قبل أن أزور"أصيلة" بمناسبة "المُلتقى الأول لسينما جنوب-جنوب" خلال الفترة
من 23 إلى 29 يوليو، كنتُ أسمع، وأقرأ عنها، ومايزال كتاب "شاكر نوري" الذي
إحتفى بهذه المدينة عالقاً في ذهني.
ولكنّ السينما تأخرّت كثيراً عن مواسمها الثقافية الدولية التي بدأت قبل
ستة وعشرين عاماً، ولاينكر السيد "محمد بن عيسى" (أمين عام مؤسّسة مُنتدى
أصيلة) مشروعيّة السؤال، ولكنه يُجيب فوراً : بأنّ "أصيلة" إستقبلت مخرجين،
ومنتجين، وممثلين، وعاملين في المجاليّن السينمائيّ والتلفزيونيّ من خلال
الندوات التي شهدتها السنوات السابقة.
ويبدو بأنّ "الشروط اللازمة التي يجب توفيرها كي يبدأ المُلتقى السينمائيّ
حاملاً معه بذور النجاح والإنطلاق" قد تحققت في عام2004.
ومن ثمّ، فإنّ إنطلاقة مُلتقى أصيلة الأول لسينما جنوب-جنوب تندرج في إطار
هذه الإستمراريّة من أجل المستقبل بهدف توسيع المحيط الإبداعيّ
لنشاطاتها،...
ومهما تكن الأسباب، فإنّ بدايته المُتأخرة أفضل بكثيرٍ من أن يبقى مشروعاً
معلقاً، وإنتظار سنواتٍ أخرى.
والحقيقة، بأنّ “مُلتقى سينما جنوب-جنوب” ليس الأول من نوعه في العالم،
وليس ذلك إنتقاصاً من أهميته، ولكنّه إمتدادٌ لمهرجاناتٍ مُتخصصة تتوزّع في
أرجاء العالم، وتتمحور مسابقاتها الرسمية، وفعاليّاتها حول اللقاء مابين
سينمات الجنوب، أو الجنوب مع الشمال، أو سينمات حوض البحر المتوسّط، وكلّها
“تُراهن على تفعيل التواصل، والحوار، وتبادل الخبرات، والتجارب مابين
النخبة المُفكرة، والمُبدعة في العالم الثالث، وغيرهم في العالم الأول”.
وبعضها يُعقد في:
أنجيه، نانت، جزيرة غوادلوب، فيزول، دوفيل، باستيّا، ديجون، لونيل،
مونبليّيه، جيندو (فرنسا)، ميلانو(إيطاليا)، فريبورغ(سويسرا)، برادفورد
(المملكة المتحدة)، توبينغين (ألمانيا)، فالانسيا(إسبانيا)، قرطاج(تونس)،....
ولكن، ربما تكون “المغرب” هي الدولة العربية الوحيدة الأكثر إهتماماً
بالمهرجانات السينمائية التي تحتفي بها مدنها الكبيرة والصغيرة: (طنجة،
أصيلة، الرباط، تطوان، خريبكة، مراكش، الدار البيضاء، أغادير، الجديدة،
صلالة،..).
وفي بعض الأحيان، أقرأ بدهشةٍ تذّمر البعض(ومنهم مثقفين، ونقاد متخصصين)،
وتساؤلاتهم عن جدوى، وأهمية، وأهداف مهرجاناتٍ سينمائية تُقام في هذا
البلد، أو ذاك، حتى أنها وصلت إلى بلدانٍ تحبو في إنتاجاتها السينمائية
(سلطنة عُمان، الكويت، الإمارات العربية المُتحدّة، البحرين)، أو تُجاهد في
إنتاج فيلمٍ أو إثنيّن في العام(سورية)، أو يتناقص الإنتاج السينمائيّ فيها
سنةً بعد أخرى(مصر)، أو تعتمد غالبية سينماها على الإنتاج المُشترك(المغرب،
الجزائر، تونس)، أو تستعيد أنفاسها بعد حربٍ طويلة(لبنان)، أو تستعدّ لها
وسط غزوّ، وفوضى(العراق)، أو تُقاوم إحتلالاً طويلاً (فلسطين)، أو تتداخل
تظاهراتها السينمائية مع أخرى أدبية، وشعرية، وموسيقيّة (الأردن)، أو ليس
فيها أيّ مهرجانٍ سينمائيٍّ بعد(السودان، اليمن، الجماهيرية الليبية،
موريتانيا).
وأبسط الإجابات عن ذلك التذمر، ،تلك التساؤلات : بأنه مهما تضاعف عدد هذه
المهرجانات، يبقى متواضعاً بالمقارنة مع مايحدث في أوروبا، وخاصةً فرنسا.
وليس من المهم أن يخلو هذا البلد، أو ذاك من الإنتاج السينمائيّ كي نحكم
على الثقافة السينمائية بالإعدام.
