تذمّر الكثير من النقاد والمعنيين بالشأن السينمائي إثر تتويج الفيلم المغربي " فوق الدار البيضاء الملائكة لا تحلّق " للمخرج محمد العسلي بجائزة التانيت الذهبي في الدورة العشرين لأيام قرطاج السينمائية لعام 2004. وسبق لهذا الفيلم أن فاز بجوائز مهمة في أربعة مهرجانات سابقة مثل الإسكندرية، ونابولي، وسلا، ومعهد العالم العربي، ويبدو أنه سوف يفوز في مهرجانات لاحقة ليؤكد ما يمكن أن نصطلح عليه بـ " الاتفاقات غير المعلنة " بين لجان التحكيم، أو" الإصابة بعدوى النتائج التحكيمية السابقة " أو بغية التطابق معها، والتماثل مع ذائقتها الجمالية المُستنسخة، أو عدم التمرد على سلطتها الفنية في الأقل. لم يأتِ هذا الاحتجاج لأن هذا الفيلم بحد ذاته قد فاز غير مرة في مهرجانات متعددة، فهذا الأمر قد يحدث للكثير من الأفلام الجيدة التي تترك أثرها البالغ في نفوس المتلقين، غير أن مبعث هذا الاحتجاج هو أن مهرجان قرطاج السينمائي لهذا العام يشتمل على أفلام موازية لهذا الفيلم في الجودة، مثل " المنارة " للجزائري بلقاسم حجاج، و " زنار النار " لبهيج حجيج، و " ما يطلبه المستمعون " لعبد اللطيف عبد الحميد، وفيلم آخر كان أفضل منه بكثير، ويستحق التانيت الذهبي لأسباب فنية وفكرية وجمالية وهو فيلم " بحب السيما " للمصري أسامة فوزي الذي أمضى أيام المهرجان على مضض، ولم تنفع معه كل أشكال المواساة التي قدّمها الأصدقاء والمقربون منه على الصعيدين الشخصي والفني. يا ترى ما الذي دفع بأعضاء لجنة التحكيم لمسابقة الأفلام الروائية الطويلة إلى إسناد هذه الجائزة الكبيرة وقيمتها " 35 " ألف دولار أمريكي إلى فيلم لا يستحق كل هذا الاهتمام؟ بعض من النقاد السينمائيين أرجع سبب هذا الفوز إلى قلة دراية بعض أفراد لجنة التحكيم بالسينما، أو أن اختصاصاتهم الدقيقة بعيدة تماماً عن الفن السابع. ومما يعزز هذا الرأي أن هناك ثلاثة أعضاء ليسوا متخصصين في السينما وهم د. فوزية الزواري، أستاذة الأدب الفرنسي المقارن المقيمة في باريس منذ عام 1979، والأستاذ حميد برادة الذي درس الفلسفة والحقوق وعلم الاجتماع، وحتى المخرجة الإيرانية تهمينه ميلاني فهي مهندسة أصلاً، غير أن اهتمامها تحول فجأة إلى السينما فأخرجت عدداً من الأفلام الناجحة من بينها " امرأتان " و " النصف المخفي " و " رد الفعل الخامس " لكن كونها مخرجة فقط لا يمنحها الحق في أن تكون عضو في لجنة تحكيم في مهرجان عريق مثل أيام قرطاج السينمائية. ومن بين أعضاء اللجنة هناك من بدأ تخصصه بغير السينما مثل دومنيك كابريرا التي درست الآداب الحديثة ثم التحقت بمعهد الدراسات العليا للسينما، وحتى المخرج محمد ملص " رئيس اللجنة " فقد تخرج أول الأمر من معهد ترشيح المعلمين قبل أن يلتحق بمعهد موسكو السينمائي، إذاً، لم يبق أمامنا من المتخصصين تخصصاً دقيقاً سوى الغابوني شارل مانساح، والسينغالي منصور سورا واد اللذين درسا السينما، وأخرجا العديد من الأفلام الروائية والتسجيلية، وزاولا الكتابة النقدية، الأمر الذي يجعلهما الأقرب إلى الأمانة العلمية في التحكيم المنزّه عن الهوى والأغراض والإخوانيات والمجاملات العابرة، وينأى بهما عن السقوط في " مصائد المغفلين " أو ارتكاب أخطاء قاتلة قد لا تغتفر. البعض الآخر من النقاد والمحللين رأوا أن فيلم " فوق الدار البيضاء . . " يدغدغ المشاعر الغربية من خلال التعاطي مع موضوع يتناول هموم قومية أخرى تعيش ضمن حدود الوطن العربي وهم الأمازيغ، علماً أن لغة الفيلم كانت أمازيغية " بربرية " وبترجمة