عرض برنامج "أفلام" أبوظبي بمناسبة رمضان فيلم المخرج المغربي الفرنسي
إسماعيل فروخي "الرحلة الكبرى"، وللقيمة الفنية للفيلم وارتباطه بالحج فقد
كان الحضور الجماهيري جيدا.
ويحكي الفيلم عن قصة مهاجر مغربي مقيم في فرنسا قرر الحج عن طريق
البر، عبر أوروبا، واصطحب معه ابنه ليقود به السيارة. أما إشكالية الفيلم
فتتعلق بالصراع بين الأجيال ضمن مجتمع المهاجرين المغاربة في فرنسا.
ولكن المبتكر من لدن فروخي في تكوين شخصيتي الفيلم الرئيسيتين أنهما
لا تمثلان جيلين من المهاجرين المغاربة وحسب وإنما قيم ثقافتين متباينتين.
فبينما ينتمي الأب إلى جيل المهاجرين الآباء الذين جاؤوا من بلدانهم محملين
بثقافة البلد الأم، ينتمي الابن إلى جيل الأبناء الذين ولدوا في بلاد
المهجر وأصبحوا أقرب في ثقافتهم من ثقافة هذه البلاد منهم إلى ثقافة بلدان
آبائهم، ويستعمل الأب وابنه في تحاورهما لغتين مختلفتين، فبينما يتكلم الأب
العربية يتكلم الابن الفرنسية، ومع ذلك فقد كانا يتفاهمان، وربما رمز
إسماعيل فروخي بذلك إلى إمكانية التفاهم والتقارب بين ثقافتي تلك اللغتين.
من جهة أخرى ساعد هذا الاختيار اللغوي مشاهدي الفيلم من الناطقين باحدى
اللغتين على متابعته دون كثير عناء، ضمنيا أعرب فروخي بهذا الاختيار اللغوي
عن موقفه الإيجابي تجاه اللغتين وارتباطه بهما.
على مستوى ثان أراد فروخي من خلال إلباس الثقافة الفرنسية شخصية ابن
المهاجر مقارنتها بثقافة الآباء. ونقد الثقافة الفرنسية وقد لبست شخصية من
داخل وجود المهاجرين جعله أسهل وأدخله ضمن نطاق النقد الذاتي. وعمق فروخي
من هذا التداخل بين الثقافتين على المستوى الفني باختياره للممثل الذي أدى
دور الابن رضا من بين الممثلين الفرنسيين غير العرب أو المغاربة.
ويعكس سلوك كل من الأب والابن انتماء ثقافيا معينا، وقد تابعنا خلال
الفيلم مقارنة واضحة بين سلوك الأب الذي منذ خروجه وهو يأثث وقته بقراءة
القرآن أو متوضئا أو متيمما ومأديا لصلواته المكتوبة، هذا بينما انشغل
الابن بتصفح محموله متتبعا أخبار صديقته الفرنسية التي أجبر على الافتراق
عنها.
