كانت وما زالت فاتن حمامة هي الأكثر حضورا بين نجمات جيلها، تخفق لها قلوب
المعجبين والعاشقين رغم أنوثتها الهادئة، وتعابير وجهها السمحة. لقد
استطاعت تلك الأيقونة الإنسانية والفنية أن تقوى على العيش منذ طفولتها
داخل الاستوديوهات وسط الصرخات والبكاء الممزوج بالأداء الذي يختلف من عمل
لآخر ويتباين بين المخرجين والمنتجين، فكان ذلك هو قدرها وفنها وحبها أيضا،
وهي ما زالت تكمل السيرة والمسيرة الصاخبة والضخمة فتحكي عن سنوات الدراسة
في معهد الفنون وتلقي الدروس من أساطير التمثيل في وقتها مثل زكي طليمات.
تقول: «من ذكريات المعهد التي لا أنساها ما حدث عندما طلب إلينا أن نتدرب
على إحدى المسرحيات، وكان من بين مشاهد هذه المسرحية مشهد أصفع فيه أحد
زملائي الطلبة على وجهه، وأثناء التدريب صفعته صفعة هينة لكنها لم ترضِ زكي
طليمات، فصاح يطلب مني أن أصفعه بشكل حقيقي بكل قوتي، وأمام صراخ طليمات
لبيت طلبه، ولكن بدلا من أن يصرخ الطالب لشدة الصفعة أطلقت أنا صرخة عالية،
حيث لم تتحمل يدي الضعيفة الصفعة وكادت تصاب».
أحبت الفنانة فاتن حمامة الحب قبل أن تعرف معانيه وعاشت في اللفظ قبل أن
يبعث الشعور في قلبها وناقشت الحب وأفتت في مشكلاته حتى حملت لقب أستاذة في
الحب، حقيقة كانت دائما فاتن هي مبعث الحب النقي الذي نستعيده في أحيان
كثيرة ونعيش تجاربه في مراحل مختلفة، وهي ما زالت تكمل السيرة والمسيرة
قائلة: لقد بدأ الحب عندي وأنا ما زالت صغيرة حيث كنت حينذاك ما زالت أسكن
مع أسرتي في شارع إسماعيل أبو جبل (حي عابدين) بقلب القاهرة بالطابق الثاني
لأحد العقارات، وشاهدت نافذة مغلقة أمام نافذة غرفتي بالمنزل المقابل
لمنزلي، وكان بها أمر غريب، حيث كان يقف خلفها شاب فكنت كلما فتحت نافذتي
أجده واقفا خلف النافذة كأنه يحرص على أن يرسل لي تحية الصباح، وعندما أعود
من المدرسة أجده لا يزال واقفا.. لا أعلم حتى الآن لماذا كنت أتخيله شابا
أسمر وترتب على هذا التخيل أنني كنت كلما شاهدت ولدا جميلا في الشارع
اعتقدت أنه هو، وعندما أعود أجد ذلك الحبيب الذي تعلقت به دون أن أشاهده
يقف خلف نافذته المغلقة دائما، وأتساءل: لماذا لا يفتح النافذة لأشاهده كما
يشاهدني هو؟ لماذا يعطي نفسه هذا الحق دون أي إحساس بمشاعري وما يجول
بداخلي؟! ولكن ذات صباح وقبل ذهابي إلى المدرسة وأنا أقف في شباك غرفتي
أتأمل الفتى الواقف كعادته صامتا، فجأة انفتح الشباك، وفي تلك اللحظة
تحديدا كدت أن أطير فرحا حيث تصورت أن حبيبي الذي حلمت به كثيرا وأرسلت له
رسائل «كلامية» و«ذهنية» كثيرة سمع رجائي ويود أن يرد عللا مشاعري الحالمة
به دائما، ولكني حينما انفتح الشباك وبعد أن هدأت ثورة تخيلاتي اكتشف
المصيبة الكبرى التي صرعت أحلامي وخيالاتي، وهي أن حبيبي المتخفي دائما
وراء ذلك الشباك ما هو إلا «شماعة ملابس» معلقة أمام النافذة ومحمل عليها
قطع من الملابس، ولذلك كانت دائما تبدو أمامي كأنها شاب ممشوق القوام.
