لم تمنع سخونةُ الأحداث السياسية التي تشهدها المنطقة، الجمهورَ السوري من
التوافد الى صالتي «الكندي» و «الزهراء» وسط دمشق لمتابعة
فعاليات الدورة الرابعة
من مهرجان «أيام سينما الواقع» الذي تنظمه شركة «برو آكش فيلم»، بدعم من
المؤسسة
العامة للسينما السورية،
والعديد من الجهات والهيئات والمنظمات التي
تضع في اعتبارها الاهتمام بالسينما. ويبدو إطلاق صفة «مهرجان» فضفاضاً،
هنا، ليس
على محتوى المهرجان وفعالياته المختلفة، بل على طابعه البسيط؛ الهادئ الذي
يخلو من
أية مظاهر احتفالية باذخة كتلك التي نراها في غالبية مهرجانات السينما في
العالم
العربي. «أيام سينما الواقع» هو فعالية خاصة تنأى عن كل ما هو
رسمي، دعائي وسياحي،
لتقترب من روح ومزاج السينما التسجيلية التي تحتفي بها؛ تلك السينما التي
لا تعرض
في الصالات التجارية، وهي، في الآن ذاته، «منبوذه» من قبل أهل النخب
السينمائية
الذين يسخرونها كـ «وسيلة» سهلة للوصول الى الغاية الثمينة
المتمثلة في السينما
الروائية الطويلة حيث النجومية والشهرة والتكريم وفرص النجاح التي لا
تحصى.
إن هذا التصور، على رغم شيوعه، ليس دقيقاً، فثمة أفلام تسجيلية تضاهي
في أهميتها وأسلوبيتها وطريقة إنجازها العديد من الأفلام الروائية، والعكس
صحيح
بالطبع، بل ثمة من اقتصر مشروعه على السينما التسجيلية ليحقق
نجاحات لافتة، ولعل
المثال الأقرب هو المخرج السوري عمر اميرلاي (1944 ـ 1911) الذي رحل في
الخامس من
شهر شباط (فبراير) الماضي. ولأنه كان أحد أبرز المؤيدين والناشطين لهذا
المهرجان،
وبوصفه من أشد المخلصين للسينما التسجيلية، فقد أجرى المنظمون تعديلاً على
البرنامج، في اللحظات الأخيرة، كي يشمل عرض ثلاثة أفلام للراحل
وهي «الحب الموؤود»،
و «عن ثورة»، و «نور وظلال» (الأخير إخراج مشترك)، من بين نحو
عشرين فيلماً حققها
الراحل الذي تردد اسمه مراراً على ألسنة المشاركين لدرجة بدت سطوة حضوره
أقوى من
قسوة الغياب. هذا التعديل ما كان ليحظى بكل التقدير الذي حظي به لولا أن
أفلام
اميرلاي ممنوعة في بلده.
تنوع
كلمات قليلة ارتجلها مدير
المهرجان عروة النيربية، بخفة ومرح، مساء الثاني من الشهر الجاري ليؤذن
بانطلاقة
المهرجان بفيلم الافتتاح الصيني «القطار الأخير الى المنزل».
بين هذا الفيلم وفيلم
الختام الألماني «تصبح على خير يا لا أحد»، عرض نحو 45 فيلماً جرى اختيارها
من بين
أكثر من 600 فيلم تقدم أصحابها للمشاركة. توزعت الأفلام إلى عدة تظاهرات،
لعل أهمها
تظاهرة «المختارات الدولية» التي تضمن 17 فيلماً تنافس على
جائزة الجمهور الذي يبدي
رأيه في العرض من خلال قسيمة فور خروجه من الصالة. ومن بين أبرز أفلام هذه
التظاهرة
فيلم «أبي من حيفا» للفلسطيني عمر الشرقاوي، و«صداع» للفلسطيني رائد انضوني،
واللبناني «مملكة النساء» لدانا أبو رحمة، و «ظلال» لماريان
خوري، و «تيتة ألف مرة»
للبناني محمود قعبور، والبريطاني «الآربر» لكليو بارنارد، و «كاتكا»
للتشكية هيلينا
تريشتيكوفا... وغيرها.
