يحكي الفيلم الوثائقي الأخير للمخرجة الإماراتية نجوم الغانم عن حياة
الفنانة المسرحية السورية المقيمة في أبوظبي أمل حويجة، ويصور الفيلم
الغربة الفنية والاجتماعية التي تعيشها هذه الفنانة وشعورها بالفقد لبلدها
سوريا المرتبط لديها بتجربتها الفنية والإبداعية.
وتعيش أمل حويجة منذ سنوات في دولة الإمارات وقد تنقلت فيها بين دبي
وأبوظبي أين استقرت في الفترة الأخيرة.
ويركز الفيلم في صوره وحواراته على حياتين: حياة أولى تبدو هادئة ورغدة
عموما وتتعلق بمدينة أبوظبي والإمارات وأسلوب الحياة فيها، وحياة غربة فنية
تتعلق بالفنانة أمل التي لم تجد الشروط اللازمة لممارسة فنها وتطوير
تجربتها المسرحية.
رغم وعيها أو لاوعيها بتباين الحياتين –حياة المدينة وحياة الفنانة- تمادت
نجوم الغانم ضمن فيلمها في تصوير حيرة أمل حويجة وغربتها وضيقها بالمكان
ولكن على خلفية لم تعكس ذاك الحزن والشعور بالإخفاق الذي تحمله أفكار أمل،
فالخلفية التي هي مدينة أبوظبي، أظهرتها الغانم مشرقة ومنفتحة على الآفاق
وساحرة.
هذا التراوح بين إحساس الفنانة الحزين والصور الطليقة والوديعة للمدينة في
الفيلم أضفى بعض الثراء الصوري على الفيلم ولكن أوجد فيه أيضا تناقضا واضحا
بين لطف وجاذبية الخارج وحزن وإحباط الداخل النفسي للفنانة أمل حويجة.
كانت أمل تحدثنا عن غربتها النفسية والثقافية ولكن في أماكن لم نشعر فيها
بأي غربة، بما في ذلك بيتها الصغير الذي تعيش فيه وحدها، فبيتها رغم ضيقه
بأثاثه ذي الطابع المسرحي بدى عبقا بدفئه وأمانه وتميزه بألوانه الطبيعية
وقلة ألوانه الساخنة، لم تكن أماكن الفيلم إذن وخاصة الخارجية منها حيث
الالتقاء بالناس العابرين وبالشمس الزاهية توحي بالغربة أو بالحزن بل على
العكس من ذلك تماما، كل شيء كان يشي بحيوية الحياة وجاذبيتها. في إحدى
المناسبات كانت أمل في بيتها وكانت تتحدث عن شيء وشعرت بالأسى و كادت أن
تبكي لولا أنها أمسكت نفسها، في هذا المشهد رغم صدق دموع أمل إلا أن جو
المكان لم يكن مواتيا للحزن، أضف إلى ذلك أن الغانم لم تستعمل اللقطات
القريبة (كلاوز آب) من أجل تعميق المشاعر وإبرازها.
غربة أمل ربما أحسسناها فعلا في مناسبتين ثنتين: حين الحديث عن غياب الشروط
الضرورية في المدينة من أجل ممارسة فنية وابداعية حقة، وحين الحديث عن
العلاقات الإنسانية وغياب الصداقات الدائمة حيث الكل منشغل بنفسه وأعماله.
وقد ساعدنا الفيلم على الوصول إلى هذه الأفكار والأحاسيس بمشاهد صورت، في
الداخل أو الخارج، ولكن دائما أثناء الليل، وهي مناسبات لم تكن فيها أمل
وحدها بل كانت مع أصدقاء لها وأحيانا بحضور زوجها. حزنا مع أمل مرة واحدة
كانت فيها وحدها، كان ذلك في الليل أيضا، في ذلك المشهد الذي غادرت فيه
إحدى الحفلات في مسرح المجمع الثقافي وجلست عند بابه على الدرج وحدها أمام
ذينك المسؤولين عن الأمن، أما في باقي المناسبات التي ظهرت فيها أمل وحدها،
وكانت اتفاقا كلها أثناء النهار، لم تكن تعطي أدنى فرصة لظهور الأشجان
ومشاعر الغربة والحزن، لأنها بكل بساطة كانت صورا تتدفق أضواء وألوانا تشرح
الصدر.
بعد هذه المقدمة ننصرف إلى ذكر بعض التفاصيل والعناصر التي انبنى عليها
الفيلم:
1-
من أهمية الفيلم أنه عرفنا بالفنانة أمل حويجة، وهذا التعريف كان مفيدا لمن
يعرف أمل ومن لا يعرفها، لأن الفيلم كان يميط اللماث عن عدة أوجه وأبعاد في
حياة هذه الشخصية، وذلك ابتداءا من حياتها الفنية ووصولا إلى بعض شؤونها
الشخصية. فعلى مستوى هذه القراءات المتعددة كان الفيلم مغر وجذاب إلى حد
كبير.
