كتبت لي مديرة التصوير الفرنسية كلار ماتون في 13 أكتوبر ما يلي:
" هي كلمة أردت أن أهمس بها إليك وتخص فيلم العسل للمخرج سميح كابلانغلو.
لقد أمكنني مشاهدة الفيلم بمناسبة عرضه في القاعات في باريس، ولقد عشقته،
وجدته مدهشا في تصويره، وهو يسكن في حتى الآن: الإيقاع، القرب المطلوب
(للكاميرا) من الأشياء والذوات... إنها ساعة شيقة مع السينما."
ربما تبدو لنا قصة فيلم العسل للتركي سميح كابلانغلو عادية وبسيطة أو حتى
مكررة ولكن الفيلم في صوره وأصواته يبدو جديدا مبدعا مثل شيء لم نره أبدا.
تحكي قصة الفيلم عن علاقة بين أب وابنه، الأب يعمل فلاحا ويشتغل في تربية
النحل وانتاج العسل وهو رجل تربطه علاقة خاصة بولده الصغير الذي ربما لم
يتجاوز الست سنين. هذا الولد الشديد التعلق بوالده وصاحب الرغبة الكبيرة في
التعلم منه ومساعدته في عمله، يعاني من مشكلة كونه يتأتؤ حين يريد القراءة
أمام المعلم في المدرسة. هذه المشكلة جعلته نادر المشاركة أو عديمها في
القسم، وجعلت والدته وربما والده خائفان عليه من ذلك الصمت المتصل.
ولكن هذا السكوت الذي اكتنف الشخصية الرئيسية في الفيلم استخدمه كابلانغلو
ليسمعنا أصواتا أخرى من البيئة الطبيعية التي يعيش فيها الصبي يوسف، ومنها
أصوات النحل والطيور وغيرها. وقد اختار كابلانغلو التصوير في الغابة لرغبة
واضحة لديه أن يرينا ويسمعنا الطبيعة في بكارتها. وفي الحقيقة يتميز كل
شخوص الفيلم بقلة الكلام، فحمدي صديق يوسف في القسم، ابن العم حسين، ليس
ثرثارا أبدا، حيث لم ينطق ببنت شفة كامل الفيلم. وحتى حين رأيناه في مشهد
فكاهي جدا مع يوسف الذي سرق منه كراس أعماله المنزلية التي قام فيها
بواجبه وجعل مكانها كراسه هو التي لم يقم عليها بالواجب، حتى في هذا المشهد
وحين نهر المعلم حمدي وشكر يوسف فإن الأول بقي صامتا، حمدي (من الحمد)
رأيناه في مشهد آخر حين زاره يوسف فوجده مريضا في الفراش، في هذا المشهد
أيضا مر حمدي بصمت. أبو يوسف واسمه يعقوب لم يكن كثير الكلام هو الآخر فقد
نطق كامل الفيلم ببضع كلمات. أم يوسف هي الأخرى كانت قليلة الكلام جدا.
العم حسين سمعناه مرة أو مرتين ليقول كلمة أو كلمتين. معلم المدرسة تكلم
مرتين، هناك أيضا شخصية الحصان في الفيلم والذي لم نسمع صهيله ربما إلا مرة
واحدة.
من الذي كان يتكلم في الفيلم إذا؟! إنه المحيط وحركة أبطاله فيه. كل شيء في
الفيلم ورغم أنه يصور أشخاصا لهم حضور قوي في الحكاية إلا أنه كان يركز على
حركتهم وما تحدثه من أصوات دون أحاديثهم، وربما ركز الفيلم بشكل أكبر على
تلك البيئة نفسها وما تنتجه من صور وأصوات. إن الشخصيات التي كانت تتحرك
أمامنا لم تكن هناك لنسمعها أو نركز عليها وإنما لنشاهدها بالضرورة ضمن
بيئتها ومحيطها.