بعد مرور تلك التجربة العاطفية الصادمة بسنوات التقيت بالمحب الحقيقي وليس
«الوهم»، وكان ذلك في محطة «الحافلات»، حيث ناداني وألح في النداء ولكني
صممت أذني دونه وإن لم أستطع منع قلبي عن الخفقان، وهنا يجب أن أبدأ الحديث
من اللحظة الأولى حيث كنت في ذلك الوقت طالبة بمدرسة «الأميرة فوقية»
بالجيزة - كما ذكرت مسبقا - وكنت وزميلاتي نغادر المدرسة عصر كل يوم فأسير
مع زميلاتي حتى محطة الحافلات ثم نفترق، وأبقى أنا وحدي لأنتظر الباص
العائد إلى منطقة المنيرة حيث أصبحت مسكنا لنا، ولكني لاحظت في أحد الأيام
أن ضابطا شابا كان يتعقبني منذ اللحظة التي أغادر فيها باب المدرسة حتى
اللحظة التي يصل فيها الباص، وكان يبدي اهتماما زائدا، فكنت ألاحظ نظراته
وحركاته التي تدل على أنه يريد التحدث إلي ولكني لم أعر ذلك الشاب اهتماما
ولم أقدر للأمر وزنا، حيث شاهدت فيه أحد هواة معاكسة فتيات المدارس، ثم خيل
لي أنه من الممكن أن يكون خطيب إحدى زميلاتي ولم تخطر ببالي الحقيقة إلا
عندما وصل الباص، فصعدت إليه فصعد هو في أثري وجلس في جواري وهو ما زال على
صمته.
لماذا لم يتكلم؟ ماذا يريد؟.. هذه الأسئلة راودت تفكيري وأنا أجلس إلى جوار
ضابط البوليس وكان يبدو مرتبكا بعض الشيء، ولما تركت الباص نزل أيضا في
أثري دون أن يتكلم، وفي اليوم الثاني وجدته أمام باب المدرسة وكان يقف في
منتهى الهدوء وهو ينظر ذات اليمين وذات اليسار وكأنه ينتظر أحدا، ولما
شاهدني أغادر المدرسة باتجاه محطة الباص سار ورائي، وقبل أن أصل إلى المحطة
شاهدته يتردد طويلا، ثم تغلب على تردده وتقدم إلي يحييني ويسألني بصوت
منخفض يخنقه الخجل: «حضرتك مش الآنسة فاتن؟»، ولاحظت من طريقة حديثه
والسؤال الذي وجهه إلي أنه يريد التأكد من شيء أكثر مما يدل على أنه يحاول
معاكستي، ولذا اضطررت إلى الرد عليه بأدب فقلت: «نعم، أنا فاتن»، فقدم إلي
نفسه باسمه وتلاه بالوظيفة والعنوان ثم سألني عن أشقائي الرجال كل باسمه،
وزعم لي أنه صديق لهم وأنهم كثيرا ما زاروه في منزله، وهو يريد أن يرد لهم
الزيارة، وهنا لم أعلق على حديثه بشيء وكنت خلال حديثه قد اكتشفت نياته،
لذا فاكتفيت بالصمت، ورد علي بابتسامة مفتعلة وأخرج رسالة مطوية من جيب
سترته «الميري» قدمها لي قائلا وهو ينصرف: «هذه رسالة إلى شقيقك أرجو أن
تسليمها إليه»، واختفى ضابط البوليس حيث عاد في نفس الطريق بعدما رمقني
بنظرات فيها كثير من المعاني، لعلها نظرات حب أو لعلها نظرات إعجاب، ولكن
المهم أني فكرت في كثير من المعاني بنظراته بينما كان يتوارى في الزحام.
