صلاح سرميني

 
سيرة جديد مقالات ملفات
 
 
 
 

ملفات

 

>>>

55

54

53

52

51

 

فيلم "أميرة"، أو الوليد الهجين لحالةٍ سينمائيةٍ عربيةٍ عاّمة (1/2)

كتابة: د. مالك خوري/ القاهرة

 
   
 

فيلم "أميرة" قسّم العرب مؤخراً بين المُعسكرين الأعلى صوتاً هذه الأيام في إعلام، وفي وسائل التواصل الاجتماعي في عالمنا العربي:

الطرف الأول يضمّ معارضين للفيلم من المُطالبين، وباسم "الوطنية"، و"الدين"، و"الكرامة"، و"الأخلاق" بمحوّ الفيلم من الوجود، وعدم عرضه، وحتى معاقبة فريق عمله، ومن تعاون معهم.

ومعارضة الترهيب، والتخويف هذه لا تُسهم بالنهاية إلاّ في تسطيح القضايا المطروحة، وبالتالي، تكاسل عملية الفهم الجمعي لتعقيداتها الوضعية، والسياسية.

أما الطرف الآخر، فيضمّ مؤيدين للفيلم يدافعون عنه، وهؤلاء أنفسهم تعوّدنا سماعهم في مثل هذه القضايا، وهم يتخفون بخبثٍ وراء شعارات "حرية التعبير"، و"الحرية" لإسداء تأييدهم حيثياً لمنتجٍ "فني" يخدم أهداف "أنسنة" الصهيونية، وسياساتها، وتاريخها، والممارسات الاستعمارية في المنطقة.

والطرفان بالنهاية يحترفان محاولة فرض الوصاية على العقل العربي:

أحدهما عبر القمع، والمنع، والتهديد (بما يتناغم مع فكر التكفير، والاقصاء، والديماغوجية). وثانيهما عبر التبسيط من شان التعاطي مع قضايا محورية في مجتمعاتنا، وكأنها قضايا لا تعنينا جدياً، ولا يعيش، ويكابد، ويموت في آتون صراعاتها، ومآسيها الملايين من أبناء شعوب المنطقة...

هي، بالنسبة لهؤلاء، تمثل مجرد موضوع سينمائي شيق للعبةٍ "ما بعد حداثية" يمضغها الجمهور مثل "البوب كورن" ثم يخرج من قاعة العرض مصفقاً لمخيلة المخرج "الخصبة".

 

الفيلم، وردّ الفعل السلبيّ عليه

كلنا أضحى يعرف قصة الفيلم: عملية تلقيح صناعيٍّ من نطفةٍ مهرّبة من والد أسير في سجن إسرائيلي، تنتهي في ولادة ابنةٍ له خارج السجن.

لكن، في إحدى الزيارات التي تقوم بها أميرة الى والدها في السجن، يطلب السجين من الأم إنجاب طفل آخر بنفس الطريقة.

بالنهاية، توافق الزوجة، وتتمّ عملية التهريب، في هذا السياق يكتشف الأطباء المشرفون على زرع النطفة أنها لشخص عقيم.

مسلكية الأم في هذه المعمعة تصبح تحت المجهر، لتعترف أخيراً بالخيانة مع الطبيب، ولجعل الموضوع أكثر تعقيدا، نكتشف بالنهاية أن الأب الحقيقي هو في الواقع ضابطٌ اسرائيليّ .

الفيلم ضعيفُ فنياً خصوصاً على صعيد السيناريو، والإخراج، لكن أهمّ نقطة ضعفٍ تكمن في ضرب الكاتب بعرض الحائط بأداء واجبه البحثي المتكامل لتفصيلات عمليات نقل النطف من السجون، والتعقيدات المحيطة بها، والتي تجعل من سيناريو الفيلم ضرباً من الخيال العلمي، والذي من الصعب تصديقه.

وفي عملٍ يعتمد على التشويق المرتبط بالحبكة "الاستقصائية"، فإن مثل هذه الثغرة السردية تعكس ضعفاً أساسياً في بنية الفيلم.

عدا عن أنها تضع الفيلم، وأخذاً بالاعتبار الحساسية السياسية للموضوع، في باب المساءلة عن السبب وراء هذا التعاطي غير المسؤول مع القضية المطروحة ككل.

وهذا ما حصل بالفعل، وهو ما دفع الكثيرين الى ادانة الفيلم، والدعوة إلى "تحريمه"، وسحبه من التداول، والعرض.

ردّ الفعل هذا، وإن كان مفهوماً، فإنه يموّه على خطورة الموضوع، وآلياته الحقيقية، ويصبّ في خانة دعم من يحترف في هذه الأيام "تحريم"، ومنع، ومراقبة، وقمع الأعمال الفنية في بلادنا، بدءاً من أصحاب الهيمنة الطبقية/السياسية، وانتهاء بالمتلطين بالدين، ومؤسساته المهيمنة ايديولوجياً على مجتمعاتنا.

