·
استقلت من رئاسة فريق التمثيل بالمدرسة لأن المشرف عليه جامل طالبة أخرى
بمنحها دوري بالمسرحية التي كنا نعدها
مذكرات ومسيرة وسيرة الفنانة الراحلة فاتن حمامة، الإنسانة والحالة الفنية
الرائدة في عالمنا السينمائي المصري والعربي، والتي صنعت تاريخها بميزان
صائغ، وأزاميل نحات، وسيرة ملتزمة، قلما نجد فيها أخطاء المبتدئات أو ما
يمكن أن يجرح حضورها الذي كان دائما استثنائيا التي تنشرها {الشرق الأوسط}
بترتيب مع وكالة «الأهرام» للصحافة.
قبل نحو سبع سنوات من رحيلها بدأت مع فاتن حمامة رحلة طويلة من الاتصالات
والمعايدات في بعض المناسبات المختلفة، واستطعت في بعض الأحيان «اختراق
الحاجز» وإقناعها بإجراء مجرد حوارات صحافية معها لأنشرها في بعض المجلات
والصحف العربية والمصرية، ولم تكن تبخل أبدا علي بذلك. حدثتني عن ملامح
متفرقة من حياتها الشخصية وعن مجتمعها الذي رحل بتقاليده وأعرافه. بدأت من
جديد أطرح الفكرة التي رفضتها من قبل ولكنها في تلك المرة طلبت مني فرصة كي
تعيد ترتيب أفكارها وتدرس الأمر بشكل جدي قبل أن تجيبني.
وبالفعل تركتها وأنا في حالة غريبة وعجيبة من النشوة، لعل كان أهم أسبابها
أنني في حالة موافقتها على أن أسطر كتابا عنها سيكون معظم مادة الكتاب
جاهزا ومتوفرا تحت يدي، وهو تلك الحوارات التي كنت قد أجريتها معها ولم أكن
قد نشرتها بعد، إذ كنت أحتفظ بها لمثل ذلك اليوم. وبالفعل بعد مدة قد تكون
طالت وأثناء حديث تليفوني بيننا وافقت فاتن على أن أقوم بصياغة وكتابة مادة
ذلك الكتاب. ولما قابلتها بعد المحادثة التليفونية ابتسمت وهي تلمس شفتيها
بأنامل يدها اليمنى، وكانت تلك هي بداية الطريق الصعب والمهلك، بل والمضني
أيضا.
فاتن حمامة تطرح كثيرا من الأسرار والتفاصيل وتجيب عن كثير من الأسئلة التي
ظل بعضها عالقا بلا إجابة واضحة في أذهان جمهورها في مصر والوطن العربي،
فتتحدث فاتن أو «تونة» كما كان ينادونها بهذا الاسم، عن أسرتها والمقربين
منها، عن نشأتها وتكوينها داخل أسرة تنتمي إلى الطبقة المتوسطة المصرية
وكيف استطاع والدها أحمد حمامة الذي كان كثير التنقل بسبب عمله الوظيفي
الحكومي أن يرعاها وينمي موهبتها ويضعها بقوة على بداية طريق المجد.
كانت البداية بالنسبة للفنانة الكبيرة فاتن حمامة، تستحق لقب استثنائية،
فلم تكن تتوقع أن تصبح ممثلة ولا أن تشارك في بطولة فيلم مع نجوم ونجمات
الصف الأول في مصر في أربعينات القرن الماضي، ولكن كان إصرار والدها دافعًا
كبيرًا في أن يضع أقدامها على أولى خطوات المجد السينمائي والإنساني
والاجتماعي، وهنا تواصل فاتن حمامة مذكراتها عن تلك المرحلة:
لقد ذكرت سابقًا ما عانيته من زميلاتي اللاتي تعمدن مناداتي بلقبي في
الفيلم، أما المدرسات فكن يلتففن حولي في «الفسحة» ليطمرنني بعشرات الأسئلة
عن التمثيل وكيف يكون وعن المخرج وكيف يعمل ثم تنهين أسئلتهن دائمًا
بالسؤال عن زميلي الكبير محمد عبد الوهاب، ولم أكن يومها أدرك مكانة عبد
الوهاب عند المعجبات، وكنت كثيرًا ما أقول لنفسي لماذا لا يسألنني عن محمد
كريم، فقد كان محمد كريم في نظري هو الشخص الوحيد الذي يجب السؤال عنه
ولِمَ لا وهو أستاذي ومعلمي وكنت أحب كريم، وأحب أيضًا سيدة فاضلة هي زبيدة
الحكيم، فقد كانت تأتي دون هدايا وتجلس إليّ وتحدثني في شؤون كثيرة مما يهم
الأطفال وكأنها في مثل عمري، وقد ظل اسم هذه السيدة يطرق ذاكرتي بين حين
وآخر حتى غمرتنا شواغل الدراسة واقترب موعد الامتحان.
