من يتأمل الدراما التاريخية
الدينية العربية سواء السينمائية أو التلفزيونية، منذ فيلم الرسالة عام
1976م ومسلسل "على هامش السيرة" عام 1978م وحتى مسلسل "عمر" 2012م، مروراً
بمسلسل "صلاح الدين الأيوبي" وفيلم "الناصر صلاح الدين" وفيلم "القادسية"
وعشرات المسلسلات الأخرى خلال الأربعة عقود الماضية: "رسول الإنسانية" و"لا
إله إلا الله" بأجزائه الأربعة و"عمرو بن العاص" و"صقر قريش" و"ربيع قرطبة"
و"ملوك الطوائف" و"أبو هريرة" و"خالد بن الوليد" و"أبو جعفر المنصور"
و"القعقاع بن عمرو" و"الحسن والحسين" و"صدق وعده" و"أبناء الرشيد" و"عمر بن
عبدالعزيز" و"السيد المسيح" و"الإمام الغزالي" وغيرها الكثير الكثير. يجد
أنها أعمالاً ركيكة مختلة المصداقية عديمة الدقة الفنية والحساسية
التاريخية، تحاكي بعضها البعض وقد تأطرت ضمن منهجية درامية مرتجلة غير
علمية خالصة، فأصبحت هي الأساس الذي تقوم عليه والنمطية المتبعة في
صناعتها، رغم أن بعضها باهظ التكاليف المادية وبالغ الجهود التنفيذية.
وما تحتويه هذه المسلسلات
قائم على نظرة تخيلية وآلية مشوشرة غير علمية كرستها الصناعة المصرية
السطحية ثم ثبتتها الإنتاجية السورية التجارية الغشاشة، مع التظاهر الدعائي
بالإتقان والجودة والجدية.
المحزن أن هذه المنهجية والطريقة
التخيلية التي لا تمت للتاريخ إلا بقدر يسير يلامس العناصر العامة ولا
يتوخى التوثيق الرصين، أصبحت راسخة وثابتة في عقلية المشاهد العربي ودخلت
ضمن ثقافته و وعيه ومسلماته، بل أن بعض الأعمال اعتبرت لديه في خانة
القداسة، مثل فيلم الرسالة، لدرجة أنه لا يناقشها ويرضى بها جملة وتفصيلاً،
فقط أحياناً يفكر، أو هكذا أرادوا له أن يفكر، في حرمتها أو حلتها، لكي
تخلق عنده حافزاً للمشاهدة، ومع كل مسلسل تتصاعد المحاججة حول الحلال
والحرام في ظهور شخصيات الرسل والصحابة، ويُذكّر البعض بفتوى الأزهر التي
تحرم ظهور الأنبياء والرسل والصحابة، غير أن تضارب فتاوى العلماء تزيد في
كل الأحوال من نسبة المشاهدة، وهذا هو المطلوب للمنتجين، ومن ثم تكدس
الإعلانات في فترة العرض ويستفيد المعلن والمحطة الفضائية. أي أن حتى حالة
التفكير التي قد تنتاب المشاهد هي بفعل قصدي تجاري غير نزيه. وبالتالي لا
يمكن أن تُعامل هذه الدراما كوثائق أو مرجعيات تاريخية للأجيال الراهنة
والقادمة.
إن فيلم الرسالة بكل ما حقق من مكانة وتأثير لا يمكن إنكارهما، لم
ينقل صورة مستندة على منهج علمي تاريخي دقيق وتم تنفيذه وفق تصور اجتهادي
غير محكم، رغم أن من كتب قصته ووضع له السيناريو والحوار أدباء يشار إليهم
بالبنان: عبدالحميد جودة السحار، وتوفيق الحكيم، وعبدالرحمن الشرقاوي،
ومحمد علي ماهر وهاري كريج. فكانت النتيجة أنهم وضعوا اللبنة الأولى في
بناء آلية الدراما التاريخية الدينية، وهي لا تمت للحقيقة إلا بتخيلها
الاجتهادي في مجمل النواحي الفنية، ولا شك أنهم وضعوا بجوار تلك اللبنة
لبنات مستندة على العلمية والبحث الدقيق، والأمر لا يحتمل الدقة العلمية في
بعض العناصر والاجتهاد المزاجي في البعض الآخر.
