كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

رؤى نقدية

 
 
 
 
 

الصوت الخفى

كمال رمزي

الخميس 27 فبراير 2014 - 3:00 م

 

لولا ذلك العمل الفذ لكانت دورة هذا العام من المهرجان الوطنى للفيلم المغربى عادية. وربما، بأفلامها الروائية التى تتجاوز العشرين، باهتة. صحيح، قد يتألق أحد العناصر الفنية فى هذا الفيلم أو ذاك، لكن لن تشاهد، على مدار عشرة أيام، عملا متكاملا، يبهرك بمستواه ويجعلك تؤجل كل المناقشات التى تعيد النظر فى مسألة الدعم المالى الذى تقدمه الدولة، بسخاء، لأفلام لا جدوى منها، تعانى من خفوت الطاقة الإبداعية، وتكاد تغدو تكرارا لأفلام شوهدت من قبل.

جاء «الصوت الخفى» الحاصل على الجائزة الكبرى، ليعلن بجلاء ان فى السينما المغربية نبضا قويا يرفع من شأنها ويجعل لمهرجاناتها معنى وقيمة، بل يدفع المتابع إلى الاعتراف، من دون تردد ان الابداع المغربى فى هذا العمل، بتوقيع المؤلف السينمائى كمال كمال، يصمد للمقارنة مع الأفلام العالمية التى حققها كارلوس ثورة، روبى مارشال، توم هويد، أو غيرهم من أصحاب الرؤى، أساتذة الأفلام الموسيقية الغنائية الاستعراضية.

من العسير، والمتعسف، ادراج الصوت الخفى، فى نوع سينمائى محدد.. الصوت الخفى، ببصمته الخاصة، لا ينتمى إلا لكاتبه ومخرجه، المولع بالموسيقى، وهى هنا لا تصاحب الأحداث أو تعبر عن الشخصيات، ولكن تدخل فى بنية الفيلم وتسرى فى شرايينه، لتجسد مع بقية العناصر، رؤية المؤلف، المبنية على تداعيات شديدة التركيب، تنتقل من الحاضر إلى الماضى، ومن اللحظات المعاشة إلى ما تجود به الذاكرة، واضحة مرة، ويعلوها ضباب مرات، ومن الخاص إلى العام، ومن العقل الصارم إلى الجنون المطلق، ومن الرمال والجبال إلى خشبة المسرح، ومن الجلادين والطغاة إلى الصامدين والمقاومين.. وطوال مائة دقيقة، يتدفق الفيلم بإيقاعه الأخاذ وبدرجاته اللونية ما بين الأبيض والأسود، وبأداء تمثيلى متميز ومتناغم، فيبدو وكأن عرضه لا يستغرق سوى بضع دقائق.

المعلومات المتوافرة عن الموهوب كمال كمال تقول انه ولد عام 1961 فى مدينة «بركان» المغربية القريبة من الحدود الجزائرية، والدته، حسب روايته ــ هربت من الجزائر إلى المغرب عقب الحكم عليها بالإعدام من قبل السلطات الفرنسية لانخراطها فى جيش التحرير.. كمال كمال، درس الموسيقى بالمعهد الموسيقى بوجدة من «1971 ــ 1978» ثم التحق بالمعهد الحر فى باريس، تخصص فى السيناريو ثم الإخراج. عمل فى التلفاز والافلام التسجيلية.. لكن قائمته، فى الأفلام الروائية ــ وهى الأهم ــ تشتمل على «طيف نزار» 2001، الذى يسرد قضيتين فى وقت واحد، ينتصر فيهما لجدية المرأة وكرامتها. وما عنوان الفيلم إلا تحية وتيمنا بالشاعر نزار قبانى، الذى عبر فى قصائده عن مشاعر المرأة وشجاعتها وعنفوانها.. فيلمه الثانى «السيمفونية المغربية» 2006، تتزاوج الموسيقى مع الدراما، المشحونة بالنماذج البشرية المهمشة، الشريدة، التى تتمكن، فى النهاية من عزف سيمفونيتها الجميلة، الخاصة. الفيلمان، فى رؤيتهما، واسلوبهما، كانا لابد ان يؤديا إلى «الصوت الخفى». يبدأ الفيلم قبل ظهور العناوين: فتاة فى ريعان الشباب، تفيض بالحيوية والأمل، تؤدى دورها جيهان كمال ابنة المخرج، تحمل آلة الكمان فى يدها، تسير نحو معهد موسيقى فيما يبدو، تخلع قبعتها فى مرح وتضعها على رأس تمثال لعازفة.. تواصل المسير، وما ان تخرج من الكادر حتى ترتفع صرخاتها المكتومة ويعم الظلام.. بعد ظهور العناوين، تتلمس الكاميرا بطلتنا بوجهها النحيل، الذابل، وعيونها المنهكة المذعورة بالإضافة لجروح غائزة.. وبينما تتلقى علاجها يحاول العجوز، بصبر وجلد ترميم «الكمان» المهشمة، ولصق أوصالها قطعة قطعة.. وفورا تتدفق من ذاكرة الرجل أحداث جرت عند «خط موريس» الذى أقامته السلطات الفرنسية مدعوما بأسلكة مكهربة، وحقول ألغام على طول 700 كيلومتر لمنع التسلل من وإلى الجزائر.

براعة اسلوب كمال كمال تتجلى فى توالى «الفلاش باكات»، على نحو لا يشعرك بقطعات أو نقلات، برغم كثرة الأحداث وتنوع الشخصيات، واختلاف القصص، فثمة ملجأ الصم والخرس، وطبيب فرنسى يقوم باغتصاب منتظم لإحدى النزيلات، يتم اغتياله.. جرحى يحاولون اجتياز حقول الموت.. رجل ألمانى الأصل تبتر رجله أثناء شق طريقه إلى بر الأمان.. تعاطف كامل بين المغاربيين والجزائريين فى نهاية الخمسينيات.

