كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

رؤى نقدية

 
 
 
 
 

"سعد روماني" :

في المرأة سلام وحرية وطن

ضـاوية خليـفة – وهـران

 

كان مهرجان وهران للفيلم العربي بوابته للتعرف على الجزائر وجمهورها ب"برد يناير"سنة 2012 ولأنها كانت مشاركته الأولى بمهرجان جزائري ضرب موعدا ثانيا لجمهوره ب"سحر الفراشة" ، والذي أثبت من خلاله المخرج المصري "سعد روماني" سعيه الدائم ليكون بأعماله مدافعا عن قضاياه بأفكار بسيطة تحمل أبعادا اجتماعية وسياسية تتطلع لمعرفة رؤية الناس على اختلاف مستوياتهم وتوجهاتهم للواقع خاصة بعد ثورة 25 يوليو.

·        يُلاحظ في أفلامك اهتمامك الكبير بالمرأة وقضاياها سواء في "برد يناير" أو "سحر الفراشة" وهي أعمال أشاد بها النقاد والجمهور بغض النظر عن الجوائز التي منحت للفيلمين فلماذا هذا التوجه للمرأة ؟

المرأة في مجتمعنا العربي هي المشكلة الحقيقية، معنى ذلك أننا نتعامل معها على أساس أنها غير متساوية مع الرجل حينما نجردها من حريتها ونطالبها في نفس الوقت بتأدية أدوارها على أكمل وجه، هي أدوار قد تكون مساوية للرجل، أو أكثر منه في أحيان كثيرة وقد تكون أقل طبعاً، شخصيا أرى أن حرية المرأة من حرية الوطن والمجتمع، هناك عبارة دائما أرددها "الأوطان تشبه نساءها"، فالحرية التي تمنح للمرأة تعكس مجال الحرية الموجودة بتلك الأوطان، فوحدها المرأة من تكشف لنا مقدار الحرية الموجودة بمجتمعاتنا، من غير المنصف أن لا نلتفت كمخرجين لها وللدور الكبير الذي تقوم به حفاظاً على سلامة أبناءها وأمن وطنها.

·        قلت حرروا المرأة، الفن والأحلام تحرروا أرض بأكملها ... 

صحيح، لأن المرأة هي التي تُربي الأجيال والوطن وتتابع الاثنان معا، أول انتماء للإنسان يكون للأم، أما الفن فهو ضمير الأمة فلو قيدناه يفقد أبجدياته وقدرته على التعبير عن هموم وقضايا الأمة، أما بالنسبة للأحلام فإن رأيت أي مواطن يحقق أقصى عدد ممكن من الأحلام فاعلم أنه يسير بشكل صحيح، ولكن إن وجدت أن بين الناس وأحلامهم حواجز أكثر من الحلول الممكنة والمتاحة فتأكد أن تلك القيود أكثر من الأحلام والحريات، لهذا أعتبر أن حرية الوطن تبدأ بتحرير المرأة والفن والأحلام معاً.

·        باعتقادك هل أضافت الثورة المصرية والثورات العربية ككل للمرأة مسؤوليات أكثر ؟ 

لا أعتقد أن للثورة علاقة بوضع المرأة في مجتمعاتنا، فوضعيتها قبل أو بعد الثورة بقيت على حالها لم يتغير الشيء الكثير حتى لا أقول لم يتغير قط، وفي الحقيقة المرأة في الوطن العربي عموما مسلوبة حقوقها ولا استثني المجتمع المصري في ذلك.

·        قلت أن السينما هي سحر فإلى أي مدى تمكن هذا السحر من نقل تفاصيل هامة عن الشعب المصري خاصة في هذه الفترة بالضبط ؟

لو راجعنا أنفسنا قليلا وسألنا ذاكرتنا عن الأشياء التي تعلمناها في حياتنا ومن التجارب الفردية المكتسبة نجد أن الكثير من الدروس  استقيناها من السينما، فالعديد من البلدان زرناها من خلال تلك الشاشات التي قربت البعيد وجعلت العالم قرية واحدة، فالسينما علمتنا الكثير من الأشياء وخلقت فينا أجمل القيم وتركت لدينا انطباعا جميلا ونقلت لنا مجموعة من الأحاسيس والمبادئ الوطنية، يكفي أنها غرست فينا فكرة الانتماء للوطن، هناك مشاعر عشناها من خلال الإحساس الصادق الذي خلقته فينا العديد من الأفلام تاركة في أنفسنا الأثر البالغ والكبير، أنا لم أزر الجزائر قبل اليوم لكن عرفتها وأحببتها من خلال فيلم المخرج  يوسف شاهين "جميلة بوحيرد"، قبل أن أذهب إلى لبنان عرفت هذا البلد وأحببته من صوت فيروز، فالسينما والفن عموما لديه أداة سحرية تنقل صدق المشاعر والأحاسيس للجمهور العريض على فترات طويلة، وهنا تكمن أهمية ومسؤولية الفن، والسينما بشكل خاص لها سحر خاص يجعلها تتميز عن باقي الفنون في التأريخ لأحداث معينة من الزمن الإنساني، وباعتقادي أن المخرجين بمصر أعطوا تلك الأحداث حقها في الأرشفة والتوثيق.

·        في بداية الثورة المصرية كان الكثير يتحدث عن تأثير الثورة على السينما واليوم أصبح الحديث مركز على تراجع الإنتاج ما تعليقكم على هذا الأمر ؟

ربما هو تراجع للسينما المصرية على مستوى الإنتاج، شخصيا لا أعتبره تراجع لأنه في المقابل هناك زيادة في عدد الأعمال التلفزيونية، يمكن بدأت النجاحات السينمائية والمهرجانات والجوائز تأخذ حقها من خلال أعمال مستقلة، وبالتالي هو تراجع في السينما التجارية وازدهار السينما المستقلة بدليل المشاركة الواسعة للسينما المصرية المستقلة في العديد من المهرجانات وأخذها لجوائز عدة مثلا فيلمي "برد يناير" أخذ بين ستني 2011 و 2013 حوالي 12 جائزة دولية، هناك أفلام كثيرة يمكن الاستشهاد بها كفيلم "فرش وغطا" الذي عرض بتورنتو، الآن هناك أفلام مهمة يمكنها أن تدخل مجال المنافسة من الباب الواسع، لكن على مستوى الأفلام التجارية فإن الإنتاج التلفزيوني أثر عليها بشكل كبير

·        طيب ما هي أهم الانجازات التي حققها مثقفو وفنانو مصر في هذه الفترة ليس على صعيد الإنتاج الفني فقط بل أيضا على مستوى الحريات ؟

أهم الانجازات التي حققها ويعمل لأجلها الفن على المدى القصير والطويل هو صراعه الدائم مع المجتمع لكسر التابوهات والمواضيع المسكوت عنها، فالفن بإمكانه أن يصل إلى المكان الذي يصعب ويستحيل على غيره وصوله ويستطع تناول كل المواضيع بكل حرية خاصة في مجتمعاتنا العربية التي تعاني من الرقابة بشكل كبير، بينما السينما المستقلة بإمكانها كسر حدود الرقابة، كان الفن دوما في صراع، وبالتالي لا نستطيع قياس الانجازات التي حققها الفن ويكفي أنه لم يتراجع، بل كلما استطاع أن يرفع سقف الحرية في السينما المستقلة، وفي الحقيقة هذه الحرية لم تمنح لنا بل نحن من رفعنا سقفها بأنفسنا.