في هذا الإطار، يصبح من الضرورة إعادة التأكيد على القطع مع ممارسات فرض الوصاية على ما يراه الجمهور، وبالتالي، التعامل معه ككيانٍ قاصرٍ، وغير قادر، أو جدير باستيعاب تعقيدات الأمور حوله!

ان مشاركة الجمهور في مشاهدة ما نتحدث عنه، ونناقشه هي أولوية لم يعدّ من المسموح المساومة عليها تحت أيّ ظروف.

فما قد يضيفه هذا الجمهور إلى مثل هكذا نقاشات تستتبع رفضاً بالمطلق لسياسة القمع الرقابي بكلّ أنواعها المباشرة، وغير المباشرة.

 

كيف نتعامل مع فيلمٍ نرفض طروحاته؟

أما الأهمّ في سياق إلقاء الضوء على أهمية الفيلم، والمتابعة الجدية للخطورة السياسية لمفاعيله، فيستتبع حكماً كشف آلياته، ومكامن النفوذ، والقوة التي تجعلان من تحقيقه، وتسويقه ممكناً، بل طبيعياً، في الظروف التي نعيشها.

هذا ما يدعم المواجهة الفعلية مع هذا النوع من الأفلام، ويساهم في خلق، وتطوير ثقافة سينمائية مقاومة للتطبيع، وأدواته.

ولكي نستوعب هذا، ينبغي أيضاً فهم الموقف الفعلي للجمهور، والتعاطي بجديةٍ مع رفضه الواضح لتشويه، ولاستهزاء الفيلم بحقيقة ممارسةٍ هي بالفعل شكلت تعبيراً عن إصرار الإنسان الفلسطيني على الحياة رغم السجن، والقهر، وعلى مقاومته للاستيطان الصهيوني الكولونيالي في فلسطين بالرغم من كلّ ظروف القتل، والعنف، والقمع التي تواجهه. 

في ستينيّات القرن الماضي، كان يبحث التقدميون في الثقافة، والعمل السينمائي عن وسائل لاستفزاز الجمهور للخروج من حالة التلقي السلبي، والتعاطي النقدي مع كلّ "المُسلمات" الايديولوجية التي تحيط به ... كلها: السياسية، والأخلاقية، والدينية، والابستمولوجية.

ولهذا، استوحى جان لوك جودار، على سبيل المثال، من المسرحيّ الالماني الماركسي برتولت بريشت الممارسات "التغريبية" في التقديم الفني.

فكان يبحث عن الطرق التي تغير طبيعة علاقة المشاهد بالسينما: ما يقطع تناغم المشاهد مع ما يراه، بل ما يستفزه ليجابه ما يراه، وما يسمعه بالجدل، وبالتمحيص.

طريق بناء البديل بالنسبة لهؤلاء الطليعيين كانت في صلبها عملية حفز للرؤية النقدية، والعلمية للمُشاهد، وليس "للتفكير عنه"، وباسمه، ومشاهدة الافلام عنه، وتقرير ما هو مناسب، وما هو غير مناسب له كي يراه.

هم لم يدعوا "لرجم"، ومقاطعة، ومنع سينما هوليوود، وأوهامها، وترهاتها على سبيل المثال. فهذا أسلوب الفاشية، وليس أسلوب التقدميين.

هؤلاء دعوا لنقاش آليات السينما السائدة، ومكامن قوتها، وذلك في إطار الرفع من مستوى القدرة على المواجهة الجمعية على ارساء فهم أكثر علمية، وأقلّ ايديولوجية للعالم الذي يعيشون داخله.

 

متغيرات خطيرة في الواقع السينمائي العربيّ

هناك تغيرات أساسية طرأت على طبيعة القوى المُهيمنة على الصناعة، والثقافة السينمائية في العالم العربي تجعل من فرز أفلامٍ مثل "أميرة" أكثر احتمالاً، وتكراراً.

فهناك تغيرات في تركيبة رأس المال الاحتكاري المحلي، أو الكارتيل المهيمن، وبشكلٍ خاصّ لجهة ازدياد دور حلقات رأس المال الخليجي ضمن بنية الإنتاج، والإدارة في الصناعة السينمائية العربية، وازدياد هيمنتها على العديد من شركات التوزيع، والدعاية، والعرض الملحقة، وشركات التلفزيون، والصحافة.

وهذه تحولت في الواقع إلى عامل سياسي اقتصادي متكامل الأطراف، والقوة، فجزء ضخم من صناعة السينما بمفهومها الأوسع في العالم العربي أضحت مرتبطة بكارتيل ضخم، ودوائر واسعة متفاعلة معه، وتشمل حتى إدارات المهرجانات السينمائية الكبرى، وشركات الدعاية للأفلام، وصالات العرض الشعبية منها الى سينمات المولات التجارية الى دور العرض الفجة في بذخها، وأسعارها في الدول الخليجية.

