اعتبر أن أهم وأحسن فيلمين عرضهما مهرجان تطوان السينمائي في دورته 12 هذه,
هما فيلم "طرفاية" أو باب لبحر " للمغربي داود أولاد سيد, وفيلم " الذاكرة
المعتقلة " للمغربي جيلالي فرحاتي, ودخل الفيلمان مسابقة المهرجان,
بالإضافة إلي إعجابي بفيلمين مصريين متميزين, هما " بحب السيما " لأسامة
فوزي, الذي دخل المسابقة, وفيلم " أحلي الأوقات " لهالة خليل, الذي عرض في
تظاهرة " بانوراما عربية " علي هامش المهرجان. فيلم " باب لبحر " لداود
أولاد سيد هو عبارة عن قصيدة سينمائية عذبة, تحكي بالسينما والصمت والتأمل
أكثر مما تحكي بالكلام. تحكي عن " مريم ", الشابة المغربية التي تهبط إلي
مدينة " طرفاية " الصحراوية الصغيرة, في جنوب المغرب, في مواجهة اسبانيا,
وهي تبحث عن تريكي احد مهربي الأنفار, الذي يختلف عن غيره من المهربين
الذين يعيشون في المدينة, إذ يتقاضي مبلغا من المال نظير نقل الشخص وتهريبه
في قارب, فإذا فشلت محاولة تهريبه , فان التريكي يكرر المحاولة مع نفس
الشخص, حتى ينجح أخيرا في الوصول إلي الضفة الأخرى, ولهذا السبب قصدته "
مريم ". لكن احد لا يعرف من أين أتت مريم , ولا غرابة, إذ أنها تحب أن
تخترع قصصا عن مدن خيالية, وتقول إنها أتت من مملكة مغربية اشترتها اسبانيا
, ثم غيرت اسمها, وتحوم حول " مريم " الشبهات, حين تصل "لالا فاطمة" سيدتها
إلى " طرفاية ", وتبلغ رئيس الشرطة, الذي قارب علي ترك عمله لبلوغه سن
المعاش, ويقع رغم كبر سنه في غرام مريم , تبلغه إن " مريم " سرقت مبلغا من
المال من بيتها , حيث كانت تعمل كخادمة, ولاذت بالفرار, ولاشك أنها ستدفع
المبلغ الذي سرقته, نظير نقلها عبر البحر إلى اسبانيا..
فيلم " باب البحر " هو من دون جدال , أفضل أفلام داود أولاد سيد, الذي
يناقش في كل أفلامه" وداعا سويرتي" و"حصان الريح " و" باب لبحر " فيلمه
الثالث, يناقش قضية الهجرة, داخل وخارج المغرب, ويتساءل في كل فيلم: تري ما
هي الأشياء التي تجعلنا في هذا البلد, مدفوعين هكذا إلى الترحال الدائم,
خارج نفوسنا, وخارج أوطاننا, هل هذا هو قدر الإنسان في المغرب. يطرح داود
دائما تساؤلات, ولا يقدم إجابة, بل يتركنا مع تساؤلاته وألغازه, يتركنا
لنتأمل ونفكر, ونستمتع بجمال الفيلم..