هكذا، من دون شعارات أو تعبيرات طنانة.. وبين الحين والحين شذرات من أوبرا، ربما تدور فى قلب أحد الأبطال، أو من وجهة نظر مؤلف الفيلم.. بعبارة أخرى لا يمكنك الفصل بين فلاش أو آخر، أو أين تبدأ تلك القصة وكيف تنتهى، فالفيلم كله وحدة واحدة تذكرنا بأيام المجد والعذاب، ولا يفوتها، بما تعرضت له بطلتنا، ان وحشية الماضى، متمثلة فى الاحتلال، لم ينته تماما، ولكن هذه المرة، العدو بيننا، يكره الشباب والحيوية والحياة، ويمقت الموسيقى، فعلينا الانتباه.. «الصوت الخفى» لا يرفع من شأن السينما المغربية وحسب، بل يعتبر مكسبا للسينما العربية.

 

«الثور الهائج».. يواجه «روكى»

كمال رمزي

الثلاثاء 18 فبراير 2014 - 6:15 ص

فكرة كوميدية لامعة، بالغة الذكاء، اعتمد عليها «مباراة الضغينة»: بعد ثلاثين عاما من الاعتزال، يلتقى الملاكمان المتقاعدان، العجوزان، روبرت دى نيرو، وسيلفستر ستالون، فى مباراة الانتقام. كل منهما يحمل كراهية تجاه الآخر، لم تفتر بمرور السنوات، بل ربما زاد لهيبها.. السيناريو، حافظ على تكوينهما النفسى، وطباعهما، واسلوبهما فى الحياة، كما ظهرا به، على الشاشة، فى الماضى.

دى نيرو، هنا، سواء فى أنانيته، أو نهمه للطعام والنساء، أو شراسته، يعد امتدادا لشخصية الملاكم «لاموتا»، التى جسدها، بموهبته الطاغية فى «الثور الهائج» لسكور سيزى 1980.. كذلك الحال بالنسبة لستالون، الذى يطالعنا بذات الغرور المفعم بالوحشية، بالإضافة للرغبة العارمة فى الثأر من خصومه، كما كان الأمر فى سلسلة أفلام «روكى»، مع فارق واحد، انه أصبح على قدر ما من الوهن، بحكم السن، فهو فى السابعة والستين، بينما دى نيرو أكبر منه بثلاث سنوات.

ينتمى «مباراة الضغينة» لبيتر باسنجر، إلى ما يعرف بكوميديا الأخلاق، أو السلوك، وهى التى تنتقد، بسخرية، عيوب ومثالب الشخصيات السيئة الأفكار والأحاسيس والتصرفات، وهو ما يتوافر فى بطلينا، الغريمين، اللذين يوافقان، بلا تردد، على النزال ضد بعضهم البعض، لأسباب وضيعة، لا علاقة لها بالتنافس الرياضى، فإلى جانب إغراء الأموال التى سيحصلان عليها، ثمة الرغبة فى تصفية حساب قديم، فأحدهما، دى نيرو، يصرح بلا خجل، فى مؤتمر صحفى، انه منذ أكثر من ثلاثين عاما، أقام علاقة مع زوجة الآخر، وانها أنجبت منه ابنا، تزوج، وأصبح أبا لطفل.. المفارقة ان الطفل، برغم ظرفه، يبدو فى تصرفاته الرعناء، كما لو انه ورث عن جده الميل للاستخفاف، وعدم إدراك عواقب الأمور، والشراهة الزائدة، فهو يلتهم الطعام على طريقة دى نيرو، ولا يتوانى فى محاولة قيادة سيارة، وهو لا يعلم ان جده، ينفرد عاريا، بامرأة، فى المقعد الخلفى.

فى المقابل، يغدو ستالون، المهزوم عاطفيا، المنتصر رياضيا، متسما ببلادة واضحة، بطىء الحركة، خافت الانفعالات، لا يكترث بمن حوله.. لذا فإن مسئولية الأداء التمثيلى المتميز تقع على عاتق صاحب الأسلوب الخاص، المتميز، دى نيرو، الذى يعبر ببساطة وعمق، عن أشد الانفعالات تركيبا، فمثلا عندما يسأل ابنه عن رأى والدته فيه، وعما تقوله عنه. يجيب الابن بصدق «انها ترى أنك أسوأ شخص قابلته فى حياتها»، تتجلى فى ابتسامة دى نيرو، ونظرته، درجة منخفضة من الأسى، مع إقرار بأنه كذلك، فضلا على نوع من الرضا، والتلذذ بأنه كذلك.. انه الرجل السيئ، المعجب بمساوته.

إلى جانب حرب الأعصاب التى تدور بين الخصمين، ثمة صراع آخر بينهما من ناحية، والأجيال الجديدة من ناحية أخرى. الشباب ينظرون لهما ككائنات منقرضة، بينما يستنكر الرجلان رياضة «المواى تاى»، التى تستخدم فيها اليدان والكوعان والقدمان، ويريان أنها مفسدة للملاكمة.. وحين يتمادى لاعب شاب فى التهكم على العجوزين، يتلقى لكمة صاعقة من أحدهما، تسقطه أرضا.. هكذا، كأن الامتدادات النقدية للفيلم تشمل استخفاف الصغار بالكبار.

