هذه السنة هي السنة الخامسة في حياة مهرجان الخليج السينمائي، والسنة
الأولى التي تعرض فيها بعض أفلام
مسابقاته الخليجية في مدينة أبوظبي، وإذا كنت مجبرا في السابق على التنقل
بمناسبة المهرجان يوميا بين أبوظبي و"سيتي فيستيفيل دبي" لمشاهدة الأفلام
الجديدة، فإني خيرت هذه السنة المكوث في أبوظبي ومشاهدة عدد من الأفلام
المعروضة في مسرح كاسر الأمواج. واسترعاني من بين هذه الأفلام فلمان كلاهما
تسجيليان، الفيلم الأول هو للإماراتية نجوم الغانم بعنوان "أمل" وسيكون
موضوع مقالنا القادم، أما الفيلم الثاني فهو "قلي يا حلو" للمخرج البحريني
محمد جناحي والذي سنتطرق إليه في المقال الذي بين أيدينا.
يصور فيلم "قلي يا حلو" حياة شاب ضرير يتسول بالموسيقى. يبدأ الفيلم بأغنية
"قلي يا حلو" للمطرب العراقي نظم الغزالي، ونستمع للأغنية صحبة شخص ينتمي
إلى جيل الخمسينيات ويجلس على غير العادة فوق الأرض وسط فضاء المجلس وأمامه
مائدة فوقها جهاز التسجيل. وصَاحَبَ ظهور هذه الشخصية التي بدت غريبة نوعا
ما ظهور فتاة كانت تتطلع إليها مبتسمة وهي تغادر البيت، عرفنا فيما بعد أن
تلك الفتاة هي طالبة في إحدى معاهد السينما وبصدد إعداد -مع زميلة لها-
فيلم وثائقي ضمن مشروعهما للتخرج.
يبدأ الفيلم فعليا وبشكل أكثر نضجا، بعد مشهد الصف الذي رأينا فيه أستاذا
يتحدث في عدد من الطلبة حول قضايا السينما، بعدها شاهدنا الفتاتين في
الخارج وهما تتباحثان وتبحثان خلال أسواق مدينة المنامة القديمة عن موضوع
جذاب يعملان عليه. وبعد تعاطيهما مع بائع ثمانيني طريف ومشترية خمسينية
طريفة أيضا، بدا أنهما قد وجدتا ظالتهما. لقد تعرفتا في إحدى أكثر مقاهي
المنامة أو مطاعمها شعبية وعراقة، على شخصية بدت منذ حضورها الأول جذابة
وواعدة.
هذه الشخصية هي شخصية علي الشاب الضرير الذي دفعته ظروف الحياة إلى امتهان
التسول من طريق الموسيقى، فهو يتقن العزف على عدة آلات موسيقية وخاصة آلة
النفخ الصغيرة (فلوت) التي يحملها تحت معطفه في أيام المنامة الباردة
ويأخذها وينفخ فيها من نَفَسِه عند اللزوم وهو جالس على كرسي أمام باب إحدى
أسواق المدينة.
ومنذ ظهور شخصية علي، أخذ الفيلم نسقا سريعا وزخما، وجاءت الأحداث فيه
مفاجئة وجديدة. واستفتح محمد جناحي هذا الطور المهم والشيق من الفيلم
بأغنية "قلي يا حلو" أيضا، ولكنها جاءت معزوفة هذه المرة بمزمار علي، بعد
ذلك ودون إبطاء دخلنا إلى كواليس الشخصية فاكتشفنا من خلالها ظروف حياة
عائلة بحرينية منسية حرمتها تناقضات الحياة من العيش الكريم واضطرتها إلى
الدفع بأحد أبنائها إلى امتهان التسول وإن بوجهه الموسيقي، كما حرم أغلب
الباقين من أبناء هذه العائلة من إكمال دراساتهم.
قوة الفيلم أنه يأتينا بهذه المعلومات تباعا دون تلكؤ وبسلاسة كبيرة، وفوق
ذلك يقدمها إلينا في أجواء لا تعبؤ في ظاهرها بتسديد أي انتقادات من النوع
الاجتماعي أو السياسي. ما كان يهم المخرج هو عالم علي كله وهو عالم ثري جدا
ولكن اتفق أنه اجتماعيا وماديا بائس جدا أيضا، شخصية علي في الفيلم بدت لنا
أساسا -ورغم كل ذاك الواقع الصعب- شخصية دافئة وسعيدة ومرحة، فعلي دائم
الابتسام حتى وهو يعزف أو يغني، فهو يبدو إنسانا ساخرا وصاحب نكتة، لذا
كانت تأتي أخباره الحزينة والمأساوية على لسانه ضاحكة ومازحة وساخرة مثله.
أول لقاء لنا بعلي كان في ذاك المقهى وهو جالس على كرسي وسط الناس وبجانبه
طفل عرفنا فيما بعد أنه شقيقه الأصغر ودليله، لم نكن نعلم وقتها كل الطرائف
المرتبطة بحياة علي، باغتنا بها المخرج فيما بعد منجمة.
وقد دخلنا مع علي عالمه الخاص، بدأنا نكتشف شخصيات ضمن محيطه ليست أقل ثراء
وطرافة من شخصيته، وتذوقنا في هذه الاكتشافات طعم المباغتات والاتحافات
السينمائية المحببة.
كان علي يجلس على كرسي أمام باب السوق ويمسك في يده صندوقا معدنيا مثل
حصالة، ومن خلال شق في الصندوق كان المتصدقون يضعون له بعض القطع أو
الأوراق النقدية.