أذكر أننا سافرنا حينذاك إلى مدينة المنصورة في رحلة قصيرة، وما كدنا نغادر
القطار حتى التف الناس حولنا في المحطة وراح الجمهور الصغير الذي تكدس
أفراده حولي يصفق ويصيح «أنيسة.. أنيسة»، واستبد بي يومها الغضب فوجدتني
أرد على «جمهوري» الأول باقتضاب ولم يجد أبي مخرجًا سوى حملي على ذراعه
وجاهد طويلاً حتى وصل إلى الباب الخارجي. وقد غاظني من والدي أن شاهدته
يبتسم لذلك الجمهور رغم كل ما حدث ولم أفهم يومها أن ابتسامات والدي كانت
بسمات الرضا وبسمات الاعتزاز بتلك الموهبة الصغيرة الكامنة في طفلته
«ابنته» ووصلنا إلى المنزل الذي كنا نقيم فيه وما كدنا ننتهي من تناول طعام
الغداء حتى سمعنا هتافات عالية تردد «عايزين أنيسة.. عايزين أنيسة».
وفتح والدي الشباك قليلاً ووقف ينظر من بين دفتيه لما يحدث خارجه وكان
المنظر الذي طالع والدي منظرًا غريبًا، فكان هناك مئات من طلبة مدرسة
المنصورة الثانوية تتقدمهم فرقة كشافة المدرسة وهي تعزف بعض المقطوعات
الحماسية فيقاطعها الطلبة صائحين «عايزين أنيسة» وخشي عليّ والدي من ظهوري
في الشرفة فأمرني بالاختباء داخل المنزل ثم استدعى خادمًا نوبيًا صغيرًا
كان يعمل لدينا وطلب إليه أن يخرج إلى الشرفة، وخرج الخادم الصغير يرفع
إليهم يده الأبنوسية الصغيرة ويبادلهم التحية بمثلها، وضحك الطلبة، ولكنهم
ظلوا في أماكنهم لا يغادرونها وظلوا على موقفهم لا يحيدون عنه - لقد جاؤوا
من أجل أنيسة ولن يجلوا عن المكان إلا بعد رؤيتها؟ - فخرجت إلى الشرفة أنظر
بدهشة إلى الذين احتشدوا حول منزلنا ليروني وساءلت نفسي.. لِمَ؟ وبقيت
«لِمَ» سؤالاً بلا جواب حتى أدركت أن الناس تجذبهم الشهرة «كما يجذب الرحيق
الطيب بالزهور النحل». لقد خرجت إلى الشرفة والابتسامات على شفتي
والابتسامات كان مصدرها فريق الكشافة قبل أي شيء آخر ويدي في الهواء تلوح
للهاتفين وأشرت إليهم أن يسكتوا فأطاعوا الأمر ثم ولأول مرة في حياتي وقفت
فيهم موقف الخطابة، فقلت لهم «إذا كنتم عايزيني انبسط وأحبكم.. قولوا
عايزين فاتن، فاتن مش أنيسة، علشان أنا بازعل قوي من اسم أنيسة». وصاح
الجميع «تعيش فاتن.. تعيش فاتن» ثم علا صوت من بينهم يهتف «تعيش أنيسة»
فردد الجميع الهتاف من بعده وهدموا على الفور ما جاهدت في بنائه، ولم أجد
من الغيظ مهربًا إلا في الدموع فأطلقتها غزيرة وأسرعت بالدخول.
في اليوم التالي صحبني والدي إلى حفل إقامته في المنصورة وزارة المعارف
بالنادي الرياضي وما كدت أدخل المكان حتى استقبلني همس خافت «أنيسة أهي..