وهذه السلوكات المتباينة جاءت بانتقادات متبادلة، فبينما لا يرضى الأب
أن يقضي ابنه وقته ينظر في محموله، ينزعج الابن من أبيه لأنه يصلي في كل
مكان بما في ذلك عند نقاط العبور الحدودية. هناك مسألة أخرى مهمة طرحها
فروخي وهي مسألة الأحكام المسبقة، حيث أرانا كيف أنه حتى بين هاذين
القريبين جدا من بعضهما كانت هناك كثير من الأحكام المسبقة الخاطئة، فصورة
الأب حسب الفيلم –على سبيل المثال- لم تكن تنطبق مع الصورة التي للابن عنه،
فهذا الأخير يرى أباه أميا لا يعرف القراءة والكتابة، وهو ما قاله له في
إحدى المشادات الكلامية، وأثبت فروخي أن هذا الحكم ليس سوى حكما مسبقا
خاطئا، حيث صور الأب منذ أول الفيلم لا يتوقف عن قراءة القرآن كلما سمحت له
الفرصة بذلك، كما أرانه في إحدى المشاهد يطالع ورقة الحساب، في مناسبة أخرى
أحسسنا أنه صاحب ثقافة أدبية راقية، ورأينا هذا حين أجاب على سؤال ابنه حول
سبب اختياره الذهاب إلى الحج برا عوضا عن ركوب الطائرة، لقد احتج الوالد
بشعر عربي فصيح غاية في الجمال يعكس كثيرا من الوعي الثقافي العربي الراقي
والذائقة الأدبية والدينية وربما الصوفية الرفيعة. وهنا ربما يقال لنا أن
قيمة الشعر المقروء على لسان الوالد لم يكن يعكس ثقافة الرعيل الأول من
المهاجرين المغاربة الذين كان أغلبهم قليل التعلم ودون خلفيات ثقافية، ولكن
المسألة هنا رمزية، ورمز بها فروخي إلى مواجهة بين ثقافتين وليس بين أفراد،
وكان الأب فيها رمزا لثقافته وليس ممثلا لنفس وشخص أغلب المهاجرين الأول.
ومن هنا نبدأ نطالع على مستوى الشخصية كما على مستوى أحداث الفيلم ذاك
التوجه من المخرج إلى إبراز وإن بشكل ثانوي في البداية ثم أساسي بعد ذلك
جماليات الثقافة التي ينتمي إليها الأب وهي الثقافة العربية الإسلامية.
أما النقلة النوعية في استعراض هذه الثقافة العربية الإسلامية فبدأت
منذ وصولنا إلى إسطنبول، فمن خلال مشاهد منارات الجوامع المتكثرة وعلى أثر
زيارتنا الشبه تسجيلية للجامع الأزرق (جامع السلطان أحمد) والتعرف على قاعة
الصلاة ذات القبة الضخمة والخزف الأزرق، بدأنا نشعر أن فروخي قد بدأ في
استعراض جمال وعمق "ثقافة أولئك المهاجرين" واتساع مجالها وانفتاحها على
العالم. ونتعرف أكثر على الانفتاح والثراء لهذه الثقافة عندما نلتقي بتلك
المجموعة من الحجيج التي تعرف عليها الأب في الطريق وكانت متنوعة في
انتماءاتها الوطنية والعرقية. إن هذا التنوع الثقافي ضمن الإسلام إلى جانب
عراقة وجمالية فنونه كان من المسائل التي اهتم فروخي بطرحها ضمن مقارنته
بين ثقافة المهاجرين المغاربة وثقافة أوروبا وفرنسا.
ونتحدث عن ثقافة أوروبا لأن فروخي أراد منذ صدر فيلمه ومن خلال اختيار
طريق سفره التوسيع من نطاق مقارنته الثقافية، فلم يجعلها فرنسية مغاربية
وإنما حولها إلى أوروبية عربية-إسلامية، وهذا كان جليا في مقارنة فروخي بين
إيطاليا وتركيا.
وقد حافظ فروخي طيلة الفيلم على تركيزه في تصوير مشاهده ضمن طرحه
الإشكالي الذي يضع الأب -بصريا ودراميا- في مواجهة ثقافة ابنه. لقد بقي
الابن رامزا للإرتباط بالثقافة الأوروبية حتى الأخير، وذلك على مستوى ملبسه
وسلوكه وهواه الذي مافتئ فرنسيا، ففي إحدى مشاهد الجزء الثاني من الفيلم
وبينما كان الأب ورفقاؤه من الحجيج يأدون إحدى الصلوات كان هو يلعب بالرمال
بأقدامه، وبعد متابعتنا لحركات قدميه في لقطات من الكلاوز آب اكتشفا في
لقطة واسعة وعالية أنه إنما كان يخط بقدميه اسم حبيبته ليزا، وليزا لم تكن
ترمز هنا إلا إلى فرنسا والثقافة والحياة الفرنسيتين.