«مباراة الضغينة»، لا يتوقف كثيرا أمام مباراة النهاية، والتى لا تستغرق سوى عدة دقائق، برغم جولاتها المتعددة، ذلك ان ما يهدف له هو نقد سلوك وأخلاقيات تستحق الهجاء فعلا.. لذا فإن الفيلم يخاطب العقل قبل العاطفة، فهنا، لا يتعاطف المشاهد مع طرف ضد آخر، ولكن ينتبه إلى عيوب.. قد يجدها فى نفسه، على نحو ما.

 

الحياة السرية لوالتر ميتى

كمال رمزي

السبت 15 فبراير 2014 - 9:10 ص

الكوميديان الأمريكى، بن ستيلر، صاحب الجسم النحيل، بوجهه الواضح المعالم، المتوتر غالبا، ونظراته التى تلتمع فيها درجات متفاوتة من الخفة، تصل أحيانا إلى حد الذعر.. حقق نجاحه بفضل الملامح الشخصية التى دأب على الظهور بها. المواطن الذى يكاد يعيش مع نفسه وحيدا. طيب القلب، سىء الحظ، المتورط غالبا مع أناس أقوى منه، معنويا وماديا ونفوذا. لعلك تذكر «قابل والدى» لجاى روتش، حين ذهب لمقابلة والد حبيبته، روبرت دى نيرو، المتقاعد توا من عمله فى مكتب الاستخبارات المركزية، المتشكك فى نوايا وقدرات ستيلر، الغلبان الضعيف، الذى لا يقوى على مواجهة بأس ومناورات ومؤامرات، خريج مؤسسة الاستخبارات الطاغية.

فى «ليلة فى المتحف» لشون ليفى، يواجه ستيلر، المرعوب، دبيب الحياة فى الكائنات المحنطة، مثل الديناصور والقرد، بالإضافة لمحاربين من أزمان غابرة.. وأيا كانت رزمية هذه الكائنات، بطابعها الوحشى فإن المهم أن بطلنا، الكوميديان الوديع، يجد نفسه فى آتون صراع أكبر من طاقته. إنه أقرب للفأر «جيرى»، الهارب من القط «توم».. وهو، فى أحد جوانبه، يشبه سيد الكوميديا، شارلى شابلن، الذى عليه منازلة قوى عاتية.

يطالعنا ستيلر، فى فيلمه الجديد، بذات الخصائص المعهودة، مركزا على شىء من السلبية، وربما الخوف، والتردد، والميل للإنسحاب من الحياة، وتعويضا عن هذا الوضع وتلك الحالة، يلجأ لا شعوريا، إلى أحلام يقظة. يسترسل فى خيالات يقوم فيها بأدوار بطولة يفتقدها فى الواقع.. الفيلم، يعتمد على قصة كتبها الأمريكى جيمس ثيربر «1894 ــ 1961» ونشرها عام 1939، وتحولت إلى الشاشة الفضية عام 1947 بإخراج نورمال ماكلويد، وبطولة دانى كى وويتر فورد.. وفيما يبدو أن القصة، بطابعها الفكاهى، النفسانى، وربما النسخة الأولى من الفيلم، من الأمور التى أغرت ستيلر على القيام ببطولتها، والمشاركة فى الإنتاج، فضلا عن الإخراج، وهنا ــ فى تقديرى ــ تكمن مشكلة العمل، والتى من الممكن رصدها فى الكثير من الأفلام، حين يكون الممثل هو المنتج، ويسند الإخراج لنفسه.

يبدأ «الحياة السرية».. بداية قوية: والتر ميتى، الموظف الملتزم، المؤدب، فى مجلة «لايف»، الخجول تجاه زميلته التى يخفق قلبه بحبها، والمتردد، تجاه أحد المديرين المفوضين لتسريح العاملين قبل إغلاق المجلة.. «ميتى»، لا يستطيع الإعلان عن مشاعره، ولا يقوى على مواجهة المدير السخيف، صاحب اللحية السوداء الكثيفة، السمجة، حتى عندما يتعامل باستعلاء وغلظة.. خيالات «ميتى» تنطلق فى مشاهد هى أقوى وأجمل مشاهد الفيلم.. يشتبك معه فى معركة حياة أو موت، داخل المؤسسة، وفى الشارع، بين سيارات تكاد تصدمهما، ثم بالقرب من نافذة، يسقطان منها. يتهاويان، وبينما المدير، ثقيل بإتقان، المستفيد من ارتفاع العمارات وزحام الطريق، أنها تستدرج المشاهد الذى لا يفيق إلا مع «ميتى»، بعد انتقامه الوهمى.

فيما بعد، لن يظهر المدير المتسلط سوى مرتين، أو ثلاث مرات على الأكثر، كذلك الحال بالنسبة لبقية شخصيات الفيلم، بما فى ذلك زميلته الحبيبة، ذات الأحاسيس الباردة تجاهه، والتى لن نعرف عنها شيئا.. ويمتد هذا الإهمال ليشمل والدته، وشقيقته، اللتين لن نراهما إلا فى موقف واحد، عميق ومؤثر، عقب بيع «بيانو» الأسرة، الذى يحمل ذكريات غالية. وها هى الأم تحتضن ابنها الذى يكاد يبكى، وتنضم شقيقته لهما، وتحتضنه هو ووالدتهما.. الشقيقة والأم تختفيان تماما، شأنهما شأن بقية الآخرين.. هنا، يبدو بوضوح، الدور السلبى للمخرج حين يحابى نفسه، ويستأثر بمجمل مواقف ومشاهد الفيلم، فلا تكاد لقطة يغيب عنها، فالكل، يمر عليه مرورا عابرا.. وبالتالى، يبدو الفيلم كما لو أنه يروج، دعائيا، للممثل، بن ستيلر، وهو يواجه سمكة قرش فى البحر، أو يهرب من نشاط بركانى مفاجئ فى أيسلندا، أو ينقذ نفسه فى طائرة يقودها سكير فاقد التركيز.