أنيسة أهي» وأمسك والدي بيدي وراح يخترق مقاعد الحاضرين حتى وصلنا إلى
مقصورة رجال وزارة المعارف وما كاد مدير والدي في العمل أن يشاهدني وكان
ضمن الجالسين إلا ووجدته ينهض من مكانه وأقبل عليّ مقدمًا لي علبة كبيرة من
الشوكولاته وشاهد الحاضرون ما فعله المدير فصفقوا طويلاً، واضطر المشرفون
على البرنامج إلى تعطيله دقائق حتى انتهت المظاهرة!
لقد ظهرت نتيجة الشهادة الابتدائية، فإذا بي بين المتفوقات المتمتعات
بالنجاح، وقال لي إحساسي بالجميل والعرفان إن أقدم الشكر لمدرساتي اللواتي
ساعدنني على هذا النجاح وذهبت في اليوم التالي إلى مدرسة المنصورة
الابتدائية وكان يسير خلفي خادمنا النوبي - سابق الذكر - يحمل صينية كبيرة
من الكنافة اشتهرت والدتي بإجادة صنعها ونصف دستة من زجاجات الشراب وأقمنا
حفلة صغيرة في المدرسة وانهالت على القبلات من كل جانب، وكان من بينها قبلة
واحدة من عشرات القبلات كنت أود من كل قلبي إلا تستقر على وجنتي، وهي قبلة
لمدرسة اشتهرت بيننا بالقسوة ولم يكن قد حدث بيني وبينها طيلة العام
الدراسي ما يجعلني أكرهها إلا أنني كنت لا أحبها «لله في لله» كما يقولون،
ولكن المهم أن انحنت عليّ المدرسة المذكورة تقبلني وشعرت كأنما قد حط على
خدي حجر كبير انفلت فجأة من الجبل، وعندما رفعت شفتيها عني كان وراء المظهر
القاسي قلب مليء بالحنان ووراء النظرة الصارمة دموع تنتظر لحظة ضعف لتنهمر.
وحاصرتني الدموع من كل جانب ووجدت دموعي تتدفق هي الأخرى «دموع الفرح».
وانتهت مرحلة دراستي الابتدائية وقرر والدي أن يلحقني بمدرسة «الأميرة
فوقية» بالجيزة لقربها من المنزل الذي انتقلنا إليه وكانت ناظرة المدرسة
سيدة عصرية تعتني عناية خاصة بتنشئة تلميذاتها تنشئة رياضية في الحدود التي
تسمح بها تقاليدنا الشرقية، كما كانت تشجع الهوايات النافعة ومن بينها
التمثيل، ومن هنا كانت مشجعة لي أن التحقت بأحد هذه الأنشطة فالتحقت بفريق
الرقص الإيقاعي وقد أظهرت فيه براعة أدهشت المشرفين عليه ثم انتقلت إلى
رئاسة فريق التمثيل في المدرسة وكان الذي رشحني لشغل منصب الرئاسة لذلك
الفريق هو دوري في «يوم سعيد» وقد استعانت المدرسة بأحد مديري التمثيل في
المسرح المدرسي الذي كان قد أنشأه «زكي طليمات» لنشر الثقافة المسرحية في
المدارس.
وقد عانيت كثيرًا من هذا المدرب، فقد كان لسبب لا أعلمه يضطهدني وينتقص من
مقدرتي على التمثيل وقد قرر أن يقدم فريق المدرسة مسرحية «الهادي» ووقع
عليّ الاختيار دون الطالبات للقيام بدور البطولة فيها وبدأت أستعد لأداء
الدور فحفظت حواره كاملاً وبت أنتظر البروفات وفوجئت ذات يوم ولم يبقَ على
العرض إلا بضعة أيام معدودة، بأن المدرب يسحب مني الدور ليهديه إلى تلميذة
أخرى. وثُرت لهذا القرار وشكوت الأمر إلى الناظرة وقلت لها إنني لا أري
سببًا لمثل هذا التصرف، وقد أيدتني الناظرة فيما قلت واستدعت مدرب التمثيل
الذي زعم لها أن صغر سني يحول دون قيامي بالدور الذي يتطلب فتاة أكبر وأطول
قامة وقد حاولت الناظرة أن تثنيه عن عزمه ولكنه تشبث بالأمر واضطررت إزاء
هذا التصرف العدائي إلى الاستقالة من الفريق.