وهنا ربما علينا أن نرجع إلى الكلمة التي استعملتها المصورة كلار ماتون حين
تحدثت عن عالم الكاميرا لدى كابلانغلو، ونوهت بمسافتها العجيبة من الأشياء
والأشخاص. ولكن الإبداع الآخر في طريقة تصوير كابلانغلو تكمن في بعد آخر
جميل وهو استعمال كابلانغلو لمفهوم المرآة، فبعض تلك الأشياء تكون أحيانا
بعيدة في الواقع ولكنها تتحول على الصورة السينمائية قريبة وذات حضور درامي
أساسي. وأسوق على ذلك مثالين:
المثال الأول نجده في الصورة التي رأينا فيها يوسف في المدرسة وهو يتطلع من
خلال النافذة من وراء زجاجها إلى زملائه يلعبون في الساحة أمام المدرسة،
كنا نرى وجه يوسف ولكن على نفس إطار النافذة البلوري كنا نرى في رسومات
مثلما في مسرح الظل أولئك الأطفال الذين يلعبون، ولأن الوقت كان نهارا فإن
الداخل لم يكن داكنا جدا بحيث يحرمنا مشاهدة يوسف ولم يكن مضاءا جدا بحيث
يمنعنا أن نشاهد ما يجري في الخارج منعكسا على زجاج النافذة. وما رأيناه
على الزجاج وبسبب ضوء النهار كان أطيافا، ولأن الأطفال كانو يلبسون الأبيض
والأسود فإن أكثر ما رأينا هو الأبيض الذي كان يغطي أساسا أكمامهم، فكانت
تلك الأكمام أو الأيدي قد أعطت لأولئك الأطفال صورة العصافير أو ربما صورة
الملائكة الطيارة ذوات الأجنحة البيضاء. وفي حركتهم وهم يلعبون فوق مرآة
النافذة كانوا ربما أقوى حضورا من وجه يوسف رغم صغر حجمهم وشفافيتهم وبعدهم
الواقعي.
المثال الثاني هو مشهد لعب الطفل يوسف مع القمر على صفحة الماء في ذلك
السطل الذي وجده أمام البيت الذي كان يقرأ فيه أولئك النساء سيرة المعراج
وصعود الرسول محمد إلى السماء والتقائه بالأنبياء. في مشهد القمر الذي يتسم
بالمعراج هو الآخر رأينا كيف أن القمر البعيد في السماء كان قريبا بالنسبة
للكاميرا وبالنسبة إلينا في المشهد، ورأينا ونحن في غاية الاستمتاع كيف كان
الولد يوسف يلعب بالقمر بين يديه في الماء ثم كيف تتكسر صورة القمر حين يضع
يديه فيه ثم كيف تبدأ تتكون حين يتركها. في آخر المشهد نزل يوسف في السطل
برأسه ثم غادر الإطار وهو يمسح وجهه وترك القمر مكسرا. ولم يتحول بنا
كابلانغلو عن المشهد حتى استعاد القمر صورته الهادئة في السطل. وتم ذلك بعد
رقصة أنيقة للون القريب من الزرقة في دائرة محاطة بظلام دامس أو يكاد.
هناك جمالية أخرى في الفيلم أحب أن أشير إليها هنا وهي التواصل المحبوك بين
النص اللفظي المختصر في الفيلم وصوره. ففي مشهد المطبخ حين حكت الأم لابنها
عن رؤيا رأت فيها زهورا تنبت في بيتها وحديقتها، رأينا حين قام يوسف من عند
المائدة وحين تراجعت الكاميرا قليلا واصعدت إلى فوق رأينا حينئذ كيف اشتعل
غطاء الطاولة التي لم نكن نراها أزهارا وأنوارا وأحسسنا بأنفسنا ولو للحظة
أننا في قلب رؤيا الأم.
هذا مثال آخر ربما يفسر سبب اختيارنا التحدث عن الفيلم من خلال بعض مشاهده
دون ذكر قصته، ذلك أن الفيلم يتحدث بالصور والسينما أكثر منه بالقصة
والحوار. ولو أن القصة غير غائبة فيه وهي كما في كل أفلام كابلانغلو لوحات
وإيماءات كما الأحلام.
بقي أن هناك المشهد الذي ينتهي به الفيلم والذي نحب أن نتوقف عنده في ختام
مقالنا، هذا المشهد ربما يساعدنا أكثر على فهم سينما كابلانغلو وفيلمه
العسل. ولكن قبل أن نتحدث عنه ربما علينا أن نكمل أولا سرد ملخص حكاية
الفيلم. قلنا أن العلاقة بين الوالد وولده تشبه علاقة شيخ بمريده، فالأب
كما قلنا رأيناه يلقن ابنه عوالم النحل وعوالم الزهور وألوانها وروائحها
ورحيقها، وبسبب قلة الزهور وانعدام المرعى الذي بات يهدد حياة النحل غدى
الأب إلى المدينة يأتي بالعسل يقدمه إليه، إلا أن الأب يعقوب ابتلعته
المدينة ومات في حادث سير.
