فيلم "ضربة البداية"، للعراقي شوكت أمين كوركي، واحد من أجمل الأفلام
التي يمكنك أن تشاهدها.
يصور الفيلم قَدَرَ شاب كردي جعله حبه لفتاة ربما تنتمي إلى غير
إثنيته أن ينفتح على عواطف ومشاعر فوق الإثنيات والاصطفافات الطائفية
والحزبية. وقلنا "قَدَرٌ" لأن الفيلم يصور قَدَرَ الحياة وإيجابيتها
ولطافتها حتى وهي تنشؤ بين براثن حرب عمياء لا تعرف أين تضرب، فبعد أن ذهبت
الحرب بساق الشقيق الأصغر زهقت روح الشقيق الأكبر وهو بصدد الانتصار على
الكراهية، ذاك الدافع لكل الحروب. وقد كان الانتصار كما قلنا بسبب الحب
وكذلك بسبب ممارسة لعبة كرة القدم ضمن الروح الرياضية وقوانينها المعتمدة
و"حَكَمٍ محايد"، وهي إشارة من المخرج لتكون مثل هذه المبادئ هي أساس
التعاطي بين البشر.
فوق تميز الفيلم بهذه القصة الإنسانية وبأسلوب طرحها اللطيف والطريف
سينمائيا، بدى (الفيلم) مكتنفا للعديد من المفاجئات الجميلة، لعل أولها
موضوعه.
وسبب أن يكون موضوع الفيلم مفاجئا، أنه يراوغ في مضمونه كل انتظارات
الجمهور، فبالنسبة لفيلم أخرجه رجل كردي وجزء من إنتاجه كردي وأغلب ممثليه
من الأكراد وصور في كردستان، كنا ننتظر أن لا تخرج طروحاته عن دائرة
إشكالات ومشاغل هذه الفئة من العراقيين التي عانت المظالم بسبب كونها
مختلفة اجتماعيا وثقافيا ولأنها طالبت يوما بحقها كاملا في المواطنة أو في
الاستقلال. في ظل هذه الانتظارات، وعندما نجد أن موضوع فيلمنا إنما يتمحور
حول قيمة التقارب والتعايش وليس الانفصال، وأن ذلك يأتي من أحد أفراد تلك
الفئة العراقية المتضررة إلى الحد الذي أصبحت لا تحلم فيه إلا بالانفصال،
فإن ذلك لا يتركنا دون إحساس بالمفاجئة، وهي مفاجئة سينمائية بالأساس لأن
مثل هذه الاختيارات للموضوع إذا تكاملت مع طرح درامي متقن تعطي للفيلم جوه
وعبقه النفسي والروحي والوجداني.
لقد صنع الاختيار الموضوعي في "ضربة البداية" لشوكت أمين كوركي سحر
الفيلم، لأنه عزز من الاعتقاد بقدرة الإنسان على التجاوز واللقاء بغض النظر
عن التاريخ والثقافة والسياسية ومهما كانت السلبيات التي أحاطت بهم.
تجري أحداث الفيلم في ملعب مهجور لكرة القدم استوطنته أعداد غير قليلة
من العوائل العراقية ذوات الإثنيات المختلفة. أمام هذا المكان، وحين نعلم
أن لعبة كرة القدم سوف تحضى بالجزء الأكبر من وقت واهتمام الفيلم، فإنه من
السهل علينا أن نتخيل أن في هذا الاختيار بعض سهولة في التعاطي مع إشكالية
الفيلم، تصوير ممارسة كرة القدم في ملعب كرة قدم!!! كم يبدو الأمر مبسطا
ودون جهد إبداعي حقيقي، ولكن الأمور لم تجري كذلك في الواقع، لقد عمل شوكت
أمين كوركي على عدم استحضار رياضة كرة القدم في فيلمه -بغض النظر عن إطار
تصويره الذي هو الملعب- إلا بعد أن أنسانا هذا الإطار بطرحه للمكونات
الأساسية في الفيلم والمرتبطة ابتداءا بالشخوص وحكاياتهم.