لقد كان موقفي هذا غريبًا بين زميلاتي فظل أمر اعتذاري عن التمثيل حديث
الطالبات فترة غير قصيرة وأقيم الحفل دون أن أشترك فيه. وفي اليوم التالي،
اجتمعنا في فترة «الفسحة» أنا وبعض زميلاتي فرحت أقول رأيي الصريح في
المسرحية وأنتقد التمثيل نقدًا دقيقًا صارمًا. وانتابني حماس مفاجئ فرحت
أثبت العلم بالعمل، فجسدت أمام زميلاتي أدوار شخصيات المسرحية المختلفة حتى
أدوار الخدم والأدوار الثانوية لم أنسها وما أن انتهيت من التمثيل حتى
فوجئت بعاصفة من التصفيق والتففت حولي لأجد الطالبات والمدرسات جميعًا كن
قد بدأن يتجمعن حولي الواحدة تلو الأخرى، ولكني لفرط اندماجي في التمثيل لم
أشعر بهم إلا لحظة انتهائي من التمثيل وانتحت بي إحدى المدرسات جانبًا
وقالت: «انتي بكره حتكوني ممثلة كبيرة يا فاتن»، ولا أدري إلى اليوم إذا
كانت جملة مدرستي هذه كانت نبوءة أم مجرد عبارة إعجاب وتشجيع وكل ما أدريه
أنني قد أصبحت ممثلة ناجحة أتذكر هذه الشهادة بين حين وآخر فأشعر بها
تدفعني إلى الأمام.
ولما كانت الطبيعة قد حبتني بجسم صغير فقد سهل علي هذا الأمر حتى أصبحت
المدرسة كلها تتحدث عن فاتن البارعة في الرقص الإيقاعي بنفس الحماس الذي
كانت تتحدث به عن فاتن الممثلة الصغيرة. وقد كنا نرقص عادة بملابسنا
العادية حتى جلس مدربنا ذات مرة يحدثنا عن الملابس التي تؤدي بها هذه
الرقصات عادة ويصفها لنا وصفًا مسهبًا. وما أن عدت إلى المنزل حتى كانت
الفكرة قد اختمرت في ذهني وسألت نفسي «لماذا لا أؤدي الرقص بملابسه
الأصلية؟». ولم يكن إقناع والدي - المشجع لي دائمًا - بذلك الأمر العسير
لأحدنا فهو رجل عاش لنا ومن أجلنا ولم يرفض لأحدنا طلبًا لا يراه ضارًا،
وبالفعل بعد أيام كنت أرتدي حلة الرقص كما وصفها المدرب وبعد أيام أخرى
كانت الناظرة تنظم الدخول إلى قاعة التدريب على الرقص وتحدد عدد الداخلات
في كل مرة بعشر طالبات فقط حتى لا تزدحم بمشاهداتي. وبهذه الطريقة ثارت من
مشرف فريق التمثيل الذي تجاهل موهبتي في التمثيل، وشكرت الله الذي سبب لي
حادثة التمثيل حتى يفجِّر بداخلي موهبة أخرى كان دفينة.
