كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

رؤى نقدية

 
 
 
 
 

كوثر بن هنية:

«ثورة الياسمين» أبطلت مفعول المخدّر

حاورتها فيكي حبيب

 

بين زمنين، زمن بن علي وزمن «ثورة الياسمين»، تسير السينمائية التونسية كوثر بن هنية في فيلم «شلاط تونس» في محاولة لإسقاط القناع من حول زيف مجتمع لطالما تغنى بحقوق المرأة قبل أن تأتي الثورة لتكشف هشاشته مؤكدة انه لم يكن أكثر من «بروباغندا لتلميع صورة النظام».

من حادثة «شلاط تونس» (شاب عرف بهذا الاسم لتجواله في الشوارع وجرحه أرداف النساء بشفرة) التي شغلت الشارع عام 2003، تنطلق المخرجة لتُحيك قصصاً عن علاقات مبتورة بين النساء والرجال.

بالاتكاء على كوميديا سوداء، تُعرّي المخرجة الواقع بلغة سينمائية تنسف الحدود بين الوثائقي والروائي... الواقع والخيال.

فيلم نسوي بعيداً من النسوية التقليدية، ثوري بعيداً من الشعارات الرنانة، كوميدي بعيداً من الابتذال بحواراته الذكية وأسلوبه الرشيق.

عن «شلاط تونس» وأمور أخرى كان لـ«الحياة» هذا الحوار مع المخرجة خلال مشاركتها في مهرجان دبي السينمائي:

·        للوهلة الأولى يبدو الفيلم وكأنه يتحرى عن حادثة وقعت عام 2003 باسم «شلاط تونس»، ولكن سرعان ما يتبيّن انه يتجاوز هذه الحكاية للحديث عما تغيّر في المجتمع عقب ثورة «الياسمين». حدثينا عن هذه التجربة؟

- «حكاية الشلاط» وقعت خلال حكم بن علي، أما فترة الفيلم الزمنية فتعود الى الراهن، والسبب ان البحث والتقصي لم يكونا ممكنين في العهد السابق، وهذه إحدى إيجابيات الثورة، إذ صار بإمكاننا أن نواجه الواقع. وبما ان الثورة شكل من أشكال التغيير الذي يشبه الزلزال، فإن السؤال الذي شغل ذهني كان: ما هي الأمور التي تغيّرت بعد الثورة وتلك التي يصعب تغييرها لأنها متعمقة في الجذور؟ طبعاً العلاقات بين النساء والرجال تشكّل إحدى هذه الإجابات. ففي تونس حين كنا نعيش في ظل ديكتاتورية بن علي او حتى قبله أيام حكم بورقيبة، كان هناك افتخار بالقوانين التي تخصّ المرأة، فلا تعدد زوجات ولا طلاق من دون موافقة الزوجين، الخ... كانت ثمة قوانين متطورة مقارنة بالمجتمعات العربية الأخرى، ما ولّد بروباغندا للنظام. ولكن يجب ألا يغيب عن بالنا ان الحوار أو النقاش حول هذه القضايا لم يكن موجوداً وأن الثورة هي التي فتحت أبواب الأسئلة بعدما كنا نعيش تحت مخدّر البروباغندا. فما إن اندلعت الثورة حتى بطل مفعول المخدّر وظهرت كل الأوجاع والآلام. ولهذا، لا بدّ من أن يكون العمل في المدى البعيد على مواجهة هذه الامراض بدلاً من تخدير الألم.

النظرة الدونية

·        في الفيلم يُظهر الرجل التونسي نظرة دونية للمرأة. كيف تفسرين هذه الازدواجية بين مجتمع يُعطي النساء حقوقاً كثيرة، فيما هناك رجال من هذا المجتمع يتعاملون معهنّ بازدراء؟

- لا أحب أن أعمم، فموضوع فيلمي هو عن رجل يضرب النساء، بالتالي من الطبيعي ان يكون محيطه مثله. الأكيد ان المشاكل تحاصرنا. وهناك طبعاً رجال ينظرون بدونية الى المرأة، خصوصاً النوعية التي صوّرتها في الفيلم. والسبب ان الرجال تحت الحكم الديكتاتوري كانوا مقموعين. وهنا أتحــدث عن قمع ثنائي: أولاً، تركيز بن علي على حقوق المرأة تلميعاً لصورته أمام الغرب. ثم، ممارسته القمع تجاه شعبه، ما ولّد مشاعر متضاربة تجعل نوعية من الرجال تتصرف بهذا التوجيه.

·        هل تبررين للرجال مثل هذه التصرفات باعتبارهم ضحايا؟

- لا أبرر لهم ولا اعتبرهم ضحايا بل مرضى. والمريض يحتاج الى علاج.

·        هل ترين أن الثورة هي العلاج؟

- الثورة هي البداية. فنحن نعيش اليوم في مرحلة هشّة. وإذا نظرت الى تاريخ الثورات في العالم، تجدين ان أصعب فترة هي تلك التي تعقب الثورات. أتمنى أن نصل الى مرحلة نتحدث فيها عن كل شيء. ولا شك في ان مناخ الحرية الموجود حالياً يساعد على حوار معمّق في الفن والفلسفة والتاريخ. وطبعاً، هناك عمل كبير في انتظارنا.

·        ألم تخشي على الفن من وصول «النهضة» الى السلطة؟

- وصول الإسلاميين الى الحكم هدية من الديكتاتورية، وهي مرحلة طبيعية في نظري، بحيث لا يمكن ان نصل الى ديموقراطية من دون ان نحلّ المشاكل التي كانت تحت المخدّر. ولهذا، لا يمكن ان نغض الطرف عن حقيقة ان قمع الإسلاميين ايام الديكتاتورية نجمت عنه مشكلة تحت التخدير. حتماً، لو حصلت مجابهة فكرية، لكانت الأمور أسهل. ومع هذا، أقول ان هذه المرحلة الانتقالية ضرورية. ولا أخاف على المجتمع التونسي لأنه مجتمع حي بجمعياته ومجتمعه المدني. وكلما قام الاسلاميون بتقييد الحريات، خرجت اصوات ضدهم. هي مرحلة صعبة من دون أدنى شك، لكنها لا تحيد عن المسار الطبيعي. وإذا نظرنا الى الثورات العربية وما يحدث في سورية ومصر، فلا شيء يبشّر بالخير. وحدها تونس هي الأمل، وأنا بطبعي متفائلة.

·        في الفيلم، هناك حرص على نسف الحدود بين الواقع والخيال. لماذا؟

- انطلقت من حكاية وقعت عام 2003 في تونس، وعُرفت يومها باسم «شلاط تونس». وإذا كانت حكاية هذا الشاب مهمة، فإن الأهم يكمن في الإشاعات التي حيكت من حولها والخيال الجماعي الجامح بحيث أضحت هذه الشخصية المجهولة جزءاً من الخيال الشعبي المعاصر عندنا. ومعروف عن الإشاعات أنها تكون في جزء صغير منها صحيحة وفي جزء كبير خيالية. كما ان الناس يحبون تصديقها عموماً. ولهذا أحببت أن أصنع فيلماً على هذا النحو، بمعنى أن يصدّقه الناس، فكان اعتمادي الشكل الوثائقي للحديث عن موضوع روائي في جانب كبير منه. وبالتالي، فإن القصة هي التي اقترحت عليّ الشكل.

·        على رغم ان موضوع فيلمك نسوي بامتياز، غير انك نجحت في عدم الوقوع في فخ الخطابات النضالية الرنانة. هل حرصت على ذلك؟

- انا كامرأة، لا اجد في هذا الخطاب ما يمثلني، فهو مهترئ ولا يشبه الواقع بشيء. ثم هناك جانب لا أحبه وهو صورة المرأة الضحية، فأنا وعلى رغم أنني أعيش في مجتمع أكثر قسوة على المرأة من مجتمعات أخرى، إلا انني لا أعتبر نفسي ضحية، بل أرى أن هذه الخاصية كوّنتني. ولهذا، لا أحب أفلام البكائيات والدموع أو تلك الصورة المقولبة الجاهزة. ربما مثل هذه الأعمال تعجب الغرب، لكنها لن تفيد المرأة العربية بشيء.