" مريم " المغرب: رمانة من الجنة ؟
ينحاز داود في كل أفلامه إلى الغجر الرحل, إلى الكادحين الهامشيين المعذبين
المشردين, بلا ارض أو وطن, ويشرح لنا كيف يقع البعض من هؤلاء, الذين
يحملون حلمهم إلى " طرفاية " ويقفون في طوابير انتظار طويلة, استعدادا
للرحيل إلى اسبانيا, ومواجهة خطر الموت غرقا , يقعون في مصيدة المهربين
اللصوص, الذين يسطون علي أرواحهم. تحط مريم في طرفاية, وتسكن عند الحاجة,
التي تقوم بتأجير عدة غرف في بيتها بالمدينة, للفتيات المغربيات اللواتي
يتقاطرن علي المكان, وتبدأ مريم في التعرف علي المكان وأهله: تتعرف علي
حسن, الذي سرق كل أموالها في أول الفيلم وهرب, ثم اعتذر لها في ما بعد عن
فعلته, واعتبر الأمر مزحة, وراح يتعقبها في ما بعد أينما ذهبت, وهو يتعذب
لأنه يحبها , وهي لا تعيره اهتماما, إلى أن تقبل مريم يوما أن تدلف الى
داخل كوخه الصغير, فإذا بها في حضرة عشرات الأقفاص, التي تحتوي علي طيور
الزينة, التي يعيش معها في وحدته الموحشة, وضياعه الأبدي. يؤسس داود فيلمه
علي علاقة مريم بالمكان وأهله, وفقط في هذه المنطقة, أو نقطة العبور, عند
حافة البحر, في طرفاية, تصبح مريم اللاشيء العدم, مريم اللغز المحير, واحد
لا يعرف من أين هبطت, تصبح كيانا إنسانيا حقيقيا, فالجميع يحبونها, ويريدون
لها أن تحقق حلمها في ركوب البحر, ومن ضمنهم ذلك الغلام, الذي اصطحبها في
أول الفيلم, ليبحث لها عن سكن, لكن حين أزف وقت الرحيل فجأة, إذا به
يطالبها أن عثرت علي والده في اسبانيا , أن تبلغه إن أسرته تغفر له بعد أن
هرب فعلته, وتسأله العودة إلى أهله. ولاحظ كيف أن مريم قبل أن تصل إلى
طرفاية لم تعش في المغرب, طبعا كانت تعيش في المغرب, لكن من دون أن يشعر
احد بوجودها, أو يهتم بأمرها. كانت مريم, مثل كل الفقراء المطحونين
المعذبين, مادة فقط للاستغلال البشع والقهر, وكان عليها , في وطن يلفظها,
أن تركب البحر إلى اسبانيا, لكنها فقط حين وصلت إلى طرفاية, إذا بها تتحول
من شبح, إلى كيان إنساني من لحم ودم ومشاعر, وإذا بها تستشعر دفء القلوب
الحانية من حولها, وهي تتأسي لحال مريم وحالها, ويقف الجميع في طابور
الانتظار الطويل في انتظار المخلص. وفقط حين كان البحر يلفظ الجثث الغارقة
, أكثر من 15 جثة كل يوم, كان الأطفال يركضون مع الكبار إلى الشاطئ , في
صحبة رئيس الشرطة في طرفاية, ويتفرجون علي الآثار التي خلفتها تلك الجثث
علي الشاطئ , قبل نقلها إلى المشرحة, ويصعب علي الجميع أن تغادرهم مريم
وتتركهم. فجأة مع وصول مريم , تحيا المدينة من جديد, تنبض , تتنفس, فتصبح
مريم هي المركز, تصبح الأم والأخت والصديقة والحبيبة, ويتحلق الجميع حولها,
وكأنها أمهم الكبيرة المغرب, بأصالته وعراقته وطيبة أهله, وهم لا يريدون
الآن أن تغادرهم, وتتركهم لبؤسهم. ومن أروع مشاهد الفيلم , مشهد مريم فوق
سطح البيت في الليل, وهي تطل علي أنوار المدينة الاسبانية القريبة , في
صحبة صديقتها, وتلخص مريم في كلمتين موضوع الفيلم, ومأساة الغربة, فتقول
لصديقتها يبدو انه بقدر ما يحل الظلام في المغرب, بقدر ما يحل النور في
الطرف الآخر في اسبانيا, وكلما خفتت الأنوار هنا وعشش الظلام, كلما تألقت
الأنوار هناك أكثر وعم الحبور والفرح, واعتبر هذا المشهد من أعظم, إن لم
يكن أعظم مشهد في كل الأفلام التي شاهدتها في تطوان السينمائي 12 وأعمقها
تأثيرا, وبه, وبكل مشهد في ذلك الفيلم , الذي يكشف عن " نظرة " داود
الفنية الإنسانية , التي تجعله ينحاز في كل أفلامه إلى هؤلاء الهامشيين
البسطاء المعذبين, ومن دون أن يفقد سحر السينما, الذي يغمس فيه فرشاته مثل
فنان رسام, ثم يروح يتحفنا بجماليات اللقطة, وتناغم وتناسق الألوان,
وهرمونية الإيقاع, وفي صحبة شريط الصوت الرائع في الفيلم, يدلف " باب لبحر"
بهذا المشهد في قفطان من حرير إلى كلاسيكيات السينما المغربية العظيمة مثل
" شاطئ الأطفال الضائعين " لجيلالي فرحاتي, ويصبح " تحفة " سينمائية, تلغي
ببساطتها وعذوبتها وفنها السينمائي الرفيع, كل الريبورتاجات التلفزيونية
التي تناولت ذات الموضوع ,حتى صار اعتياديا وتافها و مبتذلا, في حين يشمخ "
باب لبحر " بواقعيته ومصداقيته, مثل طقس روحاني, يقربنا من إنسانيتنا,
ويجعلك تتعاطف مع شخصياته, ويسحبك إلى عالمهم, فإذا بك تعجب بهذا اللغز
المحير في الفيلم, أي مريم, وتقع مثل الجميع في حبها, وتتمني لو كنت طيرا
لتحملها إلى شاطئ الأمان, وتحافظ عليها مثل رمانة من الجنة..