لقد كان من الممكن أن تتطور هذه اللبنات في الأعمال السينمائية أو
التلفزيونية التي تلت فيلم الرسالة، حتى تصل الى مرحلة الإجادة التامة،
فالمتأمل في الفيلم تصيبه الحيرة من إتقان بعض المشاهد واكتمالها الفني
التاريخي ومن ترهل وعدم منطقية بعض المشاهد الأخرى، من الموضوعية التاريخية
في جزئيات ومن الذهنية الصرفة في جزئيات أخرى. فعلى سبيل المثال لا يفوت
المشاهد منظر الكعبة وقد اكتست قماشاً مطرزاً بالأسود والرمادي مزخرفاً
بتموجات هندسية من المستحيل تصميمها في ذلك الزمن، إذ تصف الكتب التاريخية
حقيقة شكل الكعبة آنذاك.
ولا بد أن المشاهد تساءل هل كانت العرب تجبر عبيدها أن يكونوا عراة
الصدور ولا يرتدون سوى أزر بيضاء ناصعة؟ بينما السادة يتبخترون في المنعّم
والنظيف والأنيق من الثياب والعباءات والعمائم والنُطق الفاخرة. ليس ذلك
فحسب فهناك العشرات من المغالطات التاريخية الموضوعية المرتبطة بالحدث،
وهذه الأخطاء أحسبها توجب محاكمة العمل في حينه، وتضع مخرجه في موقف مساءلة
عسيرة، حيث أنه يتلاعب بمقدرات الشعوب التاريخية، لكن آلة الإعلام العربي
(والنقدي) صفّقت طويلاً للعمل كونه عرض في عواصم العالم، وجهلوا أن عملية
العرض هذه تخضع لآلية التسويق والإدارة الترويجية وليست لها علاقة بالإجادة
والمصداقية، ولعل عزوف القائمين على جائزة الأوسكار عن منحه أية جائزة يعود
الى ذلك، فهو غير مقنع بالمعايير الأوسكارية، لذلك تم ترشيح موسيقاه فقط
للجائزة ولم ينلها، وفي ذلك قصدية كان ينبغي أن تؤخذ في الحسبان.
وخلال حياة مخرجه مصطفى العقاد (1930م ـ 2005م) أجرى عشرات اللقاءات
والحوارات وكان يُنظر إليه كبطل مبدع لا يشق له غبار، فمنطلقاته، رحمه
الله، كانت لخدمة الدين الإسلامي، كما قال. ولكن ليس هذا شاغلنا هنا، كما
أنه ليس شاغلنا أنه مخرج حذقٌ وبارع في استخدام تقنيات السينما، ولكن
الشاغل هنا عن أمانة ينبغي أداءها بكل إخلاص. فلو تمت محاكمة العمل آنذاك
لارتقت الأعمال التي لحقته. وخطأه الذي غاب عنه ومات وهو لا يدركه أنه لم
يعين لجنتين من الأخصائيين: الأولى تشرف على تدقيق الحدث والاكسسورات
والتصوير والثانية لمراجعة المشاهد واللقطات وهي حديثة التصوير لإجازتها أو
عدمه. والحال ينطبق على مسلسل "على هامش السيرة" وعلى مخرجه أحمد طنطاوي.
قبل هذين العملين، خلال الستينيات، كانت تُعرض في بعض محطات التلفزيون
الخليجية أعمالاً تلفزيونية لبنانية المنشأ تحت مسمى "تمثيليات"، اشتهر
منها ما أنتجه وشارك به الممثل اللبناني رشيد علامة (1931م ـ 2002م) منها
مسلسلات: "رجال القضاء" و"العقد الفريد" و"الثواب" و"مقامات بديع الزمان
الهمذاني" و"عمر بن عبدالعزيز" و"مع الصابرين". والمنطق يقول أن تلك
الأعمال، رغم بساطة إنتاجها التي جعلتها تقترب من الحس التاريخي، كانت
متوافقة مع الحقبة الزمنية ولفتت الاهتمام بالتاريخ الإسلامي من منظور
درامي وعملت على التدقيق الفني في بعض العناصر، وفي مقدمتها الحدث
ومعالجاته وفق سيناريو غير متكلف بالتخييل أو المبالغة، إذ كانت تنفذ في
استوديوهات داخلية بإمكانيات محدودة، ومنها كذلك اللغة الفصحى المجودة التي
نطقت بها الحوارات، وأيضاً الملائمة السينوغرافية ـ الى حدا ما ـ فيما
يتعلق بالملابس والماكياج والديكورات والمفروشات الداخلية. فهذه الأعمال لم
تطور وعبرت على الثقافة الدرامية العربية مروراً سريعاً، ولم تعرض في معظم
الدول العربية، فلم يكن عصر الفضائيات والبث عبر الأقمار الصناعية قد بدء،
في حين أنه لو تم عرضها على نطاق واسع وتم الاشتغال على نسقها لربحت
الدراما العربية مكاسباً جمة ولسارت من حسن الى أحسن.