كوميديا سوداء

·        استعنت بالكوميديا السوداء للحديث عن زيف المجتمع التونسي في كثير من المشاهد، لعل ابرزها ذاك الذي يتعلق بجهاز كشف العذرية. هل كان سهلاً التعامل مع موضوع كهذا؟

- المجتمع التونسي هو الذي أوحى إليّ بكل ما تجدينه في الفيلم. فقبل الشروع بالتصوير كنت أتساءل كيف سيكون طرح موضوع كهذا، خصوصاً انني لا أريد ان أستخدم طرحاً نسوياً نضالياً يعود الى زمن ماضٍ، فوجدت ان أفضل طريقة هي في جعل الشبان الذين يفكرون بهذه الطريقة يضحكون على أنفسهم، فكان الضحك أولاً، ثم اشتغال الموضوع في ذهنهم، ثانياً. هذه هي الحيلة النفسية التي اعتمدتها، أما موضوع العذرية فمسألة ضرورية في المجتمع التونسي، والأمور الضرورية تولّد عبثية، ما يخلق أموراً غير منطقية. وبما أن مجتمعاتنا في طور التغير والتحول، فنحن نعيش في فترة انعدام المنطق والعبثية والكوميديا السوداء. ثم انني اشتغلت على الفيلم لـ 4 سنوات، ما سمح لي بأن أجرّب أموراً كثيرة. والتحدي الكبير بالنسبة إليّ كان في ان اختار شخصيات تبدو صادقة وأصوّر مشاهد تبدو وكأنها حقيقية. وقد اشتغلت كثيراً على الفيلم، فبعض الشخصيات يلعب دوراً مكتوباً وبعضها يلعب دوره الحقيقي مثل الشخصية الرئيسة جلال إدريدي. ولعل أكثر ما أردته في هذا العمل هو ان يكون الواقع واجهته.

·        الى أي مدى واجهت صعوبة في التعامل مع ممثلين غير محترفين؟

- في الحالتين، هناك إيجابيات وسلبيات. صحيح ان التعامل مع ممثلين محترفين أسهل بعض الشيء، ولكن ما لا احبه في هذه الحالة هو ان الممثل المحترف - على رغم عدم وجود كثير من الممثلين المحترفين في تونس - يستخدم التقنيات، وأنا احب ان اتعامل مع الإنسان الخام بعيداً من «تذاكي» بعض الممثلين. في المقابل، تواجهين عند غير المحترفين مشاكل أخرى، منها ما يتعلق بالتخلف عن المواعيد او ان يختفي أحدهم في صورة مفاجئة.

·        الى اي مدى منحت شخصياتك حرية التعبير؟

- كان هناك سيناريو مكتوب سلفاً. ثم اخترت الشخصيات التي أريد العمل معها. وعملنا دورات تدريب، بعضهم كنا نعطيه النص بطريقة جافة ليقوله بعبارته قبل أن أعيد كتابة الحوار على طريقتي. كان هناك مدّ وجذر بيني وبين الشخصيات الى ان وصلنا الى صيغة نهائية ترضيني ولا تفقد الممثل عفويته.

·        كيف تنظرين الى واقع السينما التونسية بين زمن بن علي وزمن الثورة؟

- السينما كانت تُخيف بن علي مثلها مثل المسرح خلافاً للتلفزيون الذي كان بمثابة مخدّر للناس. اما ما تبدّل بعد الثورة، فحرية التعبير التي أضحت متاحة للسينمائي بحيث صار باستطاعته ان يحقق السينما التي يحلم بها.

اما على صعيد السياسيين، فالسينما ليست أولوية، إذ ينظرون اليها على انها ملف تافه امام مشاكل أكبر مثل القضاء وتطهير الأمن على رغم دورها الكبير في عملية التغيير.

الحياة اللندنية في

31.01.2014

 
 

«طالع نازل»:

وجوه على حافة الانهيار الغامض

بيروت - رندة رهونجي 

المكان، مصعد في بناء سكني في أحد شوارع مدينة بيروت، وعيادة طبيب نفسي تقع في إحدى طبقات هذا البناء. الزمان، يوم ليلة رأس السنة. بين هذين الحيّزين المكانيين الضيقين، وخلال هذه الوحدة الزمنية، أقام محمود حجيج المرتكز الأساس لبنية فيلمه الروائي الطويل «طالع نازل» الذي ما زالت عروضه التجارية مستمرة في الصالات اللبنانية. بدا الفيلم مغامرة سينمائية تمتلك العناصر الكفيلة بجعلها تسجل نقطة إضافية لمصلحة سينما غير نمطية، من خلال دراما كوميدية حاولت الالتزام بشرطي المكان والزمان من أجل نسج حدثٍ تصنعه متتاليات مشهدية ترصد تعاقب عبور شخصيات الفيلم التسع داخل المصعد وخلال جلسة التحليل النفسي في عيادة الطبيب (كميل سلامة)، لترسم في مجملها صورة كاشفة لمدينة يعيش أفرادها وحدة، وعزلة، وافتقاداً لإمكانية التواصل والتأقلم مع أنفسهم ومع الآخر.

نماذج

إمرأة جميلة متزوجة (ندى أبو فرحات)، تعيش فراغاً داخلياً حاداً يجعلها تبحث عن توازنها العاطفي والنفسي عبر علاقاتها الغرامية المتعددة. رجل يعمل في صناعة المانكانات البلاستيكية (حسان مراد)، وحيد، وفاقد القدرة على الوجود خارج عالم أصنامه الجامدة. أمٌ (عايدة صبرا) تعاني من علاقتها بابنها الذي لا يعرف كيف يجاريها في الزيف الاجتماعي الذي وجدت نفسها مجبرة عليه لتخفي تحته عنفاً جسدياً منزلياً تتعرض له وتكابده بكتمان وسريّة. زوجان (يارا أبو حيدر- منذر بعلبكي)، يبحثان عن حل لانقطاع الحوار والتواصل بينهما داخل زواج لم يثمر أطفالاً، فتكشفت هشاشته ووحشة العلاقة مع آخر دائم الانسحاب والخذلان. شاب سوري (حسام شحادات)، يعاني الكبت والقمع منذ الطفولة، ليعيش عطباً داخلياً كبيراً جعله يجد في بيروت متنفس إغواء وحرية. فتاة شابة (ديامان بوعبّود)، تعيش صمتاً مزمناً بنته كجدار تفصل من خلاله نفسها عن المحيط كرد فعل دفاعي، جراء التعنيف النفسي الذي كانت والدتها ضحيته وأُجبرت على أن تكون الشاهد الصامت عليه. شاب، مدمن حبوب وفيتامينات (زياد عنتر)، يعيش كابوس الأمراض المحتملة وهوس الفحوصات الطبية، وسط هاجس اقامة علاقة مع فتاة عازبة لا تساعده هواجسه في العثور عليها. زوجة الطبيب (منال خضر)، التي تأتي في آخر اليوم إلى عيادة زوجها لاصطحابه إلى سهرة ليلة رأس السنة، ولتفجّر هناك ضيقاً وضجراً سجنتهما داخلها طويلاً من أجل الحفاظ على شكل علاقة زوجية مثالية منسجمة مع الواجهة المستقرة التي تفرضها عليها علاقات زوجها.

كان لهذه التجربة السينمائية أن تنسجم مع الخيارات الجريئة التي قدّمتها بعض الافلام اللبنانية الجادة في الفترة الأخيرة، والتي أعلنت عن سينما بديلة تفترق عن الإسفاف والخيارات السهلة، طارحةً الصدق في نبش الواقع وتعريته عبر صرامة في التحليل وجرأة في التجريب، تنحاز الى قلق اللبناني المزمن الذي يصحو صباح كل يوم ليجد نفسه أنه لا يزال واقفاً عند حافة الهاوية الحاضرة دوماً لابتلاعه. إلا أن «طالع نازل» بعدما حدد هدفه بدقة، تعثّر في الوصول إليه.

كان بإمكان الفيلم أن يقبض على عناصره السينمائية المتينة ليصنع مغامرته الابداعية لولا أنه تاه عنها في منتصف رحلته، أو ربما كانت هذه حاله منذ بدايتها. فبدا متأرجحاً بين الابتكار والتجريب وبين «حكمة» الإذعان لمعالجة سهلة، وانغماس مطلق في تجربة فنية مخلصة لفكرتها الأولى وبين السعي الى كسب الجمهور العريض عبر افتراض التبسيط خياراً مضموناً لإعجابه، متخلياً بذلك عن رهانه الفني الخالص. فقطع «طالع نازل» الطريق أمام فرصة قراءة سينمائية عميقة داخل فضاء مثالي للولوج في أزمات الفرد خلال جلسات المكاشفة التي تضعه قبالة طبيب نفسي، سيدخل بدوره مختبر التشريح التحليلي في النهاية.

تلك النهاية التي أتت فاقدة القدرة على التقاط خيوط الشخصيات لتصوغ من مرورها، كنماذج إنسانية، موقفاً فكرياً واضحاً ومؤثراً، أتت لتبعثر بناء الفيلم ولتفرّغ الشخصيات من زخمها السينمائي، ولتُفقد العمل بالتالي هاجس البحث المتكامل.