«والتر ميتى» عليه البحث عن الرجل الذى صور اللقطة الفوتوغرافية التى ستوضع على غلاف آخر عدد من مجلة «لايف»، ويسافر «ميتى» من بلد لآخر، وفى أيسلندا، الثرية بالمناظر الطبيعية الخلابة، حيث الشلالات والرمال السوداء والبراكين والأنهار الجليدية، تتسكع الكاميرا على نحو يتجاوز الملل ويصل إلى حد الضجر. وبالضرورة، يأتى الفيلم مخيبا للآمال.. والتوقعات، مؤكدا، خطورة أن يسند النجم، المنتج، الإخراج.. لنفسه.

 

زيزى البدراوى

كمال رمزي

الثلاثاء 11 فبراير 2014 - 6:20 ص

جاءت فى غير أوانها، وبالتالى لم يكن الجمهور ــ برغم موهبتها ــ مهيأ للهيام بها.. فقط يستقبلها بترحيب خفيف، محسوب بدقة، على ألا تنفرد بالصدارة، فلابد أن تطالعنا بجوار من هو أو هى الأهم، والأكثر فاعلية.. فى البدايات، مع مقدم الستينيات، ظهرت زيزى فى صورة البنت الرقيقة، الخجولة، البريئة، النحيلة، بتقاطيع وجه متسقة، ذات طابع رومانسى، ببشرة بيضاء مثل قلبها، وعيون صادقة، تعبر بشفافية عما يختلج فى صدرها، فضلا على طاقة إبداعية فى الأداء، لا يمكن إغفالها، وهى السبب الجوهرى، فى استمرار حضورها على الشاشة، لسنوات مقبلة.. لكن، ثمة عناصر فى الشخصية التى انتقلت بها من فيلم لآخر، جعلت شعبيتها محدودة، خافتة، متناقصة، إلى أن اختارت، وربما أجبرت، على الانزواء بعيدا، طوال عقدين من الزمان، ليس بسبب زوج غيور كما يقال، ولكن لسبب آخر، سيقال حالا، بعد الإشارة إلى عودتها من جديد، خاصة على الشاشة الصغيرة، برونق فى لمعان الألماس، متأنق ومبهر، برغم زحف تجاعيد الزمن، التى تزحف على عنقها، وحول الفم والعينين.

فى أفلامها الأولى، ارتبطت رومانسية زيزى البدراوى بالوهن، وغياب العزيمة، وقلة الحيلة، وهيمنة العاطفة على العقل، والميل للاستسلام.. فى «إحنا التلامذة» لعاطف سالم 1959، تؤدى دور الريفية الساذجة، الجاهلة، ابنة خادم الأسرة الارستقراطية، تذعن لأحضان الشاب العابث، وحيد الأسرة المتسيبة.. وها هى، تنهمر دموعها مدرارا، قبل أن تموت أثناء إجهاضها.

على ذات المنوال، تتوالى أدوارها.. إنها الأضعف بين أخواتها جميعا فى «السبع بنات» لعاطف سالم 1961، وفى «امرأة على الهامش» لحسن الإمام 1963 تستسلم لإغواء الشاب المستهتر، حسن يوسف، وتقع فى قبضة الحيرة إزاء الجنين الذى تحمله فى أحشائها، وفى «أرملة وثلاث بنات» لجلال الشرقاوى 1965، تنهار عصبيا، بعد أن أفقدها خطيبها أعز ما تملك، قبل أن يهجرها.

لم يكن جمهور أواخر الخمسينيات مهيأ لمتابعة فواجع البنت الطيبة، الغلبانة، الضحية، التى يفترسها الذئاب، ذلك أن نوافذ الأمل، فى هذه الفترة، تفتحت أمام الجميع، خاصة البنت المصرية، بإتاحة فرص العلم والعمل أمامها، وبالتالى، لم تعد المرأة المغلوبة على أمرها، حبيسة البيت، المتعلة بأهداب الرجل، الباكية المتشكية، هى النموذج القابل للمشاهدة والتعاطف، كما كان الحال من قبل، أيام أمينة رزق ثم مريم فخر الدين، وإلى حد ما ماجدة وفاتن حمامة، قبل أن يستجيب للواقع الجديد، فتقدم ماجدة فيلمها الاحتجاجى «أين عمرى» لأحمد ضياء الدين 1956، وتغدو فاتن حمامة قادرة على الفعل وتحريك الأحداث كما فى «لا أنام» لصلاح أبوسيف 1957.. جمهور أواخر الخمسينيات، المتشبع بقيم الإرادة، المؤمن بقدرة البشر على المساهمة فى صنع المستقبل والمصير، كان من المنطقى أن تبعث النماذج الهشة، القابلة للانكسار ــ التى دأبت زيزى على تقديمها ــ قدرا متزايدا من الضجر، بالضرورة إلى انخفاض أسهمها، فى الوقت الذى شهد مزيدا من لمعان نجمى نادية لطفى، وسعاد حسنى، شقيقتى زيزى فى «السبع بنات».