وأمسكت الرسالة بيد مرتجفة وأنا أسأل نفسي: «ترى لأي واحد من أشقائي سأعطي
الرسالة؟»، في حين أن الرسالة كانت تحمل اسمي وليس اسم شقيقي، والغريب أنه
قد سبق اسمي بثلاث كلمات وهي «إلى معبودة قلبي»، وبأنامل ترتجف وفضول غريب
فضضت الرسالة، وما إن قرأت الكلمات الأولى منها حتى وجدت نفسي أمام «رسالة
غرام من الدرجة الأولى» تكاد تلتهب من حرارة كلماتها، وحقيقة كان أسلوبها
جميلا وكانت عباراتها رغم الهيام الذي تنطق به منتقاة مهذبة، وضبطت نفسي
متلبسة وأنا أقرأها مرات كثيرة جعلتني أعيش في عالم افتراضي لدرجة أنني كنت
لا أزال في محطة الحافلات وغادر الباص الذي من المفترض أن أستقله، واضطررت
إلى انتظار الذي يليه. ومهما كان نوع حكمي على الرسالة حينذاك أو حتى الآن
فإن الذي أعلمه جيدا أنها خاطبت في الغرور قبل أن تخاطب في العاطفة، إن كل
فتاة يهمها أن يقدر جمالها ويهمها أن تشعر أنها جميلة في عيون الآخرين قبل
أن يهمها الآخرون. وأسرعت إلى المنزل الذي كنت قد تأخرت عن موعد العودة
إليه فواجهت من والدتي السؤال عن أسباب التأخير، ووجدت نفسي في هدوء تام
أقصص عليها الأمر بكاملة وأسلمها الرسالة، فما كان من والدتي إلا أن مزقت
الرسالة وألقت بها من النافذة، وحينها رحت أرقب قصاصاتها الصغيرة وهي تتسلل
عبر النافذة إلى الطريق، وأحسست في تلك اللحظة أنني أحمل شيئا عزيزا وكريها
في آن واحد.
وعلى حافة السرير العريض جلست والدتي تلقنني درسها الأول، وكان الدرس هو أن
أحرص دائما من كذب الشباب الذين يقصدون دائما قلوب الفتيات للتسلية فقط،
وفي اليوم التالي كان كاتب الرسالة يقف على المحطة ينتظر أن يشاهد نتيجة ما
فعله أمس ويود الحصول على الرد، وحينذاك تقدمت إلى المحطة ووقفت إلى جواره
وقد علا وجهي التجهم ولم ألتفت إليه ولم يجرؤ على محادثتي، والتقيت به في
اليوم الثالث أيضا، فقد كان همه الأكبر أن يشعرني أنه ينتظر مجيء الباص
فعلا وأن لقاءنا مجرد صدفة، ولكن هذه الصدفة المدبرة تكررت كثيرا وعاش
الشاب الولهان على أمل أن أرضى عنه أو أبتسم في وجهه، كانت لحظات قاسية على
المحطة ولكن نصائح أمي كانت بمثابة حاجز حال بيني وبينه. وذات يوم ذهبت إلى
المحطة فلم أجده فكان يبدو أن اليأس قد دب في وجدانه واستولى عليه فانصرف
لأن وجوده لم يكن يعني شيئا بالنسبة لي.. ولكن الحقيقة التي أعلنها لأول
مرة أن غيابه حينذاك ضايقني كثيرا، وأنا اليوم لا أدري ماذا كان شعوري
الحقيقي نحوه، هل أحببته؟ هل شعرت نحوه بعاطفة الحب السامية؟ ولكن كان
الواقع رغم أنني أستاذة الحب قد عجزت عن مواجهة أول تجربة تعرضت لها وخرجت
منها بنتيجة لا أعرفها خسارة أو ربحا، كان قلبي يخفق من خفقاته ما كانت
تختلط بالخوف الذي بعثته أمي في نفسي، وهكذا خنق الخوف حبي الأول وكأنه قدم
مارد وطئت شجيرة ضئيلة فحالت بينها وبين النمو.