فهذه الشخصيات التي دخلت المشهد السينمائي وهي تحمل معها تفاصيل أزماتها في لحظات ذروتها، نراها تخرج منه من دون أن تسجل أي تطور داخل البنية الدرامية للعمل، تاركة وراءها التساؤل عما إذا كان لعبورها أي معنى أبعد من مجرد عناوينها العريضة. حتى إن عودة بعضها في النهاية، حيث نراها خارج عيادة الطبيب، لم تساعد في إغلاق دائرة خطها الدرامي، فأتت تلك العودة عاجزة عن اضافة جديد إلى مقدماتها... ولنشعر بأنه قد أفلت خيار الإبقاء على وحدة الزمان والمكان بشرطها الفني الناصع كتحدٍ فني كان سيشحن الفيلم بقوة تأثير أكبر ويبقي على مغامرة مرآة الفن الكاشفة.

العجز خارج العلبة

تلك المرآة التي بدت في «طالع نازل» عنصراً درامياً أساسياً بالمعنى المباشر الملموس للكلمة (المرآة داخل المصعد)، ودورها في توفير الفرصة لكل شخصية تصعد فيه لرؤية نفسها، لتتأكد من حسن اختيارها للقناع المتماسك الذي ستواجه به العالم الخارجي حال خروجها من المصعد، أو لتمارس أمامها فعل حرية في البوح أو الغناء أو الحب، تعجز عنه خارج هذه العلبة المغلقة.

وأيضاً المرآة المجازية ودورها في عيادة الطبيب، الذي يقوم عمله أساساً على مواجهة كل شخصية بأزمتها لتعريتها ولمنحها تلك الأذن الصاغية التي تفتقدها بقوة خارج العيادة. وهو ما اختاره الأفيش ليبرزه من خلال صورة للطبيب التُقطت من الخلف - كما معظم مشاهده في الفيلم - في لقطة لا نرى منه إلا أذنه التي يمنحها لمرضاه الجالسين في واجهة الصورة يبوحون بأزمات التواصل مع الذات ومع الآخرين.

بالطبع إنهم الآخرون، الذين أشار إليهم المفكر والكاتب الفرنسي جان بول سارتر في مقولته المسرحية الشهيرة «الجحيم هم الآخرون»، والتي كان «طالع نازل» مؤهلاً لإيجاد أرضية سينمائية مثالية لبحثها داخل بنية سيناريو يتوضح فيه الارتباط العضوي لمشاكل شخصياته بعلاقة متأزمة مع الآخر. إلا أن محمود حجيج لم يشأ الحفر عمودياً في هذا الاتجاه، وفضّل فرد خيوط الشخصيات أفقياً على مساحة زمن الفيلم، مبدداً بذلك فرصة سينمائية ثمينة كانت لتكون استثنائية وخاصة.

لم يشأ «طالع نازل» الذهاب عميقاً في تحليله الأسباب التي دفعت شخصيات الفيلم للقدوم في يوم ليلة رأس السنة الى عيادة الطبيب النفسي. ويخبرنا علم النفس عن الخطورة النفسية لهذه الليلة من السنة، وما تسجله من نسب انتحار بصفتها ليلة المواجهة مع الهزائم والانكسارات، وبالتالي ليلة الإمعان والغرق المضني في العزلة والوحدة.

وإذا كان هذا الامتناع عن طرح أي تجذير للشخصيات داخل الواقع ومعطياته قد شكل عائقاً أمام اكتمال التجربة السينمائية التي بدت ضبابية في رؤيتها، فإن مشهد المرور المتكرر لجملٍ أمام البناء السكني البيروتي وما يحتويه من عبثية، قد أتى ليحسم توجه الفيلم بنزع أي إسقاط واقعي عنه.

هل نحمّل الفيلم أكثر من طاقته ونفرض عليه ما ليس في طموحه إذا أملنا منه الذهاب باتجاه تحليل أعمق لأزمة شخصيات تمثل في النهاية نماذج مقترحة لأفراد يعيشون بالتأكيد في مدينة محددة، وداخل سياق اجتماعي واقتصادي وسياسي معين؟ ولماذا اتخذ الفيلم قراره بتحييد دور المناخ العام عن الشخصيات في مدينة كبيروت، هي التي بعد سنوات طويلة من خروجها من حربها الأهلية، ما زالت تتفجر غضباً وانتقاماً، داخل دوامة عنف وعبثية جاعلة للمستقبل شكلاً مبهماً ومخيفاً؟

نجح الفيلم في بناء علاقة تضاد بين الإطار الضيق لأماكن التصوير وبلقطات ثابتة وكادرات جامدة داخل الحقل المغلق للعيادة والمصعد، وبين نقيضها النفسي داخل أفراد يشتعلون اضطراباً... لكنه لم يستثمر ذلك في شحن درامي يمنح هذه البنية بعداً جديداً يضيف شيئاً إلى معطيات البداية، خصوصاً أن الفيلم قد اعتمد التصوير بأسلوب متقشف حركياً لتكثيف زخم حضور شخصياته والتركيز على زمن حدثها الداخلي. فبدا دخول كل منها الى المصعد والعيادة أشبه باختبار نفسي وبصري، وضع المشاهد في ترقب لما سيلي وصولها إلى الطبقة التي تريدها أو خروجها من المصعد الى العالم الخارجي.

يبدأ الفيلم بمشهد تصور فيه الكاميرا يد عامل تهبط على صقالة، تنظف الواجهة الزجاجية الخارجية للبناء، لتتضح بعدها مدينة بيروت في لقطة كبيرة ثابتة. وينتهي بلقطة تنظر فيها إحدى الشخصيات (ديامان بوعبود) نظرة ثاقبة مفاجئة إلى عين الكاميرا، فتسكت الموسيقى التصويرية المرافقة. نظرة أتت لتقطع حال التلصص المستكينة التي عاشها المشاهد خلال دقائق الفيلم، ولتدعوه بجديّة الى المشاركة في المكاشفة المفتوحة للذات حال خروجه من صالة العرض المغلقة.

بين بيروت بعد ازالة الغبار عن صورتها، وبين نظرة المواجهة الثاقبة تلك، مرّر الفيلم نياته السينمائية الجميلة كلها، التي حرّضت على التوقف والقراءة والتحليل، لكن أيضاً على العتب والتمني.

الحياة اللندنية في

31.01.2014

 
 

الإيراني بهنام بهزادي يتحايل على القواعد...

كلّ من يأتي سيكون أفضل من السابق!

نانت (فرنسا) - ندى الأزهري 

حين أراد السينمائي الإيراني بهنام بهزادي تصوير فيلمه «التحايل على القواعد» في عهد الرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد، استغرق منه الحصول على تصريح «سبعة» أشهر، و«سبعمئة» مقابلة مع الرقابة كما يقول ساخراً. فهل نجح بالتحايل؟ هذا ما لا نعرفه، لكن الفيلم صور ثم عرض في المسابقة الدولية لمهرجان فجر السينمائي في طهران ونال الجائزة الأولى.

في هذا الفيلم تبدو العوائق ظاهرياً من نوع آخر، لا علاقة لها بالرقابة على الإبداع الفني، إلا أنها تلتقي معها في النهاية في المواجهات التي يتحتم على الأفراد تحملها في مجتمع يتدخل «كبيره» في كل ما يرى أنه «الأفضل». الكبير هنا هو الأب الذي يريد منع ابنته من السفر مع فرقة مسرحية للهواة مكونة من شباب وشابات، شغفهم بالمسرح يدفعهم إلى التدرب سراً في طهران. ثم تضعهم دعوة إلى المشاركة في تظاهرة فنية في الخارج، أمام واقع يتطلب منهم الكشف. فهل يفعلون أم يتابعون سياسة الإخفاء؟

هؤلاء كلهم يتعللون برحلة مدرسية مبرراً للغياب. يريحهم هذا من وجع الرأس والنقاش مع آبائهم، إلا «شهرزاد» التي تفضل قول الحقيقة لوالدها. يجرها موقفها ومعها رفاقها إلى مواجهات مع الأب لم تكن في الحسبان. يضطر الرفاق إلى مراجعة معمقة لإعادة درس قرار السفر. مراجعة تكشف نفسيات كل منهم، فهل يقفون مع صديقتهم ويتخلون عن الدعوة وبالتالي عن فرصة قد تكون الوحيدة؟

على رغم أن الحبكة تدور حول هذا الصراع بين الفتاة وأبيها، إلا أنها لم تقف عند حدوده، بل توسعت لتركز على انعكاسات «الكشف»، كشف شهرزاد مشروعهم واختيارها الصراحة. ثنائية الصدق والكذب، المباشرة والتحايل تتجلى في حوارات تدور بين شخصيات شابة تخضع لقواعد وقيود تحاول الانفكاك من عبئها، كل بطريقتها.