·        بدأت الثورات العربية، فاتجه الكثير من السينمائيين إلى توثيق تلك الأحداث التي وصفها البعض بأنها أعمال غير ناضجة كونها تكتفي بنقل الواقع وتفتقر إلى التحليل ما رأيكم في هذا التصنيف؟

كل مرحلة لها أفلامها التي بمقدورها أن تعبر عما حدث في تلك الفترة بالضبط، فيما يتعلق بالتوثيق كل واحد مهتم بالسينما بيده كاميرا يستطيع أن يسجل ما هو مطروح أمامه من أحداث سواء بالموبايل أو بالكاميرا، كما يمكن للمار بالشوارع أو المتظاهر أخذ تلك اللحظات في فيديوهات وصور ويحدث التوثيق هنا عندما يرفع مادته على الانترنيت، وبالتالي فرص تزوير التاريخ اليوم أصبحت ضئيلة، فنحن يمكننا جميعا الآن العودة إلى الانترنيت في حال أردنا معرفة تفاصيل أي حادثة أو واقعة تاريخية فالتوثيق مهم جدا في هذه الحالة، ممكن هناك من يرى أنها أفلام استعجالية يقصد بها الأفلام الروائية لأنه بالفعل هناك أعمال تحاول أن تستكشف الواقع وأخرى تريد معلومات أكثر عنه لم تكشف بعد أمام الرأي العام، لكن هذه الأفلام كان ضروري أن تكون لأنها تعبر عن مرحلة معينة وهامة من تاريخنا، صحيح كانت فيه أعمال بها شيء من الارتباك بطبيعة الحالة المرتبكة التي انعكست على أعمال هؤلاء المخرجين، شخصيا لا يمكنني أن أقول أني مع أو ضد هذا التصنيف، لأن كل فترة لها أفلامها، الأفلام التي صورت الأحداث المصرية ستنصف على أنها انتاجات وثّقت للثورة أو تحدثت عنها في وقتها تحسب لمؤلفيها ومخرجيها سواء كانوا محايدين أم لديهم بعد نظر ورؤية مغايرة، وما ساعد على توثيق تلك الأحداث لحظة وقوعها هو الانترنيت واليوتوب والهواتف محمولة التي تتضمن تقنيات عالية مزودة بخدمات متطورة، فكل واحد في ميدان التحرير كان إما حامل كاميرا أو يصور بالهاتف، فإذن التوثيق لم يقتصر على السينمائيين وأعتقد أن الثورة المصرية كانت من أكثر الثورات وأوفرها من ناحية التوثيق، كما أن الفنانين المصريين سواء فنانين،مخرجين أو ممثلين كانوا حاضرين بقوة ولعبوا دورا كبيرا، كما أنهم كانوا في الصفوف الأولى ولم يترددوا أو يتخاذلوا أو يتراجعوا لأن مهمتهم الأولى وطنية قبل أن تكون فنية.

·        متفائلون بمستقبل السينما والفن عموماً في ظل الحكم الحالي ؟ 

مستقبل السينما المصرية ليس مرتبط بنظام حكم معين لأنه ولا نظام يمكنه الآن أن يقف في وجه كاميرات وأفلام مستقلة سنعمل أفلام ولا أحد سيوقفنا ولا قوة ستنقص من إرادتنا وعزيمتنا، بعض المشاكل والمضايقات التي واجهها مجموعة من الفنانين المصريين كانت موجودة قبل حكم الإسلاميين وأثناء حكمهم وحتى بعدهم، لكن السينمائيين المستقلين يحاربون بكاميراتهم لينتصر الفن والسينما وليتمكنوا من صنع أفلام دون رقابة أو ضغط إنتاج أو أي شيء يعيقهم ويقيدهم، بعد اليوم لا يمكن لأي أحد أن يكسر جناح السينما المستقلة لأنها بعيدة عن الثورات ففكرة السينما المستقلة ثورية غير مرتبطة بالثورة أو حدث سياسي معين وهي متمردة على أي طريقة سينمائية، ومن يعمل في هذا الإطار أي السينما المستقلة لا يوجد شخص يمكنه أن يوقفه بالعكس سينتج أفلاما مع أناس تقاسمه نفس الرؤى والأفكار وممكن أن يذهب بها لأكبر المهرجانات ويأخذ جوائز وان حدث وصدت في وجهه الأبواب يمكن ينزلها على الإنترنت ويشاهدها الآلاف.

·        يرى الكثير أن كل ثورة تأتي بجيل جديد من السينمائيين ورؤية مغايرة هل هو حال السينما المصرية اليوم ؟

لا الثورة لا علاقة لها بذلك إنما الذي أظهر الجيل الجديد من السينمائيين الشباب هو التكنولوجيا والإنترنت، عاملان أساسيان ساعدا كثيرا الشباب والثورات، فلا أحد يمكنه أن يتجاهل الفضل الكبير الذي قدمته مواقع التواصل الاجتماعي كالفايس بوك، تويتر، اليوتوب وغيرها، فالوضع الآن لم يعد كالسابق ولا يقارن بالماضي من قبل كان الأمر يتطلب كاميرا كبيرة ومعدات كثيرة، أما اليوم باستطاعتي انجاز فيلم بكاميرا صغيرة أو هاتف محمول وفي ظرف قياسي يمكنني تحميله على الإنترنت ويشاهده الآلاف ويصل إلى أماكن لم نكن بالغيها إلا بعد فترة طويلة، فالذي أوجد هدا الجيل من السينمائيين هي التكنولوجيا التي منحتنا فرصة قضينا سنوات ونحن نبحث عنها لنظهر ما يمكن أن نفعله عندما تكون الإرادة وتتوفر الإمكانيات، قلتها مرة أن أصحاب الأحلام السينمائية هي التكنولوجيا الواسطة العادلة التي بإمكانها مساعدتهم على تحقيق طموحهم وأحلامهم، والشرط الذي أراه ضروريا في كل هذا هو الخيال الذي تبنى عليه الأفكار حتى تكتمل وتصبح عملا سينمائيا متكاملا.

·        بعد "سحر الفراشة" هل تشتغل حالياً على مشروع سينمائي جديد ؟ 

لدي مشروع أخر انتهيت منه مؤخرا ويتعلق موضوعه أيضا بالمرأة، أتفاوض عليه مع مهرجانات دولية كبرى، وأشتغل أيضا على فيلم وثائقي طويل جديد سنتحدث عنه في وقته.

·        ما هي قصتك مع المرأة ؟

سبق وقلت أن المرأة هي مشكلتنا الأكبر وبطبيعة الحال من غير المعقول أن أرى المجتمع غير منصف للمرأة أو أمي التي علمتني الكتابة ورافقتني دروب الحياة ولا أقف بجنبها وتتعدد تلك الأشكال، أنا عن نفسي أعتبر أن اهتمامي في أفلامي بحواء يعد شكل من أشكال رد الجميل وإنصاف المرأة، فمن أهم المواضيع المتداولة في حياتنا وفي مجتمعاتنا العربية تكون عن المرأة، لأن حرية المجتمعات تقاس بها وهي أصل وهبة الحياة والجزء المهم فيها وأساس المجتمع.

الجزيرة الوثائقية في

05.03.2014

 
 

فيلم "إنقاذ مستر بانكس": السينما والخيال الأدبي

أمير العمري 

ليس من الضروري أن تكون قد قرأت كتاب باتريشيا ديمرس الصادر عام 1991 الذي تروي فيه قصة حياة الكاتبة باميلا ترافيرس مؤلفة الرواية الخيالية الشهيرة "ماري بوبنز"، بل وليس من الضروري أيضا أن تكون قد شاهدت فيلم "ماري بوبنز" (1964) نفسه رغم ما يمكن أن تضيفه مشاهدته من فائدة، لكي تستمتع بفيلم "إنقاذ مستر بانكس" Saving Mr banks – إخراج جون لي هانكوك، الذي تقوم ببطولته إيما ثومبسون أمام توم هانكس. بل يكفي أن تشاهد هذا الفيلم فقط، بعقلك وقلبك وتستدعي خلال مشاهدتك له مما يكمن في وجدانك ومشاعرك عن الكثير من ما تعرفه في الحياة: عن الشقاء والطموح والقلق والرغبة في التعبير من خلال الفن، تداعيات الماضي عندما تطارد الحاضر، والصراع الداخلي الذي ينتاب الكاتب ويجعل شخصياته الخيالية تصبح مثل أفراد عائلته، يخشى أن يتخلى عنها بسهولة لغيره لكي يقوم باعادة تشكيلها وإلباسها ثيابا جديدة.. عن الصراع بين ما نتصور أنه "قيمة" راسخة في حد ذاتها، وبين الجديد الذي يدفعنا ولو رغما عنا إلى التخلي قليلا عن تشبثنا بتلك "القيم" العتيقة، وأن نصبح اكثر إنفتاحا على الأشكال الجديدة في التعبير الفني.. على السينما.

إن "إنقاذ مستر بانكس" فيلم عن الأدب وعن السينما، عن الكاتب وشخصياته، وعن التناقض بين عالمين مختلفين، الثقافة الإنجليزية التقليدية، والثقافة الأمريكية الحديثة، عن شخصين يتحدثان اللغة نفسها لكنهما يختلفان تماما في فهم مفرداتها وتفسيرها، وعن الماضي في إشتباكه الذي لا مفر منه مع الحاضر، وعن الحاضر الذي يريد الانفصال عن المستقبل، عن تقلص المسافة بين الخيال والواقع، وبين النفسي والخيالي والإنساني.