ومرت الأيام وتناسيت الحب وكل ما يحيط به وتاهت في ذاكرتي الأطياف والصور
كما يغوص حجر أسقط في بركة عميقة، وهذا الساحر الذي اسمه الحب والذي تحدثت
فيه كثيرا وناقشته مع زميلاتي لم يعرف طريقه إلى مشاعري، عرفته فقط في
القصص والحكايات والسينما.. وحينذاك عدت إلى العمل في السينما فاشتركت بدور
مهم في فيلم «أول الشهر» الذي قامت ببطولته صباح أمام النجم حسين صدقي، ثم
تعاقد والدي باسمي على فيلم آخر هو «ملائكة في جهنم» وكان دوري في الفيلم
الجديد من الأدوار الهامة التي استغرقت أغلب أيام التصوير في الاستوديو
وكنت بحكم العمل على اتصال يومي بأحد الفنيين المشتغلين في الفيلم وكان
شابا مهذبا ورقيق الشعور وطيب القلب، وكان ينتظر له الجميع مستقبلا كبيرا
في عالم السينما، وقد حققت الأيام ما تنبأ به الجميع، وكان شعوري نحوه شعور
الشقيقة التي تحترم شقيقها الأكبر، وكان هذا الشعور يدفعني إلى معاملته
معاملة لا تكلف فيها. ولكن يبدو أنه فسر تلك المعاملة تفسيرا آخر غير ما
كنت أعنيه، حيث فوجئت ذات يوم بوالدي يقول لي إن هذا الشاب تقدم إليه طالبا
يدي، ولست أدري لماذا غضبت يومها غضبا شديدا وثرت ثورة عنيفة وكدت أعلن
إضرابي عن الذهاب إلى الاستوديو لولا أن والدي استطاع أن يقنعني بأن هناك
طريقة مهذبة للرفض لا تقضي على الصداقة، ووافقت والدي على هذا الرأي فاعتذر
إلى العريس وأبلغه أنني أريد متابعة دراستي إلى النهاية وأن الزواج سوف
يمنعني من تنفيذ ما أريد، وبالفعل انتهي الأمر.. ولكني علمت في ما بعد من
بعض الأصدقاء أن رفضي الزواج من هذا الشاب أثر عليه سلبا وأنه أصيب بصدمة
عاطفية عنيفة، ولكني حينها لم أهتم بالأمر كي لا يفسر عطفي عليه نوعا من
الحب.
انتهيت من العمل في فيلم «ملائكة في جهنم» وكان ذلك في نهاية فصل الربيع،
وأيضا انتهيت من أداء الامتحان في نهاية شهر يونيو (حزيران)، ولم يكد شهر
يوليو (تموز) ينتصف حتى كانت الأسرة تستعد للسفر إلى مصيف الإسكندرية،
وكانت نصف حقائبي مليئة بالملابس والنصف الآخر بعدد كبير من كتب الحب،
بعضها باللغة الفرنسية التي كان محصولي فيها في ذلك الوقت ضئيلا، وأغلبها
كان باللغة العربية، وفي الإسكندرية كنت أسبق العائلة إلى الشاطئ فأضع
مقعدا تحت الشمسية الكبيرة (المظلة) وأغرق عيني بين سطور الروايات التي
أحملها معي وفي الوقت الذي كنت فيه تحت الشمسية مستغرقة في قراءة كتب الحب
سمعت للمرة الأولى بعض الناس يتهامسون باسمي وكان الناس من قبل ينادونني
باسم «أنيسة» - كما ذكرت مسبقا - وكان اسم أنيسة يطغى على اسمي الحقيقي
«فاتن» ولكنهم هذه المرة كانوا يشيرون إلي باسم «فاتن»، كان هذا تغييرا
بمثابة فترة انتقال لدى الجمهور. وكان المنادون باسمي شلة من الشابات
والشبان وقد تقدمت بعض الفتيات مني يحيينني بشوق وكأنهن صديقات لي منذ زمن
طويل، أما الشبان فقد وقفوا بعيدا وقد أخذ كل منهم يحاول أن يلفت نظري إما
بنكتة يلقيها على صاحبه أو بحركة رياضية أو قفزة إلى البحر، ولكنني تجاهلت
محاولاتهم ورحت أتبادل وصديقاتي الجديدات حديثا عابرا.
في نفس هذا العام اكتشفت في نفسي ميلا إلى تعلم السباحة، خصوصا بعدما نظمت
وزارة المعارف مباريات بين فتيات المدارس الثانوية وخصصت لها جوائز أدبية
ضخمة، وقد ساعدتني إحدى الطالبات على تلقي مبادئ السباحة وكنت أتولى تدريب
نفسي وقد برعت في هذه الهواية الجديدة بعد مرحلة قصيرة من التدريب وكدت
أتقدم للمباراة المدرسية لولا أنني ذهبت ذات يوم إلى النادي فوجدت مصوري
الصحف وقد جاءوا يصورون الفتيات بالمايوهات فهربت من عدسات المصورين وعدلت
عن الاشتراك في المسابقة، وعدنا إلى القاهرة بعد انتهاء الإجازة.