«قاعده تصادف» (العنوان بالفارسية) يمثل تحدي الشباب وتساؤلاتهم وحيرتهم أمام خيارات يجب أن تراعي قواعد خانقة فرضها الآباء والمجتمع. شُبّه بهنام بهزادي بالمخرج أصغر فرهادي في رهافة أسلوبه وتسلسل الأحداث حيث حدث يجر حدثاً وكشف يجر كشفاً.

في مهرجان نانت للقارات الثلاث الأخير حيث فاز الفيلم بجائزة الجمهور التقينا المخرج:

·        يعالج الفيلم مشاكل الشباب الإيراني على نحو جديد محدد، دقيق ومعمق، لم تظهره السينما الإيرانية من قبل. هل هذا نابع من تجربة شخصية؟

- المجتمع الإيراني شاب جداً ونسبة الشباب فيه سبعون في المئة. لهؤلاء تأثير كبير في المجتمع وفي الأمور كافة. حين كنت شاباً أنجزت الكثير من الأفلام الوثائقية، ولعمل هذا الفيلم حاولت ليس التعرف إلى أوساط الشباب فحسب، بل الاندماج فيها. عشت معهم وتابعت تجاربهم، لا سيما من العاملين في المسرح. وعبر دراستي طريقةَ حياتهم، اكتشفت أن أسلوبهم في العيش مختلف عن فكرتنا أو ما نظنه معرفة بهم. من هنا، رغبت بتحقيق عمل يبرز على نحو أفضل حياتهم وحقيقة علاقاتهم.

·        هل تقصد «بأفضل» مما تظهره السينما الإيرانية عموماً عن الشباب؟

- أقصد أفضل من رؤيتنا العامة وليس فقط رؤية السينما. في السينما تبدو الأمور أكثر تجريدية، أكثر سينمائية بينما ملت لإظهارهم على حقيقتهم.

دمج أسلوبين

·        الفيلم روائي لكنه أقرب إلى الوثائقي، كيف كانت خطة العمل؟

- هو وثائقي وروائي في آن واحد، يحاول الدمج بين الأسلوبين ولو أنه أقرب إلى الوثائقي. إنه تجربة جديدة في السينما، حيث أردت اللجوء إلى أسلوب جديد في صنع الفيلم. فالسيناريو محدد دقيق جداً كما الفيلم الروائي والتصوير اتبع السيناريو حرفياً. ورغبت عبر اتباع أسلوب معين في الإخراج إعطاء الإحساس بواقعية الفيلم الشديدة. لهذا، يبدو جانبه التسجيلي.

·        ما الذي أردت حقاً التعبير عنه بخصوص جيل الشباب في إيران؟

- أردت أن أرى وأن أقـــول كــــل شـــيء عـــن الـــروابط بيــــن الناس، عن اختــــلافاتهم والمستـــويات المتعددة والمتبايــنة للعلاقات بينهم.

·        هل يرمز الأب في الفيلم إلى السلطة في إيران؟

- (مبتسماً) هل رأيت هذا؟ (ثم بعد تفكير)، ما أميل إليه في أي فيلم هو القراءات والمستويات المتعددة التي يمنحها لمشاهده. من المهم أن نترك مساحة من القراءة المفتوحة للمتفرج تمنحه فرصة المشاركة في بناء الفيلم. بالتالي يتناقض شرحي وجهة نظري مع مبدئي في أن يقوم كل بقراءته الخاصة! هذه هي فكرتي عن السينما.

·        نال الفيلم جوائز في مهرجان «فجر» ما يعتبر تكريساً له، فهل عرض في ما بعد في الصالات؟

- بعد عيد النوروز 21 آذار (مارس) قدم في عشر صالات وهذا في عهد أحمدي نجاد، وكنت مسروراً لاستقبال الفيلم من جانب الشباب على وجه الخصوص. لقد عبروا لي عن سعادتهم بنظرة الفيلم إلى واقعهم.

أمنيات تغييرية

·        وكيف ترى الآن الوضع السينمائي في إيران بعد وصول الرئيس روحاني والتغيير في وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي؟

- أتمنى بشدة أن يحصل تغيير. السينما لم تمت وهذه ناحية إيجابية في السنوات الأخيرة، ويجب حقاً شكر الناس الذين أصروا على العمل، على رغم الصعوبات، منهم المخرجون الذين قاتلوا ضد النظام «الأحمق» والقواعد الحمقاء والضغوط المتزايدة. لقد تابع الناس العمل والخلق. الآن، السينما تنتظر وأنا متفائل جداً، ثمة أمل نشهده في المجتمع الإيراني نفسه نتمنى انعكاسه على السينما.

·        تتيح تقنية الديجيتال اليوم صنع الأفلام في إيران من دون الحصول على التصاريح الرسمية المطلوبة. بعض من يحقق هذه الأفلام يطمح في المقام الأول إلى عرضها في المهرجانات العالمية لتعسّر عرضها داخلياً، ما الأثر الذي يمكن أن يتركه هذا التوجه على السينما الإيرانية؟

- توفر تقنية الديجيتال بالطبع إمكانية لصناعة الفيلم، إنما لا أستطيع تأكيد أن كثراً من السينمائيين يسعون إلى هذا الهدف، أي أن يعجب الغرب بفيلمه. بالطبع، لا يمكن إنكار وجود نوع كهذا هدفه المشاركة في المهرجانات، لكن هذه في اعتقادي هي المسؤولة عن الوضع! بعضها يختار أفلاماً بسبب مواضيعها وليس من أجل السينما كفن، وقسم يساهم في الإنتاج ويمنح جوائز... هذا يرسل رسائل من شاكلة «إن عملتم هذا النوع فهو يلقى اهتمامنا». قسم من المخرجين يتبع بالفعل أسلوباً نمطياً فقط للمشاركة في المهرجانات، لكن آخرين لا يمتلكون وسيلة للعرض سوى المهرجان!

·        وكيف جرت الأمور معك؟ هل حصلت على التصريح بسهولة؟

- أُعطيت التصريح بعد سبعة أشهر وسبعمئة مقابلة (مبتسماً). كانوا يقولون عليك أن تغيّر هذا وتفعل ذاك. أحياناً كنت، ومرات أخرى لا. إنها لعبة... الأصعب هو حين تكون جاهزاً للعمل وتنتظر، تضيّع الأشهر وكل ما يلحق من ضياع الموسم، ما قد يسبب البدء من جديد. لقد كان التعامل معنا (في العهد السابق) سيئاً لدرجة أظن معها أن لا أسوأ يمكن أن يحلّ بعدهم وأي شيء سيأتي سيكون أفضل!

الحياة اللندنية في

31.01.2014

 
 

«كبسولة» تاريخية على شكل فيلم

رام الله - بديعة زيدان 

قال الكاتب والناقد الفلسطيني وليد ابو بكر: «كان لدينا مسرحيان رائعان الأول انتحر، والثاني مات، الأول هو فرانسوا ابو سالم وقد انتحر بعد ان ضاقت به سبل الحياة، والثاني يعقوب اسماعيل وقد رحل مبكراً مخلفاً مشروعه المسرحي الواعد والكبير». وأضاف ابو بكر «ان الوطن الذي ينتحر فيه مسرحيّ وطن ليس فيه مسرح».

جاءت هذه الشهادة وغيرها من شهادات لفنانين ومخرجين مخضرمين حول تاريخ المسرح الفلسطيني على مدار القرن الماضي وحتى هذه الأيام، في الفيلم الوثائقي «وطن على خشبة المسرح» الذي انتجته الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون الفلسطيني أخيراً، وعرض لأول مرة في رام الله، مطلع الأسبوع الحالي، وهو للمخرج غصوب عبد الرحمن، والمنتج المنفذ سعد العاروري، ويرصد تاريخ الحركة المسرحية الفلسطينية على مدار قرن من الزمن ما بين صعود وهبوط، وكان له العديد من الإضاءات على مطبات وانتعاشات لم تدم طويلاً.

يروي فيــــلم «وطــــن عــــلى خشبة مسرح» تاريــــخ المسرح الفلسطيني»، في 90 دقيقة، وارتباط الحـــــركة المسرحية في الداخل والخــــارج بالنضال الوطنــــي، لافتاً انه كان في الأراضـــي الفلسطينية حركة مسرحية نشطة منذ عشرينات القــــرن العـــشرين، وحـــتى نكبة العام 1948، والتي كان لها الأثـــــر الكبير في محو وتدمير الإنجازات المســـرحية الفلسطينية السابقة، وكذلك في تشتيت الفنانـــين إلى الدول المجاورة لفلسطين، حيث كان هــــــناك بعض التجارب الفلسطينية المسرحية في الشتات، لكن لم تحقق النجاح المطلوب.

