في بداية الثمانينات، عندما قادتني الصدفة للعيش
في فرنسا، كان بعض السينمائيّين من جنسياتٍ عربيةٍ مختلفة قد سبقوني
بسنواتٍ، أو إلتحقوا بنا فيما بعد، ومنهم عدداً لايُستهان بهم من
العراقيّين الطامحين بإكمال دراساتهم العُليا، عن رغبةٍ حقيقيّة، أو
مُقنّعة، أو الباحثين -صراحةً- عن بلدٍ آخر بعيداً عن الحرب
العراقية/الإيرانية.
ومثل أيّ قادمٍ جديد، بدأت البحث عن الذين أعرفهم
مُسبقاً من خلال كتاباتهم في المجلات الفنية والأدبية التي كانت تصلنا إلى
"القاهرة"، وكنت أحياناً أقتسم معهم الصفحات، وإنطباعاتنا عن السينما،
والأفلام التي نشاهدها .
كان كلّ واحد منّا يحمل في جعبته مشروعاتٍ
سينمائية كبيرة ينتظر إنجازها، وإعتقدنا وقتذاك، بأننا نمتلك نفس الحظوظ
والإمكانيات المُتاحة للسينمائيّين القادمين من بلدان المغرب العربيّ،
وكانوا بدورهم يعيشون مرحلة دلالٍ "فرانكوفونيٍّ"، تقلّص تدريجياً مع
تاريخ سقوط جدار "برلين"، وتحوّل الأنظار عنهم للإهتمام بسينمائييّ بلدان
"المعسكر الإشتراكيّ السابق"، وتواصل الدعم السخيّ للسينمائيّين الأفارقة.
ومع إستمرار الأوضاع في العراق، وبداية حرب
الخليج أول التسعينات، توطّدت إقامة العراقيّين وعلاقتهم بكلّ مجالات الفنّ
والأدبّ، وتقلّصت في نفس الوقت آمال وطموحات البعض بإمكانية محاكاة
السينمائيّين القادمين من الدول "الفرانكوفونيّة"، أو المحسوبة عليها،...
وتستحق تجارب هؤلاء جميعاً التوثيق، التشجيع،
والإحتفاء.. وأول مايمكن إقتراحه، ضرورة إهتمام إحدى "وزارات الثقافة"في
العالم العربيّ بإصدار الأطروحات التي قدموها فترة دراساتهم العُليا،
وبالآن، جمع نسخٍ من أفلامهم الهاويّة، والإحترافيّة بمقاساتها المختلفة
سوبر 8، فيديو، 61 أو 53 مللي،.. لأرشفتها، والإحتفاظ بها في المكتبة
السينمائية العربية، بهدف عرضها، والتعريف بها يوماً .
ويُعتبر "معهد العالم العربيّ" في باريس،
المؤسّسة الأقدر، والأكثر فاعليةً لإنجاز هذا المشروع.
جاء هذا الكلام في جريدة "القدس العربيّ" (العدد
3679 ليوم الجمعة 9 آذار من عام 2001 ).
ولا أعرف فيما إذا كانت "د.ماجدة واصف" (مديرة
قسم السينما، والمُفوضة العامّة لبينالي السينما العربية) قد قرأت ماكتبتُه
في ذلك اليوم، ولكن، لم يتأخر الوقت طويلاً كي تُقدم "البينالي" في دورتها
السابعة (من 26 يونيو وحتي4 يوليو) تظاهرةً جانبيةً عن السينما العراقية،
بالتعاون والتنسيق مع "إنتشال التميمي"، المدير الفنيّ لـ"مهرجان الفيلم
العربيّ" في "روتردام".
في ذلك اليوم، تحدثت بإسهابٍ عن تجارب، وطموحات،
وإحباطات السينمائيّين العراقيّين الذين يعيشون في فرنسا: (أزهر جورج، سعدي
بحري يونس، سمير عبدالجبّار، ستّار علوان، صمويل شمعون، سلام العمّار، حميد
محمد جواد، قيّس عبد اللطيف، صلاح الحمداني، صلاح علوان، جواد بشارة، سمير
حنّا، شاكر نوري، سعد المسعودي، سناء شمعون، نضال حمزة، عبّاس فاضل، عامر
علوان، سعد سلمان) .