هذا باختصار فيلم عن عالم الفيلم.. عن هوليوود التي قد تلجأ إلى ما يتصوره البعض "أساليب" ملتوية، أو أنواعا من التحايل من أجل الحصول على ما ترغب ويرغب صناع الأفلام فى تحقيقه، عن النهايات السعيدة التي تخفي مشاعر مختلطة

يروي الفيلم قصة تستند إلى أحداث وشخصيات ووقائع حقيقية، ويصور كيف تضطر الكاتبة الاسترالية الأصل باميلا ترافيرس التي انتقلت منذ عام 1925 للإقامة في لندن، إلى الموافقة على التفاوض من أجل بيع حقوق روايتها "ماري بوبنز" إلى شركة وولت ديزني الشهيرة في هوليوود، بعد عشرين عاما من الإلحاح من جانب ديزني وبعد أن اشتدت حدة أزمتها المالية

في 1961 تسافر باميلا إلى لوس أنجليس حيث تلتقي هناك بوولت ديزني الذي يحاول إقناعها بتوقيع عقد بيع حقوق الرواية لنقلها إلى السينما. هنا يجسد الفيلم التناقض الكبير بين شخصية ديزني التي تتميز بالرحابة والدفء، وشخصية ترافيس المتعجرفة المتشددة التي تضع شروطا قاسية يجب أن يلتزم بها كتاب السيناريو من بينها عدم استخدام الأغاني والرسوم المتحركة وضرورة استبعاد اللون الأحمر تماما من الفيلم!

سيناريو الفيلم الذي اشتركت في كتابته سو سميث مع كيللي مارسيل، ينجح تماما في تجسيد ملامح الشخصيات، ولا يكتفي بتكثيف ذلك التناقض بين الشخصيتين الرئيستين بل يجعل من "باميلا" ضحية- على نحو ما- لماضيها، لطفولتها المعذبة. وعبر الفيلم نعود من خلال الانتقال المستمر من الزمن المضارع إلى الماضي وبالعكس، لكي نتعرف على الملامح التي شكلت شخصية باميلا وجعلتها على نحو ما أصبحت عليه الآن، كما نتعرف على عالمها ككاتبة كانت قد بدأت تكتب الشعر وهي في مرحلة الطفولة، ارتبطت كثيرا بوالدها مدير البنك الفاشل الذي يتم انزاله الى مجرد موظف في البنك بسبب إدمانه الشراب، ونهايته المأساوية بعد اصابته بمرض عضال وهو في الحادية والأربعين من عمره، كما نشاهد كيف ظلت محاولة أمها الانتحار غرقا محفورة في ذاكرتها.

بناء الفيلم

يعتمد البناء السينمائي إذن على ذلك الانتقال في الزمن بين طفولة باميلا، وحاضرها حينما أصبحت في أوائل الستينيات من عمرها (توفيت الكاتبة الحقيقية عن 96 عاما عام 1996 في لندن). ويعتمد تجسيد الفيلم على الميزانسين (مكونات البناء في الصورة وزاويا التصوير والتعبير بالألوان والموسيقى وحركة الكاميرا والممثلين في الديكور..) وعلى المونتاج الذي يرمي إلى استخراج أكبر شحنة عاطفية من داخل كل مشهد على انفراد، مع تصاعد التعبير عن المشاعر من خلال الإيقاع العام للفيلم

غير أن الفيلم ليس فقط عن تلك العلاقة المعقدة بين باميلا ووالدها، بل وبينها وبين وولت ديزني، العلاقة بين الماضي والحاضر، وبين باميلا ونفسها في محاولتها تجاوز أزمتها، وبينها وبين السائق (هاري).. وهي علاقة مرسومة ببراعة كبيرة في الفيلم ولعلها من أهم ما يميزه دراميا.
باميلا تعتبر وولت ديزني مجرد رجل ثري، مشهور، سطحي يرغب مثل كل أقرانه من المشاهير الأمريكيين، في الحصول على ما يريد بأي طريقة، ودون مراعاة لمشاعر الآخرين. في حين أنه يحاول من البداية إغواءها بالحديث عن إسعاد الملايين من الأطفال والكبار في العالم عندما ينجح في انتاج هذا الفيلم الذي وعد بناته منذ عشرين عاما بتحقيقه. ويصل الأمر بينهما إلى أن ترفض باميلا توقيع العقد ويفشل ديزني في إقناعها بقبول أفكاره السينمائية (تلقي بصفحات السيناريو من النافذة)، مع تكرار التوتر والرفض من جانبها (ترفض الكثير من الأغاني وتتعامل بغلظة مع كاتب الأغاني والملحن وكاتب السيناريو)، وترفض زيارة مدينة الملاهي "ديزني لاند" محط اهتمام الملايين من البشر، وتتحتفظ على طريقة الحياة وسلوك الناس في لوس أنجليس، ترفض مناداتها باسمها الأول، وتشترط طريقة معينة في صب الشاي، رافضة استخدام كؤوس بلاستيكية.

بين الحاضر والماضي

ترتد ذاكرة باميلا طول الوقت الى الماضي، إلى طفولتها في استراليا.. إلى قصة عذاب والدها ومرضه ثم وفاته، كيف كان رجلا مرحا محبا لأسرته، ثم كيف أدى إدمانه الخمر إلى زيادة متاعبه في العمل، وحاجته للمال مع احتقاره له.. وتستخدم كل هذه المشاهد لتفسير ما أصبحت عليه باميلا الآن.. من أول فكرة احتقارها للمال، إلى كراهية فاكهة الكمثرى (تتخلص من بعض ثمار الكمثرى بالقائها من نافذة غرفتها في الفندق لتهبط في حوض السباحة!!).. إلى رفضها فكرة أن تصبح شخصية "ماري بوبنز" في الفيلم شخصية مرحة متفائلة تظهر "كمنقذة للأطفال"، أو أن يتم تصوير شخصية "مستر بانكس" كرجل جشع من رجال البنوك، لكن ديزني ينجح أيضا في فرض بعض ما يريده، لكنها تستسلم تدريجيا لوجود الأغاني والاستعراضات دون أن تتقبل أبدا فكرة وجود الرسوم.

في أحد المشاهد الرئيسية في الفيلم، نرى فريق العاملين الذين يجتهدون في كتابة وتلحين الأغاني ونسجها بالسيناريو، وهم يحاولون إقناعها بقبول الأغاني فينشدون لها أغنية يفترض أن تتردد على لسان مستر بانكس.. يتم تقطيعها عبر المونتاج الذكي في لقطات قصيرة تنتقل في ايقاع سريع يتطابق مع إيقاع الأغنية نفسها، من الغناء في الاستديو أمامها، إلى لقطات متبادلة لوالدها في الماضي وهو يردد كلمات تتطابق تقريبا مع كلمات الأغنية في ذلك الحفل الدعائي للترويج لعمل البنك الذي كان يمثله في ذلك الوقت من أوائل القرن العشرين، وهو المشهد الذي سبق أن شاهدنا تفاصيله بطريقة أخرى.

ترفض باميلا الأغنية وتقنعهم بأن شخصية مستر بانكس ليست على هذا النحو من الغلظة وتطالبهم بتصوير الجوانب الإنسانية في شخصيته، فيعود الفريق بأغنية جديدة في مشهد آخر لعله مشهد الذروة في الفيلم: أغنية ينشدها مستر بانكس.. ويرددها الجميع.. تعجب بها باميلا كثيرا.. وفي لقطات كلوز أب- قريبة نرى كيف تدق بقدميها مع إيقاع الأغنية، ثم يتصاعد الإيقاع وتتصاعد المشاعر مع تصاعد الإيقاع الموسيقي إلى أن تنهض باميلا وتندمج مع المجموعة ثم ترقص معهم في مشهد يدخل السعادة على نفوس الفريق، ويدفع المساعدة للهرع إلى مكتب وولت ديزني تخبره "بأنها"- أي باميلا " وجدت أخيرا ما يرضيها"!

ولعل المشهد الأكثر تأثيرا في الفيلم هو مشهد المواجهة التي تحدث قرب النهاية، بين ديزني وباميلا في مسكنها في لندن بعد أن تغادر هوليوود، رافضة التوقيع على العقد، فيلحق بها ديزني بعد ساعات، وهناك يقص عليها كيف أنه لم يولد وفي فمه ملعقة من الفضة كما تتصور، وكيف كانت حياته قاسية في طفولته، ومن اين استمد شخصياته الخيالية، وكيف أنه وجد أن التعبير عن طريق الفن والإبداع الفني، أفضل وسيلة للتخفف من قسوة الماضي، وكيف أنه يسعد بإسعاد الآخرين. هذا اللقاء يمهد لموافقتها على انتاج الفيلم ثم حضور حفل عرضه الأول بعد ثلاث سنوات رغم عدم توجيه الدعوة لها خشية أن تفسد الحفل بإعلان رفضها للفيلم.