وبعد العام 1967 تأسس المسرح الفلسطيني خارج الأراضي المحتلة وحالت الظروف التاريخية دون ظهور هذا المسرح قبل هذا التاريخ. كما استمرت الفرق المسرحية في فلسطين المحتلة بممارسة نشاطها المسرحي، وكان من أبرزها «فرقة المسرح الفلسطيني» وفرقة «سنابل» وفرق: «بلالين» و»دبابيس» و»المسرح الشعبي» و»المسرح التجريبي» و»فرقة الكواكب» و»صندوق العجب» وغيرها من الفرق المسرحية ، إلا أن بعض أعضائها سجنوا لممارستهم فن المسرح، وكان الاحتلال يشترط للترخيص للعرض المسرحي إجازة النصوص من الرقيب العسكري في جيش الاحتلال، وكان مقر هذا في مستوطنة «بيت إيل» القريبة من رام الله.

ووفق الفيلم، ظهر أول تجمع مسرحي بعد حرب حزيران ( يونيو) العام 1975 تحت اسم تجمع العمل والتطوير الفني كعلامة مسرحية بارزة في الأراضي المحتلة سبقها وتلاها العديد من الفرق المسرحية المهمة التي ظهرت في مختلف المدن الفلسطينية، منها المسرح الوطني بالقدس والقصبة في رام الله ومسرح عشتار ومسرح عناد وأيام المسرح ومسرح الرواد. ويشدد الفيلم على أن المسرحيين الفلسطينيين ظلوا جزءاً مهماً من الشعب الفلسطيني، فكان للمسرح أهمية كبرى في توعية وتثقيف الناس، فيما قام المسرحيون الفلسطينيون باستخدام ارقى الوسائل الحضارية والإنسانية للتعبير عن همومهم وهموم شعبهم. ولأن المسرح وسيلة تثقيف وتعليم وتحريض استخدمت على مر العصور فقد كان المسرح الفلسطيني احدى أدوات المقاومة الفلسطينية التي ووجهت بقمع الاحتلال لها وبفرض الرقابة الصارمة عليها.

ومن المفاجئ ما رواه الفنان المسرحي الفلسطيني حسام أبو عيشة، والذي يشتهر ككوميديان، خلال شهادته عن المسرح الفلسطيني في الفيلم، حيث انه وخلال فترة اعتقاله في سجون الاحتلال في سبعينات القرن الماضي قام بإنتاج ثلاث مسرحيات، فكان المعتقلون هم الممثلين وهم الجمهور حيث كان في غرفة المعتقل ٧٥ أسيراً، وأضاف أبو عيشة ان جنود الاحتلال كانوا يحاولون مشاهدة العروض من خلال فتح الشباك الصغير في البوابة ولكنه كان يغلقه من الداخل لأن العرض ليس مخصصاً لهم ولأنهم لم يدفعوا ثمن التذكرة!.

وشدد المدير العام للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون احمد الحزوري على ان الهدف من انتاج هذا العمل إنما هو القاء الضوء على العلاقة الجدلية ما بين المسرح الفلسطيني وعلاقته بالإنسان والمقاومة الفلسطينية، وكيف اثر وتأثر في ظل الظروف والمراحل التي مرت بها القضية الفلسطينية وما هي الصعوبات التي واجهت مسيرة الحركة المسرحية الفلسطينية، وكيف قاومت من اجل القضية ومن اجل استمرارها وبقائها.

وجاء إنتاج الهيئة هذا الفيلم بعد فيلمي «هنا القدس»، و»الأخوين لاما»، اللذين حققا نجاحاً ملموساً وتقديراً لدى المشاهد والجهات المختصة، ضمن باقة إنتاجيه مقررة من ستة أفلام تضم أيضاً فيلماً عن الإعلام الوطني الفلسطيني، يتحدث عن تاريخ وكالة الأنباء الفلسطينية «وفا»، وآخر عن الصحافة الوطنية، وثالثاً يتناول الفن الاحترافي في فلسطين إلى ما قبل عام.

الحياة اللندنية في

31.01.2014

 
 

وجهة نظر -

مهرجان الأقصر بين الطموح والمعوقات

الأقصر (مصر) - أمل الجمل 

على رغم محاولات إشاعة الفوضى والعنف قبيل الذكرى الثالثة لثورة 25 يناير 2011، وعلى رغم التفجيرات الإرهابية التي وقعت في القاهرة وبعض محافظات مصر يوم الجمعة الماضي، ومثلما أصر عدد من مديري دور العرض السينمائية في العاصمة، على فتح أبواب الصالات أمام الجماهير، وعلى رغم التفجيرات، أصر أيضاً منظمو مهرجان الأقصر للسينما المصرية والأوروبية على إقامة حفل ختام الدورة الثانية كأحد سبل المقاومة بالثقافة والفنون. لذلك، وفي ظل هذا الإرهاب الأسود شهد محيط معبد الكرنك إجراءات أمنية مشددة، فعززت مديرية الأمن من وجودها ودفعت بمجموعات قتالية لتأمين الحفل الذي ألقى فيه الروائي بهاء طاهر بياناً باسم المثقفين والفنانين المصريين المشاركين دان فيه تلك الأعمال الإرهابية، مؤكداً أن «مصر باتت مهداً للثورة وليس للحضارة فقط، وأنها واجهت الإرهاب أكثر من مرة وانتصرت دائماً واليوم هي أكثر تصميماً على دحر هذا الإرهاب ومواجهة كل التحديات».

لا شك في أن الدورة المنتهية جاءت في ظل ظروف سياسية واقتـــصادية أقل ما توصف به أنها صعبة، فالدعم المقدم قليل ويعاني من البيــروقراطية، خصوصاً ما يتعلق بوزارة الثقافة المصرية التي أصرت على إنفاق الدعم من قبلها – ما يزيد على 400 ألف جنيه وفق تصريح رئيسة المهرجان ماجدة واصف - على تذاكر الطيران، وعلى أن تنفقه هي بنفسها من خلال موظفيها فابتاعت التذاكر بأسعار تزيد عن ضعف الأسعار العادية، كما أن الدعم المقدم من الاتحاد الأوروبي لم يتحصل عليه المنظمون حتى يوم الختام بسبب الروتين والتعقيدات الحكومية، خصوصاً في ظل المحاذير على المنح المقبلة من الخارج حالياً.

أضف إلى ما سبق أن الأقصر لا تزال حتى اليوم محرومة من وجود قاعة سينما واحدة تقدم عروضاً منتظمة، والمكانان الوحيدان المهيآن للعرض هما قاعة المؤتمرات وقصر الثقافة ولكنهما ليسا مهيئين للعرض بنظام (دي سي بي)، وإنما يسمحان فقط بعرض الـ35 ملم، وهى إحدى المشاكل التي واجهت المنظمين، خصوصاً أن كل الأفلام أخيراً تأتي (دي سي بي). وصحيح أنه انتشرت أخبار أخيراً عن قرار رجل الاقتصاد المصري نجيب ساويرس إنشاء مجمع سينمائي يتضمن ٦ شاشات عرض في تلك المحافظة التاريخية، لكن «الحياة» عندما التقت الناقد السينمائي يوسف شريف رزق الله المدير الفني للمهرجان - والذي حضر ضمن خمسة أعضاء من مؤسسة نون المنظمة المهرجان، اجتماع ساويرس - أكد أنه كان لطيفاً معهم وساندهم بالدعم المادي، لكنه قال ما مفاده: «أنه ليس فقط مستعداً للتنفيذ لو أعطته المحافظة أرضاً، بل أيضاً لو كان هناك أرض مطروحة للبيع ومناسبة لإقامة مجمع لدور العرض فإنه على استعداد للعمل»، وتم إخبار المحافظ بهذه الدعوة. لكن، ليس هناك خطوات فعلية على أرض الواقع. كل ما في الأمر أن ساويرس عنده الحماسة للفكرة، لكن، يا ترى هل هناك من يتابع الحلم؟!

التقني الغائب!

وبسؤاله عن مشاكل الألوان والصوت التي صاحبت بعض الأفلام أرجع رزق الله ذلك إلى عدم وجود تقني مختص، وأنه يطمح مستقبلاً إلى وجود مجمع للسينما به أربع أو ثلاث شاشات تُعرض فيها الأفلام في ظروف مناسبة تحترم الأفلام وتوفر ظروف عرض بمقاييس فنية للصوت والصورة، وتحترم المشاهدين من دون صعوبة في التنقل من مكان إلى آخر. وتمنى أن يزيد الدعم حتى يتمكن المهرجان من شراء حقوق عـــرض الأفلام التي يشاهدها ويختارها، من دون أن يضطر للبحث عن أفلام بديلة، مؤكداً أن جميع الأفلام تم إحضارها بمقابل مادي يتراوح بين 500 – 1000 يورو، هذا إلى جانب التكلفة الخاصة باستضافة أحد أفراد طاقم العمل سواء كان المخرج أو البطل أو كاتب السيناريو. مؤكداً أن هذا أيضاً انعكس سلباً على جوانب أخرى، منها مثلاً عدم ترجمة الأفلام ترجمة إلكترونية بعكس ما حدث في الدورة الأولى.

