|
أمضيت وقتا ممتعا في قراءة هذا الكتاب للناقد وكاتب
السيناريو والأكاديمي، وقبل كل ذلك عاشق السينما، د
وليد سيف.
الكتاب الصادر عن مطبوعات مهرجان الإسكندرية ٢٠٢٥ يحمل
عنوانا طريفا هو "طريق النقد.. سكة اللي يروح بين
السيرة والخيال"، ويقدم فيه د وليد صفحات من حكايته
الطويلة في عشق السينما واكتشافها، ثم كتابة النقد
والسيناريو، واستكمال الدراسة الأكاديمية، والتدريس،
وكلها جوانب شيقة كتبت بطريقة سردية لا تخلو من
السخرية والدعابة، وفيها الكثير من الجرأة والشجاعة
غير المعهودة في تلك النوعية من الكتب، والتي يلجأ
أصحابها عادة إلى التجميل وتضخيم الذات، وعدم الاعتراف
بالخطأ.
على عكس هذه النظرة المثالية، فإن د وليد يتحدث في
كتابه بصراحة عن تلك المسافة الهائلة بين الحلم
والواقع، وبين ما أراده من احتراف كتابة السيناريو وما
حققه بالفعل، ولا يتردد في كشف كواليس صناعة الأفلام،
وقد عرفها مساعدا للاخراج وكاتبا للسيناريو.
أجمل ما فعله د وليد أنه لم يتكلف ولم يتصنع ولم يكتب
من منصة العالم والخبير والأستاذ، ولكنه فتح باب
الذاكرة من سنوات الطفولة إلى فترة النضج، وكتب ببساطة
آسرة، وبلغة مصورة لا تترك لفتة أو حركة أو صوتا أو
شاردة أو واردة، فكأنك معه في حجرة الفصل تشاهد عقاب
التلاميذ الذين يطلبون حبا وحنانا، وكأنك تلهث في
الشوارع معه ومع شقيقه، وهما يحاولان إخفاء شنطة بها
كتب شيوعية، لحماية شقيقهما الثالث من السجن.
سترى وليد وهو يدخل أول عرض خاص في بداية مراهقته،
بصحبة الفاتنة حبيبة بطلة فيلم " العصفور"، وسترتعش من
برد موسكو التي درس فيها، وستعاين أيام البحث عن عمل
رغم حصوله على ليسانس الآداب قسم اللغة الإنجليزية،
وستضحك من قلبك وهو يصف وقائع معركة شهدها في المطعم
بين أحمد زكي وأحد المخرجين.
بدا لي الكتاب مثل قصة سينمائية شيقة، عوّض فيها د
وليد مشاريع أفلامه الكثيرة التي لم تنفذ، أو لم يتم
استكمالها، أو تعرضت للتغيير الكامل وإعادة الكتابة،
رغم كتابة اسمه عليها، وبدا لي أن شخصيته الحيوية
والدؤوبة تقاوم الإحباط بالسخرية، لا تندم على شيء رغم
المرارة، وتقنع بأفراح صغيرة أولها وأهمها أنه فعل ما
يحب، وتخصص فيما يعشق، ولم يستطع أن يترك معشوقته
السينما في أي وقت من الأوقات.
الأهم من كل ذلك، أن الكتاب يثبت من جديد أن كل ما هو
خاص جدا، يصبح عاما وانسانيا، إذا كتب بصدق، وبطريقة
فنية بارعة. هو يحكي عن أمه وأخويه ومدرسته وفترة
البعثة في موسكو وعن عمله كمساعد للراحل الكبير عبد
الحي أديب قي كتابة السيناريو، ويكتب عن ظروف تجاربه
العملية في السينما والكتابة النقدية، ولكن كل هذه
الحكايات الخاصة جدا تصبح كنوزا في تحليل وقراءة
المجتمع سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وفنيا، وعلى سبيل
المثال، فإن ما يحكيه عن طريقة عبد الحي أديب في كتابة
السيناريو، واستفادة د وليد منه، تعطينا نموذجا قديما
هاما لفكرة " ورشة الكتابة"، التي أصبحت اليوم جزءا
أساسيا من فن وصناعة الدراما المصرية.
على صعيد آخر، يخصص د وليد فصلا هاما حول أسرار وقواعد
نقد الأفلام شكلا ومضمونا، فيقدم بذلك إفادة حقيقية
لمن يريدون كتابة النقد، أو حتى للقاريء العادي
المتذوق للأفلام، أما البورتريهات التي كتبها عن
شخصيات عرفها عن قرب مثل فريد شوقي وأحمد زكي ونجلاء
فتحي والمخرج علاء كريم فهي تصلح أن تكون نواة لكتاب
مستقل ممتع وشيق.
ربما تكون سكة السينما والنقد هي سكة "اللي يروح" في
متاعبها واحباطاتها، ولكن " اللي يروح" سيحمل دوما معه
ثراء الرحلة والتجربة، ومتعة الوله والعشق، ولذة الحلم
حتى لو لم يتحقق، وبهجة بعض الانتصارات الصغيرة، كأن
تكتب مقالا أو كتابا، فيعجب به قاريء أو عاشق للأفلام،
ورصيد د وليد من كل ذلك كبير ومعتبر.
أنا مثلا عرفته وأحببته أولا من خلال كتابيه القيّمين
عن روايات نجيب محفوظ في السينما، وعن الفيلم الكوميدي
المصري، قبل أن ألتقيه شخصيا.
ثم أنني أومن من قبل ومن بعد أنه لا خوف ولا قلق من
ضياع القيمة..
إنما يحفظ القيمة من خلقها، وليس علينا إلا السعي وبذل
الجهد ودفع ضريبة العشق بدون تردد.
وإذ أشكر للناقد أمير أباظة الذي طبع هذا الكتاب في
سلسلة إصدارات مكتبة الإسكندرية، وهي سلسلة تثري
المكتبة السينمائية الشحيحة، فإنني أتمنى أيضا أن يصدر
هذا الكتاب الممتع في طبعة قادمة تتاح للجمهور العام،
من خلال إحدى دور النشر المصرية.
لعلها حكاية جيل وحلم وعشق قبل أن تكون سيرة شخصية،
ولعلها سكة رجوع للذاكرة وللحكايات وللسينما، وليست
حكاية ندم أو ضياع.
ما ضاع أبدا من كتب وحلم وعشق واجتهد وسعى. |