أنتج فيلم "إنقاذ مستر بانكس" إنتاجا مشتركا بين تليفزيون بي بي سي البريطاني، وشركة وولت ديزني الأمريكية، ولم يكن من الممكن إلا أن تكون شركة "ديزني" طرفا مباشرا في الإنتاج، أساسا، لأنها تمتلك حقوق رواية وفيلم "ماري بوبنز" وأغانيه وموسيقاه، مما دفع البعض إلى الاعتراض على الفيلم بدعوى أنه يضفي الكثير من الرقة والإنسانية على شخصية ديزني، في حين يجعل من "باميلا" شخصية فظة عديمة الحياء.. بينما الحقيقة أن المشاهدة الموضوعية للفيلم تجد أن الفيلم وضع كلا الشخصيتين ضمن "الحالة" الإنسانية بتعقيداتها وتناقضاتها. هناك مسحة حزن ما كامن داخل شخصية ديزني، وهناك الكثير من ملامح الضعف الإنساني داخل شخصية باميلا، تحاول هي إخفاءها عن طريق المغالاة في التعنت والتشدد، ولعل ما يعادل الجانب الجامد في شخصيتها، تلك العلاقة الجميلة التي نشاهدها في الفيلم بينها وبين السائق "هاري". في البداية ترفض هي الحديث إليه، وتستنكر أسئلته عن حياتها الشخصية التي تراها متطفلة، لكنها تدريجيا تكتشف أنه رجل لطيف لا ينشد سوى تبادل الود الإنساني معها، يتعامل مع الجانب الإنساني المباشر فيها في حين أنه لا يعرف أصلا شخصيتها الحقيقة بل ولا حتى إسمها كما نرى، وهو ما يجعلها تقول له في النهاية "أنت الأمريكي الوحيد الذي راق لي"!

عن التمثيل

وإذا كان المخرج هانكوك (صاحب "الجانب الأعمى" The Blind Side") ينجح في التعبير ببراعة عن المشاعر التي يمتليء بها سيناريو الفيلم، موازنا بين الشخصيات على نحو دقيق، مدققا في تصوير ملامح الفترة في مشاهد الماضي، فقد نجح أيضا في جعل فيلم "إنقاذ مستر بانكس" فيلما بارزا من أفلام التمثيل الرفيع. والحقيقة أن جميع من شاركوا بالتمثيل في هذا الفيلم يستحقون أن نرفع لهم القبعة: أولهم الممثل البريطاني الكبير كولن فاريل في دور والد باميلا، الذي يجعل من مشاهدة الأداء متعة، في تقلبه بين الحنو الشديد والرقة والدماثة كأب يعرف كيف يتعامل مع أطفاله، إلى رجل معذب يشعر بالتهديد في عمله، تتدهور حياته الاجتماعية والصحية كأنه شخصية تراجيدية تسير إلى مصيرها.

ولكن لابد من التوقف أمام العملاقين: توم هانكس وإيما ثومبسون، فالاثنان يخوضان مباراة مذهلة في الأداء، يؤديانها بكل سلاسة وبساطة رغم تعقيدات الدورين، ومن خلال حوار متدفق، بسيط، واضح ومعبر، دونما حاجة إلى الصراخ أو المبالغات. بطبيعة الحال تتقلب ثومبسون في أدائها بين التعالي والغلظة التي توحي بدرجة عالية من التوتر الداخلي، وبين الحزن الذي يعود إلى ذلك الهجوم الذي لا يتوقف من تداعيات الماضي.. بين العجز عن استيعاب الجديد، وبين النجاح أخيرا في تحقيق التواصل الإنساني البديع مع ذلك السائق الذي يقود السيارة التي خصصها لها ديزني، والذي يقوم بدوره الممثل العملاق بول جياماتي (طرق جانبية Side Ways) بهدوئه وقدرته على التحكم بدقة في كل عبارة من عبارات الحوار مع المحافظة على تلقائيته وبساطته الآسرة.

الجزيرة الوثائقية في

05.03.2014

 
 

"إنقاذ السيد بانكس": ما تفسده الحياة.. تصلحه السينما!

رامي عبد الرازق 

في عام 1964 قدمت شركة افلام والت ديزني فيلم"ماري بوبنز"من إخراج الأنجليزي روبرت ستيفنسون والمأخوذ عن سلسلة روايات الكاتبة الانجليزية من اصل استرالي ب.ل ترايفيرز وذلك عقب عشرين عاما من المفاوضات بين والت ديزني والكاتبة الصارمة التي كانت ترفض تحويل أي من رواياتها إلى فيلم من إنتاج ديزني.

قام ببطولة الفيلم الممثل الأمريكي ديك فان ديكي وقام بدور السيد بانكس رب الأسرة ديفيد توملينسون وهي الأسرة المكونة من طفلين اشقياء تأتي المربية الخارقة ماري بوبنز لاعادة تأهيلهم فتدخل في صراع طريف لتأهيل الأسرة كلهابعد أن حطت عليهم من نافذة المطبخ طائرة بمظلتها الشهيرة حيث قدمت الشخصية الممثلة جولي اندروز-بطلة الفيلم الأيقوني صوت الموسيقى 65- والتي حازت بعدها على جائزة الأوسكار احسن ممثلة عن ادائها لشخصية ماري بوبنز.

أرض الخيال

في الأفيش الخاص بفيلم انقاذ السيد بانكس نرى انعكاس كل من توم هانكس/ والت ديزني وإيما توماس/ ميس ترايفيز في هيئة ميكي ماوس بخطوته الشقية وماري بوبنز بمظلتها الشهيرة فالاول هو مبتكر احب فئران العالم لأطفال القرن العشرين والثانية مبتكرة احد اشهر شخصيات قصص الأطفال في العالم الغربي.

يكثف إذن الأفيش فكرة انعكاس الواقع على ارض الخيال، ويبرز تيمة استخلاص الفن من عبرات الحياة وقصور المعاش المحدود في مقابل لا نهائية الدرامي.

هذا هو المحك الفكري والوجداني الأساسي لفيلم المخرج جون لي هانكوك والذي يمكن اعتبار السيناريو الذي كتبته كل من كيلي مارسيل وسو سميث دراسة عملية لفن كتابة الفيلم كما يجب أن تكون.

يبدأ الفيلم برياح الشرق التي تهب بصحبة ابيات شعرية رقيقة يلقيها تريفيرز جوف والد الفتاة الصغيرة التي سوف تصبح فيما بعد الكاتبة الشهيرة ب.ل ترايفيرز حاملة إسمه وليس اسمها الأصلي، وفي المشهد التالي مباشرة نراها وهي تجلس في بيتها الانجليزي العتيق بنفس وضع الطفلة التي كانت قبل خمسين عاما وكأن تلك الطفلة لا تزال تقبع في دخلها خاصة والكادر مصور من الزاوية العلوية/ زواية الريح القادمة من السماء.

لن تذهب هذه الطفلة بعيدا بل ستصبح عبر ذاكرة ميس ترايفيرز وبأسلوب التداعي الحر جزءا اساسيا من البدن السردي للفيلم، ليس فقط للأحداث ولكن للفكرة الشعورية ككل، ومن هنا يصبح المونتاج الذي يعتمد على القطع فقط- دون المزج أو الاظلام- بين عملية مراجعة الكاتبة لنص السيناريو المأخوذ عن قصص شخصيتها الأشهر وبين طفولتها الغرائبية مع اب مديون سكير فاشل لكنه خيالي وجامح ومرهف من الدرجة الاولى، يصبح المونتاج القائم على القطع والانتقال المباشر والمتوالي من زمن لزمن دون مؤثرات أو فواصل بصرية من أي نوع هو أدق وانسب شكل سردي للسيناريو فنحن أمام حكاية تعيش في انفاس صاحبتها.. انها لا تتذكرها بل تحياها كل يوم وكل ساعة. بعضها يأتي نتيجة مواقف آنية مباشرة مثل عملية تأليف اغنية اثناء كتابة سيناريو فيلم ماري بوبنز، وبعضها الآخر يأتي ليلا عندما تضع رأسها وحيدة على الوسادة.

الأب والابنة والروح القدس

مستر بانكس هو الأب في روايات ماري بوبنز الشهيرة وعنوان الفيلم "انقاذ السيد بانكس" يجعلنا نتساءل هل مستر بانكس فقط كما جاء على لسان والت ديزني عندما اكتشف حقيقة شعور الكاتبة تجاه ابيها الذي تمثله شخصيات بانكس في روايتها (لقد جاءت المربية ماري لانقاذ السيد بانكس وليس لإنقاذ الاطفال).

في الحقيقة فان البناء الدرامي للسيناريو من خلال طبيعة العلاقات التي تنشأ بين ميس ترايفيز وبين مجموعة العمل الخاصة بشركة ديزني بداية من السائق وصولا إلى والت ديزني نفسه، هذا البناء يجعلنا امام اكثر من مستر بانكس بل إنه يجعلنا نتجاوز الدلالة المباشرة للشخصية في مستواها المادي والمعنوي إلى مستوى فلسفي أعمق واكثر اتساعا.