كان والدي قد بدأ يصطحبني إلى الفرق المسرحية وكانت أحبها إلى نفسي هي فرقة
المرحوم نجيب الريحاني، فكنت أحرص على أن لا تفوتني مسرحية واحدة من
مسرحياتها، وكذلك فرقة رمسيس، وكان والدي يطلب مني أن أتأمل الممثلين
والممثلات وأن أراقب طريقة أدائهم، وكنا أنا ووالدي نعقد بعد كل مسرحية
ندوة صغيرة ننتقد فيها الرواية وممثليها، في تلك الأثناء كان يوسف وهبي قد
استعد لإخراج فيلمه «ملاك الرحمة» وكانت البطولة النسائية في الفيلم معقودة
للسيدة «راقية إبراهيم»، أما البطولة الثانية فكانت لوجه جديد اكتشفها يوسف
وهبي وحاول أن يخلق منها بطلة سينمائية، وفي اليوم الأول استغرق تصوير مشهد
واحد خمس ساعات كاملة فثارت بطلة الفيلم والعاملون بالفيلم، وأقنعوا يوسف
وهبي بعدم صلاحية الوجه الجديد لتمثيل الدور، واستطاع بعضهم أن يقنعه بأني
صالحة كي ألعب هذا الدور بالذات. وعلى الفور وجهت لي دعوة من الشركة
المنتجة لمقابلة يوسف وهبي، وكنت قبل ذلك قد قرأت كثيرا عن الفزع الذي أصاب
بعض الممثلات والممثلين عندما قابلوه للمرة الأولى فارتسمت ابتسامة على
وجهي كان مصدرها أنني لم أُصَب بهذا الفزع عندما قابلته قبل ذلك، وذهبت مع
والدي إلى مكتب الشركة، وما كاد يوسف وهبي يشاهدني حتى هب واقفا ليحييني
وليذكرني بسوء الفهم القديم الذي كان قد وقع بيننا وهو يضحك، ثم استمعنا
بعد ذلك إلى الدور.
وقتذاك كان أول خطاب تلقيته من معجب هو ذلك الخطاب الذي حمله إلي البريد عن
دوري في «ملاك الرحمة»، وكان المعجب ثريًّا من سوريا، وقد أسهب في وصف نفسه
وتحدث عن ثروته ثم ختمه بطلب متواضع، الزواج! وأسرعت إلى والدي وأنا أنتفض
من الغضب والخوف وأعطيته الخطاب وقرأه ببطء ثم ابتسم وقال: «غدا سيأتي كثير
من تلك الخطابات، ولا تعيري أي اهتمام لما تحمله، إنما لا بد أن تردي
عليها، فهذا واجبك نحو المعجبين»، وفي نفس ذلك اليوم صحبني والدي إلى مصور
معروف التقط لي عدة صور في أوضاع مختلفة وطلب منه أن يطبع خمسمائة صورة من
كل لقطة، وسألت متعجبة والدي عن سبب هذه الكمية الضخمة فضحك وقص علي ما كان
قد طلبة منه المصور الذي التقط لي صورتي التي نشرت في مجلة «الاثنين»
وتسببت بأن أفوز بلقب أجمل طفلة، ثم قال إن خطابات المعجبين ستزداد كل يوم
ويجب أن ترسل لهم صورك وتكتبي عليها إهداء رقيقا يذيل بتوقيعك، ومنذ ذلك
اليوم وأنا لا أتأخر في الرد على رسالة ولا أبخل بصورتي على من يطلبها.