فى التسعينيات، عادت زيزى البدراوى لتجسد شخصيات لا علاقة لها بما كانت تقدمه فى الماضى، ولعل دورها فى «ليالى الحلمية» أن يبقيها فى قائمة الفن الرفيع.. الكاتب القدير، أسامة أنور عكاشة، أبدع شخصية نجاة عبدالفتاح سلطان، وقدمتها زيزى على نحو عميق التفهم، إنها، ابنة المسئول الأمنى الكبير، يخفق قلبها بحب المناضل، الفدائى، الشهيد، طه السماحى ــ عبدالعزيز مخيون ــ وهى، على النقيض من كل أدوارها السابقة، ذات إرادة من حديد، تقف على أرض نفسية صلبة، تجيد التصرف، تواجه تصارعا إن دعت الضرورة، وخلال الحلقات التى ظهرت فيها، تمثل بروحها وليس بملامح وجهها فقط.. فى عيونها، نشهد معانى المحبة، التعاطف، التفهم، القدرة على المنح والتعاطف، فضلا على صحة الاختيارات.. لذا قال عنها سليم البدرى.. يحيى الفخرانى ــ داخل المسلسل، بعد أن تزوج عدة مرات، إنها أفضل امرأة قابلها فى حياته.. أحسب أن صورة زيزى البدراوى، فى عالم الأطياف، لن تغيب عن الأفئدة، بأدائها الخلاب، فى «ليالى الحلمية».


فى «الميدان».. «ليس للكرامة جدران»

كمال رمزي

الأربعاء 5 فبراير 2014 - 4:30 ص

شروخ تتشقق فى جدار رمادى يملأ الشاشة، يندفع منها الناس، يظهر عنوان الفيلم الملىء بالإيحاءات «ليس للكرامة جدران»، وهو المعنى النبيل الذى يسرى فى شرايين هذا العمل التسجيلى للمخرجة اليمنية سارة إسحاق، المرشح لجائزة الأوسكار.. ومعه «الميدان» للمصرية جيهان نجيم.. وصول الفيلمين للمرحلة الأخيرة فى المسابقة، سابقة لم تحدث من قبل، خاصة بالنسبة للمرأة العربية من ناحية، والسينما التسجيلية من ناحية ثانية، مما يعبر، بوضوح، عن تنامى دور النساء فى الحياة العامة، برغم الدعاوى المتخلفة، المتداعية، لعودتها إلى البيت، ومعاملتها كحريم أو جوارٍ، فما نشاهده من انطلاق إرادة البنات، فى التظاهرات ــ سواء مع أو ضد ــ يؤكد أن المارد الذى خرج من القمقم، لا يمكن إعادته إلى محبسه.. بروز دور المرأة فى الإبداع السينمائى، روائيا وتسجيليا، فى مصر وفلسطين ولبنان، وغيرها من البلدان، يُعد أحد تجليات حضورها.. وما نجاح الفيلمين فى الوصول إلى عتبات الأوسكار إلا دليل تفوق السينما التسجيلية على السينما الروائية.

الفيلمان، بينهما وشائج قوية: «ليس للكرامة جدران»، شأنه شأن «الميدان»، يعتمد على مادة أرشيفية بالغة الثراء، قام بتصويرها شابان جامعيان إلى جانب سارة إسحاق. ثلاث كاميرات فى ساحة التغيير، ترصد وقائع جمعة الكرامة، يوم 18 مارس 2011، حين خرجت اليمن كلها، برجالها ونسائها، أطفالها وشيوخها، فضلا عن القبليين والمدنيين، كى يحطموا الحواجز، ويواجهوا، بصدور عارية، قنابل الغاز ورصاصات الغدر .. ومع تدفق مشاهد الفيلم، ومتابعة تساقط القتلى والجرحى، ومحاولات الإنقاذ، نستمع لشهادات المصابين فى الأحداث، بأصواتهم المتحشرجة، الصادقة، النابعة من القلب.

«الميدان»، يمتد زمانيا إلى أكثر من عامين، وبينما يتسم الفيلم اليمنى بطابعه الملحمى الخالص، حيث يندلع الصراع بين كتلتين بشريتين، يتميز «الميدان» بنزعة درامية واضحة، فرضتها ظروف الثورة المصرية، بما تضمنته من تناقضات وتغيرات داخل كل طرف فى الصراع، فأصدقاء الأمس، ممن آلت لهم السلطة، يصبحون أعداء اليوم، ينتهجون ذات الأساليب الوحشية التى كان يستخدمها النظام السابق، مما يعنى أن الثورة لم تتم فصولا، ومشوار النضال لم يكلل بالنجاح بعد.. لذا، عادت المخرجة جيهان نجيم لتستكمل فيلمها الذى كان ينتهى بهزيمة نظام مبارك، واحتفالات الثوار فى ميدان التحرير. «ليس للكرامة جدران»، قوى وواضح وبسيط، ترويه الصورة وشهود العيان. أما «الميدان» فإنه، بحكم ملابسات الثورة، وتغير اتجاهات الكتل الفاعلة بداخلها، شديد التركيب، تعبر عنه المشاهد الوثائقية، فضلا عن رواة، لا يسردون الأحداث بقدر ما يعلقون عليها، حسب الموقف منها، وهى تعليقات فكرية، عقلية، تحاول التحليل والتفسير والتقييم، وعاطفية فى الوقت ذاته، فالرواة، خاصة صاحب الوجه المصرى تماما، أحمد حسن، القادم من قلب الميدان، المشارك والمراقب، يعبر عما يراه، بجرأة، وضمير يقظ، بانفعالات متباينة، ما بين الأمل والألم، العزيمة واليأس. الفرح والحزن. تعزر سارة إسحاق فيلمها، فنيا، بموسيقى مصاحبة، تتواءم تماما مع مشاهد التوتر والصدام وتتداخل مع الأصوات البشرية، المطالبة بأمر واحد موجه للطاغية «ارحل».. فى المقابل، تستفيد جيهان نجيم بعدة عناصر، مرئية ومسموعة، من قلب الميدان ومن خارجه، لتكثيف الإحساس بالمواقف، مثل رسوم «الجرافيكى» الثرية بالمعانى، والتى يتخلق بعضها أمامنا: صورة وجه محمد مرسى، تحيط حولها دائرة باللون الأحمر، ثم يندفع من عبوة «الاسبراى»، بذات اللون، خط طولى يشطر الصورة، تلخيصا لانتهاء مرحلة.. وبلقطة فوتوغرافية واحدة، معروفة وشهيرة، تذكرنا بأحداث يريد البعض طمسها، مثل الخطيبة، فى المشرحة، التى تمسك بيد خطيبها الشهيد، فى مذبحة ماسبيرو، وذلك الشاب التافه، المفتول العضلات، الملتحى، الذى يضع كفه، بوقاحة، على فم المناضلة، شاهندة مقلد، أمام الاتحادية.. وإلى جانب الموسيقى المصاحبة، ثمة الهتافات الجماعية، وأصوات دوى القنابل وأزيز الرصاص وسارينات عربات المطافئ والإسعاف. لكن، قبل كل هذا وبعده، تؤخذ المادة الوثائقية، فى الفيلمين، كحجر الزاوية، ودور البطولة، وهى أصلا، من إبداعات الشعبين، اليمنى والمصرى، مثيرة وحيوية فى «ليس للكرامة جدران»، ومبهرة إن لم تكن مذهلة فى «الميدان»، ذلك أنه لا شبيه لها، فى السينما الروائية أو التسجيلية، فضخامة مظاهرات الشعب المصرى، ومسيراته، وتوحده، لا قرين له فى ثورات البلدان الأخرى.. وبالتالى، من الممكن القول، من دون التقليل من شأن المخرجتين، أن الفضل فى وصول الفيلمين إلى عتبات الأوسكار، يرجع إلى جماهير قررت، تحطيم أغلال الخوف، وصنع مستقبلها، بنفسها، حتى لو كان الثمن، لحم ودم أنبل أبنائها.