يفصح السيناريو تدريجيا من خلال احتكاك الكاتبة المباشر بمجموعة العمل ورغم طباعها القاسية والحادة ظاهريا يفصح لها هي تحديدا ونحن من بعدها كمتلقين أن علاقتها بأبيها التي افرزت تلك الروايات الشهيرة لم تكن علاقة استثنائية او خارقة وجدانيا كما كانت تتصور وكما كانت تدافع عنها باستماتة وعنف متمثلة في رفضها تحويل الروايات إلى افلام تبتذل وقار الذكرى.

تدرك الكاتبة من خلال لقائها مع والت في ديزني لاند أن ديزني نفسه يصر على تحويل الروايات لأنه ذات يوم قبل عشرين عاما اعطى وعدا لابنته الصغيرة بأن تشاهد ماري بوبنز على الشاشة عندما رأها تقرأ الكتاب لأول مرة وسمعها تضحك وهو لا يريد ان يخذل ابنته التي لم تعد صغيرة أو يحنث بوعده.

أما السائق رالف الذي قدم دوره بسلاسة وعمق طريفين الممثل باول جاماتي، فإن الكاتبة تكتشف انه يمنحها ملاحظاته اليومية حول شروق الشمس في الصباح ليس لتجاذب اطراف الحديث او ابداء الود فقط ولكن لأن هذا معناه ان ابنته المريضة سوف تخرج من البيت وتجلس في اشعتها الدافئة حيث لا يتسنى لها ذلك إلا في الأيام الصحوة.

هكذا يمكن ان نكتشف تدريجيا حجم تأثير الحالة الوجدانية التي وجدت فيها الكاتبة نفسها عند الشروع في مراجعة السيناريو المأخوذ عن الرواية، والتي تجعلها خطوة خطوة، تتخلى عن جمودها وحدتها وتبدأ في الاستجابة للعملية الإبداعية التي تخلق من قصصها كائن جديد هو الفيلم.

انها الروح القدس للفن التي تشرع في الحلول على وجدان ميس ترايفيز حتى انها تستجيب في احد الأغنيات وتبدأ في الرقص والغناء مع مجموعة العمل.

البنك والطائرة الورقية

مشهد الرقص والغناء الذي تنفعل فيه الكاتبة وتتخلى لأول مرة عن وقارها وحدتها يأتي كذروة مرحلية بعد الكثير من المقاومة الحادة التي تصل إلى حد رمي اوراق السيناريو في الهواء من النافذة في لحظة يتداخل فيها الماضي مع الحاضر اثناء تأليف اغنية عن مستر بانكس/ الأب تعيد إلى الكاتبة ذكرى اليوم الذي سقط فيه ابوها مغشيا عليه كخرقة بالية امام الناس من جراء المرض والسكر.

دون ان نعقد مقارنة بين الأغنتين لا يمكن ان نفهم طبيعة التحول الذي حدث للكاتبة والذي يعتبر الأداة العضوية للتعبير عن الفرضية التي طرحناها في البداية حول روح الفن التي تصلح خراب الحياة.

الأغنية الاولى كانت تتحدث عن مستر بانكس كمدير بنك مثل الأب تماما لكنه يبدو من خلالها محتالا منافقا يتظاهر بالتقى الاقتصادي بينما هو يريد الحصول على كل قرش في جيب من امامه وأولهم ابنته نفسها.

هذه الاغنية هي التي ترفضها الكاتبة تماما لأنها تذكرها بتلك اللحظة المآساوية التي تعرضت فيها وأسرتها بسبب الأب إلى مهانة كبيرة يوم أن صعد مخمورا يخطب في اهل البلدة يوم الملاهي ثم سقط مغشيا عليه وكانت بداية النهاية بالنسبة له.

اما الأغنية الثانية (اغنية الطائرة الورقية) والتي دفعتها للرقص والغناء فهي التي تعيد فيها مجموعة العمل على الرواية تأسيس صورة الأب بالشكل الذي يشعر الكاتبة ان هكذا يجب ان تكون ذكراه أو مثلما تشعر هي تجاهه رغم كل الألم والعذاب الذي تسبب لها فيه.

هذه الأغنية تصبح تميمة التصالح ما بين كل الأباء بانكس في الفيلم (ترايفيرز الأب وديزني والسائق) وبين كل البنات التي تمثلهن الفتاة الصغيرة التي كانت تنتظر معجزة تنقذ الأب وحين جاءت المربية مع ريح الشرق كانت صورة الأب قد بهتت تماما وصار رحيله امرا مفروغا منه.

النتيجة تسبق السبب

يتبع السيناريو في الفيلم تلك الإشارة التي سبق وبلورها المخرج الفرنسي روبير بريسون في كتابة ملاحظات على السينما توغرافيا قائلا (أجعل النتيجة تسبق السبب دائما) فهذا اكثر ما يحفز ذهن المتلقي ويشده من أذنيه الشعوريتين، عندما تصل الكاتبة إلى جناحها الفندقي في أمريكا قادمة من لندن نجدها تعلن عن استيائها من الاستقبال الرقيق والطفولي جدا الذي قدمه لها ديزني بانتقاء حبات الكمثرى من سلة الفواكهة والقائها من النافذة ثم الامساك بدمية ميكي الضخمة ووضعها كالتلميذ المعاقب ووجهها للحائط.

فيما بعد وخلال مشاهد متفرقة سوف يعيد السيناريو طرح الأسباب التي ترتبت عليها هذا النتائج السابقة عليها فالفتاة الصغيرة التي هي الكاتبة وصلها نبأ وفاة والدها بينما كانت تحمل في يدها حبات من الكمثري له وبالتالي اصبحت الكمثرى مثل اشياء كثيرة تخص سيرة الاب وذكراه تعيد إليها ألم اللحظة الأولى التي اصطك فيها الخبر بوعيها اليافع.

وفي مشهد اخر سوف نجدها وقد جفاها النوم تهبط من الفراش دون ان نرى سوى اقدامها ثم تعود للفراش مرة أخرى ويتسع الكادر لنرى مجسم ميكي وقد احضتنه في محاولة لمصالحة الطفلة التي بداخلها من أجل ان تنعم ببعض النوم والراحة من تداعي الذكريات.

هذا على مستوى المشاهد المتفرقة وبالعودة إلى بداية السيناريو فسوف نجد أن نقطة الهجوم الأساسية على المتلقي هي حالة الرفض المطلق والتام التي تواجه بها الكاتبة ديزني ومجموعته دون ان نعرف لها سببا واضحا فهي نتيجة او قرار مطلق التنفيذ ولكن تدريجيا تتكشف ملامح الأسباب التي دفعتها لذلك.

بل أن السيناريو يقف بنا عند التفاصيل الحياتية التي يصنع منها الفن فيما بعد مادته الخالدة حيث نتعرف على اصل شخصية المربية ماري بوبنز في شخص المربية الصارمة التي تأتي إلى منزل اسرة الكاتبة كي تعتني بالاطفال والأب في مرضه قادمه مع ريح الشرق التي يشير لها الأب منذ البداية في الأبيات الشعرية التي يلقيها على ابنته وتظل راسخة في وجدانها.

لا يفوت السيناريو ان يجعل من تفصيله ريح الشرق رابط عضوي بين بداية السيناريو على لسان الأب في شكل نبؤة شعرية ووسطه على لسان الأبنة الصغيرة وكأنها تريد للأب ان يتمسك بالامل في الحياة فريح الشرق هبت وحملت معها المربية الممرضة ونهاية السيناريو ونحن نرى السهم الحديدي للاتجاهات يحدد ريح الشرق مرة أخرى وكأن نبؤة الأب تحققت بشكل ما عندما اكتملت صناعة الفيلم عن اسرة السيد بانكس والمربية التي انقذتهم ماري بوبنز.

ولا شك أن الخطة البصرية للفيلم تأثرت كثيرا بأسلوب النتيجة والسبب الذي اتبعه السيناريو حتى على مستوى اللقطات المتتابعة فكثيرا ما نرى نتيجة ما في شكل ردة فعل على وجه شخصية ثم تتبعها اللقطة التالية لنرى سبب هذه الردة وهو ما يمنح الفيلم ايقاع رشيق وشيق يضاف إلى حالة تضفير الزمن التي سبق واشرنا إليها فيما يخص الماضي وحلوله في الحاضر مونتاجيا بأستخدام القطع المباشر دون غيره من تقنيات المونتاج.