ثم جاء موعد الامتحان وانتهى وقت الكسل والتراخي واللعب وكنت دومًا لا أهمل
استيعاب دروسي «كما لم أهمل من قبل في أي عمل أحببته أو أي هواية تعلقت
بها» ويوم صدور النتيجة وقبل أن تصلني، أرسلت الناظرة في استدعاء والدي
وعلى الرغم من أنني كنت قد أديت الامتحان بلا صعاب، فإنني شعرت بقلبي يسقط
إلى قدمي ظننت أنني قد رسبت، ولكن سرعان ما عاد والدي إلى المنزل
والابتسامة العريضة تحتل فمه كاملاً وما أن شاهدني حتى أسرع يحتويني بين
ذراعيه ويمطر شعري وجبيني ووجنتي بقبلات حانية كثيرة، وتنفست الصعداء
فأدركت الآن النتيجة، بل وأعلن والدي عن فوزي على جميع أشقائي وشقيقاتي في
«المسابقة» التي كان اعتاد أن يعقدها بيننا كل عام، فقد كان نجاحي بتفوق
كبير ومنحني الجائزة المخصصة للفائز وكانت مبلغًا «محترمًا» من المال. ولم
يكتفِ والدي بمكافأتي بل أراد أن تشمل المكافأة الجميع إكرامًا لي فقرر أن
نسافر جميعًا في اليوم التالي إلى الإسكندرية، وفي الإسكندرية قضيت فترة
جميلة «فاتنة» من فترات العمر حيث أهداني والدي الحبيب قبل السفر مجموعة
كبيرة من الكتب القصصية الصغيرة المكتوبة خصيصًا لمن كن في مثل عمري،
وبالفعل على الشاطئ الهادئ قرأت وقرأت حتى أحببت القراءة التي أصبحت أدين
لها بكثير مما وصلت إليه في مراحل عمري المتتالية.
عندما انتهيت من أداء دوري في فيلم «يوم سعيد» كان والدي قد ارتبط مع محمد
عبد الوهاب على أن يحتكر جهودي الفنية لمدة عامين، وكان الارتباط شفويًا
«مجرد وعد» كان قد قطعه والدي على نفسه. ولكن على الرغم من هذا رفض والدي
أن يضعف أمام أي عرض من العروض الكثيرة التي انهالت عليه بعد عرض فيلم «يوم
سعيد»، ورفض العروض كلها فقط لأنه كان قد ارتبط بكلمة الشرف، وكان ذلك
بالنسبة لي درسًا جميلاً أدركته من والدي في سن يتأثر فيها النشء بأشياء
كثيرة، وقد وصل نبأ تلك العروض وكان أحدها من «مؤسسة كبرى عرضت عليَّ
مرتبًا كبيرًا نظير احتكار جهدي التمثيلي» إلى مدير أفلام عبد الوهاب، وعلى
الفور أرسل إلى والدي يستدعيه وعندما لبى والدي دعوة المدير وجد في انتظاره
عقدًا تعرض الشركة فيه عليّ الظهور في إنتاجها مقابل «42 جنيهًا».
والحقيقة، إن هذا المبلغ ظل يحيرني بعد ذلك «فلماذا 42 جنيهًا؟ ولما لا ينص
العقد مثلاً على أن المبلغ 40 جنيهًا أو 50 جنيهًا؟ أو حتى 45 جنيهًا»؟
سؤال لم أستطع الإجابة عنه رغم أنني فكرت فيه طويلاً، ولكن في النهاية وقع
والدي على العقد بالموافقة دون أن يعترض على شيء مما جاء فيه. وترتب على
ذلك أنني بعد مدة من الوقت قد تكون امتدت لعدة أشهر دعيت للظهور في ثاني
أفلامي مع عبد الوهاب وكان يحمل اسم «رصاصة في القلب» وكان عمري في ذلك
الوقت أحد عشر عامًا. ورغم أنني كنت في نظر نفسي على الأقل قد كبرت، فإن
المخرج محمد كريم ظل يعاملني بتدليل وكأنني ما زالت الطفلة الصغيرة التي
عملت معه من قبل، فكان يحيطني بالعناية والاهتمام اللذين تحاط بهما طفلة.
وقد اعتبرت معاملة محمد كريم هذه لي معاملة لا تليق بطالبة توشك أن تضع
قدميها بعد عامين على عتبة «البكالوريا» فأعلنت احتجاجي الشديد عليها، وما
كان من كريم إلا أن اعتذر عن معاملتي كطفلة وهو يغالب الضحك، وبدأ لا
يناديني باسمي مقرونًا بلقب «آنسة»، وكان في تصرفه هذا بعض ما أرضى غرور
الآنسة داخلي. وعندما دخلت إلى الاستوديو للمرة الثانية لم أقف كالمذهولة
أمام محتوياته كما فعلت في أول مرة، بل كانت معلوماتي عن السينما قد ازدادت
عن شؤون الإخراج والتصوير والسيناريو والديكور.