وإذا كان الجمهور المحليّ يفتقد سينما وطنية في بلده، فمن العبث بأن نحرمه
أيضاً من مشاهداتٍ سنوية، أو موسمية لأفلامٍ يقرأ، أويسمع عنها في وسائل
الإعلام المُختلفة، ولن تصله بدون هذه المناسبات.
ومن المفيد دائماً توطيد علاقته مع صالات السينما، كي يشعر بالفوارق
الكبيرة مع التلفزيون.
بالنسبة لي، فقد أحببت السينما، وأدمنتُ مشاهدتها قبل أن أكتب عنها، وقبل
أن أُنجز لقطةً واحدة منها، وقرأتُ عن مخرجين، وجمالياتٍ، وأفلاماً لم أكن
أعرفها بعد، وتسنى لي مشاهدتها-كلها، أو الكثير منها- لاحقاً.
بمعنى، لن نترك الجمهور ينتظر تطور سينماه الوطنية، وإزدهارها كي نمنحه
إمكانية مشاهدة أفلامٍ ربما تُثير فضوله، وتجعله يتساءل عن موقعها على
الخريطة السينمائية العالمية، بالأضافة إلى إحتمال ظهور أعدادٍ ممن سوف
يعشقونها إلى حدّ الرغبة بأن تكون مهنةً لهم.
وهكذا، من الطبيعيّ بأن نحتفي بكلّ مبادرة جديدة تنفتح على السينما
إنتاجاً، وتوزيعاً، وعرضاً، ونشراً للثقافة السينمائية، وتبادل خبراتٍ
وتجارب،..وحتى اللقاءات الإحترافية في أبسط صورها.
وكما يقول “غسّان عبد الخالق” مدير المُلتقى: “إنّ تزايد عدد التظاهرات
السينمائية، لايعني تراكماً كميّاً، مثلما يمكن أن يعتقد البعض، بل يندرج
في إطار التراكم النوعيّ الذي تُمثله كلّ تظاهرة، وماتقدمه من إنفتاحٍ على
آفاقٍ ثقافية جديدة، فالمُلتقيّات السينمائية ليست إستعراضاً، بل عروضاً
تصقل الذائقة الفنية والثقافية للمشاهدين، وتُوسّع أفق الإنفتاح على
الثقافات الأخرى، وهي كذلك وسيلةً للإقتراب من جمهورٍ جديدٍ يصعب عليه
متابعة التظاهرات الأخرى عن قرب، وفرصة للسينمائيّين للإقتراب هم أيضاً من
سينمائيّين آخرين من أنحاء العالم، وبخاصةً من دول الجنوب، حيث تصبح هذه
العلاقة الأفقية باباً جديداً يُضاف إلى العلاقة القائمة بين الشمال
والجنوب، ولربما يُشكّل ذلك مفتاحاً لإنطلاقاتٍ سينمائية، وثقافية جديدة”.
وفيما يتعلّق بالمُلتقى الأول، فإنني لن أشغل نفسي بما يقصده “غسّان عبد
الخالق” من تيمة “سينما جنوب-جنوب”، وماهي القواسم المُشتركة، أو
المُتعارضة بين الأفلام المُشاركة (داخل المُسابقة، وخارجها)، والقادمة من
(إيران، اليمن، مصر، أذربيجان، الإمارات العربية المُتحدة، الصين، لبنان،
المغرب، جورجيّا، سورية، نيجيريا، قرغيزيا، كازاخستان، الهند، البحرين،
والأرجنتين)، بقدر إهتمامي بمشاهدة الأفلام نفسها.
ولكن مايُلفت الإنتباه في هذه التظاهرة، أو تلك، (وفي المشهد السينمائيّ
العالميّ عموماً)، هو الجمع بين الأفلام المُنجزة سينمائيّاً، وتلك
الفيديويّة، بدون التذمر السابق، أو المنافسة العلنية، أو المُبطّنة مابين
الوسيطيّن، وبدون الإحساس بتعالي، أو دونية وسيطٍ على آخر، ومن ثمّ،
الإقتناع بأنّ الفيديو إمتدادٌ تقنيٌّ للسينما.
ولكن، يبدو بأنّ المخرجين العرب لم يستثمروا بعد الوسيط الجديد، وإمكانياته
الإبداعية المُختلفة عن السينما، وإرتضوا بالفيديو بديلاً إقتصادياً فقط،
وليس فنياً، مما جعل الأفلام المُنجزة فيديويّاً تعتمد على الموروث
الجماليّ للسينما، بدون أن تُضيف إليه، أو تُطوره.
وعلى الرغم من هذا القصور الواضح للسينما العربية في نظرتها للوسائل
التقنية الجديدة، فقد منح الفيديو إستقلاليةً ماكان للمُبدعين تحقيقها قبل
ذلك مع السينما الباهظة التكاليف، وهكذا، فقد بدأنا نشاهد يوماً بعد يوم
أفلاماً طويلةً وقصيرةً، روائيةً وتسجيليةً، أُنجزت بإستقلاليةٍ تامّة عن
المُؤسّسات الرسمية، وغالباً بتمويلٍ ذاتيّ.
