اعتمد تاركوفسكي في أسلوبيته السينمائية على المشاهد
الطويلة، والكاميرا الكسولة التي تكتسب شخصيتها
المُستقلة من طول تأملها، وامتلاكها لوجهة النظر،
الكاميرا المطمئنة، غير المُتعجلة، الواثقة من أن جميع
مُفردات الكادر بالضرورة لا بد لها أن تكون داخل
إطارها، تحت نظرها ومُراقبتها، وبالتالي فكاميرته لا
تتعجل إذا ما خرجت إحدى هذه المُفردات الفيلمية من
إطارها، بل تظل ساكنة، هادئة، مُحدقة، مُنتظرة لعودة
هذه المُفردات داخل إطار رؤيتها مرة أخرى، فالعالم
الفيلمي بالكامل تحت سيطرتها، وسطوتها، ورؤيتها في
نهاية الأمر.
هذه الأسلوبية السينمائية جعلت أفلام تاركوفسكي مُعبرة
عن السينما البطيئة، وهي السينما المُتأملة في كل ما
يحيط بها، غير المُتعجلة، السينما التي لا يعنيها
الزمن الواقعي بقدر عنايتها بالزمن الفني، وهو ما
يتناسب إلى حد بعيد مع رؤية المُخرج الفنية، بل
والأيديولوجية الروحانية، فالإيمان يقتضي الكثير من
التفكير والتأمل؛ لذا كانت الكاميرا لديه دائمًا في
حالة من التأمل والتروي اللذين لا ينتهيان.
إنها الأسلوبية التي اتبعها الكثيرون من المُخرجين
فيما بعد، ولعلنا نذكر المُخرج المجري
Béla Tarr
بيلا تار الذي انتهج هذه الأسلوبية، بل وعمل على
تطويرها إلى الحد الذي وصل فيه إلى محاولة تسكين
الكاميرا والزمن تمامًا لفترات طويلة، حتى لقد باتت
هذه الأسلوبية للسينما البطيئة مُرتبطة بتار أكثر من
ارتباطها بأي مُخرج آخر- رغم الفارق الأيديولوجي
العميق بين كل من المُخرجين؛ فتار مُلحد، مُظلم، غير
مُؤمن بشيء اللهم إلا ضرورة زوال هذا العالم المُمتلئ
بالشرور، والذي يجد الإنسان نفسه فيه وحيدًا لا مجال
لإنقاذه، شديد التشاؤم، كاره لتواجد البشر على ظهر هذا
الكوكب، في مُقابل روحانية تاركوفسكي الإيمانية
المُشرقة، وحبه العميق الذي يرغب في منحه للبشر من
حوله من دون مُقابل، بل ومحاولة تحذيرهم الدائمة من
النهاية البشعة التي من المُمكن أن تنال منهم إذا ما
استمروا في الانسياق من خلف القيم المادية الاستهلاكية. |