لم يكن التمثيل السينمائي هوايتي الوحيدة، بل كان هناك توأم مزاحم له في
ميولي، وهو هوايتي للوقوف على خشبة المسرح تماما كما أهوى الوقوف في
الاستوديو أمام عدسات السينما، وكان يقوي هذا الميل في نفسي أنني كنت أبرز
تلميذة في فريق التمثيل بالمدرسة، وكنت أتولى أدوار البطولة في المسرحيات
المدرسية التي كنا نقدمها في نهاية كل عام، وكنت كما ذكرت من قبل أتردد
كثيرا في دور التمثيل المسرحي، وذلك يوم التقيت بزميل من الذين ظهروا معي
في فيلم من أفلام عبد الوهاب، وما كاد أن يراني حتى بادرني قائلا: «هل
تقدمت للمعهد؟»، وكان معي والدي فسأله: «معهد التمثيل؟»، فأجاب: «نعم، إن
آخر ميعاد للتقدم بعد أسبوع»، ولما كان والدي بحكم عمله بوزارة المعارف
لديه معرفة بإجراءات الالتحاق فقد سارع بكتابة استمارة الالتحاق، وبعد أيام
ذهبت إلى مسرح الأزبكية لأجد هناك أكثر من أربعمائة شاب وثماني فتيات،
واستغرق امتحان الالتحاق أربعة أيام كاملة وأسفرت النتيجة عن اختيار اثني
عشر شابا فقط وسبع فتيات كنت أنا من بينهن، وكنت قد أديت أمام لجنة
الاختيار مشهدا تمثيليا وحصلت به على درجات عالية، وفتح معهد التمثيل
أبوابه في أوائل شهر أكتوبر (تشرين الأول)، وكان عبارة عن بضعة فصول في
مدرسة «الدواوين» الثانوية، وكانت الدراسة مسائية تبدأ من الخامسة إلى
السابعة والنصف، وفي اليوم الأول من أيام المعهد قام زكي طليمات عميد
المعهد بمهمة تقديم طالبات المعهد وطلبته بعضهم إلى بعض، واستغرق العميد
اليوم الأول في رواية ذكرياته القديمة عن معهد التمثيل الأول ثم وجه بعض
نصائحه إلينا، وفي اليوم التالي دخل زكي طليمات الفصل وبدأ يوزع نكاته على
الطلبة والطالبات، وما كاد يلمحني جالسة وسط الطالبات حتى التفت إلي وقال:
«تعالي هنا يا عروسة»، ودفع الغضب بالدماء إلى وجهي وصحت بعصبية وأنا جالسة
في مكاني: «أنا مش عروسة، أنا فاتن». وبذل زكي مجهودا كبيرا في إخفاء
ابتسامته ثم قال: «طيب تعالي يا فاتن»، وذهبت إلى مقدمة الفصل حيث كان يجلس
هو، وسألني: اسمك إيه يا فاتن؟
فقلت: فاتن حمامة.
فقال: تعرفي تطيري يا شاطرة؟
فقلت: يعني إيه؟!
فقال: مش انت حمامة؟
فقلت: لا.. أنا فاتن.
وعاد زكي طليمات يسألني: عمرك كم سنة يا شاطرة؟
ولم أرد، وكرر طليمات السؤال، وتمسكت بالصمت، وكرر السؤال فاقتربت منه
لأهمس له: عمري 13 سنة، بس ما تقولش.
وضحك زكي طليمات ونزل عند رغبتي ولم يعلن إجابتي، ثم طلب مني أن أصعد إلى
منصة عالية أشبه بخشبة المسرح لألقي دورا تمثيليا، وأعجب ببراعتي في الأداء
ولمس في هذا الأداء أشياء تنبئ عن موهبة. فقال لي: صوتك ضعيف يا فاتن.
ولكن زكي طليمات كان يرى أن هذا الصوت الضعيف ينفذ إلى القلب لأنني أشعر
بما أقوله بأحاسيس عميقة، ولكن العيب الذي لاحظه أن لدي لثغة في لساني،
تجعلني انطق حرف الراء كحرف الغين، وهي لثغة كانت تلازمني منذ الصغر ولم
يكتشفها إلا أفراد قلائل، ولذلك فاجأني قائلا: طلعي لسانك يا فاتن.
وضحكت من هذا الطلب وسألته: اطلع لساني ليه؟
فقال: علشان الحتة اللي ناقصة منه.
وضحكت وضحك الجميع، ثم فتحت فمي وأخرجت لساني ثم أغلقته وقلت ردا على
تعليقه: لا.. لساني مش ناقص حتة!
وأراد زكي أن يلجأ إلى أسلوب جديد في علاج هذا العيب ففاجأني بسؤال غريب:
أنت مصرية؟
فقلت: نعم.. ليه؟
فقال: لأنه مافيش غير الفرنساويين اللي عندهم «اللثغة» دي.
فقلت: لكن أنا مصرية.. مش فرنساوية.
فقال: انت متأكدة؟
فقلت: طبعا.
