج الدولة البوليسية ممثلة فى رجل أمن الدولة فى عز سطوة أمن الدولة، ولكن أرجو ألا تنسى أن الفيلم عنوانه "زوجة رجل مهم"، منى إذن هى مفتاح الحكاية، والضوء الأهم الذى يكشف مأساة هشام.

إنها الرومانسية القادمة من زمن الستينات، وعصر عبد الحليم، تقول "أهواك" فيرد هشام  "أمتلكك"، السبعينات المتوحشة تواجه زمن الرومانسية وتسحقه سحقا، وإذا كان هشام ينتحر فى النهاية بعد أن فقد السطوة، فإن مأساة منى أعقد وأقوى، لقد فقدت نفسها وعصرها وحلمها وجنينها، فأصبحت معلقة فى الفراغ، تقتل وقتها بالورق، ميتة على قيد الحياة، منى شخصية تراجيدية من طراز رفيع، خطأها بالزواج من هشام سببه بحثها عن فارس وحكاية حب مثل أغنيات عبد الحليم، لم تدرك أن لقاء الستينات والسبعينات مستحيل، لم تأخذ بالها أن وفاة عبد الحليم ليست نهاية شخص أو مطرب عظيم، ولكنها نهاية عصر بأكمله.

إنها حكاية حب مجهضة قتلتها القوة،حكاية غرام فاشلة لإنسانة وللوطن (الضابط يزعم أن يفعل كل شئ من أجل البلد..) ، أرجو أن تلاحظ مشهد سابق هام هو انتحار فتاة حزنا على وفاة عبد الحليم حافظ تمهيدا لنهاية مأساوية، محمد خان ليس من هواة إغلاق الأقواس أو النهايات العاصفة، ولكن مقدمات الفيلم فرضت نهايته، لأن زواج السبعينات من السيتينات كان باطلا من الأساس.

"زوجة رجل مهم" من زاوية مأساة منى هو الحزن الشفيف والرثاء الموجع لموت الرومانسية تحت سنابك القوة والسلطة، تراجع الأغنية فى مقابل المسدس، انهيار الحلم فى مقابل قسوة الواقع وخشونته، الفارس الجديد مزيف يستمد قوته من منصبه، يراقب فتاته مثلما يراقب مشبوها، كان مستحيلا أن يثمر الزواج طفلا، لأنه لقاء مستحيل بين زمنين وعصرين ووجهتى نظر فى الحياة وفى تاريخ مصر، كان أمرا ذكيا أن يترجم ذلك على الشاشة باختيار ميرفت أمين تحديدا للدور (إحدى رموز رومانسية السبعينات وإحدى البطلات اللاتى غنى لهن عبد الحليم).

واختيار أحمد زكى لدور الضابط  (وهو أحد أكثر الوجوه التى تعيدك الى الواقع بكل تفاصيله)، ينحاز الفيلم بكل وضوح الى رومانسية منى، وسيبعثها محمد خان قوية ونقية فى فيلم "فى شقة مصر الجديدة"، وينحاز الفيلم أيضا الى زمن الحلم فى الستينات (واقعيا كانت الستينات هى العصر الذهبى للرومانسية وللحلم ولكنها شهدت ايضا بداية الدولة البوليسية وهى مفارقة عجيبة ومزعجة وكأن ثنائية الفيلم قديمة جدا ولا تقتصر على السبعينات والثمانينات)، كما يدين وبقوة الدولة البوليسية (الضابط قادته من زمن عبد الناصر، وهو ارتكب جرائمه فى عصر السادات، وانتحر فى عصر مبارك)، يقول الفيلم فى مغزاه السياسى إن لعبة القوة لا تقتل الآخرين ولكنها تقتل من يلعبها أيضا، النظام نفسه يلفظ الضابط الخائب، يراه أقل كفاءة من أن يكون مفيدا له، ولا يبقى فى الذاكرة سوى صدى أغنية عذبة كان غيابها بداية المأساة: "أهواك".

(7)

يظل فيلم "موعد على العشاء" من أفضل وأهم أفلام محمد خان، ومن النماذج المبكرة لفكرة تؤرقه هى تلك السطوة والقوة التى تقتل الرومانسية، والتى ستجد تعبيرها الأوضح قيما بعد فى فيلم "زوجة رجل مهم"، بداية من صورة بالأبيض والأسود لزوجين لا يوجد بينهما حب ولا مشاعر، ونهاية لنفس الصورة للزوجين، بعد أن قامت الزوجة نوال (سعاد حسنى) بتسميم زوجها السابق عزت أبو الروس (حسن فهمى)، أصر على أن تأكل معه، وافقت حتى تتخلص منه، حطمها بقتل زوجها الذى أحبته شكرى (أحمد زكى).