عربية غير سليمة، والفيلم برمته مشبع بحس درامي، فجائعي ينتهي نهاية مؤسية على مستوى الأبطال الأربعة الذين تقاسموا البطولة الجماعية للفيلم. وجوهر الثيمة كان مُركَّزاً على السلبيات، وأنماط الحياة البائسة التي يعيشها " الأمازيغ " في المغرب، بل أن الفيلم يكاد يخلو من الإيجابيات تماماً، خلافاً لواقع الحال الذي تعيشه هذه القومية الكبيرة المتآخية مع عرب المغرب على وجه التحديد. وغالباً ما تنال هذه الصورة السلبية تعاطف الآخر " الأجنبي " أو المتماهين مع الآخر الأجنبي من " العرب " الذين يبدون تعاطفاً شكلياً مع القوميات والأقليات المتعايشة مع العرب. وكان على المخرج محمد العسلي أن يستثمر فكرة تهميش الآخر " غير العربي " ومصادرته بطريقة فنية معقولة، لا أن يستجدي عواطف المتلقين، فنحن نعرف جيداً أن نسبة الأمازيغ في المغرب هي أكثر من نسبة العرب، ومع ذلك فإن تمثيلهم في أروقة الدولة المغربية هو أقل من مستوى الطموح، وهذا ينسحب إلى مستوى الحياة المعيشية التي قد يقترب فيها الأمازيغي من خط الفقر، ولكن عامة الشعب العربي لا تبتعد كثيراً عن خط الفقر المُشار إليه، ولهذا تكثر مجازفات الهجرة والرحيل ليس إلى الدار البيضاء كما يقترح الفيلم وإنما إلى العواصم الأوروبية والأمريكية حيث يحلم الشباب العربي والأمازيغي على حد سواء بحياة أفضل، وبمستوى معاشي أرقى، وبتحصيل دراسي أعلى. الصورة المروّعة للدار البيضاء لابد من الإشارة إلى أن قصة هذا الفيلم مطروقة عشرات المرات في أغلب الأجناس الإبداعية، فمَن منا لا يعرف موضوعة الهجرة من الريف إلى المدينة؟ ومّن منا لم يقع تحت تأثير الصورة السلبية التي رسمها الكثير من الأدباء والفنانين عن المدينة " اللعينة، والساحقة للأعصاب ". فالمدينة من وجهة نظر الكثيرين " ملوثة، وفاقدة لبراءتها " وهي لا تتورع من أن تطحن كل الناس البسطاء الذين لا يتقنون فن العيش المُراوغ في جنباتها الواسعة، ولكن هل نستسلم لهذه الصورة " السوريالية " التي رسمها البعض، ورسخها في أذهاننا؟ ألا يوجد ثمة فرق بين المدن الكبيرة التي تعادل نسبة السكان فيها دولاً بأكملها، هذا إن لم تزد عليها ضعفاً أو ضعفين كما هو حال نيويورك، ولندن، وطوكيو، والقاهرة. إذاً، كيف يستطيع محمد العسلي أن يقنع مشاهديه بأن " الملائكة لا تحلق فوق الدار البيضاء "؟ هذا إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن تركيبة أبناء العاصمة لا تختلف كثيراً عن تركيبة القرى والضواحي الصغيرة المحيطة بالدار البيضاء أو بسواها من المدن والقصبات المغربية الأخرى التي تشكل نسيجاً لقوميتين بارزتين لا غير؟ إن المغالاة في تقديم هذه الصورة المروعة هو أمر يدعو إلى التأمل والمراجعة في سبب هذا التشويه، والتصدي له عبر حوار عقلاني هادئ يضع الأمور في نصابها الصحيح، ولا يتجنى على الحقائق الدامغة. قصة هذا الفيلم عادية، ومُستنفدة، فهي تتناول موضوع الفقر والإحباط الذي يعاني منه المواطن الذي يعيش ضمن حدود الوطن العربي الكبير، اللهم باستثناء بعض البلدان النفطية الثرية. وقد ركز كاتب السيناريو ومخرج الفيلم على ثلاثة شبان يعيشون حياة مزرية، ربما يمكن توصيفها بأنها " تقع تحت خط الفقر المدقع، لذلك فقد ترك هؤلاء الشبان الثلاثة قراهم النائية، وقصدوا العاصمة " الدار البيضاء " حالمين بجمع الثروة التي تؤهلهم لحياة أفضل. وهؤلاء الشباب هم سعيد الذي ترك ليس قريته وذكريات طفولته، وصباه، وشبابه حسب، وإنما ترك زوجته الحامل " عائشة " التي يحبها حباً جماً لا