نرجع إلى "الرحلة الكبرى" وانطلاقها من أوروبا وصولا إلى مكة لنقارنها
برحلة واحد من أهم رموز الصوفية العربية-الإسلامية في زمانه وهو ابن عربي
الذي غادر الأندلس -إسبانيا الحالية- قاصدا مكة، رغم أن ابن عربي كان قد
سلك طريقا آخر غير طريق فروخي، حيث مر عبر المغرب والجزائر وتونس ومصر،
الخ. وصولا إلى مكة (الفتوحات المكية).
فنيا كان حصر الممثلين في اثنين فقط إنما جاء لهدف تمثيلي ومن أجل
تكثيف المواجهة والتجربة والمعاناة التي عاشاها، هذا من جهة، ومن جهة ثانية
منح ذلك قيمة أساسية للخلفية التي تمثلت في ذلك التنوع والتعدد في دول
الرحلة العشرة، وجمالية هذا الاختيار في كونه جاء متناغما ومتكاملا مع
إشكالية الحكاية الثقافية، هذا رغم أن بعض التفاصيل من مثل ظهور بعض
الشخصيات الثانوية التي رأيناها على طول الطريق كانت مرتبطة أكثر بمسألة
السرد في الفيلم وهو ما سوف نتطرق إليه لاحقا.
إذن كان للبلدان التي قطعناها في رحلتنا الكبرى مع فروخي قيمة كبيرة
وكان لاختلاف بيئتها المعمارية والعمرانية والطبيعية والمناخية بين مدنية
وريفية وجبلية باردة وصحراوية حارة تنويعا وتجديدا في محتوى الصورة، بل إن
الأمر لم يختصر على هذه وحسب بل ارتبط أيضا بتفاصيل مثل تغيير اللباس وبعض
التصرفات المرتبطة بالإحساس بالبرد مثلا. إلى جانب صنع الحدث السينمائي،
أدخل ذلك حيوية على الصورة وأعطى مبررات إضافية لأساليب أداء تمثيلي جديدة.
بالنسبة لاختيار الدول التي زرناها لم يكن الأمر اتفاقا كما أشرنا،
فمن بين الدول التي زرنا تم التركيز على إيطاليا وبعض مدنها التي ترمز إلى
الحضارة الأوروبية ذات التراث المعماري والعمراني العريق مثل مدينة ميلانو
والبندقية، وبينما رغب الابن في دخولها رفض الأب ذلك مبررا رفضه بقلة الوقت
ومخفيا وراءه غربته عن تلك الثقافة، كما أن اختلافهما الثقافي يتعلق
باختلاف مقاربتهما للسفر ومفهوم السياحة، فبينما اتخذ الابن كاميراته مصورا
بعض المشاهد التي أعجبته تمادى الأب في المواضبة على تعبداته.
في إسطنبول تعرفنا على شخصية ذلك الرجل التركي الطريف جدا الذي يتقن
الفرنسية لأنه تعلمها في فرنسا أين قضى ثلاثين عاما، وقد سهلت اللغة
التفاهم بينه وبين الإبن، وطرحت صحبته كبديل للعلاقة مع الأب الذي أظهر
امتعاضا من الرجل التركي الذي لم يكن سوى مثال آخر للمهاجر، ولكنه مهاجر
سابق. فبعد سنوات من الهجرة تزوج فيها فرنسية وأنجب منها أبناء، ترك فرنسا
بمن فيها وعاد إلى بلاده وتزوج من امرأة أرانها فروخي فبدت من خلال هيئتها
تقليدية تماما، إن حكاية الرجل التركي هي مواصلة في الحقيقة لحكاية بطلينا
وإن اختلفت عنها.