تحرير "الذاكرة المعتقلة" في عهد جديد
أما فيلم " الذاكرة المعتقلة " للمخرج المغربي الكبير جيلالي فرحاتي, الذي
يحكي عن سجين سياسي فقد ذاكرته, ويحاول من خلال رحلة في أنحاء المغرب في
صحبة شاب, أن يلملم أشلاء كيانه الممزق الضائع المحطم, فهو من انضج أفلام
جيلالي فرحاتي, الذي يضطلع بدور البطولة في الفيلم, ويذكرك هنا بيوسف
شاهين, الذي اضطلع بدور البطولة أيضا في فيلمه الأثير " باب الحديد ".عاش
جيلالي في الدور, وذاب فيه , حتى نسينا انه مخرج الفيلم, واندمجنا معه في
حكايته. يصور جيلالي في فيلمه مأساة جيل السبعينيات من المناضلين, الذين
دافعوا عن حرية الإنسان في المغرب, ويحكي كيف اكتوي ذلك الجيل بنار السجون
والمعتقلات, وصار حطاما, لكنه علي عكس الأفلام السياسية الميلودرامية من
هذا النوع ,التي تحتشد بصور الدم والعنف والجلد والتعذيب, يطهر جيلالي
فيلمه من العويل والصراخ والبكاء, ويحوله إلى قصيدة للتفكر والتأمل , من
خلال العودة إلى المكان الذي انطلقنا منه, كما يقول الشاعر الانجليزي ت.اس.اليوت(
الأرض الخراب ), لكي نعيد استكشافه من جديد, وللمرة الأولى.فيلم جيلالي هو
إذن رحلة استكشافية في الذاكرة المغربية, ذاكرة الماضي وذاكرة الحاضر, وقد
أراد به أن يكون تحية إلى كل المناضلين السياسيين الشرفاء في المغرب, من
جيل السبعينيات, مثل هذا المعلم الذي يحكي عنه في الفيلم, ويستخدم حواسه
لا عقله, لكي يتذكر من خلال ملمس قطعة الطباشير فقط, انه كان يكتب بها
الدروس علي السبورة, ويتذكر انه كان معلما, ثم وقع له ويا للأسف ما وقع.
وكان جيلالي, كما ذكر لي حين التقيته في مهرجان القاهرة 28 في العام
الماضي, ونال فيلمه جائزة أحسن سيناريو, وأعجبت بالفيلم وكتبت عنه , كان
يفكر في صنع هذا الفيلم منذ أكثر من عشرين عاما, لكي يرد الاعتبار إلى جيل
كامل, كان يناضل آنذاك في المغرب, يقتل ويعذب, ويلقي به وبأفراد أسرته في
السجون والمعتقلات, في حين كان جيلالي وقتذاك, يدرس السينما في باريس,
ويستمتع بأجواء الحرية في مدينة النور. ويمثل جيلالي فرحاتي رمزا مهما في
السينما المغربية بأفلامه الواقعية الفنية العميقة, التي تنحاز إلى الفقراء
المسحوقين, وتغوص عميقا في الكيان الروحاني للمغرب, ويكفيه جيلالي انه اخرج
عملين من ابرز واهم الأفلام في تاريخ السينما المغربية, ونعني بهما فيلم "
شرخ في الجدار " و" شاطئ الأطفال الضائعين " , وقد أراد بفيلمه " الذاكرة
المعتقلة " ذاك , أن يحرر تلك الذاكرة المغربية بنفسه من الحبس, ويطلقها في
فضاء المغرب الحر من جديد, في العصر الجديد, ويثبتها وتدا للاعتبار والتفكر
والتأمل والنظر, لكي يصبح الفيلم – من هذا المنظور- ومع اتساع هامش الحريات
, بمثابة " هدية " إلى الضمير المغربي, والعهد الجديد, ضد آفة حارتنا:
النسيان..