وضمن تظاهرة «أصوات من سورية» تنافس ستة أفلام لنيل
الجائزة الثانية الخاصة بالمخرجين السوريين، والأفلام هي «راقصون وجدران»
لاياس
المقداد، و «سقف دمشق وحكايات الجنة» لسؤدد كعدان، و «الشعراني» لحازم
الحموي، و
«صفقة
مع السرطان» لأديب الصفدي، و «في انتظار أبو زيد» لمحمد علي اتاسي، و
«مدينة
الفراغ» لعلي الشيخ خضر. وشهد المهرجان تظاهرتين موازيتين عرضتا أفلاماً
حول مواضيع
اجتماعية، الأولى بعنوان «في البحث عن حياة أفضل»، والثانية
بعنوان «عن الرجال»،
أما تظاهرة «روائع المهرجانات» فتضمن أربعة أفلام احتلت مراكز
متقدمة في مهرجانات
دولية مرموقة مثل الفيلم الدانماركي «ارماديللو» ليانوس ميتس، والإيطالي
«شعر هندي»
لماركو ليوباردي، والروماني «العالم بحسب
يون بـ «لالكسندر ناناو، والبولوني «كيمو»
لبافل لوزينسكي، وأضاف المنظمون في هذه الدورة تظاهرة جديدة بعنوان «إنه
عالمي»
للاحتفاء بسينما اليافعين بهدف ضم أفراد
جدد إلى دائرة أصدقاء أيام سينما الواقع كي
يتعرفوا إلى السينما التسجيلية.
ودأب المهرجان على استضافة مخرجين من أشهر
صانعي الأفلام التسجيلية في العالم، إذ حلت السينمائية التسجيلية
البريطانية كيم
لونجينوتو ضيفة على مهرجان سينما الواقع في هذه الدورة حيث عرض لها أربعة
افلام
بينها فيلمها الشهير «ساري زهري» الذي نال جائزة اللؤلؤة
السوداء في دورة مهرجان
أبو ظبي السينمائي الأخير. وتعد لونجينوتو سينمائية تسجيلية معروفة، اشتهرت
بأفلام
ذات لغة سينمائية رصينة غالباً ما قاربت واقع المرأة والقاصرين في مجتمعات
مختلفة
حول العالم. حصلت جميع أفلامها، وتبلغ نحو عشرين فيلماً، على
تقدير دولي كبير وعلى
جوائز من مختلف المهرجانات السينمائية.
هذه الأفلام وورشات العمل والدورات
التدريبية، وامتداد عروض المهرجان إلى مدن حمص وطرطوس وحلب، وإتاحة الفرص
لتبادل
المعارف والخبرات ضمن لقاءات تخصصية تمتد على أيام المهرجان، ودخول العروض
في شكل
مجاني... كل ذلك وغيره جعل من مهرجان أيام سينما الواقع، وقد
بلغ سنته الرابعة،
نشاطاً سينمائياً يصعب إغفال دوره في إعادة بعض الألق الى النشاط السينمائي
في بلد
تعاني فيه السينما ركوداً وإهمالاً إن لجهة الإنتاج (فيلمان في السنة) أو
لجهة
الصالات أو حتى الجمهور الذي لم يعد ارتياد الصالة من
أولوياته. ومع ان المهرجان
يحظى بتأييد ومساندة عشاق السينما والكثير من السينمائيين السوريين غير أن
ثمة من
ينظر بريبة إلى رعاية المؤسسة العامة للسينما له، كما ذهب المخرج السوري
محمد ملص،
ذلك أن هذا الأمر، في رأي المرتابين، قد يفقده الاستقلالية
التي يتباهى بها هذا
المهرجان الذي بات تقليداً سنوياً يشهده الثلث الأول من آذار (مارس). وما
يعزز مثل
هذه الهواجس هو أن منظمي المهرجان، كما علمت «الحياة»، رفضوا مشاركة فيلم
«آي دل»
الناطق بالكردية للمخرج السوري زياد كلثوم. الفيلم الذي يعني عنوانه
بالعربية «أيها
القلب» يتناول هموم مجموعة من النسوة في
الشمال السوري يتحدثن بلغة لا يتقنّ سواها، وهي الكردية، وعلى رغم خلو
الفيلم من
البعد السياسي لكن حساسية المسألة الكردية، كما رأى بعض التقارير، حالت دون
إدراجه
ضمن التظاهرات، لكن مدير المهرجان يقول ان «ثمة أفلاماً كثيرة لم تحظ
بفرصية
المشاركة، لا لأسباب رقابية، بل لاعتبارات وعوامل أخرى كثيرة».