وفي نفس الوقت، حاولت جمع معلوماتٍ توثيقيّة عن
سينمائيّين يعيشون في بلدانٍ أخرى: (سمير، قيس الزبيّدي، طارق هاشم، قاسم
حول، ظافر الخطيب، طاهر عبد مسلم علوان، قُتيّبة الجنابي، نجم عبد شهيب
الغزّي، محمد توفيق، رانيا محمد توفيق، حكمت داود، سمير زيدان، ليّث عبد
الأمير، قاسم عبد، ميسون باججي، جمال أمين، هادي ماهود، محمد الدرّاجي،
عائشة غزول،.....) .
لم يعدّ للمنفى معنى، ولم تعدّ بلدان المهجر
منافي، بعد أن أصبحت الخيارات مُتاحة أمامهم للعودة إلى بلدهم، من أجل
زياراتٍ قصيرة، أو مُستديمة، وأصبح إستقرارهم هجرةً طوعيّة (على الأقلّ
بإنتظار الحرية، الديمقراطية، والأمن الذي وعدتهم بها الإدارة الأمريكيّة)،
فقد أصبحوا مهاجرين، وتحولت إنتاجاتهم السمعية /البصرية إلى "سينما عراقيّة
مُهاجرة".
واليوم، يمتلك هؤلاء حظوظاً أفضل لتحقيق مشاريعهم
المُعلّقة، كما كان الحال مع السينمائيّين الفلسطينيّين، ومايزال .
وبعد أن كانت إنتاجاتهم تعتمد على الجهود
الفردية، والتمويل الذاتيّ، كحال "قتيّبة الجنابي"، و"محمد توفيق"، بدأت
المؤسّسات الأوروبية تهتم بمشاريع أفلامهم التسجيلية والروائية، حال معظم
أفلام "سعد سلمان"، والذي تمكن مؤخراً من توزيع فيلمه "بغداد
On/Off"،
وعرضه جماهيرياً في الصالات الفرنسية، وقبله، كان قد عرض فيلمه التسجيليّ
"عمر ردّاد، المحاكمة"في القناة الفرنسية
Canal+، وهي سابقةٌ أولى في تاريخ المخرج، والسينما الفرنسية .
لم يتأخر "عامر علوان"كثيراً كي يُنجز، ويعرض
فيلمه الروائي "زمان، رجل القصب"على شاشة قناة
Arte
التي ساهمت بإنتاجه، ومن ثمّ في الصالات الفرنسية،
والأوروبية .
وتواكباً مع الغزو الأمريكيّ للعراق، بدأ
الإهتمام يزداد يوماً بعد يوم بهذا البلد، وكان لابد من توثيق الأحداث
تلفزيونيّاً، وسينمائيّاً، ومن الأفضل بأن يكون ذلك عن طريق السينمائيّين
العراقيّين أنفسهم، كي تمنح إنتاجاتهم المصداقيّة، بالمقارنة مع الإنتاجات
التي ينجزها سينمائيّون، أو صحفيّون غربيون . .
وبعد سقوط نظام "صدام حسين"، والإحتلال الصريح،
أو المُقنّع للعراق، عاد بعض السينمائيّين العراقيّين إلى بلدهم لتصوير،
وتوثيق ماحدث، كلّ على طريقته، ومن وجهة نظره،..
وهكذا، بعد النقد السينمائيّ، وإقتناء الصور
الفوتوغرافية عن السينما، إنتفض "عبّاس فاضل"، ولم يلقَ أيّ عناءٍ للحصول
على تمويلٍ لفيلمه التسجيليّ "العودة إلى بابل"، تبعه بفيلمٍ آخر "نحن
العراقيّون".
في نفس الفترة، كان هناك عراقيّون آخرون ينجزون
أفلامهم في المنافي، أو يعودون لتسجيل مايحدث في العراق .