وبغظ النظر عن طريقة صرف فروخي لشخصية الرجل التركي واتهامه له
بالسرقة قبل أن يبرأه منها فيما بعد، فإنه أي فروخي قد أظهر احتفاء كبيرا
بعراقة الثقافة والحضارة الإسلامية التركية متمثلة في مدينة اسطنبول، وذلك
سواء على مستوى ذاك التصوير الثري لآفاق المدينة الطبيعي والعمراني أو من
خلال نوعية الحياة فيها من خلال تلك الجلسة الجميلة التي انعقدت في بيت
الرجل التركي حيث شاركه الابن رضا شرب الشاي والنرجيلة وأكل الحلوى
التركية. وحتى بعد ذلك حين شربا الخمر حتى سكرا، فإن الأمر قد جرى في إطار
حضارة وثقافة محتفى بها، فرغم أن الخمر محرم في الإسلام فقد تم تصويره في
الفيلم تحت مظلة إسلامية وفي ظل فتوى صوفية، لقد روى الرجل التركي حكاية عن
صوفي جاءه رجل وسأله عن حلية الخمر فأجاب الشيخ الصوفي أن المسألة نسبية
وترتبط بالشخص الذي سيشرب، فإن كان هذا الشخص عبارة عن بركة صغيرة من الماء
فإن كأسا واحدا من الخمر يمكنه أن يأثر فيه ويغير لون ماء بركته أما إن كان
الشخص بحرا محيطا فإنه مهما كانت أعداد كؤوس الخمر التي سوف يشربها فإنها
لن تأثر.
لقد زاد سُكر الإبن من تعقيد العلاقة بينه وبين أبيه، ولكن سمحت
الحكاية ورمزيتها باحتفاء فروخي ثانية بتركيا بلد جلال الدين الرومي وشمس
تبريز.
لن يتوقف الاحتفاء بالثقافة الإٍسلامية عند هذا الحد. ومن لطائف شغل
فروخي أنه كان يقارب معالم هذه الثقافة ويتعرف عليها من خلال الابن رضا
وليس من خلال الأب، الذي غيب تقريبا في فترة إسطنبول. وهي الفترة الوحيدة
التي نسي فيها رضا حبيبته الفرنسية ليزا، وفي عمان سكر الابن ثانية وخرج مع
إحدى الراقصات التي تعرف عليها في ملهى ليلي.
بعد هذا التطور الكبير في سلوك الابن وتدهور العلاقة بينه وبين أبيه
لخص إسماعيل فروخي المرحلة بذاك الخروج للوالد على قدميه من الفندق حاملا
حقيبته في يده وابنه يلاحقه في السيارة يطلب منه الصفح. كانت هذه هي
المناسبة الثانية التي كادت تأخذنا فيها أحداث الفيلم في مجرى الافتراق بين
الأب وابنه. المناسبة الأولى كانت أيضا في بلد عربي إسلامي حيث أصر الوالد
على تقديم ورقة نقدية كصدقة لتلك المرأة عند نبع الماء، وأصر الابن على
منعه، الأمر الذي انتهى بصفع الأب لابنه. هذا الشجار انتهى إلى هروب الإبن
وتسلقه مرتفعا قريبا في لقطة مبهرة بصريا وتشكيليا لتنتهي بجمالية كبيرة
بعد ذلك تمثلت في لحاق الأب به لاهثا متعبا ووعده إياه إن واصل معه الطريق
حتى عمان أن يبيع سيارته ويكمل حجه وحده ويتركه يستقل الطائرة إلى فرنسا.