الجوائز
لسورية ولبنان وفلسطين
في حفل الختام للمهرجان اول من امس الاربعاء فاز
الفيلم السوري «في انتظار أبو زيد» لمحمد علي أتاسي بجائزة أفضل فيلم
تسجيلي سوري
فيما فاز الفيلم اللبناني «تيتة ألف مرة» للمخرج اللبناني محمود قعبور
بجائزة
الجمهور الأولى. أما جائزة الجمهور الثانية فذهبت الى فيلم
«أبي من حيفا» للمخرج
عمر الشرقاوي، فيما ذهبت الثالثة لفيلم «مملكة النساء، عين الحلوة» من
إخراج
الفلسطينية دانا أبو رحمة.
الحياة اللندنية في
11/03/2011
الفلسطيني حين يكون «متحصناً» وراء النخبة
التركية
فجر يعقوب
لا يخرج الفيلم التركي «وادي الذئاب – فلسطين» عن الخط الدرامي الذي يمثله
سابقه
المتعلق بالعراق. فهو يبحث هنا أيضاً عن ذريعة ليبدأ قصته،
فكما أشعل اعتقال أحد
عشر جندياً من قوات النخبة التركية شمال العراق من قبل القوات الأميركية
الرغبة لدى
مراد علمدار ورفيقيه ميماتي وعبد الحي بالانتقام من المعتدي على شرف القوات
المسلحة
التركية، فإن الجزء الجديد المتعلق بفلسطين يجد في العدوان الإسرائيلي على
أسطول
الحرية ذريعة أكثر وضوحاً – ربما – ليقوم البطل التركي ورفيقاه
مجدداً في رحلة
افتراضية للبحث عن موشيه بن اليعازر «المسبب الرئيس في كارثة الأسطول» بغية
الانتقام منه، وإعادة بعض ما يمكن افتراضه من الطمأنينة والهدوء إلى
«النزعة»
التركية الجديدة الراغبة بالخروج إلى ما وراء الحدود، مع ملاحظة أن مراد
علمدار (نشأت ششماظ) يتمتع هو الآخر بامتيازات «رامبوية»،
في القفز عبر هذه الحدود التي
تعيق تفكيره وقدراته من دون الحاجة إلى المبررات التي يحتاجها
البشر الطبيعيون في
تنقلهم، وإن كان بقدراته البدنية والتقنية ينتمي إلى فئة البطل الشعبي أكثر
من
انتمائه إلى النخبة التي يمثلها في الفيلم، وهذا ما حجر عليه بعض رغباته في
الانتقام وقام بالحدّ منها، وإن كان لا يجد صعوبة في إطلاق
الرصاص على الأعداء وحصد
أكبر عدد منهم قبل الوصول إلى هدفه المتمثل في الوصول إلى العقلين المدبرين
لكلا
الحادثتين، وهما العقيد الأميركي سام في العراق، وموشيه بن أليعازر في
إسرائيل.
في الجزء الثاني من «وادي الذئاب»، تبدو الأمور أكثر غموضاً أمام «رامبو»
التركي، إذ يبدو أن هناك نقصاً في فهم حالة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي،
الذي لا
يعول عليه هنا كثيراً، لأن منطق مراد علمدار يتجاوز مسببات هذا الصراع
والمنطق الذي
يتحكم به، وهو لا يكاد يهتم بمعرفته أبداً، حتى أن المخرج يقدم
لنا في الفيلم رقصة
الدراويش بالملابس التركية بعد استشهاد العجوز الفلسطينية وحفيدها من
العائلة التي
تأوي «الأبطال الثلاثة» في الأراضي الفلسطينية الخاضعة كما يفترض من
الناحية
المبدئية للسلطة الفلسطينية، والتي يبددها موشيه بن أليعازر
بثوان حين يقول للشرطي
الفلسطيني إنه هو من يمنح الأرض لمن يشاء.
