في
فيلمه الموسوم (انقاذ الجندي رايان) المتوج باوسكار افضل اخراج عام 1999
اخذنا المخرج ستيفن سبيلبيرغ في رحلة طويلة وشاقة للبحث عن الجندي رايان
على تخوم خطوط المواجهة الدموية بين الالمان وقوات الحلفاء عشية الحرب
العالمية الثانية.
الان وعقب مضي اكثر من عشر سنوات يعود بنا المخرج الى اجواء الحرب العالمية
الاولى في فيلمه(حصان الحرب) الماخوذ عن كتاب بالعنوان ذاته لمايكل
موربورغو صدر عام 1982 وتحول لاحقا الى عرض مسرحي شهير.
الى حد ما لا تقل جماليات سبيلبيرغ في الاخراج والتصوير براعة عن سابقاتها
وقد رسمت في (حصان الحرب) مسارا فنيا ودراميا مشوقا قوامه البحث عن حصان
فريد وقع ضحية احداث عصره المضطرب الذي اقتلعه من سحر البراري ليقذف به في
حجيم الحرب. في هذا الفيلم المشفوع بسيناريو محبوك للكاتب ريتشارد كيرتس لا
يسعنا التوقف عند سطح الاحداث المتمحورة حول قصة ارتحال حصان.فثمة حكاية
انسانية اخرى تنمو بهدوء في نسيج دراما المصائر البشرية وهي تتقاطع حينا
وتلتقي حينا اخر،وفي صلبها قصة الفتى البرت الذي شكل شغفه بالحصان الذي
يطلق عليه اسم جوي صورة متقلبة عن هيام وجداني سيربط مصيري(الفتى والحصان)
في اشد لحظات الحرب عنفا ودموية.
***
منذ ولادته اظهر جوي فرادة في ذكائه وقوته وعناده.وقد استشعرنا في مشاهد
عدة من الفيلم القدرة الحسية لهذا الحيوان على الرفض او القبول،خاصة بعد ان
تم ابعاده عن امه وبيعه في مزاد علني في انكلترا اوائل القرن الفائت.
يؤول الحصان الى والد البرت المزارع والجندي السابق تيد ناركوت الذي يراهن
على شجاعة الحصان رغم سخرية الاخرين منه كونه من النوع البري الجامح ولن
يكون نافعا لاعمال الحراثة. الا ان الفتى البرت(الممثل جيرمي ارفن) يهيم
حبا بجوي ويعمل جاهدا على تدريبه وترويض طباعه الوحشية.وهو بذلك يراهن على
صواب حدسه وثقته بقدرة جوي على تأدية اعمال الحراثة في المزرعة لغرض سداد
الدين الذي يتوجب على والده دفعه الى مالك الارض.
في زمن مضطرب لاحت فيه بشائر طموحات الاوربيين في التوسع خارج اراضيهم،
يضطر تيد(الممثل بيتر مولان)عشية اندلاع الحرب العالمية الاولى وتحت وطأة
ظروفه القاسية الى بيع الحصان رغم معارضة زوجته روز(الممثلة ايملي واطسن).
وتشاء الاقدار ان يشتريه الجيش الانكليزي ليضمه الى كتيبة الفرسان المتجهة
الى جبهات القتال.وليست مفارقة ان تقود الاحداث اللاحقة الى وقوع الحصان
بعد معركة عنيفة في ايدي الالمان الذين يستخدمونه لسحب مدافعهم العملاقة
وتأدية اعمال شاقة اخرى تناسب الخيول العادية.ويبدو ان الامر الذي لايفهمه
هؤلاء العسكر هو ان جوي حصان حر لم يعتد الاعمال الوضيعة التي تكبل قوته
وتحط من منزلته ككائن طليق منذور للطبيعة.
بات الحصان عصيا،متمردا على منطق الحرب،فيما صاحبه ضحية وقعها
المتسارع،وثمة ما يوحد بينهما خارج الاولويات والقوانين والضرورات الوطنية
للمتحاربين.انها ليست اكثر من صداقة حقة بين الحصان وصاحبه تتوق للتحرر من
كل قيد،مترفعة على كل ما هو طارئ ومزيف وهي تنشد فسحة سلام آمن. لم يكن
البرت الشخص الوحيد الذي تعلق بالحصان،فهناك الفتاة الفرنسية المريضة التي
اخفت جوي في منزلها بعيدا عن اعين الالمان بعد ان وجدته على ارضها بمعية
رفيق اخر سبق لجنديين المانيين ان استخدماهما في الفرار من الجبهة.