2-
بعيدا عن حياة أمل حويجة الفنية أطلعنا الفيلم على واقعها الاجتماعي
والعاطفي وابتعادها عن عائلتها وزوجها، ومن طرائف الأمور في علاقة أمل
حويجة بزوجها أنهما يقيمان في بلدين مختلفين، فبينما تقيم هي في أبوظبي
يقيم هو في أثينا. وهو ما يجعلهما لا يتقابلان إلا في لقاءات سنوية، من جهة
ثانية يختلف الزوجان كثيرا (في الظاهر) من حيث اهتماماتهم المهنية، فبينما
تمارس هي الفن، يمارس هو السياسية.
3-
تطرق الفيلم من خلال أفكار أمل حويجة ليس إلى غربتها هي وحسب بل إلى الغربة
التي يعيشها بعض المثقفين العرب في الإمارات في ظل غياب الفعل الثقافي
والفني الحقيقي، وفي هذا الخصوص تشير أمل حويجة إلى ما تسميه النفاق الغالب
على الحركة النقدية الفنية في البلاد، وهو نفاق لا يمكنه أن يدفع بالعملية
الإبداعية نحو التطور والترسخ حسب قولها. وربما كان هذا العنصر من بين أهم
العناصر التي دفعت بأمل حويجة إلى التفكير في الرحيل والعودة إلى سوريا وهو
ما فعلته بالفعل، ولو أننا سنراها في آخر الفيلم تعود ثانية لتستقر في
مدينة أبوظبي.
4-
يقوم الفيلم في تعقبه لأمل حويجة خلال أبوظبي بتصوير بعض أوجه جمال هذه
المدينة والتي تمثلت أساسا في الحضور المنعش لذاك البحر الراقد مثل نهر
مقدس.
لقد صور الفيلم أبوظبي مثل جزيرة (وهي كذلك بالفعل) يحضرها البحر من كل
جوانبها. رأينا البحر من عند الشاطئ ومن خلال الأشجار وعند موانئ المدينة
المختلفة، ميناؤها التجاري وبواخره الضخمة، ميناء الصيادين وسفنه الصغيرة
المملوءة بأدوات الصيد، وكان هناك أيضا شاطئ القرية التراثية وسفنها
التقليدية، كانت الغانم من أجل تحقيق التنوع لا تتوقف عن تغيير أماكن
مشاهدها وزوايا تصويرها.
وكذلك، ظهرت أبوظبي متميزة بصورتها الأخاذة، وهو عين الواقع، ولكنه واقع
الصورة وليس واقع الحقيقة، لأن حقيقة المكان الخارجي في أبوظبي هو الحر
والرطوبة وثقل الهواء. وقد تعود أهالي أبوظبي في غير الشتاء معايشة الخارج
من وراء حجب عديدة ألطفها حجاب السيارة المكيفة، وهنا نصل إلى عنصر آخر في
الفيلم صورته الغانم بلطف كبير:
5-
قام الفيلم بتصوير بعض العلاقات الحميمة بين أمل وأشيائها، وأقوى مثال على
ذلك -إلى جانب بيت أمل وارتباطها به- سيارتها، قلنا أن السيارة تأخذ في
حياة الناس المقيمين في أبوظبي قيمة كبيرة، وقد صور الفيلم هذه القيمة في
تلك العلاقة الحميمة بين أمل حويجة وسيارتها المرسيدس، حيث كانت أمل تتعامل
معها مثل حيوان أليف، حيث أطلقت عليها إسما لا تذكرها إلا به، وأظهرت لها
نوعا من الحب نجده عند بعض الناس تجاه قطة البيت أو عصفورها. لذا كان مشهد
بيع السيارة المرسيدس الصغيرة (قبل السفر إلى سوريا) في سوق السيارات في
الشارقة، يحتوي على كثير من مشاعر الود والأسى والحنين، وفي هذا المشهد
أطلعتنا الغانم، بشكل خاطف، على عالم أسواق السيارات وتعاملات تجارها، مشهد
بيع السيارة هذا إلى جانب مشهد إخلاء أمل لمكان سكنها كانا يطفحان بالمشاعر
الإنسانية الحزينة، ووصلتنا تلك المشاعر لأن الغانم قد وفقت إلى حد كبير في
تصوير ارتباط أمل حويجة ببيتها من خلال ديكورها شبه المسرحي وسيارتها التي
كانت تتكلم عنها لدى تاجر السيارات وكأنها جزء من تراثها الإنساني.