وكان علي أحيانا يعزف وأحيانا لا يعزف، في بعض المرات كان العابرون يطلبون
منه أغنية بعينها. عندما زرنا عليا في بيته وجدناه يسكن مع والديه وبقية
إخوته غير المتزوجين.
قبل أن ندخل إلى البيت أو الشقة، رأينا الحي الشعبي الذي يحتويه، ورأينا
مدخل الشقة والحالة التي تبدو عليها جدرانها الخارجية، كانت هناك كثير من
الكتابة والتلوين جعلت الجدار مثل لوحة "غرافيتي" شارك في تكوينها كل أطفال
الحي.
عندما دخلنا إلى البيت كنا على موعد مع مفاجآت وأحداث سينمائية أخرى، بيت
متواضع قليل الأثاث ولكن كثير الأغطية والبسط، رأينا هذه الأخيرة مكدسة في
ركن من الغرفة مما يشي بأنها (في الواقع) هي كل أثاث البيت، فحين يحين وقت
النوم تكون تلك الأكداس فراش المتساكنين وغطاؤهم.
وتعرفنا خلال زياراتنا لبيت علي على أبيه المتقاعد الذي يتقاضى 300 دينار
بحريني، وعرفنا أمه، أم الإثناعشر ولدا، تسعة ذكور وثلاثة إناث، وهؤلاء
يعيش أغلبهم في ذات البيت وبتلك الثلاث مائة دينار، عرفنا من الأم والأب أن
الحاجة هي ما دفعت بهما إلى إرسال ابنيهما عليا إلى التسول بالموسيقى.
ومن لطف الفيلم، وهو يستولد لنا هذه المعلومات، أنه كان يفعل ذلك في وضعيات
وصور مبدعة ولطيفة وفيها جدة، كان المخرج وهو يحاور أم علي، يصورها وهي في
ركن من مطبخها تدخن النرجيلة البحرينية. ومن الطريف طبعا أن ترى امرأة
بحرينية فقيرة تدخن النرجلية وتتحدث عن نفسها وأسرتها بكل أريحية، كما أن
التصوير في المطبخ يعطي للصورة ثراء تشكيليا ولإطارها امتلاء.
فوق ذلك كانت تنتظرنا في زيارة أخرى لبيت علي مفاجآت جديدة، فرغم الفقر
وقلة ذات اليد وعدم اكمال الأبناء لدراساتهم فإن عليا لم يكن وحده الموسيقى
والعازف في البيت، كان له إخوة آخرون فنانون وموسيقيون وعازفون ومغنون، وقد
أتحفنا محمد الجناحي بمشهد الإخوة الثلاث وهم يغنون وأحدهم (غير علي) يعزف
على آلة الغيثارا. بعدها عرفنا من الأشقاء الثلاثة وبحضور والديهما أنهم
يفكرون في إنشاء فرقة موسيقية لإحياء الحفلات والارتزاق من ذلك.
في مناسبة أخرى من الفيلم أخذنا محمد الجناحي إلى البحر، وأمام منظر جميل
على بعض المراكب الراسية، سمعنا عليا يتحدث عن حبه لعائلته وافتخاره
بمساعدتها، بعد ذلك حدثنا عن أحلامه هو وعن صورة المرأة التي يحلم بالزواج
منها. كان علي يحدثنا عن هذا كله وهو مبتسم، واثق من نفسه.
خلال كل الفيلم التسجيلي لمحمد جناحي كنا نشاهد ونستمع ونطَّلِع على أشياء
وأحداث جديدة، فبعد أن رأينا ثانية في آخر الفيلم ذاك الرجل وهو يستمع إلى
الطرب الأصيل ويغلق التلفزة منزعجا من برامجها، بعد هذا أخذنا الجناحي
للمرة الأخيرة إلى مكان عمل علي ورأينا كيف كان الناس (غنيهم وفقيرهم)
يساعدونه، يتعاطفون معه ويطلبون منه الأغاني، لينتهي الفيلم بعد ذلك على
أغنية أداها علي بأسلوب ادخره لنا محمد الجناحي للقفلة، وهو أسلوب يعتمد
فيه على عزف الموسيقى بالشفتين، وهذه الأغنية الختامية لعلي كانت تحتوي من
الإحساس والمعنى ما يجعلها تأخذ بالضرورة مكانا مهما في ذاكرة من يستمع
إليها، بحيث جعلتنا لا ننسى، لا عليا ذو الإعاقة البصرية والذوق الموسيقي
المرهف وحبه لـ"حبيبي يا حلو"، ولا بيتهم الصغير ذو الجدران الملونة
والأثاث البسيط، ولا إخوته الإثناعشر، ولا النظرة المطمئنة والحزينة
لوالدهم المتقاعد ، كما لن يمكننا أن ننسى إخوة علي الذين لم يمنعهم
انقطاعهم عن الدراسة بسبب الفقر من أن يكونوا موسيقيين وأن يعزف أحدهم آلة
الغيثارة الأنيقة وأن يحلموا بإنشاء فرقة موسيقية من أجل الإحتفال بالفرحة
وليس الحزن.
لقد كان فيلم محمد جناحي التسجيلي "قلي يا حلو" حلوا في حكايته، حلوا في
شخوصه، حلوا في قضيته الإنسانية، حلوا في بدايته، حلوا في نهايته.
بقي أن الثغرة التي يمكن أن تحرم الجمهور من التمتع بهذه الجماليات هي
الصورة غير الجيدة تقنيا والأداء المحتشم والارتباك الواضح لإحدى الفتاتين
الطالبتين والتباطؤ وبعض الحشو الذين عرفتهما بداية الفيلم.
سينماتك في 28
أبريل 2012
|