بالنسبة لتجربة الطريق في الفيلم والبلدان التي مررنا بها فقد كانت
مهمة جدا سينمائيا في ظل وجود شخصين رئيسيين اثنين لا يفترقان أبدا. ولكن
هذا الحضور التمثيلي المختصر كان سببا لتحد سينمائي تجاوزه فروخي بأسلوب
مشوق في سرد الحكاية، فمع وجود شخصيتين ثنتين فقط فإنه يمكن لأحداث الحكاية
أن تأتي متوالية متسارعة تفتقر إلى فسحة الزمن الذي يسمح بهضم الأحداث
وترقب مستجداتها، إن ما فعله فروخي على مستوى الحكاية وأسلوب سردها هو أنه
كان يصور لنا حكايتين متوازيتين متفاعلتين، فمن جهة صور الاختلافات
والتجاذبات بين الأب وابنه في كل شيء تقريبا حتى في طريقة السياقة وسرعتها
والطريق الذي عليهما سلوكه (الطريق السريع أو الطريق العادي) ومن جهة ثانية
وبشكل مواز كان فروخي وهو يصور لنا الوالد في انغماسه في الصلاة وقراءة
القرآن يروي لنا حكاية عاطفية جمعت بين الإبن وصديقته الفرنسية ليزا التي
تعرفنا عليها من خلال صورتها وسمعنا صوتها في الهاتف. وقد أبدع فروخي في
المراوحة بين الحكايتين بحيث كان يمنحنا وقتا للتعرف على الشخصيات من خلال
الحكاية الأولى، ويشوقنا ويمنحنا رغبة في مواصلة الفيلم من خلال الحكاية
الثانية. وهنا نشير إلى أن ظهور بعض شخصيات الطريق مثل تلك العجوز ذات
اللباس الأسود واليد الممدودة وذلك الدليل الثرثار وصراف العملة وتخاطبه مع
الأب بالإشارات، كل تلك الشخصيات إنما ظهرت كلها ضمن فلسفة الطرح الأول من
الحكاية وكانت تعمق غالبا من تشنج الابن وأبيه وتعرفنا أكثر بخصائصهما
الشخصية وتعطي فسحة للحكاية الثانية أن تتشكل، وفي هذه الحكاية تعرفنا على
حياة الابن العاطفية وأسلوب تعاطيه معها.
وقد تمثل تطور هذه الحكاية في رد فعل الوالد وسرقته لمحمول ابنه بينما
كان نائما والتخلص منه، بعد ذلك جعلنا فروخي ننتظر متشوقين متى يتفطن الابن
إلى فقد محموله وماذا سيكون رد فعله وبماذا سيجيبه أبوه. هذه الردود على
الأحداث لم تكن تأتي سريعة وإنما تجيؤ بعد عدد من المشاهد، الأمر الذي كان
يصنع نوعا من الانتظار المشوق والمثير والطريف، هذا الأسلوب تابعناه أيضا
في حكاية صورة ليزا التي انتبه إليها الأب في مناسبة ثانية فأخفاها هذه
المرة ولم يرمها، لتظهر لاحقا في محاولة من الوالد لإرضاء ابنه أو التعبير
عن رضاه عنه، ولم يتفطن الابن إلى اختفاء الصورة إلا متأخرا عندما تجاوزنا
مرحلة تركيا، لأن الابن كما قلنا كان قد نسي نفسه وحبيبته أثناء هذه
الفترة، نفس التشويق والتوازي في السرد الدرامي بين الحكايتين جرى مع
المكالمة الهاتفية التي قام بها الابن مع ليزا من هاتف غرفة الفندق، حيث
سأل الأب ابنه في السيارة وهو يطالع ورقة الحساب إن كان قد طلب فرنسا
فأنكر.
هذا السرد للحكايتين المتوازيتين وخاصة ضمن أسلوب غلبت عليه الطرافة
والفكاهة كان مشوقا وجذابا. ويعتبر هذا الأسلوب الحكائي الذي اعتمده فروخي
من أعظم مميزات الفيلم السينمائية.