الشروق المصرية في

05.02.2014

 
 

بين المخرج الشاب والمخضرم

محمد خان

نشر: 26/2/2014 7:09 ص

فى عصر الديجيتال من الممكن أن نكتشف مخرجًا فى عز شبابه بل حتى لو كان لسّه تلميذ فى المدرسة، والبركة فى الموبايلات وكاميرات الهواة، أما أيامى فأعتبر نفسى محظوظًا حين أخرجت أول أفلامى الروائية وأنا فى السادسة والثلاثين من عمرى، وهذا لم يمنع تحسّرى حينذاك أننى لم أخرج فيلمًا روائيًّا وأنا فى عزّ شبابى، واحترت من إصرار النقاد على وصفى المخرج الشاب وحتى حين بلغت الستين. اليوم وقد تعدّيت السبعين أصبحت بالنسبة إليهم المخرج الكبير أو المخضرم. ربما المخرج البرتغالى مانويل دى أوليفيرا، الذى أخرج أحدث أفلامه عام 2012 وهو على مشارف المئة عام، فقد نعتبره حالة خاصة، إلا أنه لا يزال نشيطًا فى الإنتاج التليفزيونى وقد بلغ 104 سنوات من عمره. فى مهرجان برلين لهذا العام اشترك المخرج الفرنسى آلان رينيه، بأحدث أفلامه فى المسابقة الرسمية وحصل على جائزة، وقد بلغ من العمر 91 سنة، بالمثل آخر أعمال المخرج المجرى ميكلوس يانسو، الذى توفّى هذا العام. الملحوظ أنه زاد عدد المخرجين الذين رحلوا بعد أن تجاوزوا الثمانين من أعمارهم ولم يكفوا عن إخراج أفلامهم، أمثال الفرنسى كلود شبرول، والسويدى إنجمار برجمان، واليابانى أكيرا كوروساوا، والإيطالى مايكل أنجلو أنطونيونى، أو آخرين لا يزالون يخرجون حتى اليوم، أمثال كلينت إيستوود، والبولندى أندريه فايدا. أما بالنسبة إلى سن السبعين فما فوق فأكثرهم غزارة فى الإخراج هو وودى آلن، الذى يخرج اليوم أحدث أفلامه وهو فى سن الـ77، نفس عمر الراحل لوى بونويل حين أخرج فيلمه الأخير. المخرج اليونانى ثيو أنجيلوبولس، لقى حتفه فى أثناء تصوير فيلمه حين صدمه موتوسيكل وهو يعبر الشارع، وكان قد بلغ الـ66 من عمره. العظة من هذا هو أن الإبداع ليست له سن، بل إن هؤلاء المخرجين الذىن ذكرتهم نالوا قسطًا كبيرًا من النجاح والتقدير والجوائز، لأنى أعتقد أن خبراتهم الحياتية أسهمت فى استمراريتهم كمخرجين ذوى بصمة فى عالم السينما. هذا بالذات كان دافع التحدّى بالنسبة إلىّ حين أخرجت فيلمى فى مهد الديجتال «كليفتى» (2004)، و«بنات وسط البلد» (2005)، وأفلام أبطالها فى العشرينيات من أعمارهم، بينما أيامها كنت فى العقد السادس من العمر، فهى خزعبلاية ربط سن المخرج بموضوع الفيلم الذى يتناوله أو حتى اللغة السينمائية التى يمارسها، فمثلما كلنا نمر بمراحل من الطفولة إلى المراهقة إلى الكهولة، المخرج يتطوّر من فيلم إلى الآخر، ولكن ليس بالضرورة حسب سنّه. أتعجب لإصرار بعض النقاد والإعلام عامة ربط الاثنين ببعضهما، متناسين القاعدة أن ما يميّز كل مخرج عن الآخر هو ثقافته وتاريخه وبصمته السينمائية، وليست سنّه.