كانت السيدة الفاضلة «زبيدة الحكيم» توالي زيارتها للاستوديو كل يوم من
أيام عملي وحين كانت تزورنا كانت تجالسني وتحدثني في الشؤون الخاصة وشؤون
السينما وتقدم لي الهدايا التي تليق بي. وحينذاك كان أشد ما أحرص عليه في
العمل هو دقة المواعيد. وكانت هذه خطة نقلها إلى المخرج محمد كريم الذي كان
يحرص على أن ينظم لي أوقات العمل وأوقات الدراسة وكان عبد الوهاب يضع
سيارته الخاصة تحت أمري لتنقلني من المنزل إلى الاستوديو ومن الاستوديو إلى
المنزل وهو تكريم كبير لم تكن تصل إليه بطلات أفلامه. ولم أكن أتغيب عن
الاستوديو، إلا يومًا واحدًا حيث كان قد زار فيه مدرستنا «وزير معارف
سابق». ولهذا الحدث نظمت الناظرة لجنة استقبال للزائر الكبير وبالتأكيد كنت
إحدى «عضواتها» وحين ودعنا الوزير إلى باب المدرسة وتكريمًا لنا أصرَّ على
مصافحتنا جميعًا وما أن وصل إليَّ حتى قال لي وهو يبتسم «أنا مبسوط منك
خالص يا فاتن، انت حتبقي ممثلة كبيرة» ولم أقل له يومها إن الممثلة الكبيرة
كانت في حالة «زوغان» من الاستوديو لمقابلتك.
وانتهيت مجددًا من تمثيل دوري في فيلم «رصاصة في القلب» حيث التقطت أذناي
لفظًا علق بهما طويلاً وكانت التي نطقت به زميلة اشتهرت بيننا بالبراعة في
الأفلام. أما اللفظ فكان «الحب»، نعم «الحب» كانت الزميلة تسهب في وصف مدى
تضحية البطلة، وعندما قرأت في أعين بعض المستمعات إليها الدهشة قالت لهن
ببساطة «ماهو أصل الحب وحش».
وعلى الرغم من أن الكلمة ذكرت مقرونة بوصف «الوحاشة» فإنني تعلقت بها
وأحببتها، نعم أحببت العمل قبل أن أعرف ما هو الحب وأعجبت باللفظ قبل أن
أقف على مدلوله، تمامًا كما تحب أنت اسمًا دون سائر الأسماء. ومنذ التقطت
أذناي هذا اللفظ أصبحت حريصة على أن أشاهد فيلمًا فيه حب. وكان والدي
الحبيب يوافق على اصطحابي إلى هذه الأفلام لأنه كان يؤمن بأنها تحمل دروسًا
لي ولا يري ضررًا في أن أشاهد على الشاشة العاطفة السامية التي تربط بين
قلوب البشر. وبدأت أتحدث عن الحب ولكن كانت أحاديثي فيها من السذاجة أكثر
مما فيها من الحب، ولذلك قد حدث أن قامت مناقشة بين بعض الزميلات اللاتي
تكبرنني سنًا حول بعض صفات الحب فوجدت نفسي مندفعة اندفاعًا ورحت أبدي
الرأي تلو الرأي عن الحب الذي أعرفه، ولأن معرفتي كانت سطحية فقد ضحكت
زميلاتي طويلاً لما قلته حيث كان حديثي كلامًا، مجرد كلام، واستأت للموقف
وحزنت في نفسي أن تنجح زميلاتي دوني في الحديث عن الحب. ووجدت نفسي أشكو
وأبوح بما يدور بخلدي إلى صديقة أثق فيها، فما كان منها إلا أنها أخرجت من
حقيبتها ورقة وقلمًا وسطرت لي قائمة بأسماء الروايات التي تدور حول الحب..
ومنذ ذلك اليوم وأنا لم أتوقف عن قراءة روايات الحب، ولم أكتف بهذا فقط بل
عكفت لمدة طويلة على دراسة أساطير الحب القديمة وقصص غزاة القلوب، فقرأت
«روميو وجوليت» أمثولة الحب العظيم أكثر من خمس مرات وكانت إحدى دور الصحف
قد ترجمتها في كتيب وزع مع مجلاتها فاستعرت الكتيب من إحدى زميلاتي وأمضيت
ثلاثة أيام كاملة مع قصة المحب الوفي والحبيبة المثالية.