أما في ما يتعلق بظاهرة غياب النجوم باستثناء نور الشريف، فصرّح رزق الله أن المهرجان وجه الدعوة إلى عدد من النجوم منهم خالد أبو النجا لكنه كان مشغولاً بتصوير فيلمين، وحاول التوفيق بين المواعيد لكنه لم ينجح، وإلهام شاهين وافقت وأرسلوا لها تذاكر الطيران لكنها نسيت الموعد واتفقت على لقاء تلفزيوني على الهواء عن الدستور وبالتالي اعتذرت، أما عمرو واكد فوافق على الحضور وعلى منح المهرجان نسخة من فيلمه «الشتا اللي فات» للعرض، وحدد الأيام التي تناسبه فأرسلوا له تذاكر الطيران لكنه لم يحضر، وعندما حاولوا الاتصال به كان هاتفه مغلقاً ولم يعتذر.

وعندما عقدت «الحياة» مقارنة بين مهرجان الأقصر للسينما المصرية والأوروبية ومهرجان الأقصر للسينما الأفريقية، وكيف نجح الأخير في حشد النجوم، أجاب يوسف شريف رزق الله: «مع احترامي للنجوم إلا أن اهتمامنا الأكبر ينصب على الندوات والأفلام، فنحن ندعو من النجوم مَن لهم علاقة بالأفلام المعروضة، وكنا اتفقنا مع ياسمين رئيس بطلة «فتاة المصنع» على الحضور لكن ظروفها الصحية بعد الولادة منعتها من ركوب الطائرة. في المقابل كنا في هذه الدورة حريصين على إحضار عدد من الأفلام المصرية الجديدة التي لم يتم عرضها في مصر ومنها «لا مؤاخذة» في عرضه العالمي الأول، و«فتاة المصنع» في عرضه المصري الأول، ثم أضفنا «أسرار عائلية» بعد حصوله على موافقة الرقابة».

ينتصر رزق الله لفكرة أن حضور النجوم ليس من أساسيات المهرجان مستبعداً فكرتنا في أنهم عنصر جذب وتدريب لأهالي الصعيد على دخول قاعات العرض، قائلاً: «النجم يوجد أثناء فيلمه فقط، ولن يحضر كل الأفلام، فعنصر الجذب ليس وارداً»، لكنه يعود فيقول: «مع ذلك مثلاً عندما نزل نور الشريف الشارع وركب الحنطور كان التجمهر غير عادي... والعام الماضي لما حضرت ليلى علوي وإلهام شاهين تم توظيفهما في ندوة... لكن، في النهاية مع احترامي للنجوم وجودهم ليس أساسياً».

قاعات خاوية

كان من اللافت أن قاعات العرض ظلت خاوية من جمهور أهالي الأقصر وحتى من الصحافيين في عدد من الأفلام، خصوصاً الأوروبية، لكن المدير الفني للمهرجان اعتبر ذلك أمراً عادياً لأن أفلام السينما المصرية هي الأكثر جذباً لجمهور الأقصر. وبسؤاله لماذا لا تستفيدون من تجربة ماريان خوري التي نجحت في الاتفاق مع المدارس والمعاهد والكليات لكي يحضر الطلاب عدداً من العروض فرفعت نسبة المشاهدة، أشار رزق الله إلى التعاون الذي تم مع وزارة الشباب لتستضيف 100 شاب وفتاة من الأقصر والمناطق المحيطة بها ومن أكاديمية الفنون في القاهرة وأقيمت العروض في مركز شباب «الطود» على مدار ستة أيام قبل أن يبدأ المهرجان بيومين بسبب مواعيد قطار الشباب من القاهرة إلى الأقصر. وفي الطريق انضم إليهم حوالى سبعين شاباً وفتاة آخرين. «أما بخصوص طلاب المدارس والمعاهد بالأقصر فأتصور أن هذا الدور يخص المحافظة لأنه يتعلق بعملية التنشيط والتشجيع».

في الختام لا يمكن إنكار أن هذه الدورة شهدت بعض الأخطاء التنظيمية التي كان من الممكن تفاديها بالعمل الدؤوب واختيار الشخصيات المناسبة للقيام بالمهام الموكلة إليها، مثلما تم إلغاء بعض الأنشطة والندوات المعلن عنها، وصحيح أنه لم تكن هناك أسماء كبيرة معروفة في أوروبا بين مخرجي الأفلام، لكن ذلك لا ينفي أن مهرجان الأقصر للسينما المصرية والأوروبية قدم دورة ناجحة في ظل ظروف صعبة، وأنه مهرجان صغير يجاهد لإثبات الوجود.

الحياة اللندنية في

31.01.2014

 
 

البطل الخارق ... لم يعد أميركياً!

قيس قاسم 

البطل الخارق «سوبرمان»، ظهر للمرة الأولى في سلسلة القصص المصورة الأميركية في ثلاثينات القرن العشرين، مع اقتراب الحرب العالمية الثانية، ومنذاك عرفت تلك القصص وأبطالها شعبية واسعة، صارت مع الوقت جزءاً من الثقافة الشعبية الأميركية وبمواصفاتها الخاصة التي تتلاءم مع متخيلها للبطل: رجل أبيض خارق القوى يرتدي عباءته الخاصة تميزاً عن بقية البشر.

حاكت شخصيات البطل الخارق القوى في المجلات المصورة، غالباً، آلهة الخير في الأساطير اليونانية، والقادرة دوماً على تدمير قوى الشر أينما كانت. النموذج الأميركي ذاته ظهر بتنوعات ومقاربات جديدة؛ فإلى جانب «سوبـــرمـــان» كان «الرجل الوطواط» و«سبايدرمان» وغيرهم، ثم انتقلوا في ما بعد إلى شاشات التلفزيون والسينما، كصور متحركة، إلى أن طرأ تغيير جديد على الصورة النمطية، جاء، هذه المرة، من خارج حدود الولايات المتحدة، وتحديداً من اليابان، التي قدمت تصوراً محلياً مختلفاً فتح المجال لابتكار صور جديدة للبطل الخارق القوى في ثقافات أخرى، وظهرت الفتاة المسلمة مرتدية البرقع في رسومات كارتونية باكستانية فيما ابتكر الأوروبيون «الكابتن يورو» في بروكسل والتحق بهم العرب من خلال مجلة «تسعة وتسعون»، فهل أصبح لكل أمة بطلها الخارق الخاص، وهل سيزول النموذج الأميركي للبطل مستقبلاً؟ هذا السؤال حمله البرنامج التلفزيوني السويدي «ثقافة خاصة» وراح يتحرى النماذج الجديدة للبطل خارج صورته الأميركية التقليدية، مستهلاً طريقه من الكويت التي شهدت ولادة أول مجلة مصورة حملت اسم «الـ 99»، أبطالها الخارقون مسلمون يستمدون ثقافتهم من دينهم ويجتمعون مع بقية أبطال العالم بقيّم التسامح وحب الخير ومحاربة الشر.

اسم المجلة مستوحى من أسماء الله الحسنى، وتظهر الأسماء مع ظهور كل من الأبطال الخارقين الجدد في القصص المتسلسلة. عن التجربة العربية الرائدة التقى البرنامج مؤسسها الدكتور نايف المطوع، سبقه بمقطع مسجل من حفلة تكريم الرئيس باراك أوباما له باعتباره واحداً من المبدعين الذين سعوا الى تقارب الثقافات والديانات ووصف منجزه «الـ 99» بأنه «الأكثر إبداعاً وتميزاً». وقال المطوع عن المجلة»: «أردت من خلال إصدار مجلة مصورة بالعربية ان يتعاون أبطالها الخارقو القوى، مع بقية أبطال العالم على الخير، ويتشاركون معهم القيم الإنسانية ذاتها». أما فكرة «الـ 99» فجاءت كتعويض عن النقص في استحضار البطل المسلم كون غالبية السلسلات المصورة استمدت أفكارها ونماذجها من الكتاب المقدس أو من الأساطير اليونانية، ولم يأخذ أحد نموذجاً من الإسلام، وهذا ما حاول العمل عليه المطوع.