كما تجدر بنا الاشارة أيضا إلى عمل فروخي على بعض الأشياء أو الذوات
ذات الرمزية الحضارية المرتبطة بالثقافة الغربية مثل المحمول والصور كما
أشرنا، وكذلك آلة التصوير، فقد قدم شقيق رضا إليه في أول الفيلم كاميرا
التصوير وطلب منه أن يأخذ له بها بعض الصور التذكارية، وبالفعل فقد رأينا
كيف استعملها الابن في أول الفيلم، ولأنها من غير عالم الأب فقد وجد هذا
الأخير حيلة في التخلص منها، لقد قام أخيرا -عوض بيعها في إحدى البوادي
العربية لحاجته إلى المال- بمقايضتها بخروف، بعدها أركب الخروف في السيارة
فكان صوته مزعجا للابن الذي ضاق به ذرعا، فاضطر الأب إلى التفكير في ذبحه.
رمزية الخروف وكبش العيد المعروفة بازعاجها للفرنسيين خاصة حين ترتبط
بالذبح هو ما قصده فروخي في هذه المشاهد، وبالفعل رأينا كيف أخذ الأب
السكين واستعان بابنه من أجل ذبح الخروف، في هذا المشهد أرضى فروخي
الفرنسيين بإنقاذ الخروف من الذبح حين فر من الابن وأبيه واختفى بين جدران
تلك القرية الخالية من السكان.
جاءت نهاية الفيلم مفاجئة حيث أتت بموت الأب أثناء قيامه بمناسك الحج
في مكة التي أرانها فروخي أثناء تصوير احتفالي واحتفائي لا يخفي مدى افتخار
المخرج بالثقافة العربية الإسلامية وبمنسك الحج نفسه.
وموت الأب بعد بلوغ هدف رحلته الكبرى جاء يشبه في رمزيته نهاية
تراجيدية إغريقية لقتل الأب، وربما تحيل النهاية أيضا على سلوكات بعض
الإيسكيمو وشعوب أخرى في دفن الأب حيا عند هرمه. ما يهمنا هنا هو أن الابن
رضا بدى مختلفا بعد هذا الحدث الوجودي، فقد أخذ من خصائص شخصية أبيه
وثقافته العربية الاسلامية. وقد بادل الابن وأبوه في مشهد من الفيلم
الاعتراف بتأثرهما المتبادل ببعضهما. أما عند موت الأب فقد كان لبكاء رضا
وشهيقه ولوعته وتقلبه جنب أبيه المسجى تعبيرية كبيرة عن تعلقه وارتباطه
القوي به، وهو غير الارتباط الذي لاحظناه من الابن تجاه أبيه طيلة الفيلم
حيث كان يلجؤ إليه عند الصعاب رغم التجاذبات بينهما.
نأتي الآن إلى ذكر ما يمكن أن ندرجه ضمن سقطات الفيلم، وأولها حضور
الشَّحَاذَة البارز، لقد انتهى الفيلم بمشهد على إحدى المتسولات، وهو لم
يكن المشهد الوحيد من نوعه في الفيلم، سبقه مشهد المرأة المتسولة المصطحبة
ابنتها معها عند نبع الماء والتي كانت سبب شجار عنيف بين الابن وأبيه، كان
هذا المشهد رغم محوريته السردية مشوها على غرار بعض الأفلام الغربية لشخصية
المرأة العربية والإنسان العربي عموما، لقد ظهر امتهان الشحاذة في الفيلم
منذ بدأنا نستمع إلى أصوات ولهجات عربية، وفي هذا المشهد صور فروخي المرأة
العربية منقبة وهي تمد يدها وتلح في السؤال، وعندما تصدق عليها الأب رغم
حاجته إلى المال افتك الابن الورقة المالية من يدها بعنف دون أي اعتبار
لانسانيتها، هذا المشهد رغم انتهائه بصفع الأب لابنه إلا أن فروخي كان
يمكنه أن يصوره بأقل إهانة لتلك المتسولة العربية.