ولتوضيح ما قلنا علينا أن نرجع أدراجنا إلى بداية الفيلم، حيث استفتح
كوركي مشاهده بصورة رجل راكب على دراجة نارية وطفل رديفه، لم نكن نرى وقتها
ملعب كرة القدم، كنا في الطريق من المدينة وأخذتنا الكاميرا في جولة مطولة
نسبيا من خلال مشاهد بعيدة وواسعة، في وقت من الأوقات وجدنا أنفسنا وسط
الملعب، كنا نلاحق الدراجة على خلفية المدارج القديمة والتي كانت تملؤ
اللقطة وتزينها، كانت دراجتنا تمشي في مسارات الركض المهجورة، وكنا نلاحظ
أن للملعب المهجور سكانا جددا يقطنون أكواخا من الصفيح، ولكن ما كان يهمنا
أكثر دراميا هو تينك الشخصيتين اللتين كانتا تستقلان الدراجة النارية
وتتجهان إلى مكان ما.
انتهت الدراجة النارية في الأخير إلى إحدى بيوت الصفيح المعمورة، داخل
هذا المكان وفي ظل بيت العائلة تعرفنا على صاحب الدراجة الذي هو بطل
فيلمنا، وتعرفنا على الطفل الذي كان معه وهو شقيقه، كما تعرفنا على أحد
الأصدقاء وهو ذلك الرجل الثخين جدا الذي تربطه ببطلنا علاقة ود وصحبة، ونحن
نتقدم في الفيلم ولا نبرح جزءه الأول استكشفنا علاقة بطلنا بجارته، تلك
الفتاة المتعلمة، إطلعنا أيضا على ظروف بطلنا الاجتماعية والمادية، كما
تعرفنا على مأساة ذلك الطفل الذي فقد إحدى ساقيه وعطف ورحمة شقيقه الأكبر
به ورعايته وله، من التفاصيل الأخرى التي كانت لها أهميتها في تصوير الحياة
ورسوخها في المكان -وهي بالفعل طريفة- تلك الشجيرة النابتة عند مدخل الكوخ
الصفيحي بيت بطلنا.
كل هذه المعطيات عن أبطال فيلمنا وعن حياتهم (ومن بينهم نساء وأطفال
وهذا مهم جدا) جعلتنا ننغمس بقوة في مسألة الروابط العائلية والانسانية
ودفئ الحياة رغم ظروف الحرب ومآسيها المختلفة، علما وأننا لم نكن حينئذ
نشعر بالحرب بدرجة أولى، فهي لم تكن تظهر لنا إلا من خلال عبور تلك
المروحية لسماء ملعبنا، وهو أمر جعلنا أيضا نتكهن بارتباط فقد الطفل لساقه
بهذه الحرب، ولكن كان ذلك مجرد تكهن، لأن المخرج سوف يعمل بهذا السر ولا
يميط اللثام عنه إلا أواخر الفيلم، ضمن وعي جميل بوقت الفيلم وكذلك بارتباط
السر بإشكاليته المتعلقة بلعبة كرة القدم، كما سوف نرى.
إن ما أحسسناه بقوة في هذا الجزء من الفيلم هو الحياة والعلاقات
الانسانية المنسوجة بلطف، رغم أننا كنا نعرف أنها لن تدوم طويلا وأنها
مؤقتة وطارئة نظرا للحضور المتكرر لأولئك المسؤولين والعسكر وإلحاحهم على
الناس أن يغادروا الملعب.
تركيز الفيلم في هذه الفترة منه على تصوير العلاقات الإنسانية وعلامات
الارتباط بالمكان مثل زرع تلك الشجيرات عند مداخل البيوت ووجود بعض
الحيوانات الأهلية مثل الغنم والمعز والخيل والكلاب والحمائم، تركيز المخرج
على هذه الذوات وبعض الوشائج التي تربط بينها كان بهدف أن لا يبدو فيلمه
مرتبطا بشكل مباشر جدا بالمكان.