رامبو الجديد
عقلية رامبو «الجديد» هنا لا تقدم قراءة في واقع ومفردات هذا الصراع الصعب،
وهو
هنا لا ينساق أبداً وراء محاولات تقديم فهم له من زاوية جديدة،
كما يفترض من خلال
الرؤيا التركية الجديدة له، فمهمة علمدار واضحة لا لبس فيها، وهي المفردة
الدرامية
الوحيدة التي تمتلك وضوحاً بعكس كل ما يمكن مشاهدته في الفيلم من معارك
وحركة مبالغ
فيها، إذ يجب الوصول إلى موشيه المسؤول كما يفترض السيناريو عن كارثة أسطول
الحرية
الذي جرى الاعتداء عليه العام الماضي وأودى بحياة تسعة مواطنين
أتراك، وسبب توتراً
في العلاقات التركية الإسرائيلية ما زلنا نشهد عليه حتى يومنا هذا، مع
افتراض أن
هذا الفيلم يجيء في هذا الوقت ليعبر في شكل من الأشكال عن طبيعة العقلية
التركية
–
العسكرية – منها على وجه الخصوص، وإن لم يكن متبنى من قبل مؤسسة تركية
رسمية، فإنه
يمثل طريقة جديدة في التفكير لم نعهدها من قبل. هنا نقف عند محاولات
الانتقام من
المسيء إلى نخبة القوات المسلحة، وإلى الطموح التركي بالانفلات خارج الحدود
الطبيعية، وهذا ما يمثله هنا الفيلمان بامتياز.
الجزء الجديد يقوم بالمناورة على أصول هذا الصراع وتكويناته الأساسية وحتى
اللعب
عليه، ويلجأ إلى استعارات أكثر غموضاً من سابقه، وإن كان الصراع التركي
الأميركي
يدور على أراضي الغير، فإن الصراع التركي الإسرائيلي ينحصر هنا بين علمدار
وبن
أليعازر، وسينتهي في النقطة التي سيلقى فيها هذا الأخير حتفه
على يد البطل التركي
الذي لا يقهر، وستنتفي الحاجة إلى مواصلته على أرض الغير، لأن الطرف الثاني
المشارك
في المعركة تسبب بمجزرة الأسطول، ولا بأس من وقوع قتلى كثر أثناء عملية
التطهير
التركية التي يقوم بها علمدار ورفيقاه وبقدرات خارقة تعجز
النخبة الإسرائيلية عن
صدها من دون الانتباه إلى أن المعرفة الفلسطينية بكل مسببات هذا الصراع لم
تسمح
يوماً بخروج مثل هؤلاء الأبطال، وذلك لسبب بسيط، فلم يقع الفلسطينيون يوماً
في
صراعهم مع هذا العدو المتجبر على أبطال بنزعات لا تقهر على
أراض كانوا يملكونها في
الماضي. على أن وجود يهودية أميركية بينهم في صدفة مفبركة تبدأ أساساً عند
الحاجز
الإسرائيلي الذي يصطدم به علمدار
ورفيقاه منذ اللحظات التي تلي مشاهد أسطول الحرية
يزيد من الالتباس وحدّته، ولجوئهم إلى بيت الفلسطيني العائد من
لبنان في أراضي
السلطة الفلسطينية حين ترفض تناول الطعام معهم في البداية ثم تكتشف تدريجاً
المعاملة الإنسانية التي تلقاها عندهم، فترتدي لباساً فلسطينياً طيلة مدة
بقائها في
الفيلم في استعارة واضحة من فيلم (عرس الجليل) للمخرج
الفلسطيني ميشيل خليفي، حين
تقوم العائلة الفلسطينية بإلباس المجندة الإسرائيلية الثوب الفلسطيني،
لتبدأ
محاولات تحسسها لإنسانية هؤلاء الواقعين في مرمى الحقد والنيران
الإسرائيلية. وإذا
كانت المجندة في فيلم خليفي تمتلك هوية واضحة ومعطى درامياً
واقعياً وسلساً، فإن
المواطنة الأميركية التي تبدأ بالهروب أمام الدوريات الإسرائيلية من دون
مبرر واضح،
إذ يمكنها النجاة منها بسهولة، إلى اللحظة التي تصطدم فيها بالواقع
الفلسطيني
«الملتبس»
تبدأ باكتشاف هوية جديدة لها حين تفاجئ بن أليعازر بقولها إن من قتل
أباها وأمها اللذين ينحدران من أصول بولندية في معسكرات الاعتقال النازية
لم يكونوا
من العرب، وهنا يقرر بن أليعازر بنزع «يهوديتها» عنها في محاولة تسفيهها
لدخولها في
جدل عقيم حول التوراة وما إذا كان يأمر بقتل الغير، أو بقتل كل
ما هو غير
يهودي.