السينما الروائيّة
"الحرب"(إنكلترة) فيلمٌ روائيٌّ قصيرٌ جداً
لمخرجٍ عراقيٍّ شاب، "محمد الدرّاجي"، وهو في لقطةٍ مُتواصلة بطول 4 دقائق،
يختصر زماناً طويلاً، ومكاناً "مُمتداً، من مجموعة أطفالٍ يعيشون لهوهم
اليوميّ في حديقةٍ ما، إلى أبٍّ يودّع "إبنه وزوجته، ويذهب للحرب، وفي آخر
الفيلم، يعود رفاقه بدونه .
فكرةٌ مُكثفةٌ، ومُركزة، مثل إعلانٍ ضدّ الحرب،
أيّ حربٍّ، ذهابٌ وإيابٌّ في لقطتيّن، مثل الحياة والموت، إمتزجتا كي
تُوهما المتفرج بإستمراريّتهما في لقطةٍ واحدة، وفيهما يعتني المخرج بشريط
الصوت، في المزج مابين مرح الأطفال، والإعلانات الرسمية عن الحرب، والتي
تمّ إبطائها بشكلٍ متعمدّ، لانفهم تفاصيلها، ولكننا نشعر بتأثيراتها.
وبدون عناء، يكشف شريط الصوت عن إمكانيّة التحايل
على تكاليف باهظة في تنفيذ مشاهد الحرب، والإستعاضة عنها بمجازيّة مفردات
اللغة السينمائية .
"محمد الدرّاجي" يقدم نفسه مخرجاً ومدير تصوير
للفيلم، ويكشف مُسبقاً عن موهبةٍ واعدة .
"صائد الأضواء"(الدانمارك)-من إنتاج عام 2004-
لمخرجه "محمد توفيق" يقدم فكرةً جديدةً، وجديّة، ولكنها ثقيلة الظلّ
معالجةً.
"مُحسن"، الشخصية الرئيسية، يتحدث مع نفسه في
معظم مشاهد الفيلم، وهو يتجول في أرجاء بيته، لقد طلب منه "مخرجٌ" بأن
يُطيل لحيّته، ليتكشف للمتفرج حالة الفيلم داخل الفيلم، يتأمل "مُحسن"
أصحاب اللحى الطويلة في أرشيف الأنترنيت، كما في الشوارع، ولا يتوقف عن
الحديث مع نفسه، ولاينجح في إقناعنا بلقائه مع صديقه في إحدى الساحات
العامة، وشرحه له الهدف من تطويل لحيته، فكرة الفيلم نفسها .
ومع ذلك تتكشف لنا مقتطفاتٍ هوسيّة من حياة أحد
المهاجرين في منفاه، فيُذكّرنا محمد توفيق" بأسلوبه التسجيليّ الذي تعودنا
عليه .
"عبّاس علي أوروك" يقدم "طائرٌ آخرٌ يتوارى"،
فيلمٌ روائيٌّ قصير بطول72 دقيقة، فيلمٌ مدرسيٌّ تماماً، أنجزه بإمكانياتٍ
بسيطة ومتواضعة، لاتشفع له إضطراب فكرته، وطريقة معالجتها درامياً، فهو
يمزج مابين الروائيّ والوثيقة المُؤفلمة برداءة من أجهزة التلفزيون،
والأشرطة المنزلية، ويستعين برموزٍ وإستعاراتٍ تخطتها السينما الروائية
المُعاصرة، ويعتمد على مونتاج قلقٍ وغامض، وتمثيل مفتعل، وغموض في طرح
الفكرة، وتشويش واضح .
يقيم المخرج في بلدٍ أوروبيّ، وكلّ مايعرفه عن
الحروب التي عاشتها العراق مستوحاة من الإعلام المكتوب، والمسموع،
والمرئيّ، ويقدم الفيلم معاناة الشخصية/المخرج أمام هذه الأحداث بإفتعالٍ
شديدٍ، وتصنّعٍ واضح، إنه أقرب إلى إستعادة الصور الأرشيفيّة، وترتيبها على
مزاج المخرج الذي نفذ المونتاج بنفسه، ويمكن القول بدون تردد بأنّ طموح
الفيلم أقلّ بكثيرٍ من المعاني الشعرية لعنوانه .