الذروة الأساسية بالنسبة للفيلم شكلا ومضمونا هي تلك اللحظة التي تجلس فيها الكاتبة كي تشاهد فيلم "ماري بوبنز" في عرضه الأول وفي ذهنها تتداعى كل تفاصيل سنوات حياتها القليلة مع ابيها بكل ما حملته من مآسي واخفاقات وتتقاطع اللقطات ما بين فيلم "ماري بوبنز" على الشاشة من تمثيل وغناء ورقص وبين دموع الكاتبة وبين المحطات المآساوية من حياتها  وهي طفلة صغيرة وكأن السينما او الفيلم أو الفن في مجمله يمكنه أن يصلح ما فسد من تفاصيل الحياة ويضمد الجراح ويعيد انتاج الذكريات بشكل افضل مما حدث في الواقع للمرة الأولى.

"إنقاذ السيد بانكس" فيلم يتجاوز في دلالاته مجرد رواية قصة لم ترو من قبل كما يعلن عنها تريلر الفيلم الدعائي، بل هو توظيف ساحر ومتقن لقصة قدماها في الواقع ورأسها في الخيال للوصول إلى مضمون اكثر افقا ورحابة، انه التقاط ذكي ومميز لتيمة هائلة التأثير أفرزها موقف كان من الممكن أن يظل مجرد سطور في الكتيب الصحفي لفيلم "ماري بوبنز" ولكن "فقه التقاط الشئ" بتعبير نقاد الأدب خلق من تلك الواقعة كائنا أخر ليس مجرد فيلما عن فيلم "movies about movies" ولكنه عمل مكتمل وخاص لديه من خواص الاستغراق والتأمل ما يدفعنا لاعادة مشاهدته مرة بعد أخرى لاكتشاف المزيد. 

عين على السينما في

05.03.2014

 
 

ملتقى مخرجي الأفلام التونسية: احتفاء وبعد؟

وسيم القربي - تونس 

انعقدت الدورة الثالثة لملتقى مخرجي الأفلام التونسية في العاصمة تونس، وقد كان هذا الملتقى بمثابة فرصة للاطلاع على المنتوج السينمائي في تونس الذي تم إنجازه سنة 2013. الملتقى كان بمثابة الاحتفاء بالسينما الوطنية غير أنّه كان أيضا بمثابة المرآة لتقييم الذات في ظلّ عدم جدوى المساحيق اليوم في بلد الثورة: تونس...

ملتقى مخرجي الأفلام: آلام أم أوهام؟

بالتعاون مع مجموعة من الجمعيات السينمائية ووزارة الثقافة والمركز الوطني للسينما والصورة والجامعة التونسية للسينمائيين الهواة ومجموعة من الهياكل، نظمت جمعية المخرجين التونسيين الدورة الثالثة لملتقى مخرجي الأفلام والتي تحرص من خلاله للاحتفاء بالسينما التونسية عبر عرض الانتاجات السينمائية الحديثة بمختلف أجناسها، وقد خصصت هذه السنة جوائز لمسابقات الفيلم الطويل والفيلم القصير والفيلم الوثائقي. كما حرصت الجمعية لإشراك كل الفاعلين في الحقل السينمائي ومحاولة جعل هذه التظاهرة بمثابة فضاء للقاء وتبادل الآراء واحتكاك المهنيين بالجمهور المتعطش للمنتوج السينمائي المحلي. كما سعت الجمعية المنظمة من خلال هذا الملتقى إلى عرض الأفلام قصد تقييم جماعي للموجود في الساحة التونسية وتمكين السينمائيين الشباب من إبراز أعمالهم. غير أنّ ما يمكن ملاحظته هو أنّ عرض الأعمال كان يتطلب بدوره انتقاء من طرف لجنة مختصة باعتبار أنّ الاحتفاء بالمنتوج المحلي إيجابي غير أنّ ذلك لا يعني النزول تحت الخط الأحمر باعتبار أنّ تجاوزه ينذر بتحطيم الملتقى في حدّ ذاته.

كما تمّ ضمن هذا الملتقى تكريم عمار الخليفي مخرج أول فيلم تونسي بعد الاستقلال بعنوان "الفجر" سنة 1966، ويعتبر الخليفي رائد السينما التونسية حيث أخرج في ما بعد مجموعة من الأفلام الروائية مثل "صراخ" و"التحدي" و"المتمرّد"... وهي أفلام تعلقت أساسا بالتاريخ الوطني التونسي والملاحم النضالية ضد الاستعمار الفرنسي آنذاك.

في نفس الإطار تم تنظيم مائدة مستديرة حول "دور ونفعية النقد السينمائي" وكانت بمثابة الفرصة للتفكير في مستقبل السينما وعلاقته بالنقد السينمائي من خلال الجمعية التونسية للنهوض بالنقد السينمائي والمجلات السينمائية التي تصدر بين الفينة والأخرى...

وقد تكوّنت لجان التحكيم كما يلي:

لجنة الأفلام الطويلة: كل من المخرج عبد اللطيف بن عمار والمخرج معز كمون والممثلة سندس بلحسن.

لجنة الفليم القصير: الممثلة نضال قيقة والمخرج محمد دمق ورئيس الجامعة التونسية لنوادي السينما رمزي العموري.

لجنة الفيلم الوثائقي: السينمائية عائدة الشامخ والسينمائي من جامعة السينمائيين الهواة فتحي بن سلامة والسينمائي بلال بالي.

وكانت الجوائز كالتالي:

• الفيلم القصير:

جائزة افضل أول عمل روائي قصير: "بوبرنوس" للمخرج بديع شوكة.

تنويه لجنة التحكيم: "يد اللوح" للمخرجة كوثر بن هنية.

جائزة أفضل فيلم قصير: "حفيلي" للمخرج لطفي محفوظ.

• الفيلم الوثائقي:

تنويهات: "أزول" لوسيم القربي و"النجاح" لشيراز بوزيدي و"صب الرش" لسمير الحرباوي.

جائزة أفضل أول عمل وثائقي: "أولاد عمار" لنصر الدين بن معاطي.

جائزة أفضل شريط وثائقي: "القرط /جمل البروطة" لحمزة العوني.

• الفيلم الروائي الطويل

 - جائزة أفضل شريط روائي طويل: "باستاردو" لنجيب بالقاضي.

يُذكر أنّ تسمية لجان التحكيم قد قوبلت بنوع من التململ من طرف السينمائيين وصل إلى حدّ سحب بعض السينمائيين لأفلامهم من الملتقى احتجاجا على ضعف اللجان والتزاما بمبادئ وإيمانا بمواقف خاصة من ناحية أخرى. ولعلّ ما استرعى الانتباه هو أنّ حفل الاختتام كان باهتا إلى أبعد الحدود، وقد حضر وزير الثقافة الذي كرّم المخرج الطيب الوحيشي الذي عرض فيلمه "طفل الشمس" لأول مرة في تونس.

هذا الملتقى وبالرغم من قلة الإمكانيات التي تجلّت فإنه يعتبر جسرا للانتقال نحو تحويله إلى مهرجان وطني شرط توفير الإمكانيات اللازمة لتكون هذه التظاهرة احتفاء حقيقيا بالسينما التونسية في ظلّ عزيمة الأعضاء المنظمين التي عاقت جهودهم غياب الدعم.

الأفلام الوثائقية: الفاعلية...

مثلما غاب الدعم للملتقى، غابت قاعات السينما في تونس حيث أنها بلغت حالة رثة يصعب التكهن بمصير العديد منها التي نخشى أن تتحول إلى مجرّد بناءات مهجورة تروي جدرانها الصامتة آلامها. وفي حين تعكس الإنتاجات السينمائية لسنة 2013 تراجع وركود السينما في تونس بسبب تواصل السياسة الثقافية المنحازة إلى أساليب بالية  حيث تشير آخر إحصائيات وزارة الثقافة إلى وجود 24 قاعة سينمائية في حين لا تتجاوز القاعات الفاعلة اليوم عدد أصابع اليد الواحدة.

عبر كل هذا، مثلت الأفلام الوثائقية الاستثناء حيث ظهرت على الواجهة مجموعة من الإنتاجات الوثائقية من طرف مجموعة من الشباب والمستقلين التي صوّرت عدساتهم مجموعة من التيمات لعلّ أبرزها:

الحراك الثوري: عالجت مجموعة من الوثائقيات صورا من الثورة التونسية وانعكاساتها على غرار فيلم "الحي يروح" لأمين بوخريص الذي رصد مخاطر المصور الصحفي في ثورات الربيع الديمقراطي وفيلم "صب الرش" لسمير الحرباوي الذي عاين مجموعة من الشهادات لأحداث استعمال "الرشّ" من قبل الداخلية التونسية وهو ما ساهم في فقدان مجموعة من الشباب المحتج لنعمة البصر...