هذا الخبر علمنا به آخر الفيلم رغم أن غياب الوالد وانشغال الزوجة عليه بدأ
قبله. وحين عاد الطفل يوسف من المدرسة وفهم أن والده المحبوب جدا عنده قد
قضى رمى محفظته المدرسية وآوى إلى الغابة، رأينا يوسف وهو في حجمه الصغير
نسبة إلى الأشجار الشاهقة ماشيا في ظلام الغابة لا يعرف أين يمضي، كنا
أثناء ذلك حزانا بسبب أجواء الحكاية فانضاف إلى حزننا خوفنا على يوسف، بعد
آخر قطع في الفيلم وجدنا أنفسها في مشهد أخير ليوسف وهو متكؤ على ساق شجرة
عظيمة.
قوة المشهد تكمن في الآتي: في البداية بدى لنا يوسف كالنائم ولكننا لم نكن
متأكدين، والكاميرا تقترب منه ببطئ تحققنا أنه نائم فعلا حيث بدأنا نسمع
صوت تنفسه وهو يغط في نوم عميق، على هذا الصوت الإنساني جدا شعرنا بالأمن
والإطمئنان ونسينا كل أحزان الفيلم وآلامه رغم أن ظلالا سوداء بقيت كامنة
فينا.
تشكيليا استعمل كابلانغلو في هذا الفيلم ربما أكثر من أفلامه الأخرى
الألوان الحارة. الأمر الذي ربما تطلبه موضوع القصة وأجواؤها والتي كانت
تعبق دفئا وحبا وأمانا رغم الاحباطات والأحزان.
إدارة الممثلين هي إحدى أهم مميزات سينما كابلانغلو فإيقاعها اللوني
والصوتي تتطلب حركة للمثلين مدروسة ودقيقة، تلك الدقة التي أحيانا ما تثقل
على المتفرج. ولكنها في فيلم العسل لم تثقل لأن أداء الصبي يوسف كان بقدر
انتظامه وانضباطه عفويا وطبيعيا. عموما تأثرت حركة الممثلين داخل إطار
الصورة بخلفية مسرحية واضحة، وقد لاحظنا هذا خاصة بالنسبة ليوسف وتحركه في
الأماكن وكذلك في حركة نظراته التي كانت تتسم بكثير من الاستعراضية
والطقوسية. الطقوسية أو أجواؤها لاحظناها في حركة يوسف وكذلك في تحركات
أبيه مع حصانه الأبيض في النهار أو أثناء الليل خلال المسارات الجبلية
المختلفة بين الأعشاب والأشجار. والطقوسية هنا لم تكن أقل جلائا منها في
مشاهد ذاك الاحتفال الجماهيري الراقص الذي اختلط فيه الناس خلال الطبيعة
البكر باللأسواق والسيارات وقدور الطبخ.
في سينما مول الإمارات في دبي كانت القاعة مملوءة تماما بالجمهور الذي ربما
جاء بعضه للإطلاع على الفيلم الذي أحرز على الدب الذهبي في مهرجان
برلين الأخير، ولكن من كان حاضرا لابد أنه كان يستمع إلى جانب الأنفاس
الصادرة عن الفيلم إلى أنفاس بعض هذا الجمهور الذي لابد أنه كان يتابع بولع
واهتمام بالغ فكشن سينمائية في جو إنساني وصوفي عميق.
الصوفية لا نلقي بها هنا جزافا أو مجازا، إنه صعب على من شاهد الفيلم أن لا
يلاحظ الحس العرفاني الذي كان يعبق من كامل الفيلم الذي بدى مثل مرآة شفافة
تنعكس عليها قصص ذات علاقة بحقائق ومعان عرفانية. وهذا لاحظناه في التسمية
ليوسف ابن يعقوب وفي ذاك السرد لقصة اعراج الرسول إلى السماء والتقاؤه
بأنبياء بني اسرائيل ثم مقارنة ذلك بذاك النحو من الاعراج للطفل يوسف وكيف
مسك بالقمر المنعكس على صفحة الماء الصغيرة.
بالنسبة للمؤثرات الصوتية في الفيلم فقد كانت ناجحة جدا كما في كل أفلام
كابلانغلو، وقد همست إلي زوجتي عند مغادرتنا القاعة قائلة: إن الفيلم هو من
ذاك الصنف من الأفلام التي نستمتع بها حين نسمعها مثلما نستمتع بها حين
نراها.
سينماتك في 18
ديسمبر 2010
|