بينما ينجح "خالد المطلوب" بجذب الإنتباه مع أول
أفلامه، ويقدم لنا فيلمه الروائيّ القصير نموذجاً لسينما الأحزان،
والمواويل المُوجعة .
"لقاءٌ عابر"، هو المحاولة الأولى لمُخرجه الذي
درس الهندسةالميكانيكيّة، ويعيش مابين "سورية" و"ليبيّا"، ولكنه أحبّ
السينما، وتعلّمها بالمُشاهدة، والقراءة.
ومثل كلّ المحاولات الأولى، أو معظمها، لم أكن
أنتظر من صاحبها فيلماً عظيماً يهزّ مشاعري جماليّاً، وجدانيّاً، ومعرفيّاً
.
يرتكز السيناريو على فكرةٍ نبيلة، وشائعة، تُلخص
عودة الجنديّ "محمّد" بعد 22 عاماً من الأسرّ، وماأن تطأ قدماه أرض الحارة،
ويقف أمام بيته، حتى يرى شخصاً مجهولاً يخرج منه خلسةً، وأكثر من ذلك،
يهدّده بفظاظةٍ بأن يمضي في طريقه .
منذ اللحظات الأولى، تُسايّر الجنديّ العائد
الشكوك والتردّد، حتى في طرق باب داره، وتقديم نفسه لزوجته التي تُراقبه من
ثقبٍ صغير، ولم تتعرّف عليه بعد .
كان يمكن لهذه العودة المُفاجئة بأن يكون لها
وقعاً آخراً لاتتسّع لها الفرحة، ولكنها، تسببت بفتح الجراحات القديمة،
لتنزف من جديدٍ مواجع، وأحزاناً.
لقد ذهب الجنديّ "محمّد" للحرب قبل 22 عاماً،
وإنقطعت أخباره، وبعدها قالوا لزوجته بأنّه مات، ..
وخلال تلك السنوات، كانت إبنته تكبر، وأصبح عمرها
اليوم بعمر أسره، وغيابه، وبعمر الدموع، والآلام.
لقد تزوجت الزوجة من شخصٍ آخر، أجبرها إخوتها (هي
تقول ذلك)، وبدوره، سافر الزوج الثاني، وإستقرّ في بلاد الله الواسعة،
وعاشت الزوجة عذاباتٍ جديدة .
وأدركت البنت حجم الغياب، وقمع الأخوال، فهجرت
البيت، وتركت الأمّ في مصابها، ووحدتها..
ولكن، هاهو "محمّد" قد عاد، ليجد نفسه في قائمة
الموتى/القتلى، ولم يتبقَ له غير الذكريات المُبهمة،..ومستقبلاً يضجّ
بعلامات الإستفهام .
ولم يعفينا سيناريو الفيلم من طرح التساؤلات :
وماذا عن بقية أفراد أسرته، أمّه، أبيه، إخوته، أخواته،.. وأهل حارته،
وخلاّنه .
لقد تخيّر المخرج بأن ينحصر فيلمه في إطار "دراما
زوجيّة"، لم تتخطى حدود جدران المنزل، بباحته، غرفه، ومطبخه،.. ولهذا، فقد
كان من العسير التخلّص من الأجواء المسرحية التي طبعته، حتى ولو جاهد في
سردها بصياغةٍ سينمائية .
وقبل ذلك، لم يهتم المخرج كثيراً بالتحديد
الجغرافيّ للمكان، كي يصبح البيت، والحارة، والمدينة رموزاً تتسّع معانيها
لتشمل كلّ بيتٍ، وحارة، ومدينة .