المرأة: ويمكن أن نذكر فيلم "سيدة" لإيناس بن عثمان التي سلطت الضوء على معاناة امرأة تعيش الفقر المدقع غير أنّها بالرغم من ذلك تقاوم لتجعل حياة أسرتها سعيدة، كما يمكن أن نذكر فيلم "النجاح" لشيراز البوزيدي

الاجتماعي: تبرز في شريط "القرط" شذرات من صور نماذج من مجتمع الثورة وهو ما يتجلى في فيلم "أكباش فداء لأنيس الأسود.

السياسي: فيلم "ضد النسيان" لهشام بن عمار الذي عاد بنا إلى التاريخ عبر ذكريات قمع اليوسفيين وقضايا التعذيب... كما يمكن أن نذكر فيلم "الشهيد السعيد" للحبيب المستيري الذي جمع شهادات الحنين للمناضل الشهيد شكري بلعيد.

الهجرة: محاولة فيلم "بزار" لنجيب العبيدي من خلال متابعة أصداء أخبار المهاجرين السريين إلى جزيرة لمبدوزا الإيطالية، وكذلك فيلم "الطيور المهاجرة" لأكرم منصر الذي نقل مجموعة من صور المنفى.

الفنّ الموسيقي: فيلم " تونيزيك" لطارق طيبة الذي حاول الكشف على ظروف الحياة الموسيقية في تونس، وفيلم "المالوف" لمخرجه "لسعد حاجي" الذي حاول نقل العمق الثقافي للموسيقى العربية الأندلسية.

لقد جاءت وثائقيات سنة 2013 في تونس كبحث في الهوية وكشفت عن ملامح تيار شبابي جديد حاول خلق تصورات جديدة من خلال بلورة توجهات جمالية وفكرية جديدة بعيدا عن القيود المفروضة وذلك كترجمة لقلق الشاب التونسي المبدع بغية تأصيل واقع إبداعي جديد وتموقع في صلب الواجهة الإبداعية الإقليمية وهو ما ينبئ بنشأة تيار من الحساسية الجديدة.

ما نقصد بالحساسية الجديدة في السينما هو ما يعبّر عنه الناقد المغربي حميد اتباتو بـ "مجموع المبادرات المتراكمة في المجال والتي تسعى إلى القطع مع مجموع الصيغ والطرائق المألوفة عبر بلورة إبدالات جوهرية تسمح بالحديث عن إبداعية مختلفة تعبّر عن نفسها وفق تصورات جديدة، ورؤى تتجاوز ما كان سائدا وتبني رهاناتها الخاصة التي تنهض على إيجابيات التراكم السابق، وتنفتح على شرطها التاريخي الخاص لبلورة هويتها ووظائفها".

الجزيرة الوثائقية في

06.03.2014

 
 

سينما الواقع بين الذات والموضوع (1-2)

عدنان حسين أحمد 

يشكِّل كتاب "سينما الواقع: دراسة تحليلية في السينما الوثائقية" لكاظم مرشد السلّوم مرجعاً تخصصياً مهماً في التعاطي مع الفيلم الوثائقي وتحليله بطريقة علمية ممنهجة. يقع الكتاب في أربعة فصول رئيسة مع مقدمة مكثفة وخاتمة وافية. إضافة إلى التقديم الذي دبّجته أنامل الدكتور عقيل مهدي يوسف، أستاذ الجماليات، وعميد أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد.

يستعرض السلّوم في مقدمته أربعة تعريفات للفيلم الوثائقي لكل من جون جريرسون وهيلا كولمان ومنى الحديدي وتعريف الاتحاد الدولي للسينما التسجيلية. ثم يقدِّم لنا تعريفه الخاص الطويل نسبياً. لابد من الإشارة إلى أهمية تعريف جريرسون الذي يتمحور على "المعالجة الخلاّقة للواقع"، والتفاتة كولمان إلى "عملية الانتقاء من الواقع ومن التجربة الذاتية لصانع العمل". إن عبارة "المعالجة الخلاقة" عند جريرسون و "عملية الانتقاء" عند كولمان مهمتان جداً لأنهما تشيران من طرف غير خفي إلى تدخّل صانع العمل سواء أكان مخرجاً أم مؤلفاً، ممثلاً أم مصوراً بالفيلم الوثائقي، وأن هذا التدخّل مهما كان شكله سيضفي على الوثيقة بصمات ذاتية ومشاعر خاصة تنتهك الاشتراطات والثوابت المعروفة في صناعة الفيلم الوثائقي.

اللمسات الذاتية

وعلى وفق هذا التصور لم يعد بالإمكان القول بأن السينما الوثائقية هي "مرآة تعكس الواقع من دون تدخّل المخرج أو الممثل" كما فعل المنظِّر الألماني زيغفريد كراكاور والناقد السينمائي الفرنسي أندريه بازان، ذلك لأن التعبير الفني عن الواقع من قِبل المخرج أو المُمنتج قد احتل موقع الصدارة كما فعل دزيغا فيرتوف، فيما تراجع الواقع إلى المرتبة الثانية. إذن، نستطيع القول، بحسب السلّوم، إن "الواقع عند صانع العمل هو انطباع، وليس نقلاً حرفياً عنه"، وثمة فرصة متاحة للتصرّف ووضع اللمسات الخاصة للفنان. ولتعزيز وجهة النظر هذه قدّم السلّوم قراءة نقدية لفيلم (11'09' 01 September11) الذي كُلف  بإخراجه أحد عشر مخرجاً من أحد عشر بلداً على أن تُخصص لكل مخرج 11 دقيقة وتسع ثوانٍ وصورة واحدة. أما المخرجون فهم على التوالي البريطاني كين لوتش والفرنسي كلود ليلوتش والأميركي شين بين والمكسيكي أليخاندرو غونزاليز أنريتو والمصري يوسف شاهين والإيرانية سميرة مخملباف والبوركيني إدريسا ويردريغو والهندية ميرا نايير والبوسني دانس تافونيتش والياباني شوهاي إيمامورا والإسرائيلي عاموس غيتاي. لقد تعاطى المخرجون الأحد عشر مع حادثة 11 سبتمبر من وجهة نظرهم الخاصة، ولم يربطوها مباشرة بالفاجعة الإنسانية التي وقعت في ذلك اليوم وهزّت الضمير البشري في كل مكان من الكرة الأرضية. فالبريطاني كين لوتش ربط بين قسوة الجنرال بينوشيه وبين تفجير برجي التجارة معتمداً على المادة التسجيلية. أما الفرنسي ليلوتش فتعاطى مع الحدث من خلال فتاة فرنسية صمّاء وشاب أميركي سيتركها بسبب عجرفته لكنه يعود إليها باكياً بعد انهيار برجي التجارة في إشارة واضحة إلى عجرفة أميركا وتفرّدها وخروجها على الإجماع الدولي. ما أراده السلّوم من هذا الفيلم هو القول بأن كل مخرج يرى الكارثة من زوايته الخاصة، ويرصد ما لم يرصده الآخرون من الزوايا الأخر. وهكذا فإن الأميركي شين بين يرى في أميركا الزوجة الميتة التي فارقت الحياة منذ زمن طويل. وأن المصري يوسف شاهين يعتقد بأن العنف لا يولّد إلا العنف وقد جسّد ذلك من خلال الجندي الأميركي الذي قُتل ببيروت، وأن الإسرائيلي عاموس غيتاي رصد الحادثة من خلال مراسلة تلفزيونية تجد صعوبة في نقل أحداث عملية استشهادية وقعت في إحدى المدن الفلسطينية

فيما اعتمد البوركيني إدريسا ويردريغو على السخرية المُرة لأنه حثّ الأطفال كي يبحثوا عن أسامة بن لادن وكانوا يرون معالمه في كل شخص ألحى! وهكذا تتشظى الرؤى الإبداعية للمخرجين الأحد عشر فمنهم من يُلقي اللوم على الإدارة الأميركية التي سببت الفقر والجهل في أفغانستان بحيث لا يعرف الأطفال معنى ناطحة السحاب فلاغرابة إذن حينما تحاول المعلمة أن تقرّب هذه الصورة من خلال مدخنة معمل طابوق مألوفة لديهم. فيما اعتمدت الهندية ميرا نايير على عنصر المفارقة. فالشاب الباكستاني المختفي كان متهماً بضلوعه في العلمليات الإرهابية لكنهم يكتشفون أنه قد مات وهو يحاول مساعدة المصابين داخل أحد الأبراج المنهارة فيتحول من مجرم مُدان إلى بطل قومي! نخلص إلى القول في هذا الصدد بأن صناع الأفلام يتدخلون برؤاهم الذاتية من خلال إعادة تنظيم المادة المُصورة بأسلوب فني خلاق بغية إضافة أبعاد جديدة وهنا تتحول الوثيقة إلى فيلم إبداعي. إذن، لا يمكننا القول بموضوعية الفيلم الوثائقي، فها هي اللمسات الذاتية تتسرّب إلى غالبية الأفلام الوثائقية. وأكثر من ذلك فإن المخرج الفرنسي فرانسوا ترافو لا يجد حرجاً في القول بـ "أنّ الأكاذيب السينمائية في السينما التسجيلية تفوق مثيلتها في السينما الروائية مئات المرات". ويسوق السلّوم مثالاً على ذلك تصوير رائدي الفضاء نيل أرمسترونغ وباز أولدرين وهما يهبطان على سطح القمر وغرزهما للعلم الأميركي الذي ظهر وهو يرفرف بينما لا يوجد هواء على سطح القمر!