هكذا، وحتى إذا عدنا بشكل فعلي إلى ملعب كرة القدم وإطاره المسيطر لم
يحدد ذلك لنا جو الفيلم وإطار الحياة فيه، حيث بدى لنا الملعب كمكان أو
ساحة عامة، يشبه أي مكان عام في مدينة أو حي، ونظرنا إليه وشعرنا به بالفعل
على أنه ساحة الحي أين يجتمع الناس ليزاولوا بعض النشاطات، لذا حين طرحت
مسألة مشاهدة مقابلة الفريق الوطني العراقي لكرة القدم على الشاشة وعند
عوارض المرمى بالذات، لم نفكر أننا نشاهدها في ملعب لكرة القدم وإنما في
الساحة العامة لمكان يسكنه مجموعة من اللاجئين العراقيين، وقد قوى إحساسنا
هذا إلى جانب ما ذكرنا وجود بعض المشاهد التي صورت في الملعب مثل مشهد ذاك
الشيخ الذي جلس على أرضية الملعب المصنوعة من مادة "التارتون" البلاستيكية
وهو يقطع أجزاءا منها رأيناه في مشهد لاحق يفرش بها أرضية بيته، ذلك الشيخ
في طرافته وبخله عرفناه ضمن حواره مع بطل فيلمنا في الملعب ومع حفيده في
بيته عندما جاءه يطلب منه نقودا لمشاهدة عرض مقابلة فريقي العراق والسعودية
على الشاشة، إن هذا التقديم للشخوص من خلال هذه الخصائص والصفات الشخصية
والعلائق الانسانية أكد على ذاك البعد العاطفي والعلائقي الذي كان يسيطر
على الجزء الأول من الفيلم بحيث أعطاه جوه النفسي والعاطفي وجعلنا نحس
بالسكن وبكوننا في اجتماع إنساني بالدرجة الأولى.
هناك مشهد آخر عمق لدينا هذا الإحساس وهو مشهد ذاك التخاصم على الماء
والذي بدى وكأنه يجري في قرية، وقد استخرجت فيه بعض الأسلحة النارية وشارك
فيه صاحبنا الثخين جدا، لقد انتهى هذا المشهد بعد ذاك الشجار بالأيدي
والهراوات بهروب شاحنة الماء والناس من ورائها يريدون القبض على خرطومها
تجره وراءها.
أجواء القرية هذه زينها المخرج بين حين والآخر بذلك الحضور الإنساني
لـ"معتوه القرية"، ذاك الذي لبس وجها جديدا غير وجوه معتوهي أفلامنا
القديمة فبدى وهو شاب ذو ملابس حديثة وأنيقة نسبيا أقرب في هيئته إلى مثقف
أو فنان.
ثم بعد ذلك وقد انتهى المخرج من اطلاعنا على شخوصه وحيواتهم اليومية
انطلق بنا في طرح قضية فيلمه التي ارتبطت فعلا بممارسة كرة القدم، وذلك ليس
من خلال عرض مقابلة الفريق الوطني العراقي الذي يمثل كل العراقيين وقادر
بالتالي على استقطاب وجمع كل سكان "القرية" وإنما من خلال دورة تنافسية
نظمها بطل فيلمنا بمساعدة صديقه الثخين جدا والحيوي جدا.