ولهذا السبب، أو لأسبابٍ إنتاجيّة، فقد كانت
الحارة خاويةً من البشر،..تعيش صمتها، إلاّ من أنين كلبٍ صدمته سيارة،
فتركه الأهالي يلقى حتفه ببطء، يُرافق هذا العواء المُؤلم موسيقى تُسيطر
على المساحة الزمنية للفيلم، وتتصدّر بناءه الصوتيّ، الذي لم يُغفل بدوره
إستخداماته التعبيرية في بعض المشاهد، الإسترجاعيّة منها خاصةً : أجواء
عرس، ومن ثمّ أصوات المدافع والطائرات للتذكير بالحرب، وقطرات ماء الحنفية
في المطبخ بهدف تضخيم حالة التردّد والقلق،..
وفي الوقت الذي يُركز السيناريو على "لقاءٍ عابر"
بين الزوج وزوجته، ويتحمّل الحوار المُتبادل بينهما القسط الأكبر، تُبالغ
الموسيقى في حضورها، كما المُبالغة في التمثيل إلى حدّ وقوعه في نمطيّة
الأداء المسرحيّ التقليديّ، ويقترب إلى درجة الإفتعال .
وبالآن، نلاحظ تأثراً واضحاً بالأسلوب الإخراجيّ
للمُسلسلات التلفزيونية العربية، ويعود ذلك -ربما- للمرجعيّات
السمعيّة/البصريّة للمخرج، وغلبة مشاهداته لها عن الأفلام السينمائية التي
لا تتوفر له بإستمرارٍ في حياته المُتأرجحة بين "سورية" و"ليبيا" .
وأكثر من ذلك، تُوحي النهاية المُبتسرة للفيلم،
بأننا نشاهد الحلقة الأولى من مسلسلٍ طويل، وربما كانت هذه الفكرة حاضرةً
في ذهن المخرج، وهو يكتب المشاهد الأولى، سرعان ماتعمّد إختصارها (أو
إختصرها فعلاً) ليتمكن من تحقيق مشروعه بالإمكانيات التي يمتلكها .
وعلى الرغم من كلّ العقبات التي تحمّلها الفيلم،
إلاّ أن "لقاء عابر"، يكشف عن موهبةٍ يمكن أن تصقلها التجربة،.. والعناد .
السينما التسجيليّة
"محمد توفيق" الذي يعيش في "الدانمارك" ذهب يوماً
إلى "باريس" وأنجز فيلمه التسجيليّ الطويل "شاعر القصبة"-من إنتاج عام
2000- عن الشاعر والخطاط العراقيّ "محمد سعيد الصقار"، فيلمٌ عن الهجرة
لسينمائيٍّ مهاجر، بورتريه يتناوب بين الشرح والحوار مع "الصقار" ولقطاتٍ
من أعماله، ومقتطفاتٍ من حياته العمليّة في مشغله .
وفي الجزء الأخير من الفيلم نُفاجئ بشخصٍ
يُحاوره، بينما في بدايته يتوجّه "الصقار" بتعليقه إلى الكاميرا/المخرج .
كان الفيلم "داخلياً"، إلاّ من بعض اللقطات التي
ظهرت "باريس" فيها، ولكننا مع ذلك، لاننسى الفائدة التعليميّة التي يقدمها
الفيلم .
ويُعتبر الفيلم التسجيليّ القصير "تحديّات ساعي
البريد"-من إنتاج عام 2002- لنفس المخرج أكثر تماسكاً، وتكثيفاً، ربما
لأنّه صوره في "الدانمارك"، وتمهل كثيراً في مراقبة شخصيّته الرئيسية "آلان"،
26 عاماً، الذي يعيش في "كوبنهاغن"، ويعمل ساعي بريد، ولديه طفلٌ بعمر
عامين.
فكرةٌ جيّدة، ومادةٌ فيديّوية كان بالإمكان
إستخدامها بشكلٍ أفضل، فقد أثقلت تعليقات الشخصية على الفيلم .
لقد ذهب ساعي البريد مع مجموعةٍ من الناشطين إلى
"الضفة الغربية" خلال حصار كنيسة المهد، وفيها عاش مع المقاتلين
الفلسطينيّين لأكثر من أسبوعٍ، كي يساهم بلفت أنظار العالم إلى مايحدث في
فلسطين، والدعوة إلى السلام .