حقق مهرجان تطوان, تحت إدارة احمد حسني وعبد اللطيف البازي وحميد عيدوني
ونور الدين بندريس وادريس السكايكة ومحمد ضياء السوري ومحمد بويسف الركاب
من جمعية أصدقاء السينما بتطوان,حقق الكثير هذه المرة, بتنوع وتعدد أفلامه
, وثراء ندواته( السينما والمدرسة ) وتكريماته( للمغربي عبد القادر لقطع.
للمصري محمد خان.للفرنسي المنتج الراحل أمبير بالزان ), وكانت هذه الدورة
12 بمثابة ميلاد جديد لمهرجان جديد, انتقل من طور الهواة إلى طور
الاحترافية, وهو يؤهل في رأينا تطوان بالفعل, إذا حافظ علي هذا المستوي,
لأن تكون " عروس سينما البحر الأبيض المتوسط" عن جدارة, كما انه بتدخل
الدولة المغربية -وزارة الاتصال- ودعمها, قطف المهرجان ثمرة كفاحه منذ
عشرين عاما, لخلق أرضية سينمائية واعية, وذائقة جديدة في الحاضرة الأندلسية
تطوان, فكان أن تأسست هذا العام للمهرجان إدارة جديدة, تمهيدا لخلق "
مؤسسة مهرجان تطوان السينمائي ", التي سوف تصبح "جمعية أصدقاء السينما في
تطوان" طرفا فيها فقط , وتشرف مستقبلا علي إدارة المهرجان, وستقوم المؤسسة
الجديدة, ببناء معهد إقليمي للمهن السينمائية, وقد حصل المجلس الإداري
الجديد للمهرجان بالفعل علي قطعة ارض, لبناء ذلك المعهد المنتظر.
جوائز المهرجان
في حفل ختام المهرجان, أعلنت لجنة تحكيم المسابقة الرسمية, برئاسة المخرج
المغربي احمد المعنوني , ومشاركة الممثلة المصرية بوسي, والناقد المغربي
علي السكاكي ,والموسيقار العراقي نصير شمة, والمنتجة التركية زينب أوزباتور,
و الممثلة الاسبانية كوكا ايسكريبانو, والمخرج الايطالي موريسيو زاكارو,
أعلنت عن جوائزها, ففاز:
·
فيلم " الذاكرة المعتقلة "
للمغربي جيلالي فرحاتي بالجائزة الكبري لمدينة تطوان.
·
فيلم " كاترينا تذهب إلى
المدينة" للايطالية باولا فيرزي: فاز بجائزة محمد الركاب, جائزة لجنة
التحكيم الخاصة.
·
فيلم " معارك حب " للبنانية
دانيال عربيد : فاز بجائزة عز الدين مدور للعمل الأول.
·
فيلم " اذهب بي إلى مكان آخر "
للاسباني دافيد دولوس سانتوس: فاز بجائزة مدينة تطوان للفيلم القصير.
·
جائزة أحسن دور رجالي: ذهبت
للممثل المصري محمود حميدة عن دوره في فيلم " باحب السيما " للمصري أسامة
فوزي.
·
جائزة أحسن دور نسائي: ذهبت
للممثلة الفرنسية لولا نايمرك عن دورها في فيلم " الحائكة " للفرنسية
اليانور فوشيه.
·
جائزة النقد: فاز بها فيلم "
طرفاية " أو " باب لبحر " للمغربي داود سيد.
كلام الصور
ملصق فيلم " الذاكرة المعتقلة " للمغربي جيلالي فرحاتي الحاصل علي
جائزة أحسن فيلم
لقطة من فيلم " الذاكرة المعتقلة "