ربما فقدت أيضا القدرة على الحياة، زرع فيها عزت الخوف، وحرمها من الحب، إحدى أقوى نهايات الأفلام العربية، وهى المعكوس على طول الخط لنهايات الأفلام الرومانسية السعيدة، لماذا؟ لأن الفيلم، مثل "زوجة رجل مهم"، هو رثاء كامل للرومانسية، المادة والسطوة هى التى ستقتلها، مثلما فعل هشام مع منى فى "زوجة رجل مهم"، عزت أكثر شراسة وعدوانية، ونوال أكثر قوة بكثير من منى ، لذلك سيكون انتقامها مكتسحا، وكأنه فعل الإحتجاج الوحيد الذى تملكه  فى مواجهة عالم يتغير، ليس هناك سبب يحول دون أن تنجب نوال من عزت، ولكنها ترفض الإنجاب، الزواج بين الرومانسية والمال عقيم، مثلما انتهى الزواج بين الستينات والسبعينات الى طفل مجهض وأب قتيل فى "زوجة رجل مهم".

ومثلما كان "زوجة رجل مهم" عن ضياع منى  بالأساس وليس عن شراسة هشام، فإن "موعد على العشاء" تم إهداؤه بأكمله الى نوال، والى كل نوال دهسها قطار المادة الغاشم.ليس عزت هو مشكلة نوال الوحيدة، مشكلتها فى اغترابها عن مجتمع بلا روح، لايقل ما فعله عزت معها عن رجل انتزع منها بلامبالاة وبنقوده، صورة تذكرها بذكرى قديمة (خيرى بشارة فى دور قصير)، ولا عن انتهازية أمها (زوزو ماضى)، المجتمع نفسه أصبح لا يهتم بالمشاعر والأحاسيس، لاشئ اسمه الحب، هناك شئ اسمه الإمتلاك، تبدو نوال وكأنها فتاة رومانسية جاءت من الخمسينات الى الثمانينات فاحترقت مثل الفراشة.

اشتغل محمد خان على تعبيرات الوجوه وحركات الجسد، هناك أقل قدر من الحوار كالمعتاد، يبنى خان المشهد من أشياء صغيرة،كل تفاصيل المشهد الرومانسى استخدمت فى مشهد النهاية من الشموع الى القبلات ولكن لكى تقود الى الموت،  سر قوة أعماله فى البناء الجيد للشخصيات، اختار هنا أن يقدم رثاء الرومانسية بإسناد البطولة لاثنين من أشهر أبطال وثنائيات السينما الرومانسية المصرية، فجاءت الصدمة مضاعفة، زوزو(اسم سعاد حسنى فى خللى بالك من زوزو) تقوم بتسميم حبيبها الواد التقيل، وبيانو كمال بكير يعزف مرثية امرأة حطمها زوجها، رجل الأعمال الذى يقتنى ما يريد، الفيلم من أفضل وأصعب أدوار سعاد حسنى، حافظت معظم الوقت فى لقاءاتها مع عزت على نظرة حزينة عميقة، تصل الى القمة فى التعبير بعينيها فقط فى مشهد تناول الطعام المسموم مع عزت، تنتقل بسلاسة من القلق والخوف الى التحدى واللامبالاة.

"موعد على العشاء" فيلم هام ودال جدا على بداية زمن آخر، يقول عزت "غلبتنيى يا نوال؟" فترد :" إنت الى غلبتنى"، انتحر روميو وجولييت بسبب الحب، وفقد عزت ونوال حياتهما بسبب موت الحب، رومانتيكية معكوسة ومقلوبة فى مجتمع انقلبت أحواله، تماما مثل صورة العروسين (عزت ونوال) التى نراها مقلوبة فى الكاميرا فى أول مشاهد الفيلم .

(8)

اخترت فيلم "فى شقة مصر الجديدة" ضمن قائمة أفضل عشرة أفلام فى العقد الأول من القرن الحادى والعشرين، اعتبرته أيضا أحد أفضل الأفلام الرومانسية فى تاريخ السينما المصرية، إن لم يكن أفضلها جميعا.

طوفان متدفق من المشاعر والأحاسيس، وحكاية رومانسية بدون كلمة "أحبك"، بل إنك تستطيع أن تقول إن الفيلم ليس عن حكاية حب نرصد مقدماتها وبداياتها، ولكنه عن الحب نفسه: وجوده وسحره وقدرته على أن يفرض نفسه، نص مدهش الإحكام من وسام سليمان عموده الفقرى الرسم البارع لشخصية بطلتنا نجوى.

كل أفلام محمد خان محورها الشخصية لا المكان كما قد يظن البعض،  نجوى بأداء غادة عادل من أنضج الشخصيات النسائية بلمساتها الواقعية والرومانتيكية معا، ليست شخصية خيالية قادمة من روايات عبير، ولكنها نموذج من لحم ودم يمكن أن تراه فى أى مكان، لايمكن مقارنتها فى الحقيقة إلا ببطلة فيلم "زوجة رجل مهم".