وأيضًا قرأت دروسًا في الحب أملاها سقراط على شاب تقدم إليه يشكو بغضه
لزوجته، وقرأت قصة الرسام الإيطالي الذي أحب امرأة متزوجة فعاش عمره يتعبد
في محراب فلما ماتت بعث صورتها في كل لوحاته، وقرأت كل ما كتبه يوسف
السباعي عن الحب. وأستطيع أن أقول إنني خلال عام واحد انتهيت من عشرات
القصص والروايات حتى نضجت في ذهني صورة مختلفة، وحتى عرفت كثيرًا من أموره
الظاهرة والباطنة والمعلومة والخفية. ولكن كان همي الأكبر في تلك الفترة
بعد قراءة روايات وقصص الحب،، هو إخفاءها حتى لا تقع عليها عينا أبي أو أمي
فقد كانت أسرتي كأي أسرة مصرية تعيش في رحاب التقاليد المتوارثة ولا تنظر
إلى مثل هذه الكتب بعين الرضا. وكانت حقيبة الكتب المدرسية وإدراج مكتبي
المغلق هي المخبأ الأمين.
وأذكر من بين المشكلات التي أُفتيت بها مشكلة فتاة كانت تكبرنا بأعوام
ثلاثة، وعلى الرغم من أنها لم تكن بين تلميذات مدرستي، فإنها لجأت إليَّ
لما بلغها عني من ذيوع في عالم النصح والإرشاد، فقالت لي الصديقة «إن
مشكلتها تتلخص في حبها لشاب وسيم كل همه الإيقاع بأكثر عدد من الفتيات ثم
المجاهرة بالأسماء وبعدد الضحايا». ونصحت تلك الفتاة «بأن تكتم عواطفها وأن
تتجاهل هذا المغرور لأن غروره يعميه عن كثير من حقائق الحياة ولذلك يكون
حبه لها صادقًا في يوم من الأيام». وفوجئت بها بعد أسبوع واحد أن الزميلة
عادت لتشكرني فقد عملت بنصيحتي وشعر الفتى أنها لا تأبه بجماله ولا بسحره
فجن جنونه وكعادة الرجل في مثل هذه الحالة لم يجد أمامه طريقًا لامتلاكها
سوى الطريق الطبيعي والشرعي فتقدم إلى والدها يطلب يدها، وحقيقي يسعدني أن
أقول إن الزواج بينهما تم بعد تخرج الشاب من كليته وإنهما إلى اليوم يكونان
أسرة سعيدة تربطني بها صلة الصداقة القوية.
الرقص الإ
>
التمثيل لم يكن هوايتي الفنية الوحيدة بل كانت هناك هواية أخرى جميلة تملأ
نفسي وتنتظر اللحظة التي تنطلق فيها، وكانت هوايتي تلك هي «الرقص الإيقاعي»
وقد وجدت فرصة إشباعها كاملة بعدما سحب مدرب التمثيل دور البطولة مني
وأسنده إلى طالبة أخرى كما ذكرت أعلاه. وبالفعل كنت قد بدأت أتدرب عليه كل
يوم حتى تفوقت على زميلاتي جميعًا. وكان الرقص الإيقاعي شيئًا لا تقرّه
وزارة المعارف حينذاك بل هي أكثر من هذا لم تجد بأسًا في أن ترقص طالباتها
رقصًا حركاته أقرب إلى الرياضة.
أستاذة في الحب
>
بدأت أتحدث عن الحب «حديث الخبيرة» دون أن يقابلن صديقاتي حديثي بضحكاتهن
الساخرة. وكان حديثي دائمًا مدعمًا بأقوال «جورج بايرون» المأثورة عن تلك
النبيلة، وبأشعار «فيكتور هوجو» الذي يسهب في وصف الحب، وأيضًا بالأشعار
الرقيقة التي نظمها الشعراء العرب في الغزل. وكانت زميلاتي ورفيقاتي يجلسن
حولي يستمعن إلى محاضراتي بما أقول والإيمان به ولم ألبث أن أصبحت أستاذة
الحب بينهن. وكانت كل منهن تلجأ إليّ في مشكلاتها العاطفية.
يقاعي هواية جديدة |