هوية ضائعة
وإذا كانت بعض النقاشات تأخذ الفيلم في هذا المنعرج الشائك، فإن ما لم
نلمسه هو
توضيح هوية الضحية الجديدة، الضحية الفلسطينية التي تلقى عسف
الجلاد الذي كان ضحية
بالأمس، لأن مراد علمدار يجيء باختصاص الاقتصاص من الأعداء على طريقته،
فكما يصفي
حساباته مع الفاسدين وأعضاء المافيا التركية في المسلسل التلفزيوني الذي
يحمل
العنوان نفسه نجده يتصرف بالطريقة ذاتها في كلا الفيلمين.
الأراضي الفلسطينية
عموماً لا تحتمل هذا التحوير في محاولة الاقتصاص من الأعداء، إذ يبدو أن
حضورهم غير
مكتمل وغامض ولا يفيد منه سوى البطل التركي الذي ينجز مهمته بالقضاء على
موشيه بن
أليعازر قضاء مبرماً بعد أن «روّع» إسرائيل كلها خلال محاولات
النيل من العدو الذي
يكتسب هنا أيضاً صفة «مافوية» شكلاً ومضموناً، ربما بغية تسهيل عملية إقناع
المشاهد
بأن البطل الشعبي التركي وحيد علمدار لا يزال وفياً لمبادئه التي ربما نشهد
عليها
في أفلام أخرى تتطلب منه الخروج من بلاده والانقضاض على كل عدو
ينال من شرف وسمعة
النخبة التركية المقاتلة.
الحياة اللندنية في
11/03/2011
«إذا
تعب قاسيون» يمسك يد الماغوط في
أيامه الأخيرة
دمشق – رنا زيد
«عندي
احتياطيّ من الخوف لا ينضب». أتكون هذه الجملة لصاحب كتاب «سأخون وطني» هي
التي صنعت قوام الشاعر الكاره العقلَ كما يقول عن ذاته؟ محمد الماغوط
(1934– 2006)
تربّع على أريكةٍ أيام مرضه في بيته في منطقة المزرعة - دمشق، ووصف حزن
العالم
النهائيّ تحت ضوء القمر أو في الظلام في الفيلم الوثائقي «إذا تعب قاسيون»
(إنتاج
2005)
إخراج هالة محمد، وأهم ما في الفيلم هو ترْك حديث الشخصية على سجيّته
دون
تدخّل تقني كبير، أو لعِب تجريبي.