منى التى لعبتها ميرفت أمين قادمة أيضا من المنيا مثل نجوى، منى عاشت رومانسيتها على أغنيات عبد الحليم، بينما اكتشفت نجوى الحب مع ليلى مراد، ولكن نجوى أكثر قوة وإيمانا بالحب من منى، كما أنها أكثر نجاحا فى بحثها عن قلب، تورطت منى مع ضابط أمن دولة لا يعرف الفارق بين الحب والإمتلاك.

لا يوجد سحر فى شقة مصر الجديدة التى يسكنها رجل البورصة، يوجد سحر فى الفيلم كله هو سحر الحب، المدرّسة التى تبحث عنها نجوى ليست سوى المعادل الذكى لكيوبيد عصرى يستدرج نجوى الى ما يؤكد إيمانها بوجود الحب، تأخذ التيمة تنويعاتها المعاكسة أوالمتناغمة، سواء فى الحب الصامت بين سائق التاكسى (احمد راتب) وسيدة شقة الطالبات (عايدة رياض)، أو فى محاولة فتاة شقة الطالبات الإنتحار بسبب قصة حب، أو فى علاقة جسدية  ألية بين رجل البورصة وفتاته، أو فى إعجاب يوسف داوود بالمدرّسة وهتافه باكتشاف وجود الحب.

الفيلم الذى يبدأ بأغنية "أنا قلبى دليلى قاللى ح تحبى" ينتهى ببذرة التحقق عندما تردد نجوى فى القطار نمرة خالد أبو النجا لتحفظها، ليس فى ذاكرتها، ولكن فى قلبها، ليلى مراد ومدرسة الموسيقى تنتصران مع أنهما غير موجودتان أصلا، هذا هو السحر نفسه: أن تصنع أغنية فيلما، وأن تقول دون أن تقول، وأن تلمس دون أن تصرّح، وأن يظهر عريس وعروسه على رصيف المحطة أثناء وداع رجل البورصة لبطلتنا الرائعة.

روعة " فى شقة مصر الجديدة" فى أنه انتزع رومانسيته من قلب الواقع، وليس ابتعادا عنه، قال لنا عبر التفاصيل الصغيرة إن الحب عند أطراف أصابعك أنت، فى الشقة المجاورة أو فى خطاب مهمل أو فى ذكرى منسية، وإنه قادر على تغيير حياتك الى الأبد، لم يغلق الفيلم أى قوس فى أى اتجاه، ترك أبواب المشاعر مفتوحة، اعتمد فقط على تلك اللمسات الفاتنة، تشعر دوما أن هناك يدا خفية تقودك الى حيث مولد حب، ننتشى من مجرد هذا الميلاد، فما بالنا بالحب نفسه؟ مشاهد كثيرة تستحق التحليل التفصيلى:

لقاء المصعد المعطل بين نجوى وخالد أبو النجا، رقصة عايدة رياض احتفالا بجسدها وبذكرى حب مستحيل، نجوى وقد أشرق وجهها وهى تتأمل طفلا وليدا، نظرات سائق التاكسى الى بلكونة حبه القديم، ارتباك نجوى وهى فى المطعم، تلك الأغصان الخضراء التى تظلل الكادر أمام عمارة مصر الجديدة، الموبايل المكسور الذى يتحول فيما بعد الى أداة وصل، أغنية "أمانة عليك ياليل طول" يغنيها عامل بسيط ويفرغ فيها شجنا لا حدود له (هذا صوت عاشق ربما)، مائدة الطعام وقد التفّت حولها فتيات بسيطات تحلمن بالحب والأمان.

محمد خان هو أكثر مخرجى الواقعية الجديدة رومانتيكية، حبه لشخصياته وتعاطفه معهم بلا حدود، أهدى ثلاثة من أفلامه لأكبر مطربى ومطربات الرومانسية ( إهداء فارس المدينة لصوت أم كلثوم، وإهداء زوجة رجل مهم لصوت وزمن عبد الحليم والفيلم بأكمله فى إحدى قراءاته ليس إلا حكاية رومانسية مجهضة، وإهداء فى شقة مصر الجديدة الى صوت ليلى مراد).

فكرة البحث عن فارس تتردد كثيرا فى أعماله، نجوى فى الحقيقة تبحث عن فارس، ملصق الفيلم من أجمل ملصقات الأفلام المصرية، ومستلهم مباشرة من لوحة سلفادور دالى الشهيرة عن تلك الفتاة التى تنتظر شخصا أو شيئا أمام نافذة مفتوحة على بحر، نجوى تفتح نفس الشباك لينعكس نور الشباك المفتوح/ نور الحب على وجهها، أضفت غادة عادل كثيرا من الحيوية على الشخصية، بساطتها وتلقائيتها وانطلاقها مثل طفلة كبيرة، كانت اختيارا رائعا، لو فشل الإختيار لانهار الفيلم كله، مازلت أرى أن الشخصية كانت تستحق أن يحمل الفيلم اسمها .. هذا فيلم "نجوى" ، نقطة ومن أول السطر، مع كل الإحترام للشقق، ولمصر الجديدة أيضا.

عين على السينما في

07.03.2014

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2014)