يعزِّز السلّوم الفكرة ذاتها من خلال التفريق بين البعدين الذاتي والموضوعي لتناول الواقع في السينما الوثائقية. كما يفرّق بين الصورة والتصوّر، فالإنسان يقدّم تصوّره للعالم، أي أن العالم قد يكون على صورة مغايرة لهذا التصور الذي يقدمه. كما أن الشهادات التي يقّدمهاالناس في الأفلام الوثائقية قد لا تكون صادقة مئة بالمئة لأنها تتعرض للسهو والنسيان والتعديل والحذف والإضافة وما إلى ذلك. ويرى السلّوم في خاتمة هذا الفصل بأن العالم سيظل موضوعياً بدرجة جزئية وذاتياً بدرجة جزئية أيضا.

الأنواع الفلمية للسينما الوثائقية

اختلف الباحثون والمنظرون السينمائيون على تحديد الأنواع الفلمية للسينما الوثائقية وأشكال تناولها. فالباحث كارل رايس يصنّف الأفلام الوثائقية إلى ستة أنواع رئيسة وهي "الفيلم التسجيلي التخيّلي، والفيلم التسجيلي ذو الفكرة، الفيلم التسجيلي المجمّع، والريبورتاج التسجيلي، والجرائد السينمائية والأفلام التعليمية". أما جريرسون فيقسّمها إلى ستة أنواع أيضاً وهي "أفلام المعرفة ذات الشكل الدرامي، وأفلام المعرفة التي تعتمد على الاستطراد، والجرائد السينمائية، والمجلة السينمائية، والأفلام التعليمية والأفلام العلمية". فيما يذهب المخرج والمنظِّر المصري هاشم النحّاس إلى تصنيف الأفلام الوثائقية إلى أربعة أنواع وهي: "أفلام المناقشة، وأفلام الدعاية، وأفلام الإنسان والفيلم التعليمي"، بينما يورد رايموند سبوتزوود أربعة أنواع وهي: "الفيلم الوثائقي التقليدي، فيلم المعايشة، الفيلم الموسيقي والفيلم النقاشي". أما إيفيلينا نورجستكا فتورد سبعة أنواع وهي على التوالي: "الريبورتاج، الجريدة السينمائية، الإصدارات الفلمية، فيلم المقالة، الفيلم التحريضي، الفيلم المونتاجي وأفلام عن الفن". 

والمُلاحظ أن جميع التصنيفات لا تخرج عن المستويين اللذين حددهما جريرسون وهما "الجرائد والمجلات السينمائية والأفلام التعليمية والعلمية" التي تفتقر إلى البناء الفني وتعتمد على الوصف والعرض والاستطراد. أما المستوى الثاني فهو "الأفلام الوثائقية" التي تنطوي على خلق فني عالي المستوى يُبرز المغزى الذي صُنع من أجله الفيلم. وبهذا المعنى فإن الدراما موجودة في الفيلم الوثائقي وهي ليست حكراً على الفيلم الروائي. وأكثر من ذلك فإن بول روثا يعتقد بأن الفيلم الوثائقي يحتوي على نوع من الخداع أيضا

وربما يسأل سائل عن طبيعة الأسس والعناصر التكوينية للفيلم الوثائقي طالما أنه يتوفر على الدراما والخداع والتمثيل والرؤى الخاصة بالمخرج والمؤلف والمصور والمُمنتج لذلك أوجزها السلّوم بسبعة أسس تكوينية تتضمن استعمال العناصر الآتية: "المقابلات الشخصية، والأرشيف، والممثل، والصور الفوتوغرافية، والرسائل والمذكرات وبرامجيات الحاسوب". وعلى الرغم من كل المعطيات التي اخترقت اشتراطات الفيلم الوثائقي إلا أن جوهر هذا الفيلم، كما يرى السلّوم، قائم على الابتعاد عن التزييف أو التلاعب بمعطيات الواقع العياني.

عناصر تناول الواقع في الفيلم الوثائقي

يحدِّد السلّوم سبعة عناصر أساسية تتناول الواقع في الفيلم الوثائقي وهي: "السرد الفيلمي، التصوير، المونتاج، المكان، الزمان، الصوت والشخصيات". ولأن هذه العناصر مهمة جداً في دراسة أي فيلم وثائقي وتحليله فلابد لنا من المرور على هذه المحاور السبعة. فالسرد الفيلمي في الفيلم الوثائقي يعتمد على النسق التتابعي، بخلاف الفيلم الروائي الذي يمكن أن تكون فيه استعادات ذهنية من الماضي أو تجليات استشرافية تفض العوالم المستقبلية. ومع ذلك فالنسق التتابعي ليس نقطة ضعف، بل عامل قوة في الفيلم الوثائقي. يمكن اختصار آلة التصوير بأنها من "أكثر عناصر اللغة السينمائية تعبيرية". أما المونتاج فهو "البناء اللغوي للسينما ولغة القواعد فيه". وكما هو معروف فإن المونتاج يربط الموضوعات والأحداث في نسق صوري موحّد، هذا إضافة إلى خلقه التشويق والإثارة وحسب الاستطلاع لدى المتلقي العضوي الذي يتفاعل مع الفيلم. يمتلك المكان خصوصية كبيرة في الفيلم الوثائقي، فحينما تكون الأهوار مكاناً لفيلم وثائقي فإنها تعني البيوت والزوارق العائمة على مسطحات مائية على مدّ البصر تكتظ بالنباتات والحيوانات والطيور المحلية والمهاجرة. ولابد من التنويه إلى أن المكان في الفيلم الوثائقي غير مُسيطر عليه بخلاف الفيلم الروائي الذي يمكن فيه السيطرة على مواقع التصوير وتحديد معالمها مسبقا

وهذا الأمر ينطبق على الصحراء أو مضارب الأسكيمو وغيرها من الأمكنة المحددة التي يحبّذها الفيلم الوثائقي. أما الزمان فقد أشرنا إليه تواً وقلنا بأنه يمكن أن يكون ماضياً ويسمى بالزمن المقلوب أيضاً، وحاضراً وهو الزمن الذي نعيش فيه، ومستقبلاً وهو الزمن الذي نستشرفه ونستدعيه اعتماداً على مخيلتنا البشرية المدهشة. للصوت مكانة مهمة في الفيلم الوثائقي لأنه يحرر الصورة من دورها التفسيري ويمنحها الفرصة لأن تمارس دوراً تعبيرياً شديد الأهمية. تتألف العناصر الصوتية، كما يذهب السلوم، من أربعة أركان رئيسة وهي "المؤثرات الصوتية، الحوار واللقاءات، الموسيقى والصمت".  وجدير ذكره بأن الحوارات قد لعبت دوراً أساسياً في الكشف عن العادات والتقاليد والسلوك الذي لا يمكن للصورة وحدها أن تُظهره. ومع أهمية هذا العنصر إلا أن التقليد الشائع لا يسمح بإطالة ظهور المتحدث ولابد أن يكون الزمن محسوباً خشية أن يتسرّب الملل إلى المتلقي. أما الحوار عموماً فقد يأخذ شكل الحوار بين الشخصيات، أو مونولوغ داخلي، أو فويس أوفر قادم من خارج الكادر. يختصر السلّوم دور الموسيقى بقدرتها على "تغليف الصورة السينمائية بهالة شفّافة". أما العنصر السابع والأخير فهو الشخصيات التي غالباً ما تكون قد عاصرت الحدث أو شخصيات تمثل الحدث وتجسّده حتى وإن كانت غير محترفة. يعتمد بعض المخرجين على أسلوب الملاحظة الطويلة ومعايشة الحدث وتصويره كما فعل فلاهرتي الذي عكَس الواقع من دون تدخل المخرج أو المؤلف. أما الاتجاه الثاني فإن الكاميرا تؤدي وظيفة الباحث عن الحقيقة والواقع كما فعل دزيغا فيرتوف.

الجزيرة الوثائقية في

06.03.2014

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2014)