ويشرح المطوع للبرنامج غايته في تقديم النموذج الإيجابي غير ذاك المترسخ في الأذهان للمسلم المتطرف والذي لا يريد لأولاده أن يكون نموذجهم مسلماً، فحسب، دون أن يحمل قيم الخير والعدالة وأن يبتعد عن العنف والشرور، كما أنه يريد تغيير الصورة النمطية للمسلم في الغرب التي رسختها وسائل تعبيرية مختلفة ونبه من خطورة تكرار تلك الصورة على مسمع العربي والمسلم فتكرارها «يرسخ قبولها عند الشخص الموصوم بها، حتى لو كانت غير صحيحة». ويؤكد خطورة الدور الذي تلعبه المجلات المصورة والمسلسلات التلفزيونية كون الأطفال، بخاصة الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و13 سنة يحبون أن يقتدوا ببطلهم ويصبح مثالهم القوي في الحياة، لهذا ينبغي أن يكون البطل الخارق نموذجاً إنسانياً يساعد نموهم في مناخ سوي وإنساني التطلع.

عن القيّم ذاتها التي يحملها الأبطال الخارقون، يجد البرنامج التلفزيوني عند زيارته طوكيو شاباً تطوع لنقلها إلى الواقع فارتدى زي بطل القصص اليابانية التلفزيونية «سوبر سنتاي جورانجر» من التسعينات، وأخذ يساعد أهالي منطقته في التفاصيل اليومية الصغيرة الى درجة تحول فيها الشاب الى مثال ونموذج للبطل المتخيل في القصص اليابانية التي مثلت الخروج الأول عن النموذج الأميركي. وهي أيضاً من قدمت البطل الأسود بديلاً عن الرجل الأبيض التقليدي في المسلسل التلفزيوني «أفرو ساموراي»، الذي دبلج صوت بطله الممثل الأميركي صاموئيل جاكسون وفاز بجوائز من بينها جائزة «إيمي» عام 2007.

يستعرض البرنامج التلفزيوني جانباً يتعلق بذكورية البطل الخارق وتكريسه أميركياً حتى حين ظهرت «وندر ويمان» عام 1975، مسلسل بطلته امرأة لكنه مصنوع بروح رجل أبيض.

والشعور ذاته تقريباً نجده في الثقافة الأوروبية التي طالما عانت هيمنة البطل الخارق الأميركي إلى أن ابتكر حديثاً نيكولاس دي سانتيز بطلاً أوروبياً خالصاً سماه «كابتن يورو» من وحي الوحدة الأوروبية والذي يظهر كمنقذ لدولها وقيّمها ويحارب كل أشكال الفساد والتهديدات. ملخص الحلقة الخاصة بـ «البطل الخارق القوى: ان النموذج الأميركي لم يعد وحيداً، وكل بلد في العالم وعلى اختلاف ثقافاته وأديانه قادر على ابتكار بطله الخاص شرط ان يكون متعاوناً مع بقية الأبطال ويتقاسم معهم قيم الخير ذاتها، وألا يكون أنانياً أو مهيمناً.

الحياة اللندنية في

31.01.2014

 
 

معرض بازوليني في باريس.. ثمن الحقيقة

إيمان حميدان 

أوقفني العنوان الثانوي لمعرض "بازوليني روما" في المكتبة السينمائية في باريس الذي يقول: "روما كما رآها الفنان الايطالي الأكثر فضائحية في القرن العشرين".

إنه مستغرب ان يُطلق على الكاتب والمخرج السينمائي الايطالي بيار باولو بازوليني "الفنان الأكثر فضائحية في القرن العشرين" حين نعلم ان كل ما قام به في حياته من دون استثناء كان إخراج الواقع إلى العلن. بشاعرية ورمزية قويتيين أخرج الواقع المسكوت عنه في ايطاليا، إنْ في افلامه السينمائية أو في كتبه أو في مقالاته أو في مقابلاته أو حتى في قصائده. وبازوليني الذي لم يكن كاتباً ومخرجاً سينمائياً فحسب بل شاعراً أيضاً، لم يخترع الفضيحة بل رفع الغطاء عنها وهي المخبأة في السياسة والأخلاق والدين والسلطة.

في المعرض الذي حوى مسيرة المثقف والسينمائي بازوليني نرى نتفاً مكثّفة من تفاصيل حياته وكتبه وأفلامه وقصائده وعلاقاته. صُوَرٌ له منذ طرده من الحزب الشيوعي ونزوحه عن بلدته كازارسا بسبب علاقة جنسية اولى له مع احد فتيان البلدة، ولجوئه إلى روما مع امه، إلى اول مقال له، إلى اول كتاب إلى اول فيلم. مسيرة استمرت لأكثر من عشرين سنة، أقل ما يقال عنها إن صاحبها لم يتراجع يوماً عن قول ما يريد، وعن تصوير واقع العلاقات السياسية والاجتماعية في روما كما يراها هو كتابة وشعرا ومقالا وفناً سابعاً. في اكثر من زاوية تُعرض مشاهد من افلامه. من فيلميه الاولين "أكاتون" و "ماما روما" إلى افلام أخرى مثل "الحصاد" و"الغضب". استطيع القول إن خلال 15 سنة هي فترة انتاج بازوليني السينمائي، لم يمر فيلم من دون منع أو انقسام في الرأي العام الايطالي والاوروبي حوله. اتهمت كل افلامه وتعرضت للرقابة القاسية، وتراوحت الاتهامات من البذاءة والبورنوغرافيا إلى عدم احترام الشعائر الدينية إلى التهتك. فيلمه الاخير "سالو أو الـ 120 يوماً لسدوم" Salo ou les 120 jours de Sodome الذي عرض بعد اشهر قليلة من اغتياله في صالات عرض باريسية خاصة لذواقة الفن السابع، ولم يتسن له مشاهدته، كان وما زال مصدر قلق وانزعاج لكثير من المشاهدين المتخصصين في السينما، وقد مُنع عرضه في معظم البلدان الاوروبية. قد نفهم هذا القلق اذا علمنا ان بازوليني اعتمد لكتابة سيناريو الفيلم على عوالم "دو ساد" ليصور واقع العلاقات السلطوية في ايطاليا الفاشية والتي تتساوى فيها اربعة رموز للسلطة هي المسؤول السياسي ورجل الدين والقاضي والرأسمالي، في تشيؤ المواطن الايطالي وفي تحويل جسده إلى آلة استهلاك. إنه فيلم ضد الإذلال والقمع السياسيين. ولا يختلف هذا الفيلم عن غيره من افلام المخرج الايطالي من حيث أفكاره المناهضة للسلطة ومن حيث اعتماد الرموز الجنسية لتقديم وتفكيك علاقات السلطات الفاشية، الا انه تجاوزها في الذهاب إلى الحدود القصوى عبر إظهار القرف في السلوك البشري للتعبير عن قرف مماثل من السلطة. تعرّض الفيلم لكثير من النقد أقلّه القول إن المُشاهِد المتمرس في السياسة لا يحتاج إلى كل هذا القرف كي يفهم شرور الفاشية ويكرهها! لكن الفيلم وُصف أيضا بأنه شهادة أخيرة صادقة وحية لمفكر وشاعر وسينمائي عاش ضد السلطة ودفع حياته ثمناً لذلك. فيلمه الاخير هذا الذي لم يكمل "منتجة" مشاهده الاخيرة بل قام بإكمالها مسؤول المونتاج، عرض في صالات خاصة جداً بعد اغتياله بأشهر قليلة، واللافت ان عدد مراجعي سيناريو الفيلم والمشاركين في آرائهم حول فكرته القائمة على عالم المركيز دو ساد لم يتجاوز الخمسة إضافة إلى بازوليني نفسه، من بينهم ثلاثة ادباء فرنسيين هم رولان بارت وموريس بلانشو وبيار كلوسوسكي.