6-
لم يفوت الفيلم فرصة تصوير بعض الحيوات الحميمة، التي ربما نعتقد أنها حبس
على المدن القديمة، ولكننا نجدها في أبوظبي بالفعل، وهي تتعلق فيها خاصة
بممارسة بعض الأسواق مثل سوق السمك وسوق الغنم وسوق الخضر، ولكن الفيلم لم
يرنا إلا هذا الأخير وصوره لنا وفيه أمل وهي تبتاع أشياء وتتبادل بعض
الكلمات مع باعته غير العرب من الهنود والبنغاليين وربما الباكستانيين وهم
بنفوسهم القانعة ووجوههم الطليقة وملابسهم البيضاء يحدثونها في دعابة
ويعاملونها مثل أميرة.
7-
وهنا نتوقف عند ذكر الأشخاص المتعددين والمختلفين الذين تطرق الفيلم إلى
ذكر حيواتهم، فقد عرفتنا أمل ببعض أصحابها ممن ابتلعتهم –حسب رأيها- الحياة
في أبوظبي أو دبي، فبعد أن جاؤوهما بهدف جمع المال لبناء بيت العمر في
بلدانهم والرجوع إليها، باتوا يلهثون وراء الحياة المرفهة والسيارات
الفارهة والمساكن الوسيعة، كما سرقت تينك المدينتين منهم أموالا أخرى كثيرة
أنفقوها في تعليم أبنائهم والانفاق عليهم، ما دفعهم إلى الإقتراض من البنوك
وتأجيل موعد الرجوع إلى بلدانهم.
تحدثت أمل أيضا عن أولئك المغتربين من العمال الهنود والآسيويين الذين
تعاطفت معهم -ربما لقربهم من غربتها- وتساءلت عن مدى عزلتهم هم أيضا وبعدهم
عن أوطانهم وأهاليهم. وقد استغلت المخرجة نجوم الغانم هذا التفاعل الإنساني
بين أمل وأولئك العمال المنسيين لتصور إحدى أجمل المناظر على ميناء
الصيادين في أبوظبي، وهو ما مكننا من أن نرى خلسة أولئك العاملين وهم على
أسطح المراكب يزاولون الحياة كما في فناءات منازلهم.
فنيا اعتمد الفيلم بالأساس على الصور التي أخذها لبطلته أمل حويجة خلال
أماكن عيشها وتنزهها في مدينة أبوظبي زائد الصور التي أخذها لمن حاورهم في
المدينة حول أمل، ولكنه لم يكتفي بذلك، فقد اعتمد أيضا -في تطرقه إلى تجارب
أمل الفنية داخل الإمارات وفي سوريا قبلها- على صور سينمائية وتلفزية
وشمسية من الأرشيف، كما جرى تصوير أمل على أحد مسارح أبوظبي في أداء مسرحي
منفرد، وقد وفقت كل هذه الأدوات والمصادر في إبراز النشاط الكبير لهذه
الفنانة وعراقتها في المسرح والسينما وفن الدوبلاج وإدخال بعض الحيوية
الأسلوبية على الفيلم.
في الأخير نشير إلى أنه رغم أن الفيلم قد قضى جزءا مهما من وقته مع شخصية
أمل منفردة (ما كان يمكنه أن يتسبب في بعض الرتابة وخلق بعض المملل لدى
الجمهور) إلا أن صدق الشخصية وتنوع نشاطها وثرائها الفني والإنساني حال دون
ذلك، كما أن بعض التناقض ما بين جو تصريحات أمل الحزينة وجو خلفيتها
المكانية المضيئة والمنشرحة واللطيفة مضافا إلى الرجوع في عدد من المشاهد
إلى الأماكن نفسها مثل ما حدث بالنسبة لحديقة وشاطئ القرية التراثية، كان
يمكنهما أن يفسدا علينا انجذابنا للفيلم، ولكن كل ذلك لم يحصل لأن نهاية
الفيلم كانت غير منتظرة وبدت مبررة لأغلب تلك الاختيارات.
لقد تميز فيلم "أمل" لنجوم الغانم بتصويره للمشاعر والأحاسيس، أحاسيس
الغربة لدى فنانة مرهفة تجاه المكان الذي تعيش فيه والناس (مهما كانت
جذورهم) الذين يشاركونها إياه، فالغربة عند أمل كانت مضاعفة، فهي غربتها هي
مضافة إلى غربة الأحباب البعيدين. من جهة أخرى -وكما قلنا- جعلت الغانم
لهذا الشعور القوي بالغربة خلفية غير متضامنة تماما معه، هذا الاختيار لم
يكن مفهوما في البداية ولكنه بدى مقبولا ومتوافقا ومتناغما تماما مع نهاية
الفيلم، فأمل حويجة بعد أن عادت إلى سوريا افتقدت أبوظبي (ذات المحاسن التي
لم تغفل الغانم عن تصويرها طول الفيلم) فرجعت إليها سعيا.
سينماتك في 29
أبريل 2012
|