كما أصبح من الطبيعي بأنّ تتنافس هذه الأفلام جنباً إلى جنبٍ مع أفلامٍ
أنتجتها المؤسّسات الحكومية، أو الشركات الكبرى، إلى جانب أفلام من إنتاجٍ
مشترك.
ويبدو أيضاً، بأنه حتى يومنا هذا، مايزال العمل السينمائيّ يثير إهتمام
الرجل أكثر من المرأة، أو -ربما-مايزال الرجل يُسيطر على العملية
الإخراجية، بدون إغفال التزايد الملحوظ لعدد المخرجات في المشهد السينمائيّ
العالميّ، وقد أظهر “المُلتقى” هذا التفاوت الكميّ بين المخرجات (فريدة
بيليزيد، نبيهة لطفي، خديجة السلاّمي، ياسمين ملك ناصر، أنطوانيت عازرية،
رندة شهال، مانيجة حكمت، واحة الراهب، غوكا أوماروفا).
والمخرجين (نوّاف الجناحي، مُراد إبراهيم بيكوف، هسيّاو شاو جي، جان شمعون،
علي الصافي، جورج أوفاشفيلي، علي الغزولي، وليد الشحّي، نيوتن أدواكا، حكيم
بلعباس، تيّان زوانغ زوانغ، مُراد سورولو، أمير شهاب راضيافيّان، راجيف
فيجايا راغافان، بسّام الذوادي، إيهاب لمعي، سانتياغو لوزا، وليام واي لون
كووك، بهيج حجيج، محمد عسلي).
على حين تألق المستوى النوعيّ لبعض المخرجات، مثل الكازاخستانيّة “غوكا
أوماروفا”، وفيلمها”"SCHIZOالذي
لاقى إستحساناً عاماً.
وفي الوقت الذي إهتمت المخرجات بقضايا النساء، أحلامهنّ، وطموحاتهنّ، كانت
“المرأة” هي الشخصية الرئيسية في أفلام الكثير من المخرجين، كما الحال في
“الروح الأخرى” للصينيّ “هسيّاو شاو جي”، والذي يغوص في العوالم الداخلية
لفتاتيّن توأم، واللبنانيّ “جان شمعون” في “أرض النساء” الذي يجّسد قصة
جيليّن من نساء فلسطين الرائدات، وتسليط الأضواء على تجربة ثلاثةٍ منهنّ :
“كفاح عفيفي” في معتقل الخيّام بجنوب لبنان، والشاعرة “فدوى طوقان” في سجن
أسرتها، و”سميحة خليل” التي قاومت طوال حياتها دفاعا عن العدالة والسلام.
وفي “الشيخات” للمغربيّ “علي الصافي” يقدم مغنياتٍ شعبيات من المغرب، ويظهر
الحرية التي يتمتعن بها، والتي تسمح لهنّ بغناء مواضيع حساسة عن مشاكل
النساء، والظلم الإجتماعي، والنيجيريّ “نيوتن أدواكا” في “عائشة” عن الحياة
الصعبة التي يعيشها زوجان في دوامة المُتطلبات العصرية، والمغربيّ “حكيم
بلعباس” في “خيط الروح” عن “حياة” الفتاة الأمريكية التي تُرافق والدها
المُحتضر ليشاهد من جديدٍ قرية طفولته، والإيرانيّ “أمير شهاب راضيافيّان”
في في “طهران، الساعة السابعة صباحا”، عندما يُلاحق ممثلةً نتعرف من خلالها
على شخصياتٍ أخرى تعيش حياتها اليومية في دراما تمزج الهزل بالمعاناة، وفي
“العبور” للهنديّ “راجيف فيجايا راغافان” لن ننسى العلاقة الحميمة التي
تربط مابين الأبّ الماركسيّ الثوريّ السابق، الذي أصبح مُدرساً، ومتزوجاً
من إمرأة كاثوليكية مُتدينة، وهو يتذكّر ماضيه في حديثه مع إبنته الشابة
التي تُمثل جيلها البعيد عن العقائد الدينية والسياسية، وفي “الزائر”
للبحريني “بسام الذوادي” يقترب من بطلته “فاطمة” التي تعيش كوابيسها،
وترغب الكشف عن شخصٍ غامضٍ يظهر لها بين الحين والآخر.
إختيارات “مُلتقى أصيلة الأول لسينما جنوب-جنوب”، بمخرجيها ومخرجاتها، في
مشوارهم مع الأفلام القصيرة أو التسجيلية، أو أعمالهم الروائية الأولى أو
الثانية، ونجاحاتهم المُتفاوتة سينمائيّاً، تُسلّط الأضواء على جيلٍ جديدٍ
من السينمائيّين في طريقه لتحقيق سينما جديدة، أكثر مايُميّزها محاولة
تحرّرها من قيود الإنتاج التقليدية.