بكل الاحوال لم يكتب لجوي النجاة بسهولة من اذى تلك الحرب،فوقع متاثرا
بجراحه بعد ان علق في فخ الاسلاك الشائكة في المنطقة المحرمة بين الجيشين
المتقاتلين. ثمة وضع انساني صعب يقتضي هدنة استثنائية بين المتحاربين
لانقاذ الضحية التي اسعفت فيما مضى جرحى الحرب. يتطوع جندي بريطاني ثم
يلتحق به من الجانب المقابل جندي الماني لتقديم يد المساعدة الى جوي في
لحظة سلام مؤقت املتها النوازع الانسانية التي تعلو على منطق الحرب ايا
كان. صورة اخرى تعبر عن مشتركاتنا الانسانية كبشر.يصاب البرت خلال الحرب
اسوة بحصانه سئ الحظ لكنهما في النهاية يلتقيان قبيل انتهاء الحرب وسط دهشة
الاخرين وتآثرهم.
***
اذا
كانت الاسباب الموجبة للعثور على الجندي رايان واعادته الى ذويه وطنية
بالدرجة الاساس،وان اخذت طابعا قانونيا جراء مقتل ثلاثة من اشقائه في اتون
الحرب،فان السعي الى استعادة الحصان جوي كان ضرورة عاطفية في مظهرها
الحكائي،وحتمية اخلاقية في بعده الرافض للحرب التي شكلت اختبارا حقيقيا
لقيم التضحية والايثار واهم من ذلك كله تلك الصداقة الفريدة التي جمعت بين
البرت وحصانه.
في احد اجمل مشاهد الفيلم يصور سبيلبيرغ الحاذق في تركيب مشهده السينمائي
باتقان ملفت،تلك الآصرة الانسانية التي تدفع الحصان الى المجازفة بحياته
فرارا من جحيم نيران الحرب بخنادقها ومتاريسها وجنودها،عابرا ميادين شاسعة
من الاشتباك الدموي تعج بالاسلاك الشائكة والدخان الكثيف. صورة سينمائية
اخاذة تلمح الى يقظة هذا الكائن المفتون بكبريائه وحريته التي لن تكون
متاحة له ثانية من دون قفزة شجاعة بليغة تنتشله من مستنقع الموت الى واحة
الحياة.
سبيليبرغ المفتون بعالم الطفولة والبارع في اظهار جانبها السحري يراهن دوما
على تحقيق احلامه السينمائية وان اقتضى ذلك الخوض في اشتراطات تبدو تعجيزية
او مستحيلة بنظر البعض. وبالنظر لمجمل اعماله التي نهلت من عوالم الطفولة
والمراهقة اجمل حكاياتها تبدو الخاصية الرمزية لسينما سبيلبيرغ خيارا مفضلا
في العديد من افلامه التي تتمرد احيانا على منطق السببية الدرامية لتغدو
مجرد حلم سينمائي.حلم مؤثر حلق خلاله فتية صغار مع مخلقوهم الفضائي (إي.تي)
في سماء المدينة مثلما كان للحصان جوي ان يحلق فيه بعيدا عن خنادق الحرب
بصورة شاعرية تستعيد الى حد كبير خزينا شعبيا من قصص البطولات الكلاسيكية.
***
حبكة انسانية مؤثرة بطلها حصان وخلفيتها حرب مريرة،جعلت هذا الفيلم من
زاوية ما اقرب الى ادب المغامرات(البيكاريسك)،لكن مع دوافع اخرى تسعى الى
خلق امثولة حياتية ممتعة تمس عالمنا الراهن.ولنا ان نقول ان حكاية
ميلودرامية تقليدية غير قادرة اليوم على حفز خيال المشاهدين،لكن السينما
وحدها بحداثة وسائلها تمتلك الشجاعة والقدرة على اعادة روايتها وتقديمها
باشد السبل ابهارا،وبالطبع لن يكون ذلك ممكنا الا مع مخرج محترف يعرف كيف
يوظف ادواته ويمسك بموضوعته ليسبغ عليها نكهة حيله السينمائية.
صحيح ان موهبة سبيلبيرغ امتحنت في افلام سابقة عدة،منذ تحفته الاولى
(مبارزة)عام 1971 مرورا باللون القرمزي،امبراطورية الشمس،امستاد،الجندي
رايان،وعدد اخر من الافلام ربما لم يكتب النجاح لبعضها،الا انها وعلى
طريقتها الخاصة برهنت على براعة تنفيذها وسعة خيال صانعها الذي ما زال
ساعيا للحفاظ على لقب فتى هوليود الذهبي.
سينماتك في 19
مايو 2012
|