 

بين نرجسية الفنان وتواضعه

محمد خان

نشر: 19/2/2014 6:10 ص

نرجسية الفنان مثل تواضعه، كلاهما مسىء إلى صاحب الشأن. نرجسيته قد تحجب ميزته الفنيه عن الرؤية، وتواضعه قد يُضعف تقدير الآخرين لفنه. الحل الوسطى هو الأصعب والأمثل خصوصا فى التعامل مع النجاح. فى صميم إبداع كل مخرج هو حقن رؤيته فى السيناريو الذى فى كثير من الأحيان ليس من تأليفه. هناك حالة ظريفة لجأ فيها المخرج إلى اللغة الإنجليزية فى تترات النهاية ليعلن نفسه المؤلف للعمل «written and directed» بينما تترات افتتاح الفيلم تعلن باللغة العربية عن المؤلف الحقيقى للسيناريو. هذه المناورة الساذجة لترافق ترويج الفيلم فى المهرجانات، فى النهاية تعكس فقدان ثقة المخرج بنفسه فى تضليل المتلقى أكثر من أى شىء آخر. فى تجربتى الشخصية بالرغم أن معظم أفلامى نشأت عن فكرتى ومن حقى أن أطالب بوضع اسمى كصاحب الفكرة أو القصة، ولكن لا أطمع فى إعلان مشاركتى فى السيناريو إلا فى حالتين، كنت قد بدأت بالفعل فى كتابة سيناريوهاتهما قبل أن أشرك كاتبا آخر. فى العموم مشاركتى فى السيناريو بالرأى أو الاقتراح أو الإضافة أو الحذف هى جزء طبيعى من عملى كمخرج.

هناك حالات أخرى حين ينجح سيناريو فى الحصول على الدعم لإنتاجه بناء على سعى المخرج لذلك، فيتجاهل تماما مؤلف السيناريو، إلا إذا أعلنت مؤسسة الدعم فى بيانها اسم المؤلف، فهو للأسف يعتقد أنه لوحده صاحب الفضل فى الحصول على الدعم، متناسيًا أن الدعم مُنح بناء على الورق المكتوب قبل أن يبدأ المخرج إخراجه فالفيلم لم يولد بعد، حتى إذا كان الدعم مُنح باسمه. التواضع جوهرة لمن يملكها والثقة بالنفس ليست بالضرورة مَكسية بالنرجسية. فى الماضى لما كانت السينما فى أحسن حالاتها وعجلة الإنتاج تدور بلا عوائق، الحقوق الأدبية كانت محسومة بالعقود التى تُحترم من جميع الأطراف. اليوم نقابة السينمائيين أضيف لخدماتها دور جديد فى التحقيق عن أحقية طرف عن الآخر، وتشكيل لجان لحسم الخلافات بين مدعى أصحاب الفكرة أو القصة، أو السيناريو بأكمله فى حالات تشابه الأفكار والسيناريوهات. فأصبحت النقابة بمثابة قضاة الحق والعدل. لقد تم اتهامى مرتين عن نفس الفيلم «موعد على العشاء»، حين أسرع أديب يتهمنى بأننى سرقت روايته قبل مشاهدته للفيلم وقبلت اعتذاره بعد أن شاهده، والاتهام الآخر من صحفى التقطت خطًّا واحدًا من حادثة فى بيروت كان قد كتب عنها، ألا وهو عن فتاة قررت التخلص من نفسها ومن حبيبها -الذى تحت ضغوط عائلته- قبل أن يتزوج من أخرى، وبنى اتهامه لتسميتى الشخصيات فى الفيلم بنفس الأسماء، بينما قصة الفيلم بأكملها لا تمت بأى صلة للخبر. فقد تجاهل صاحب الاتهام أن الإلهام هو سلاح كل فنان يلتقطه من الحياة كلما استطاع.

 

النقاد حبايبى - حبايبى النقاد

محمد خان

نشر: 12/2/2014 4:33 ص

يفصل بين وصفى «النقاد حبايبى» و«حبايبى النقاد» خط رفيع جدًّا، لكن قبل أن أغوص فى الفروقات أؤكد احترامى الشديد لكل نقد سلبى أو مخالف أو حتى مُحطّم، وأحيانًا أوافق مع أو أعذر عدم الاستيعاب وعادة أتجاهل أى تحريف لقصة الفيلم، بل ممكن أتقبّل الهجوم الأعمى بصدر رحب دون قصد الاستهزاء، وأبحث دائمًا عن حُسن النية قبل سوء النيّة، وهذا نتاج عُمر طويل وأفلام كثيرة نال بعضها حب البعض، وكُرهت من البعض الآخر، لدرجة أننى لا يمكن أن أستهين بكتابة الناقد حتى لو كان مش ناقد أصلًا أو السينيفيل (مجنون سينما) اللى مش سينيفيل ولا حاجة، وحتى المُدّعى فهم الفيلم اللى مافهموش خالص، ودائمًا أستقبل نقد الناقد السينمائى المحترف بجدية واحترام، سواء قبلته أو رفضته. فى كل الأحوال والظروف والأفلام فمنهجى هو أن أبعد عمدًا عن إفصاح وجهة نظرى الشخصية حول النقد ذاته، حتى لا أقع فى فخ الدفاع المُتعصّب أو الحساسية المُفرطة، ومن ثَم وصفى لهم «النقاد حبايبى». أما حين يصف ناقد مثلًا فى جملة غير مفيدة أن كلًّا من «طائر على الطريق» و«موعد على العشاء» هما قصة واحدة متكررة، أو ناقد يُلَمّح بأن «كليفتى» و«بنات وسط البلد» و«فى شقة مصر الجديدة» يُشبهها بالدهب الصينى (يُقصد أفلام مغشوشة)، أجد فى تشبيهه استخفافًا واستهزاءً وفزلكة، ولذلك لا مفر من إلحاقه بقائمة «حبايبى النقاد».