والمفارقة الكبرى التي تعتري الأعمال التي عرضت وتعرض عبر الفضائيات
أنها تقع تحت مسائلة مفادها: كيفية استقامة الأمر والجمهور يقرأ روايات لا
حصر لها في كتب التراث تخبر فيما تخبر عن حياة فقيرة وندرة كبيرة في المأكل
والملبس والمسكن، وكيف ـ على سبيل المثال أيضاً ـ أن عمر بن الخطاب كانت
عباءته قصيرة أقرب الى ركبته وبها اثنتي عشر رقعة، وأنه كان يعرض عن صحابته
إذا غنموا الغنائم وارتدوا ناعم الثياب، كيف نشاهد هؤلاء الصحابة وهم زاهين
بملبسهم وبحسن هندامهم؟
في مسلسل "القعقاع بن عمرو" تظهر مدينة الكوفة على أنها مدينة مبنية
بالحجارة، في حين كانت الكوفة في العصر الراشدي مجموعة من المضارب والأعشاش
من القصب بُنيت على عجل لإيواء عائلات جيوش المسلمين، وتمت كسوتها بالطين
بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب. وهذا مثبت في وثائق ومراجع كثيرة.
في مسلسل "عمر" يظهر عمر بن الخطاب في شارة البدء وهو ممسك بعصاة
طويلة، والثابت أن عمر رضي الله عنه لم يكن يتوكأ على عصا إنما كان يحمل
درة طيلة حياته، والدرة كما هو معروف قصيرة لا تتجاوز الذراعين...الأمثلة كثيرة وتنطبق
على كل واحد من هذه المسلسلات
.
المتمعن في حوارات
الممثلين في هذه الأعمال، طريقة عرض الأحداث، الديكورات، الملابس
والاكسسورات. العمائم المتقنة اللف ذات الطبقات المتعددة والثياب المبتكرة
الفضفاضة والملونة التي يرتديها العرب. ثم الثياب الفاخرة المقصبة ذات
الألوان الزاهية والمحلاة بفصوص الأحجار الكريمة والمجوهرات التي يرتديها
الفرس والرومان ومقوقس مصر.
أشكال الناس: لحاهم المهذبة والسكسوكة المشذبة وشعورهم المملسة
وسحنتهم البراقة وماكياج الممثلات الجميل وزينتهن البراقة، إذ توجد صور
فتوغرافية محفوظة في متحف مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية
بإسطنبول (إرسيكا) لأهل مكة والمدينة قبل نحو مائة سنة فقط، يظهر فيها
الناس بهيئات متواضعة جداً.
الظهور الدائم للجموع والمشهدية الاستعراضية الملحمية في كل لقطة.
طريقة الكلام المبنية على الخطب العصماء المتشنجة، بعض الجمل والكلمات التي
ليس لها أصلا حقيقياً وغدت من أساسيات اللغة المحكية (ويحك. صبئت.
ياعدوالله. الخ) ذلك القاموس الذي وضعه مسلسل "على هامش السيرة". أتعجب كيف
يقول بلال بن رباح أن أمية بن خلف عدو الله! فهذه اللفظة لم تكن دارجة في
تلك الفترة وفكرة عداء الله لم تكن موجودة بالأصل، لأنها جاءت في القرآن
بعد ذلك. الأمر كان بمثابة نظام جديد جاء لينصر الضعفاء ويضمن لهم العيش
الكريم ويخلّصهم من عبودية الأصنام، ومحمد (صلى الله عليه وسلم) هو المبشر
بهذا النظام/الدين.
