من أبرز الأفلام التي عرضها مهرجان القاهرة السينمائي
الدولي في دورته 28 فيلم " الذاكرة المعتقلة " للمخرج المغربي المتميز
جيلالي فرحاتي, الذي يحكي عن تجربة سجين سياسي , يدعي مختار , في فترة
السبعينيات, فقد ذاكرته في السجن, وحين يفرج عنه , يصطحبه شاب يدعي زهير,
كان مسجونا مثله, وكان والده , والد زهير, مناضلا سياسيا, فلما اعتقل ومات
في السجن , خانته امرأته , خانت ذاكرته, ,وتزوجت برجل غيره , ويحاول
الاثنان في رحلة لهما عبر المغرب , أن يعثرا علي أي إنسان , يتذكر هوية
هذا السجين العجوز " مختار " الغريب
–
بقايا إنسان بعد الاضطهاد والتعذيب والقمع - المسكون بذكريات السجن البشعة
التي تطارده في كل مكان, مثل أصوات تلك الزنزانات الموصدة , التي تغرق
بالمياه حتى تمنع المسجونين من النوم علي أرضية السجن, وفقد معها عقله, ولم
يتبق له سوي ذلك الإحساس المثير بالأشياء التي تعود في ما مضي علي لمسها ,
مثل قطع الطباشير التي تذكره بأنه كان معلما يكتب به علي السبورة, وقبل أن
يسلط عليه سيف القمع ويساق بسبب نضاله من اجل الحرية إلى الحبس, وكانت هذه
الفترة من أشد الفترات السياسية قسوة وقهرا وظلاما , ويطلق عليها عادة في
المغرب سنوات الجمر أو النحاس , وتزامن عرض الفيلم الذي أعجبنا به كثيرا,
ونعتبره من ابرز الأفلام العربية الناضجة التي عرضها المهرجان, تزامن مع
الاحتفال بذكري الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في القاهرة , وحصل الفيلم
علي جائزة أحسن سيناريو في مسابقة المهرجان, وتوهج فنا والتصق بذاكرتنا,
لأنه يحمل هما حقيقيا, ويناقش قضية النضال السياسي من اجل الحرية , والثمن
الذي يمكن ان يدفعه المناضلون السياسيون من حياتهم وعمرهم وأحلامهم
وطموحاتهم من اجل حصول الإنسان العربي في المغرب علي حقوقه, ويمثل جيلالي
فرحاتي رمزا مهما في السينما المغربية , فهو أحد المخرجين الذين ناقشوا في
أفلامهم كما في " شرخ في الجدار " و" خيول الحظ " و" شاطئ الأطفال الضائعين
" قضايا المرأة والفقراء المطحونين, البؤساء المهمشين المعذبين في
المجتمع المغربي, وظلت فكرة هذا الفيلم " ذاكرة معتقلة " تطارده منذ اكثر
من 15 عاما, إلى أن استطاع إنجازه حديثا حتى يصبح "تحية " إلى هؤلاء
المناضلين الذين كافحوا في المغرب ضد الاضطهاد والاختطاف وتعذيب المناضلين
, في ما كان هو آنذاك يدرس في باريس في فترة السبعينيات , ولا يستطيع
مشاركتهم نضالا تهم في الوطن. .
"الذاكرة المعتقلة": فيلم ضد النسيان
والجميل في فيلم " الذاكرة المعتقلة " أنه فيلم هادئ تأملي,
بنأي عن استغلال مشاهد العنف والصخب والعويل والدم التي تعودنا عليها في
مثل تلك الأفلام السياسية العنيفة التي تمتلئ بضرب النار واطلاق الرصاص
وصيحات الجلاد وصراخ المسجونين المعذبين , ولن تجد في فيلم جيلالي فرحاتي
أي من هذه الأشياء , اذ يخلص أو يطهر فيلمه من مظاهر العنف الدموية , يقشر
ه مثل حبة لوز , ويبخر به كما في قارب هادئ في بحر المغرب وبيوتاته أهله
وحواريه,ويجعلنا نتعاطف مع شخصية محتار التي يقوم هو ذاته بتجسيدها علي
الشاشة , وينجح من خلال إمساكه بهم الشخصية وروحها في أن ينسينا انه مخرج
الفيلم( وصديقنا جيلالي فرحاتي الذي نتابع أعماله السينمائية المغربية
المتميزة , ومنذ فيلمه الأول " شرخ في الجدار " , الذي شاهدناه منذ اكثر من
عشرين عاما عند عرضه أول مرة في مهرجان " كان " السينمائي الدولي )
فيقربنا اكثر من إنسانيتنا, و يجعلنا نتعاطف ونتضامن مع قضيته. فيلم "
ذاكرة معتقلة " هو من أهم وأنجح الأفلام المغربية التي ظهرت في السنوات
الخمس الأخيرة ,لأنه يشتغل بهدوء علي موضوع الهوية والذاكرة, ضد آفة
حارتنا كما يقول نجيب محفوظ, أو بالا حري آفة مجتمعاتنا العربية الجديدة ,
ضد النسيان, ولذلك فهو يستحق المشاهدة عن جدارة..
محاولة البحث عن الحقيقة
ويقول جيلالي فرحاتي الذي التقيناه في مهرجان القاهرة
السينمائي 28: " لقد حرصت علي أن يأتي البطل" مختار" بالذاكرة , او
يسترجعها , من خلال حركاته الحسية , وليس ذاكرته العقلية الإنسانية ,
فأحيانا قد لا يحتمل العقل ما يدور خلف أسوار السجن, لذلك شاهدنا " مختار "
وهو يتذكر أحداث حياته , التي سقطت منه, عبر مواقف بعينها, مثل لمسه
للطباشير عندما كان يمارس مهنة التدريس, واعتقد أن الاختيار كان جيدا, لأن
الجسد يتذكر الحركات لا اراديا, في حين قد يغفل العقل أحداثا كثيرة نتيجة
الضغوط, أما الشاب لذي رافق البطل " مختار " في الفيلم , فهو رمز آخر ,
يعبر عن جيل بأكمله, فهو جيل بلا ذاكرة, وضحية للأحداث التي وقعت من قبل,
ولذلك كان تلاقي مختار معه , في محاولة البحث عن الحقيقة , كان نوعا من
التوحد, الذي يفضي الي كشف المستور, ونلاحظ من خلال سيناريو الفيلم أيضا ,
أن أم الشاب زهير , لم تحترم ذاكرة الأب , وذلك بزواجها رجلا آخر بعد
اعتقاله, مما أوجد جفوة بينها وبين الابن, أما اختياري للقيام بدور البطل "
مختار " , فقد جاء من رغبتي الداخلية في ممارسة التمثيل, واعتقد أن أهم شيء
في السيناريو, هو الإحساس العميق بالشخصيات, وملاحقة التغير المستمر للورق
في كل مرحلة.. " ..
تحية إلى جيلالي فرحاتي علي فيلمه الهادئ المتمهل العميق
الرزين, مثل قصيدة من قصائد الزن اليابانية التي تفلسف حياتنا , وتعيد
إلينا ذاكرة الحياة والوجود , ذاكرة اللحظة , وبهجة الوعي بالحياة الآن
,ضد أفلام العبث والصخب والعنف, التي تجعلنا نكره حياتنا , وتقرف عيشتنا,
ولاعلاقةلها البتة بالسينما الفن.