أتذكّر عقب انتهاء عرض فيلم «ضربة شمس» بسينما ميامى، وقفت وظهرى للحائط أراقب رد فعل الجمهور وهو خارج حين لمحنى شابان -يبدو أنهما عرفا أننى المخرج من صورى فى الجرائد أو من مقابلة تليفزيونية مع المذيعة أمانى ناشد «رحمها الله» بُثّت حديثًا- فوصفوا مخرج الفيلم مزاحًا وفى المطلق وعن قصد لحظة مرورهم أمامى بأنه ابن كذا وكذا، فأيقنت أنه مديح وإعجاب بالفيلم على الطريقة المصرية، ولا يمكن أن أنسى تعليق إحدى السيدات بعد عرض فيلم «فى شقة مصر الجديدة» هزّنى بقولها «أنا عُمرى طال».

خبرة السنين والأفلام أهّلتنى لأقُدر دائمًا رأى المتفرج العادى، مثله مثل الصديق أو رفيق الكار والتفرقة بين المجاملة والانطباع الصادق.

فى العرض الأول فى مصر لفيلم «فتاة المصنع» بمهرجان الأقصر للسينما المصرية والأوروبية الذى حضره جمهور كبير من أهل المدينة، رجال ونساء وأطفال، وجدت فى استقبالهم العفوى الحار ترمومتر «صناعة مصرية أصيلة مش صينى» لمستقبل الفيلم دون أى دَعم من «حبايبى النقاد» وتوقعات مطمئنة من «النقاد حبايبى».

 

الأقصر بين الحزن والسعادة

محمد خان

نشر: 6/2/2014 11:46 م

الأقصر هذه الأيام مدينة حزينة، تبتسم بصعوبة، سماؤها تفتقد حشد بالوناتها المتعددة الألوان، ومراسيها تزدحم بمراكب طال انتظارها، والحناطير على جانب أرصفتها، فرغ صبرها وفنادقها تعانى من الوحدة، وآثارها الشامخة تدعو زوارًا غائبين، ولكن تظل شمسها ساطعة بأمل «مسيرها تروق وتحلى». مع هذا البريق يطل عليها كل موسم مهرجانان لسينما تبدو بلا مأوى ثابت لديها، تحاول أن ترطب حياة أهلها وتفتح نوافذها شرقًا وغربًا عبر أفلام تواسى مأساتها وتُرسخ لمزيد من ثقافتها. مهرجان للسينما المصرية الإفريقية يربطهم بحبل النيل العظيم والآخر للسينما المصرية الأوروبية يُحلق فوقها بعالم مغترب طالبًا التعارف، وتبقى السينما المصرية العامل المشترك يطمئن هويتهم بحكايات تعبر عن عالمهم، مؤكدة أننا جميعًا يد واحدة فى بوتقة واحدة، نحمل على أكتافنا تاريخا عريقا وننظر معًا نحو مستقبل مستنير.

فى أولى زياراتى للمنطقة كانت لمعاينة قرية فى قلب الصعيد، ومقابلة فلاح فقير سافرت زوجته بطفلها الرضيع إلى القاهرة بقروشها المعدودة لزيارة سيدنا الحسين، وبينما كان بكاء طفلها المتواصل بسبب الجوع أثار انتباه وشك المارة -وهى فى طريقها من محطة مصر إلى الحسين سيرًا على الأقدام- إنه ربما ليس طفلها لينتهى الأمر بتدخل الجهات المسؤولة وفصل الطفل عن أمه وإلحاقه بإحدى الجمعيات الخيرية وإلحاق الأم بمستشفى للأمراض العقلية، مما أدى إلى إضرابها عن الطعام ووفاتها حزنًا على فقدان طفلها. هذه الواقعة أثارتنى أنا والزميل السيناريست بشير الديك، وبالتالى البحث عما وراء هذا الحدث المؤلم. للأسف كان قد سبقنا مخرج ومؤلف آخر قدما فيلمًا ميلودراميا مُفبركا عن المأساة. ربما كانت الحَسنة الوحيدة من وراء الزيارة كانت فى ديسكو فندق الأقصر، الذى أقمنا به حين شدنى منظر سائحة ترقص بمفردها وهى تعبر عن حريتها، التى ألهمتنى فى ما بعد بمشهد الديسكو بفيلم «الحريف»، حين ينضم عادل إمام ليشارك الرقص مع أجنبية تقول له «أنا حرة / I am free»، بينما يستعرض هو حرفنته بكرة بلاستيك صغيرة معبرا عن حريته.

أتذكر زيارات أخرى لأقصر أكثر سعادة، سماء صباحها قوس قزح من البالونات ونيلها مكتظ بمراكبها الشراعية والبخارية، تتبادل أبواقها التحية، وزوارها من أنحاء العالم تسجل كاميراتهم كل ركن من أركانها والانبهار يكسو وجوههم أمام أجدادنا الفراعنة، تظل تماثيلهم وجدرانهم تُملى عليهم تاريخ حضارة ثرية بتراثها، وفنادقها لا تعرف النوم؛ مدينة تُزغرد وتُغنى وترقص فى آن واحد تفخر بوجودها.

التحرير المصرية في

06.02.2014

 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2014)