شهب ناري في سماء الأدب والفن السابع

قد يكون بازوليني الفنان الأكثر إثارة للجدل في تاريخ السينما الايطالية وأكاد اقول العالمية. ففي حياته القصيرة (قتل بعمر الثالثة والخمسين) بقي يقسم الرأي العام حول كل عمل قام به كتاباً كان ام فيلماً أم مقالة. منذ كتابه الشهير "صبيان الحياة" Ragazzi di vita الذي قدم فيه حيوات فتيان أحياء وضواحي روما الفقيرة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، اراد بازوليني ان يقول الواقع الحقيقي لهؤلاء الذين يعيشون ما دون خط الفقر. صوّر في كتابه حيوات قاسية لا تعرف اخلاق الطبقة الوسطى والصغيرة، يعيش ابناؤها اليانعون على الحافة في كل شيء الا في الرغبة في العيش حيث يرغبون بقوة، يحبون بقوة، ويدافعون عن بقائهم بقوة أيضاً. تلك الأحياء "البورغاتي" أو الطبقات الهامشية جداً، يعيش أبطالها من دون رادع أو حساب أو خطط للمستقبل، التي شبّهها بازوليني بحياة "الثورة ما قبل السياسة"، معتبراً انها الحياة الحقيقية التي لم تشوهها الحداثة. لم يكتب روايته بلغة ايطالية تقليدية كلاسيكية بل اعتمد اللهجة التي يستعملها الشبان في تلك الأحياء، وكانت هذه سابقة في الادب الايطالي. استعان لتعلم لغة الشارع بصديقه الكاتب والمخرج الايطالي سيرجيو تشيتي المتخصص في اللهجات الايطالية وخاصة لهجة الروم. بالطبع حراس الادب واللغة، كذلك أجهزة النظام والرقابة، لم تعجبهم جرأة بازوليني في استعمال ألفاظ الشارع الصادمة والجريئة، واتهم بالبذاءة من مجموعات تنتمي إلى الحزب الديموقراطي المسيحي الحاكم آنذاك، ومجموعات أخرى معروفة بميولها السياسية الفاشية والتي لا تريد ان تظهر حقيقة ما خلفته الموسولينية من تدهور اجتماعي وسياسي وخاصة بين الطبقات الفقيرة. لكن المضحك المبكي ان الحزب الشيوعي الايطالي ايضاً وقف في معاداته للكتاب جنباً إلى جنب مع السلطة، معتبراً ان الكتاب غير واقعي لأنه يخلو من شخصيات إيجابية!! ولا نعجب من ذلك حين نعلم ان الحزب الشيوعي طرد بازوليني من صفوفه بضع سنوات فقط قبل صدور الكتاب، وذلك بسبب جرأته الشخصية وميوله الجنسية.
وإن كان طرد بازوليني من الحزب الشيوعي اول الغيث "الرقابي" في حياته الا انه لم يكن الاخير ابدا. اذ خلال اقل من خمس عشرة سنة هي عمر إنتاجه الغزير قُدِّم بازوليني إلى المحاكمة ثلاثاً وثلاثين مرة واتهم بتهم مختلفة بسبب جرأته ومحاولته التي لم تتوقف عن تعرية السلطة وإدانتها. ولم يكن يمر أي عمل من اعماله من دون ان يخلق مزيداً من الانقسام، ليس في الرأي العام الثقافي والفكري فحسب بل في مجتمع روما بشكل عام. مع كل عمل قدمه خلق من حوله عدداً أكبر من الأعداء حتى وصل الامر إلى ان ينفضّ الناس، المختلفون عنه سياسياً، من حول طاولة البار ويبتعدون فيما لو دخل بازوليني واقترب ليجلس قربهم.

وفي مكان ما من المعرض نقرأ هذه الكلمات:

"قيل لي إن لديَّ ثلاثة أصنام: المسيح، ماركس وفرويد.

لكن هؤلاء ليسوا سوى صيغ بالنسبة لي.

في الحقيقة، إن صنمي أو معبودي الوحيد هو الواقع.

وإن اخترت أن اكون مخرجاً إلى جانب الكتابة

فهو بسبب اني أردت ان أظهر ذلك الواقع من خلال الرموز

اخترت وسيلة تعبير هي السينما، تعبيراً عن الواقع عبر الواقع."

الى جانب نصوصه المعلقة على جدران المعرض، يرافقنا خلال تجوالنا في الصالات العديدة صوت بازوليني اثناء مقابلات صحافية له، خاصة المقابلة الأخيرة التي يفصلها عن مقتله في تشرين الثاني 1975 بضعة اشهر فقط. نسمع صوت بازوليني ونراه يتحدث إلى الصحافيين على شاطئ قريب من بيته ليعبّر عن تشاؤم عميق حول ما آلت اليه ايطاليا من صعود للفاشية مرة اخرى. قال إن سياسة الاستهلاك اصبحت نهجاً وحيداً في ايطاليا، حيث يساهم الاعلام، وتحديداً التلفزيون في سلب المواطن الايطالي الفقير مما تبقى له، ألا وهو طبيعته الحقيقية وعلاقته بالعالم الذي حوله وتحويله إلى اداة استهلاك فارغة. بدا لي في كلامه كأنه تنبأ بإيطاليا الحالية التي ما زال فيها جماعات عريضة ترى في برلسكوني، وهو مالك اكبر محطات إعلامية مرئية، نموذجاً متّبعاً لرجل السلطة الأفضل. نعلم لاحقاً ان في مكان ليس ببعيد عن هذا الشاطئ بالذات تم اغتيال المخرج وشُوه جسده بطريقة وحشية.

كما كانت حياة وأعمال بازوليني مثيرة للجدل كذلك موته. ففي صبيحة تشرين الثاني 1975 وجدت جثته ملقاة على شاطئ اوستي القريب من روما. كان جسده مهشماً بطريقة سادية لا تختلف بروحيتها كثيراً عن أجواء فيلمه الاخير.

في ليلته الاخيرة خرج بازوليني إثر اتصال ليبحث عن بكرة فيلمه الاخير التي سرقت من الاستديو. لم يسرق منه بكرة فيلمه فحسب بل مجموعة مقالات له اراد نشرها في كتاب بعنوان "بترول" صدر بعد موته. في تلك الليلة، التقى اولا إلى طاولة العشاء مع عشيقه القديم نينو دافولي وزوجته. نينو دافولي الذي لم يكن فقط حبيب بازوليني بل ايضا بطل افلامه، تخلى عنه ذات يوم ليتزوج من امرأة ويعيش حياة "طبيعية" بنظر المجتمع الايطالي.

اسرع القضاء باتهام بينو بيلوزي، مُثليّ وبائع هوى أدين في السابعة عشرة من عمره بارتكاب جريمة القتل وسجن لمدة سبع سنوات. كانت واضحة رغبة القضاء في إغلاق ملف الجريمة بحجة انها جريمة شخصية جنسية، وضاعت معظم البراهين التي وجدت صباح الجريمة. نرى في وثائق المعرض كيف وحده صديق بازوليني المخرج سيرجيو تشيتي يجمع البراهين ويضعها على الورق في نص مكتوب ليقول إن الجريمة هي اغتيال سياسي بالدرجة الاولى لمثقف وشاعر وسينمائي معاد للسلطة. من السهل جدا تبنّي هذا الرأي خاصة بعد قراءة مقال أخير كتبه بازوليني يقول فيه إنه يعرف هوية مرتكبي جريمة قتل انريكو ماتي مدير شركة البترول الوطنية الايطالية. بعد ذلك دخلت ايطاليا في سلسلة انفجارات وجرائم تبين بعد عقود انها كانت من صنع الفاشية الجديدة بالتواطؤ مع البوليس السري لإخافة الناس وإجبارهم على قبول السلطة الفاشية الجديدة. تمثيلية يكررها التاريخ ليس في ايطاليا فحسب بل في بلدان عدة من العالم. يردّنا هذا الحديث إلى واقعنا نحن في مصر وسوريا وبلدان عدة تشهد الموت اليومي حيث يُجبر المواطن الأعزل على الاختيار إما النظام الأمني العسكري الفاشي أو القتل والفوضى.
بعد ثلاثين سنة ينكر بيلوزي اعترافاته ليقول إنه بريء وإن آخرين ينتمون إلى الحركة الفاشية الجديدة في ايطاليا قتلوا بازوليني، الا انه يخاف ان يعلن الأسماء خوفاً على حياة والديه. عام 2011 وبعد موت اهله يتجرأ بيلوزي على الاعلان عن هوية اثنين من قتلة بازوليني الخمسة. الاخوان بورسلينو المنتميان إلى الحركة الفاشية الايطالية الجديدة، لكنهما قد ماتا ايضا ولم يعد بالامكان محاكمتهما!

في العام نفسه يعلن السيناتور مارشيلو ديلاأوتري، وهو مقرب من برلسكوني ان احدهم اتصل به وعرض عليه بيع الفصل الاخير من كتاب بازوليني "بترول". في هذا الفصل معلومات لم تنشر حول تفاصيل جريمة قتل مدير شركة البترول انريكو ماتي.

ما قام به سيرجيو شيتي حرك ضمائر المثقفين في ايطاليا وفي العالم. اكثر من 10 افلام تسجيلية صُوّرت حول حياة ومقتل بازوليني. لكن وكما يحصل في الدول التي تحكمها مافيات عسكرية أو دينية أو مالية أو فاشية، تُخفى معالم الجريمة ويموت القتلة أو يختبئون ولا تستطيع العدالة الوصول اليهم إما بسبب تواطؤها أو بسبب ضعفها... لكن النتيجة تبقى هي نفسها.
الحقيقة التي يعرفها الجميع والتي تقول باغتيال سياسي لبازوليني بقيت معلّقة من دون إثبات.

السفير اللبنانية في

31.01.2014

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2014)