عندما وصل الفيلم إلى تصوير مباريات كرة القدم شديدة التنافس بين
لاعبين من إثنيات مختلفة وفي ملابس رياضية من ألوان شتى، لم تختفي عن
أنظارنا تلك الحياة والعلاقات الإنسانية، خاصة وأننا كنا نرى خلال ذلك
مغادرة عائلة الفتاة التي تعلق بها صاحبنا وأحسسنا بحزنه عليها، كما نتابع
كذلك حزن الطفل ذو الساق المبتورة وهو يشاهد المقابلات. أثناء إحداها رأينا
كيف تضامن اللاعبون مع بعضهم رغم التنافس بينهم، فقد قام حارس مرمى فريق
التركمان بتعويض حارس مرمى فريق الأكراد الذي أصيب أثناء المباراة ضد فريق
العرب، لقد فعل ذلك رغم رفض قائد فريقه.
هنا ونحن نتحمس ضمن رغبتنا الغريزية في مشاهدة هدف والتعرف على
الغالب، لم يستجب شوكت أمين كوركي لأي من غرائزنا، وإنما حول أنظارنا إلى
الصبي الذي أمكنه في الأخير التغلب على رغبته في الانتحار، رأيناه يستذكر
حزينا صورة فقده لساقه، جمال هذا المشهد لم يكن مرتبطا فقط بموقعه وتوقيته
في الفيلم حيث عمل منذ البداية كإحدى أهم ألغازه، وإنما يكمن جماله في
ارتباط سر الصبي بقضية الفيلم ولعبة كرة القدم بالتحديد وبالحرب، حيث عرفنا
أن قنبلة مزروعة ذهبت بساق طفلنا عندما دخل بسبب حبه لهذه الرياضة في إحدى
الحقول الملغومة باحثا عن الكرة الماكثة هناك.
وهكذا وجدنا أنفسنا اتجاه الحياة وتشابك مشاعر وأحلام وإخفاقات الكبار
والصغار والتقاؤهم كلهم على ممارسة لعبة، لعبة كرة القدم، فبينما نسي أحدهم
انتماءه الإثني كي يعوض زميله المصاب من الفريق المنافس، نسي آخر نفسه كي
يأتي بالكرة من بين القنابل المزروعة ويواصل اللعب مع أصحابه.
بالنسبة لنهاية الفيلم فقد جاءت حزينة جدا رغم تجنب المخرج أن يصورها
بعنف (وهذا من جماليات الفيلم في الحقيقة) فالفيلم كان يركز على تصوير دفئ
حياة الناس في وقت الحرب وليس الحرب في حياة الناس، قلت أن نهاية الفيلم
جاءت حزينة رغم أن كل الفيلم مر مرحا وفكاهيا رغم بعض تفاصيله العنيفة، موت
بطلنا في تفجير السوق الذي اشترى منه كأس الدورة كان فاجعة لنا رغم أنه كان
متماشيا تماما مع نسق الحكاية ومتواسقا مع الواقع العراقي الذي لازال حزينا
وفاجعا. وقد ازداد هذا الحزن لموت بطلنا عمقا بسبب توقيت هذا الموت الذي
جاء بعد اشراف دورة كرة القدم على الانتهاء بسلام ودون صدامات وكذلك بسبب
رجوع تلك الجارة المتعلمة التي أحبها صاحبنا بعد أن غادرت هي وعائلتها التي
ربما تكون ذات أصول عربية (فأمها كانت تكلمها بالعربية)
بالنسبة لبعض ملاحظاتنا أو مؤاخذاتنا البسيطة على الفيلم والتي ربما
تكون قد أنقصت شيئا ما من عفويته وجاذبيته، نسوق التالي:
الملاحظة الأولى مرتبطة بابتعاد الفيلم عن واقعيته الجميلة وانفتاحه
في إحدى مشاهده استثناء على رمزية مكررة تمثلت في ذلك الحضور الأول للحصان
وهو يجري خلال المكان، هذا الحضور كان اعتباطيا وشكلانيا، حضور الحصان
أثناء سير المباراة وسعي اللاعبين لطرده كان أجمل بكثير وساهم من جهة أخرى
في ضخ بعض العفوية في فترة من الفيلم بدت أقل عفوية وتلقائية.