فقال: طيب اسألي والدك.
فقلت: والدي مصري وجدي مصري.
وضج الطلبة بالضحك.. واحمر وجهي وصرخت أقول: إيه الكلام ده؟
فقال: كان لازم تصلحي لسانك قبل ما تيجي المعهد.
وضحك هو فضحك الطلبة معه فصرخت فيهم: بتضحكوا على إيه يا حضرات؟
وعاد زكي يسألني: انت بتحبي التمثيل يا فاتن؟
وكانت آثار الغضب ما زالت واضحة علي والعصبية تلازمني، فأجبته بلهجة عصبية:
نعم.. ولو ما كنتش باحبه ما كنتش حضرت إلى هنا.
وعاد يسألني: انت امتحنت في إيه؟
فذكرت له اسم القطعة التمثيلية التي مثلتها أمام لجنة الامتحان، فقام إلى
«السبّورة» وكتب جملة طويلة مليئة بحرف «الراء» وكان نَصها: «انحشر حشرا في
الدرج ولم يقدر أن يخرج»، وطلب مني أن أقرأ هذه العبارة بسرعة، وانفعلت
بثورة غضبي وانفعالي أقرأ هذه الجملة، فإذا «اللثغة» تفارقني، فصفق زكي
طليمات إعجابا وهو يقول: برافو يا فاتن.. حتبقي ممثلة عظيمة.
وكان زكي يعرف أنني لن أتخلص من اللثغة إلا إذا أثارني، وعندما أنفعل
سينطلق الكلام سليما بكل حروفه، ولذلك أثارني متعمدا، وهكذا كانت أول حصة
في تاريخ معهد التمثيل هي علاج «اللثغة» في لساني، وأصبح لساني بعد ذلك
أفصح لسان في نطق اللغة العربية بين طالبات وطلبة الدفعة الأولى في معهد
التمثيل.
ومنذ ذلك اليوم نشأت بيني وبين زكي طليمات صداقة التلميذة وأستاذها، وكان
الرجل دائما ينتهز كل مناسبة ليشهد بمواهبي التي رشحتني لمكانة طيبة في
عالم المسرح، ولم يمضِ العام الأول حتى كنت قد تخلصت تماما من نطق «الراء»
مثل «الغين» وأصبحت انطق «الراء» بوضوح، وأتذكر أني مثلت رواية للمسرح كنا
في حفلة كانت بقصر الأميرة «شويكار»، وبعد أن مثلنا قمنا بالاحتجاج لأنهم
جعلوا طعامنا منفصلا في الخلف وكنا نظن أننا سنأكل معهم، وطبعا كنا صغارا
وكان معي شباب مثل النجوم: شكري سرحان وعمر الحريري وفريد شوقي، وكل هؤلاء
ثاروا ونحن وراءهم ثرنا وامتنعنا عن تناول الطعام، وذهبنا لنجلس في الحافلة
لنستعد للعودة، ولكن الحفلة نفسها كانت جميلة وقد قدمنا مسرحية صغيرة فيها،
وكان المكان معدا لذلك.
علمت نفسي اللغة الفرنسية للتخاطب مع المخرجين
كانت أغلب الأحاديث في الاستوديوهات باللغة الفرنسية في بداية حياتي
الفنية، وكان المخرج يخاطب بها المصور، ومهندس الصوت يتفاهم بها مع
الفنيين، واستهوتني تلك اللغة الجديدة فصممت على مضاعفة محصولي منها، والذي
كان مجرد محصول طالبة في المدارس، حتى تمكنت من استعمال «الفرنسية» في
التخاطب مع المخرجين والمصورين وغيرهم..
في انتظار فتى الأحلام
كنت في تلك الأيام كأي فتاة في مثل سني أرسم في مخيلتي صورة فتى أحلامي،
وكان هذا الفتى كما تخيلته «وسيما وممشوق القامة ومعتزا بنفسه وشجاعا
وصريحا»، وليس من حرج أن أذكر الآن أن الصورة التي رسمتها في ذهني عن فتى
أحلامي لم أجدها في واحد من زملائي طلبة المعهد حينذاك، فقد كانوا جميعا
بعيدين كل البعد عن تلك الصورة، لذلك كانت الأخوة الصادقة هي إحساس علاقتي
بهم جميعا. |