في الجانب التسجيليّ أيضاً، نستقبل "رانيّا محمد
توفيق"، مخرجةٌ شابةٌ وُلدت في "بيروت"، وعاشت في "سورية" سنتيّن، وعشر
سنواتٍ في "تونس"، قبل أن تهاجر مع والديّها، وتستقر معهم في "الدانمارك"،
كانت "رانيّا" تشارك والدها السينمائيّ العراقي "محمد توفيق" أعماله قبل أن
تُقدم على إنجاز أفلامها التسجيليّة خلال دراستها في "أكاديميّة الفيلم،
والإعلام" بجامعة "كوبنهاغن" ، وهي منذ اليوم تكشف عن تأثرها الواضح
بأبيها، الإهتمام بالفيلم التسجيليّ، الإلتزام السياسيّ .
في "بورتريه مع خالد" تلجأ لأسلوب التحقيق
التلفزيونيّ، وتُوضح إهتمامها المُبكر بالقضايا العربية، ومنها "فلسطين" .
وفي "بورتريه مع نوال السعدون" تؤكّد عراقيّتها
بإنجاز بورتريه عن الفنانة التشكيليّة العراقية المُهاجرة "نوال السعدون"،
فيلمٌ مسودة، بحاجة للتطوير، وأكثر مايُؤخذ عليه، بأنها ركزت على حديث
الفنانة عن حياتها في "الدانمارك"، وتقلصت مساحة مانريد أن نعرفه عن
لوحاتها، وفنّها،...
"قتيّبة الجنابي" الذي يعيش في "إنكلترة"، أنجز
أفلاماً روائيةً قصيرةً، "ومُتميّزة، قبل أن يقدم فيلمه التسجيليّ الطويل
"خليل شوقي، الرجل الذي "لايملّ"، ينطلق من الضرورة القُصوى لتصويره مع
"خليل شوقي"، في محاولةٍ "متواضعة لتكريمه، وإعادة الإعتبار له كممثلٍ،
ومخرجٍ عراقيّ رائد، وهو اليوم "يعيش في مدينة "لاهايّ" الهولندية، وتلحقه
الكاميرا لتُسجل زيارته إلى "لندن"، "وتقديمه عملاً مسرحيّاً من إخراج
العراقيّ "د.عوني كرومي" .
يحكي التعليق، ويُلخص حياة "خليل شوقي"، وفي شريط
الصورة نتابع يوميات هجرته الرتيبة، الهادئة، ولكنها المشحونة بالذكريات،
والحنين، والأسى .
وبعد فيلمه التسجيليّ الطويل "العودة إلى بابل"
يقدم "عبّاس فاضل" الذي يعيش في "فرنسا" فيلمه الثاني "نحن العراقيّون"،
وفيه يتابع يوميات عائلةٍ عراقية قبل الغزو الأمريكيّ .
ونشاهد لقطاتٍ سبق أن شاهدنا مثلها في أفلامٍ
وتحقيقاتٍ تلفزيونيّة مُشابهة:
الوصول إلي العراق بعد غيابٍ طويل، التعليق
الصوتيّ بصوت المخرج، وفجأةً، تدخل الكاميرا إلى بيت العائلة، وكأنّ "عبّاس
فاضل" لم يغادر بلده أبداً .
فيلمٌ يفتقد الحساسيّة، ويبدو تقريراً لنشرات
الأخبار، والبرامج الحوارية عن العراق، ولكن، أفضل مافيه، تلك الدقائق
العشرة الأخيرة منه عن زيارة المخرج للمركز الوطني للسينما في "بغداد"،
بصحبة الممثل "سامي قفطان" وهو يشرح، ويُظهر الدمار الذي لحق بالتراث
السينمائي العراقيّ، صوراً لم نشاهدها بعد في أفلامٍ أخرى.