الملاحظة الثانية تتعلق بإخفاق المخرج حين إصراره على عدم تصوير أي
هدف من مبارياته، نعم كان القصد من ذلك أن لا يظهر لنا أيا من الفرق
منتصرا، ولكن كان يمكنه من أجل ذلك أن يرينا سيلا من الأهداف ويرينا كل
المنافسين فرحين بأهدافهم، لأنه مع عدم الأهداف تنقص الفرحة ولا يتعمق بريق
فكرة الفيلم التي تدور حول الحياة-اللعبة-الرياضة، كما أن عدم الأهداف لا
يمكنها أن تبرر لنا انتصار أي فريق على الآخر، وبالتالي يبدو لنا ذهاب
بطلنا لشراء ذاك الكأس وفقد حياته من أجله دون مبرر تقريبا، لقد ربط المخرج
موت البطل وهو حدث جلل جدا بشراء كأس لم يكن له لزوم دراميا.
على مستوى اللقطات كان هناك تكثيف في الفيلم للقطات الواسعة
والمتوسطة، اللقطات القريبة (كلوزاب) كانت قليلة، وربما يرجع سبب ذلك إلى
جمال حضور الخلفية المكانية الذي هو الملعب وقدرته على ملئ إطار اللقطة
وتنويعها، على كل حال كنا ننتظر في مثل مشهد محاولة الطفل الانتحار أن نراه
من خلال اللقطة القريبة جدا ونرى كيف يأخذ الموس من تلك الحفرة الصغيرة في
الجدار ونرى الموس بين أصابعه. وربما تجنب المخرج هذه اللقطة القريبة
لاختياره كامل الفيلم البعد عن إثارة جمهوره كثيرا. أما في مشهد ذاك الشيخ
حين كان يقطع بساط "التارتون" من فوق أرضية الملعب بسكين في يده، هذا الحدث
كان يمكن للمخرج أيضا أن يظهره لنا في لقطة قريبة وبذلك يبتعد عن استعمال
اللقطة المتوسطة حين يتعلق الأمر بتصوير شخوصه وبعض أفعالهم عموما. الطفل
الصغير الثخين وهو يستعمل المقلاع أو قاذفة الحجارة التي استعملها عدة مرات
في الفيلم، كان يمكن أن يكون أجمل لو أن المخرج أرانا كيف هي تلك الآلة
وكيف يضع الطفل فيها الحجرة وكيف يرمي بها، علما وأن ذلك الطفل وتلك الآلة
يذكراننا بشخصية طفل إحدى أفلام شارلي شابلين حين كان يسبق خطوات شارلو
ويكسر له الزجاج في اتفاق مكتوم من أجل كسب بعض المال.
الخصومة التي دارت من حول شاحنة الماء، لم تقترب فيها الكاميرا كثيرا
ولم تتدخل خلال الأفراد والأيدي لتبدو فيها أكثر تشابكا، الإبقاء على
اللقطة المتوسطة أظهر تلك الخصومة أحيانا مثل مزحة أو تمثيلية مسرحية.
بالنسبة لأداء الممثلين فقد تميز عموما بالطرافه، وإدارة المخرج لهم
وخاصة الأطفال منهم كان موفقا، اشتغال كوركي على ثخانة أحد ممثليه ولَّدَ
لدينا عدة أحاسيس شيقة لم يتعلق أهمها بالفكاهة، في إحدى المشاهد دُعِيَ
الممثل الثخين جدا للجري لمدة غير قصيرة الأمر الذي أوصل إلينا أحاسيس
جديدة تتعلق بممارسة الرياضة وقيمتها، كما جعل في الأمر طرافة انضافت إلى
طرافة الأداء وعفويته. بطل الفيلم كان أداؤه هو الآخر عفويا، كما بدى من
خلال حركات رأسه ولفتاته السريعة ونظراته الحادة وغير الشريرة أشبه شيء
بطائر أو صقر حر وأصيل.