البيئة المدنية: البيوت والطرقات وشكل الكعبة والقصور من الداخل
والأسواق. سيناريو المعارك والغزوات والفتوحات... الخ، كل ذلك مختلق بصورة
متأثرة بالأدب الإسلامي الخيالي المشتهى أكثر من الواقع الحقيقي، ما نتج
عنها نوعاً آخراً من الدراما هي الفانتازيا التاريخية التي ربما يجد لها
المشاهد مبررات كثيرة لجهة أنها غير واقعية وخيالية في الأساس.
كل ذلك في مجمله يبعث على
التساؤل: هل هم كانوا كذلك بالفعل؟ هل كانت تجري الأحداث بهذه الكيفية؟ وفق
هذه السيناريوهات غير المقنعة؟
إن كتب التراث لمن يقرأها ويتمعن بها سيجد
أنها تؤكد بأن الحياة كانت غير هذه المعروضة كيفما أتفق... وتكفي نظرة على
بعض الأعمال العالمية التاريخية التي توخت الدقة الموضوعية والسينوغرافية
المدروسة وانتهجت العلمية الصارمة في رصد تفاصيل البيئة والمكون البصري
والحدث الحقيقي، تكفي نظرة أن تقنع الجماهير بأن ما يقدمه العرب محض هراء.
مثلاً: "الغواية الأخيرة للمسيح"، رغم جُنح الموضوع عن التوثيق التاريخي،
الأمر الذي أقام القيامة على مخرجه مارتن سكورسيزي، لكنه مقنع بصرياً في
جميع مشاهده عدا مشاهد (تخليص مريم المجدلية للمسيح)...الخ. وفيلم "الآم
المسيح" رغم المبالغة في مشاهد التعذيب، وفيلم "الحرب والسلام" و"مسلسل
الشمال والجنوب"، وفيلم "هرقل"، وفيلم "المصارع"، وفيلم "لورنس العرب"
وفيلم "طروادة" وفيلم "الاسكندر الأكبر" وربما فيلم "عمر المختار" هو
الوحيد الذي يمكن أن يحترم كعمل عربي متقن وهو التحفة الأجمل لمصطفى
العقاد، بسبب الإنتاج العالمي دون شك. والأمثلة كثيرة للأعمال العالمية
المتقنة.
بالطبع هناك بعض الأعمال
العالمية الركيكة درامياً رغم ضخامة إنتاجها أيضاً، ولكنها لا تصل الى درجة
ركاكة الإنتاج العربي، ويمكن إدراجها، ظلماً، ضمن منهجية الدراما العربية،
مع الإعتراف بجحافة هذا التصنيف والمقارنة، مثل فيلم "الوصايا العشر" وفيلم
"سبارتكوس" وفيلم "موسى" وبعض الأفلام التاريخية الرومانية الاستعراضية،
والأمر يحتاج لتقصي بشأنها.
لكن الأدهى أن جميع شركات
الإنتاج التلفزيوني العربية تدعي بأنها تُعيّن مجموعة من الاستشاريين
التاريخيين، وتضع أسمائهم في شارات المقدمات... وهنا تتجسد مفارقة أخرى. إذ
يمثل ذلك دلالة بالغة على تخلف الإنتاج العربي فنياً ومعرفياً وثقافياً؟
فكيف تصنع هذه الأعمال تحت عناية استشاريين أكفاء وتخرج للجمهور بهذه
الصورة الهزيلة الكاذبة.
إن المخرجون العرب لا يهتمون إلا بالحبكة وتسلسل الأحداث والتصعيد
والتشويق، ضاربين بالمصداقية البصرية والتاريخية عرض الحائط، ومن هنا وجبت
محاكمتهم قضائياً وفنياً.
يبقى أن نؤكد أن الكثير من الكتاب والنقاد والمؤرخين النابهين قد
كتبوا بالتفصيل عن الأخطاء والمغالطات التاريخية التي ظهرت في كل مسلسل،
ولعل من يبحث في المواقع الإلكترونية يجد الشيء الكثير. ومع كل ذلك القصور
والتردي والاختلاق غير المسؤول ومنظومة إنتاج هذه المسلسلات المفبركة
مستمرة وفي تزايد مطرد وينال مخرجوها ومنتجوها وممثلوها الجوائز والتقدير
والمديح في المهرجانات
.
سينماتك في 30
يوليو 2012
|