صورت هالة محمد في فيلمها (47 د) مرحلة عن الماغوط تُراوِح بين الصحو
والغفو، أو
بين الشعر والواقع. يظهر صاحب رواية «الأرجوحة» منذ المشاهد الأولى بين
أدويته، مع
صوت قارئ القرآن، متحدثاً عن ظروف ليلة باردة قرّر فيها دخول
الحزب القوميّ السوري
من دون أن يقرأ مبادئه، فقط لأن هناك مدفأةً في مقره، الفتى الفقير (حبيس
المهجع
الرابع في سجن المزة لاحقاً عام 1955، والمقابل للمهجع الخامس حيث كان
أدونيس) كانت
لديّه حماسة للانتماء إلى الجماعة والأكثرية، ولا يصدّق المرء عندما يسمعه
يقول إنه
جعل الشرطة يُمثّلون في مشاهد قدّمها داخل السجن من مسرحية لـ «يوسف وهبي»،
وها هي
زوجته الشاعرة سنية صالح تلتحق به لليلة واحدة (تحت سقف السجن
ذاته دون لقاء)، كيف
تتحوّل الطريق العشوائية إلى شاعر، وأحلامه إلى حقيقة؟ اعتقد دائماً أن
السجن
للقتلة، ولم يصحُ إلا على خبر إعدام أنطون سعادة في إحدى الليالي، ثم عند
نشْر
قصيدة «القتل» التي هرّبها بين ثيابه الداخلية إلى العالم
«ليصدح الخوف كالكروان»،
وليكتب بعدها ديوانه الأول «حزن في ضوء القمر» (1959) نتاج
بداية العلاقة بمدينة
بيروت ويوسف الخال ومجلة «شعر».
الخوف شيء لا يُشرح
لحظات للماغوط وهو نائم، تعلو بتأثيرها على غيابه، ويسيطر صوت أنفاسه مع
موسيقى
مرسيل خليفة على بساطة الحدث (السرد الحياتي) ثم دراماتيكيته،
ثم بساطته، هكذا أخذ
الماغوط كل الأشياء سهلةً ثم عقّدها، تماماً كما شبّه الخوف بالشيء الذي لا
يُشرَح
أو السماء، ثم بـ «سياط، وكماشات، وأسنان مقلوعة، وعيون مفقوءة، تغطي
العالم»،
السجن عند الماغوط لم يكن إلا عبْر أثره، لأنه لم يقبع فيه
سنوات، أمضى أشهراً
قليلة فقط من العام 1955، وفي العام 1961 أمضى ثلاثة أشهر، كما أنه أصبح
صديقاً
لسجّانه لاحقاً (عندما شاهده بائعاً للحلويات).
لا يفكّ المهرّجون الكوميديون أو رسوم الكرتون لَغْزَ حزن العالم، كما يكثف
الوثائقي ما يقوله هذا الرجل البطيء في مشيته على الأرض (لحظة
تصوير الفيلم)، فهو
يغفو كالطفل أمام الكاميرا بلا قلق، ويرسم ملامح كاتب «الفرح ليس مهنتي»
(1970) من
جديد، بطريقة عبثية، وبحدّة باقية من أيام اشتعاله، فهو لا يحبّ المواربة،
فإما
اللص أو الشرطي، وإما الشعر كشعر أو اللاشيء، هزم القافية لأنه
انشغل، كما يقول، في
أحد المشاهد بالبحث عن الطعام أو عن حذاء بدلاً من الوزن الشعري، ورفض بشدة
نصيحة
أحد اللغويين بعدم دخول «طالما» على الاسم، مجيباً إياه بأن هناك أناساً
يدخلون
السجون والمصحات العقلية... فما شأنك بطالما هذه؟ هذا الشاعر
الذي لم يأبه يوماً
للعالمية، دخل بهذه الطريقة باب الشعر، برؤية فردية.
يقصّ الماغوط كيف ترك الناشر رياض الريس يفكّ ألغاز روايته الوحيدة
«الأرجوحة»
بعدما أصرّ في طلبه منه نصوصاً لمجلّة «الناقد»، لتصدر الرواية بعد خمسة
وعشرين
عاماً من اختبائها تحت مخدّة أم الماغوط ببطليها «فهد التنبل» و»غيمة». ولم
يتناول
الفيلم مسرحَ الماغوط في «المهرج» أو «ضيعة تشرين» أو
«غربة»... فقط تحدث ببضع
جُمَل عن الملاحقة بعد «العصفور الأحدب»، وتعمّق في عفوية تصرفات شاعر يفرح
على
سبيل المثال بـ «بيجامات المنزل» وبمديح قديم من عاصي الرحباني لِما كان
يرتديه في
ستينات القرن الماضي.