من جهة أخرى كان هناك توفيق كبير من المخرج على مستوى ديكور الملعب
القديم وخاصة فيما يتعلق بتأثيثه بأكواخ الصفيح وحالة الشاحنات المستعلمة
التي بدت بنت مكانها وزمانها وذلك دون مبالغات، تركيز المخرج على تلك
اللعبة الحديدية للتزحلق الخاصة بالأطفال كان فيه بعض الإطالة ولو أن ذلك
لم يخرجه عن الجو الدعابي والمرحي للفيلم ورغبة المخرج في تصوير الحياة
السعيدة رغم كل المكدرات التي أحاطت بها.
وبما أننا تحدثنا عن ديكور المكان، فلابد أن نتحدث عن المكان نفسه
الذي هو ملعب كرة القدم المهجور، فقد أحسسنا مع هذا المكان أننا إزاء قرية
أو قلعة منغلقة على نفسها وآمنة نسبيا بسبب انقطاعها عن مدينة تنهشها
الحروب وغير مطمئنة، وأكثر المشاهد توفيقا في تصوير ذلك، مشهد رحيل عائلة
الفتاة المتعلمة، حيث رأينا بطلنا يصعد مدارج الملعب مسرعا ليرى الشاحنة
الحاملة للجارة وعائلتها وأثاثهم، رأيناها من فوق المدارج من حد الملعب على
الخارج وهي تمضي وحدها في الطريق نحو الأفق البعيد. أفق أحسسناه بعيدا
وغريبا أكثر من اللزوم وذلك لسبب نفسي أنه يكتنف عدم الأمن وملعبنا آمن.
بالنسبة للكاميرا التي أرتنا الذوات من فوق والأفق من بعيد لم يكن
فعلها ذلك اعتباطيا وإنما مدروسا لأن ذلك ساهم في صنع المشاعر التي ذكرنا.
إحساسنا بالغربة تجاه الخارج أحسسناه مرة ثانية بفضل فعل الكاميرا أيضا
وذلك في مشهد السوق حين استشهد بطلنا، فقد تصرفت الكاميرا في المكان على
استحياء ولم تتلفت حتى حين جرى الانفجار ومات صاحبنا. صحيح أنه كان لذلك
دواعيه الإنتاجية والفنية كالضغط على الميزانية وعدم رغبة المخرج أن يصدم
جمهوره، ولكن النتيجة الحلوة في النهاية كانت من صنع سلوك الكاميرا.
في الأخير نقول أن فيلم ضربة البداية لشوكت أمين كوركي كان فيلما
جميلا جدا وذلك بسبب موضوعه الإنساني واللا شخصاني الذي صور قدرة الناس على
التعايش مهما كانت اختلافاتهم الإثنية والتاريخية، وكان الفيلم موفقا بسبب
حكايته التي كانت مشوقة ليس تشويق الأحداث وإنما تشويق طرافة ودفئ حياة
أصحابها بشرا وحيوانات ونبات، وكان الفيلم جميلا كذلك بسبب صفاء قلوب ورفعة
نفوس شخوصه وتركيزهم على اللعب (كحل) والفرحة والإخاء وليس على الكراهية
والحرب والقطيعة. وحتى عندما جاء الموت في الفيلم فإنه لم يأتي معه
بالجريمة والإحباط وإنما بالإحساس بالحزن على المحبين وهو أمر يدفع إلى
التفكير في ساعات الوئام والصفاء والتسامح وليس في ساعات الغدر والانتقام،
خاصة -وهذا من ألطف تفصيلات الفيلم- أن القاتل هو من خارج "ملعبنا".
لا ننسى أن نشير آخرا، إلى جانب هذا كله –وهو أمر من الإبداع في
الحقيقة- إلى الجو الطريف والفكاهي والخالي من مشاهد الدم الذي اتبعه
المخرج طيلة فيلمه ما جعله أكثر إقناعا وإمتاعا ومآنسة.
سينماتك في 30
مايو 2012
|