تقنيّات الحنين في"السينما العراقية المُهاجرة"
لايحتلّ الحنين ذهنيّة السينمائيّ المنفيّ، أو
المهاجر فحسب، ولكنه، بشكلٍ عام، يسيطر على أفكار وسلوكيّات معظم
السينمائيّين العرب، هؤلاء الذين يعيشون حالاتٍ مستمرّة من الإحباطات،
والإنتكاسات، أكانوا في داخل بلادهم، أو خارجها، ولكن، عندما يتحول السفر
إلى مُعضلة، والعودة مُعضلةً أخرى، ويصبح الوطن رهينة، لايبقى للسينمائيّ
غير الرجوع إلى أيامه الماضية، وصوره القديمة التي إنطبعت في ذاكرته،
ويتحول الوطن إلى "حُلمٍ مُشتهى" .
يُعاني السينمائي المُغترب-أو المُهاجر- من صعوبة
التأقلم مع المجتمع الجديد الذي يعيشه في المنفى/المهجر، ولايجد إستيحاءاته،
وموضوعاته بسهولة، فهو يشعر بأنه يرتبط بكلّ مايتعلق بوطنه الأمّ، ولهذا،
تصبح إبداعاته بمثابة محاولة القبض على الماضي، والتطّهر منه، وحجزه في
شريطٍ سينمائيّ، وتتعلق ذكرياته بـ"حبل الصرّة" الذي يربطه بوطنٍ بعيد
المنال، ينبشُ فيها، ويستنطقها من خلال :
الصور الفوتوغرافيّة، الرسائل، شرائط الكاسيت،
المكالمات الهاتفيّة، الصحف، المجلات، التلفزيون، وكلّ ماتبقى له من
كلماتٍ، وتعابيرٍ، ...وأوهام .
الشعور بالألم والمرارة، لقد كانت الحرب على
العراق مثل "الإهانة"،...جاءت لتؤكد لنا، وللعالم بأننا شعبٌ قاصر، لانمتلك
الشجاعة اللازمة للإنعتاق من حاكمٍ ديكتاتوريّ، ونحتاج لخدمات الأمريكان كي
يخلصونا من أنظمةٍ مستبدّة، وينشروا الحرية، والديموقراطية في بلادنا،
وبالآن، يزرعوا"الكراهية" في نفوس، وعقول ملايين العرب، والمسلمين،...
الأفلام التي أنجزها السينمائيّون العراقيّون في
المنفى/المهجر، وعلى إختلاف مضامينها، وأطروحاتها، وتباينها، تؤكد بأنّ
"روح" السينما العراقية لم تنطفئ بعد بسبب الحروب المُتوالية، الحصارات،
وغزوات التحرير الأمريكية، وفي كلّ بلدٍ هاجر إليه العراقيّون نبتت بذور
"سينما عراقيّة مُهاجرة"، كما كان الحال مع سينمائييّ "أمريكا اللاتينيّة"
في نهاية السبعينيّات، والذين لم ينقطعوا عن الإبداع على الرغم من هجرتهم
-المُؤقتة، أو الدائمة- بعد سيطرة الأنظمة العسكرية هناك، وكما هو حال
السينما الإيرانية في المهجر أيضاً .
وتعتبر معظم الأفلام نموذجاً لسينما لم تتحرّر
بعد من مخاوفها، ومازالت تُغلفها الأحزان، والمواويل المُوجعة(خاصيةٌ
عراقيةٌ، بإمتياز)، وتُسيطر عليها الرموز والإستعارات للإلتفاف على
الإستبداد، والقهر .
وكما حال الزوج والزوجة التي "تلخبطت" حياتهما في
فيلم "لقاء عابر" لمخرجه "خالد المطلوب"، وفقدا الإمكانيات الآنيّة لتقرير
مصيرهما، فهو حال السينمائيّين العراقيّين أيضاً -في الداخل، والخارج- وهم
يفكرون بمصير سينماهم في ظلّ أوضاعٍ مُبهمةٍ، وغامضة .
والمستقبل وحده من يقرّر شأنها، هل تعود إلى
موطنها، أم أنّ هجرتها سوف تطول، وتطول ؟ .