«إذا
تعب قاسيون» هو كقضاء يوم في بيت الماغوط، حديث ودود مع رجل أجش الصوت، مرح
وحزين في الوقت ذاته، وهو يوحي بصورته الأخيرة لحظةَ مات وفي إحدى يديه عقب
سيجارة،
وفي الأخرى سماعة الهاتف، يوحي بخط حياته المتأرجح على حائط الحزن الكبير
للعالم.
معطيات مقلوبة
عام 1955 والحزب القومي قلبا المعطيات للفتى الريفي وأخذاه من مدينة
السلمية
وأحلام الزواج بقريبة له (ابنة عم، ابنة خال) إلى الظلمة، فكان
الهرب إلى بيروت،
واللقاء بجماعة «شعر» (يوسف الخال، أنسي الحاج، شوقي أبي شقرا)... وسعيد
عقل،
والرحابنة. تغنّى الماغوط في الفيلم بحُبّ بيروت وعطائها، وبقي حتى لحظاته
الأخيرة
غير متصالح مع السلطة أينما كانت في العالم، ومتسامحاً مع الأشخاص فقط،
ويرى أن
«القمع
هو الأم الرؤوم للشعر والإبداع»، مخالفاً رأي الكاتب المسرحي السوري الراحل
سعد الله ونوس المريد للحرية.
الخوف «ثيمة» الإبداع الماغوطية، جعلت البورتريه الفيلمية عنه أشبهَ
باللقاء مع
فارس أسطوري كلما أمسك شيئاً أتى بنقيضه، كلما سعل تذكّر جدران
السجن، عائشاً على
ألم الماضي كأنه ألمٌ أبدي، مُتنبّئاً بأحداث العالم، وهو أحياناً يخرج عن
شعريته
ويُبدي عدم صبره المعروف في محاوراته، لكنه سرعان ما يلجم أنفاسه المتعَبة
بحكمة،
خاتماً الفيلم: «عجيب أن حياةً من سبعين سنة، يستطيع المرء
تلخيصها بخمس
دقائق».
الحياة اللندنية في
11/03/2011
التحولات في سينما المحروسة
القاهرة – محمد عويس
تساؤلات كثيرة طرحها العاملون والمهتمون بصناعة السينما في مصر بين مؤيد أو
معارض لسينما القطاع العام والتي كان وجودها في رأي الناقد
السينمائي إبراهيم
الدسوقي في كتابه «سينما القطاع العام: التحولات السياسية والاجتماعية»
الصادر عن
الهيئة العامة لقصور الثقافة، يمثل محاولة لإنقاذ صناعة وطنية تحولت على يد
مُنتج
القطاع الخاص - الموجود في ذلك الوقت والذي يعتمد على الموزع
الأجنبي في تمويل
أفلامه خوفاً على رأسماله - لتتجاوز ما ورثته مصر من فرض نظام النجوم
وأساليب حل
المشكلات على الشاشة فقط. والإيمان بالصدفة والقدرية والأساليب السوبرمانية
والمطاردات في البحث عن الحق. وتلك المبالغات في تنفيذ المناظر
والفخامة ورسم صور
لبلد جميل لا مشكلات فيه أو مناظر أو بيوت فقيرة متواضعة وربما قذرة. أو
وجود صيغة
سياسية ما تدعو إلى بث روح الاختلاف والتمرد بين العمال أو طبقات اجتماعية
بعينها.
وبالتالي لا تظاهرات ولا إضرابات.
لقد كان وجود القطاع العام السينمائي ايضاً محاولة لتجاوز علاقة السينما
برأس
المال وارتباطه بالنجاح المادي فقط. لذا، أدى كل ذلك إلى
محاولة تكريس الاتجاه -
الغالب – نحو بناء سينما هدفها الإنسان المصري وحياته اليومية وتأثيرات
الواقع
المُعاش في المناحي الاجتماعية والسياسية التي تدور من حوله يتأثر بها
ويؤثر فيها.