موضوعة التسول حاضرة جدا عند فروخي، ففيلماه الطويلان لا يخلوان منها،
فقد لاحظنا في فيلم "رجال أحرار" حضور شخصية ذلك المتسول العربي النحيل ذو
الوجه الغريب والذي كان يجلس عند باب مسجد باريس. في فيلم "الرحلة الكبرى"
كان امتهان التسول على عكس فيلم "رجال أحرار" مرتبط بجنس النساء.
من جهة أخرى كانت هناك سلبية واضحة في التعامل مع شخصية المرأة
العربية عموما فهي في الفيلم إما منقبة شحاذة أو عارية راقصة بائعة هوى أو
تابعة للزوج ودون رأي مستقل كما في مثال أم رضا.
وفي نفس إطار انتقادنا للفيلم ربما أمكننا إدراج موت الأب ضمن عناصر
الفيلم الأقل حبكة، أولا بسبب تلك الرمزية التي ذكرنا آنفا وثانيا لأن هذا
الحدث قد بدى رغم قيمته الدرامية شديد المباغتة، ففروخي الذي ربما تجنب أن
يجعل سبب موت الأب بعض ظروف الحج كالتزاحم مثلا خاصة مع حضور ذلك العدد
الهائل من الحجيج (خوفا على الصورة المتألقة التي أعطاها للحج في فيلمه)
وجد الحل في تصوير (ضمن إطار النصف الأول من الفيلم أي مرحلة أوروبا) وعكة
صحية أصابت الأب فدخل على أثرها إلى المستشفى، كان هذا الحدث الصحي بمثابة
الإعداد النفسي والسردي لتلك النهاية من موت الوالد، هذا الإعداد وربطه
بهذا الحدث المهم بدى غير مقنع تماما ولو أن النهاية كانت مقنعة كما قلنا.
مع اعترافنا آنفا بجمالية أن يعتمد فروخي في الحوار بين الأب وابنه
على اللغتين العربية والفرنسية، فإننا نأسف من ناحية ثانية لاستعماله للهجة
المغربية عند تخاطب بقية شخوص الفيلم بالعربية، حيث لاحظنا أنه حتى الحاج
المصري الذي التقيناه من حول الحج كان يتكلم مصرية ضمن لهجة مغربية.
ولأننا شاهدنا لفروخي فيلمه الأخير "رجال أحرار" فإننا نعتقد أن شخصية
بطله الشاب قد تطورت دراميا -رغم ارتباطها بزمن سابق تاريخيا- لتصبح أقل
ترددا وأكثر نضجا وإيجابية في المشاركة في صناعة التاريخ الإنساني، وذلك
بارتباطها التاريخي بقضايا الوطن الأول (الجزائر في رجال أحرار) ووطن
الإقامة (فرنسا) لتنخرط ضمن حرب التحرير الجزائرية وفي ذات الوقت تشارك في
تحرير فرنسا وأوروبا من النازية وتساهم بقوة في الدفاع وحماية بعض ضحايا
تلك النازية مثل اليهود.
تبدو شخصية الإنسان المركبة في فيلمي إسماعيل فروخي الطويلين منفتحة
على عمقها المغاربي وحضارتها العربية-الإسلامية ومتسالمة مع تاريخها
الأوروبي الفرنسي وهي فوق ذلك متواضعة في نظرتها إلى ذاتها رغم نقديتها
الواضحة.
في النهاية نعتقد بأن إسماعيل فروخي قد أثبت من خلال فيلميه الطويلين
"الرحلة الكبرى" ثم "رجال أحرار" أنه من ذلك الصنف الرفيع من المخرجين
العالميين الذين وهم يطرحون قضايا تهم مجتمعاتهم المحلية والوطنية
ليعالجوها في أدق تفاصيلها، فإنهم إنما يقاربونها ضمن أبعاد إنسانية تربط
تلك المجتمعات وشخوصها بالإنسانية جمعاء وهواجسها المشتركة.
سينماتك في 30
سبتمبر 2012
|