ولزيادة "الطينة بلة"، فقد وضع العديد من النقاد، والصحافيين، والعاملين في الاعلام السينمائي أنفسهم رهن توجيهات وإرادة هذا الكارتيل، ودوائره الفرعية في الصحافة، والاعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي.

وتعمل بعض المكوّنات الانتاجية لهذا الكارتيل جاهدة اليوم على إضفاء صورة مزيفة عن نفسها كداعم "للسينما المستقلة".

فضمن وضع أطرٍ محددة لعملها، تسهم هذه الحلقات من خلال ارتباطاتها المالية، والإعلامية، والسياسية في تشجيع، وتكريس رؤى محدودة، و"مبسترة" للتعبير السينمائي في العالم العربي. ويتمّ هذا عبر حصر مفهوم التعبير السينمائي ضمن أطرٍ تتلاءم، أو بالأقلّ لا تتناقض مع ما هو مسموح به، أو ما يتناغم مع تفكير، ومصالح القوى السياسية/الاقتصادية، والسياسية المهيمنة عليها.

وفي إطار تراجع العديد من الدول العربية، مثل مصر، عن سياسات دعم الدولة للانتاج السينمائي المحلي، فإن التنسيق المتعدد الوجوه بين قوى الهيمنة الجديدة من ناحية، وبين بعض المؤسسات "غير الحكومية" المحلية، أو التابعة لبعض الدول الخليجية، أو لدول الاتحاد الأوروبي )والتي توفر بعض أشكال الدعم المالي، أو اللوجستي لأعمال سينمائيين شباب من العالم العربي(، من ناحيةٍ أخرى، يؤدي الى مزيدٍ من التدجين الفكري، والفني، والايديولوجي للثقافة السينمائية العربية الجديدة، ويخلق ظروفاً مناسبة أكثر للكتابات السينمائية السطحية التي تسهم في احباط مستوى الثقافة السينمائية عندنا بشكلٍ عامّ.

وخلال الأعوام الخمس الماضية، بدأ العمل على تأسيس، وتطوير، وتوسيع مؤسّساتٍ تعمل في مجال التوزيع، والتسويق، والعرض للأفلام العربية، وكلها على ارتباطٍ مباشر بتمويل خليجي مؤسساتي، وفردي، ورسمي.

كلّ هذا يتم في إطار وجود علاقات واضحة، مهنياً، ولوجستياً، وحتى شخصياً بين الذين يقودون عمل هذه المؤسسات، وشبكة كبيرة من "النقاد"، والصحافيين المحليين، وبعض العاملين ضمن لجان اختيار الافلام داخل بعض المهرجانات، ومؤسّسات ضمن الصناعة السينمائية الخاصة.

وبدأ بعضٌ من هؤلاء، وبحكم عملهم كنقاد، أو منتجين، أو فنانين، أو موزعين، أو مسوّقين، يتشاركون في تناوب العمل، والموقع ضمن لجان تتمتع بقرارات تنفيذية بالنسبة لترشيح، أو اختيار، أو استبعاد ترشيح الافلام العربية في مهرجانات، أو مسابقات أفلام عالمية.

ومع التطورات الجيوسياسية الحالية في المنطقة بما في ذلك الجنوح المتسارع لعدد من الدول الخليجية، والعربية للتطبيع السياسي، والثقافي مع "اسرائيل"، فنحن اليوم أمام ارتداداتٍ لا بدّ من توقعها في الساحة الثقافية.

ويدخل على الخطّ من وراء الكواليس السينمائية بعض الشركات، والشخصيات الداعمة لإسرائيل، أو المعروفة بتأييدها المباشر لإنتاج، وتوزيع السينما الإسرائيلية، أو الداعمة للصهيونية.

ومن بين هؤلاء العديد من مشايخ دول الخليج الدين جعلوا من نفسهم هذه الأيام "حمامات سلام" في المنطقة، وأدوات للحضّ على نسيان الماضي، و"فتح صفحة جديدة" للعلاقات مع الكيان الصهيوني.

في هذا الجو يمكن التعاطي سينمائياً مع موضوع مثل فلسطين بما يتجاوز "تزمت"، و"عصبيات" الماضي، ومن غير "عقده" ) نسمع مثل هذه التصريحات يومياً في الإعلام الخليجي، وفي وسائل التواصل الاجتماعي(.

يتبع....

سينماتك في ـ  08 يناير 2023

* هذه المواد نشرت في جريدة التيار السودانية، بتاريخ 16.12.2021

 

>>>

55

54

53

52

51

 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004