وبالتالي هي محاولة لتحرير السينما المصرية من القوالب السينمائية التي
كانت تدور
في إطارها منذ زمن بعيد وقبل ثورة تموز (يوليو) 1952.
ويشير الدسوقي إلى أن قضية سينما القطاع العام صارت ظاهرة جديرة بالدراسة
لعوامل
كثيرة شابت التجربة التي لم تستمر سوى سبع سنوات واحتملت
الصواب والخطأ. إذ جاءت من
دون الإعداد لها في شكل جاد وجيد من خلال وجود كوادر سينمائية/ سياسية يمكن
أن
تديرها أو تجمعها. ولكن تلك السنوات السبع كانت مؤثرة. شديدة التوهج على
المستوى
الفكري والصورة الفنية والإيقاع والدهشة والمردود. إذ كان هناك
إيمان كامل بقيمة
السينما كوسيط يمكن أن يحمل ويوجه شكل حياة جديدة وتنمية شاملة وآمال مبشرة
وعهد
جديد. ويُثار التساؤل هنا: «هل نجح القطاع العام السينمائي في معالجة
وملاحقة بعض
الإشكالات الاجتماعية التي صادفت المجتمع المصري أثناء فترة
التحولات الناصرية وما
استتبع ذلك من رؤى ومتغيرات سياسية حاولت بث واستنهاض ملامح الإنسان الجديد
الذي
أكدته روح ثورة تموز (يوليو) 1952 على مستويات وقضايا كثيرة؟» والإجابة
يقدمها
الكتاب من خلال رصد التجربة كاملة للقضايا الآتية:
-
الفلاح وأحواله وإيقاع حياته وشكلها (ماضيه، حاضره، مستقبله) والأعراف
والتقاليد والحب والشرف في علاقته وارتباطه بالأرض.
-
الشباب ورسم بورتريه خاص بنجاحه وإخفاقه في التعبير عن ذاته وأزمة احتضان
وتوجيه هذا القطاع بما فيه من مراهقة ومشكلة الاغتراب والتلاقي.
-
المجتمع المدني بما فيه من مشكلات العاطلين بالوراثة وهموم البورجوازية
وأزمة
منتصف العمر وخروج المرأة إلى العمل وكذا أزمة المثقف/ الوطن.
-
مصر صورة حياة بانورامية لانعكاسات الإرهاصات التي صادفت مجتمعها على
المستوى
السياسي. مصر الجديدة وقضايا لم تأخذ حقها نقدياً وأخرى حاولت نقد التجربة
أو إيقاظ
الوعي لدى الجماهير.
-
إتاحة الفرصة للتعبير عن لحظات خاصة فنية/ إبداعية وأعمال أصبحت نقلة
تاريخية
لن تتكرر.
-
شهادات ميلاد وإخفاقات ونجاحات هذا القطاع على المستوى الإداري والفني
والمهني. ومحاولات التصحيح المستمرة. وضخ رجال وأفكار جديدة
لتقديم صورة
مغايرة.
ويلفت الكاتب إلى أنه لم يتطرق إلى الحرفيات السينمائية والمهارات التقنية
التي
حاول بعض صُناع الأفلام تقديمها سينمائياً، تعبيراً عن قدرتهم
على مخاطبة المتفرج
عبر لغة سينمائية راقية وليس عبر طرح الأفكار عبر منشور سياسي ولغة جامدة.
ويشير
المؤلف أيضاً إلى أن القطاع العام السينمائي أتاح الفرصة لشباب كثر ممن
كانوا في
بداية حياتهم السينمائية، وأبدعوا وصاروا من أعلام هذه
الصناعة. لذلك، يمكن القول
إن الفترة على رغم قصرها نسبياً، تركت مجموعة في غاية الأهمية من الوثائق
الفيلمية
في حاجة إلى إعادة مشاهداتها وتناولها في دراسات أخرى ذات مساحات كبيرة.
الحياة اللندنية في
11/03/2011 |