حدود له، كما ترك ابنه الوحيد من أجل أن يرتقي بالوضع المادي لهذه الأسرة الصغيرة التي لم تكن تريد له السفر والتغرّب والنأي عن الدار والأحبة. فهذه المرأة المخلصة لا تكف عن تحريضه على العودة، والتخلي عن هاجس جمع المال، غير أن سعيداً يواصل مشروع غربته المكانية، وينغمس بالعمل في أحد مطاعم العاصمة برفقة شابين أمازيغيين وافدين من قرى أخرى نائية محمّلين بالحلم ذاته وهما عثمان وإسماعيل. وقد سكن ثلاثتهم في عند صاحب المطعم متقاسمين شظف العيش، ومستسلمين لنمط الحياة المدينية الجديدة التي بدأوا يألفونها شيئاً فشيئاً مُرغمين. كل واحد من الشبان الثلاثة له أحلامه الشخصية التي تختلف عن الآخرَين، فعثمان عضو في فريق الخيالة في بلدته الصغيرة، لكنه يعاني من ضيق ذات اليد، وهو يخشى أن يضطر لبيع حصانه الوحيد الذي ترتبك صورة الدنيا في عينه من دون هذا الحصان الجامح، وإسماعيل الشاب اليافع الذي يحلم بشراء حذاء غالي الثمن خطف بصره في واجهة إحدى محلات الأحذية، وكأن الحياة لا تستقيم في نظره من دون هذا الحذاء! وسعيد يحلم بأن يرتقي بالوضع الاقتصادي لعائلته، ويوفر كل ما تبتغيه زوجته التي تحبه حباً عظيماً، غير أن هذه الأحلام تتبدد جميعاً. فزوجة سعيد تمرض جراء الولادة، ولا يصلها الدواء إلا متأخراً، فتفارق الحياة بطريقة تراجيدية محزنة، إذ يرفض حتى سائق التاكسي أن يحملها في جوف سيارته المتجهة إلى المدينة بحجة أن التاكسيات تنقل الأحياء وليس الموتى! أما حصان عثمان فينفر من ضوضاء المدينة وزحمتها، ويهرب عندما تمسه سيارة، ويضيع في الزحام، أما إسماعيل الذي يفلح في شراء الحذاء، لكنه يفشل في المحافظة عليه من التراب، والمسامير، وأحذية الناس القذرة فيجلب له الشقاء والعناء والأرق المتواصل بحيث يضطر لأن يضع فردتيه في كيسين من النايلون الأسود ويمشي به في شوارع المدينة وأرصفتها بطريقة كوميدية لا تخلو من مفارقة. أراد كاتب النص ومخرجه أن يوحي للمتلقي بأن عقلية ابن المدينة وروحيته لا تخلو من جفاف وقسوة، لذلك فقد تخلى عنه جميع ركاب سيارة التاكسي باستثناء رجل قروي طيب ظل ملازماً له حتى أنقذه من محنته حينما جلب له من قرية مجاورة بغلاً حمل على ظهره جثمان زوجته الميتة عائداً بها إلى قريته البعيدة. ابن القرية هنا أكثر طيبة ونقاء، بل أن الطبيعة القروية هي أرحم بكثير من الطبيعة المدينية. ربما يكون مشهد الجثة المُسجاة على الأرض قد أثار تعاطف المشاهدين، فهذه المرأة المتوفاة قد أخلصت لزوجها، وحبيبها، وماتت بسببه، ولو لم يغادر إلى العاصمة " التي لا تحلق فوقها الملائكة " لما ماتت هذه المرأة الشابة، أو ربما وجد زوجها طريقة ما لإنقاذها أو تخفيف وطأة المرض عنها، فالدار البيضاء بحسب طروحات المخرج لا تحلق في سمائها سوى الصقور والعقبان، ولا تدور في مضاربها إلا السباع والحيوانات المفترسة. على صعيد التقنيات قدّم الفيلم صوراً جميلة أخاذة في العديد من اللقطات " الخيول التي تنهب الأرض نهباً في مضارب إحدى القرى "، وعلى صعيد المؤثرات السمعية كانت هناك موسيقى أغريقية، ولكن الموسيقى الأمازيغية كانت أكثر ملاءمة من غيرها لارتباطها ببعض العادات والتقاليد المحلية. كان هذا الفيلم سينجح أكثر، ويحقق مصداقية وقبولاً لدى المتلقي لو أنه لم يجعل من " الدار البيضاء " وحشاً مُرعباً، أو غولاً مُخيفاً يبتلع القادمين إليها، واللائذين بفضاءاتها. فكل المدن والأمكنة في العالم تشتمل على الخير والشر، وكان هذا الفيلم سيلامس أعماقنا أكثر لو أنه تخلى عن مبالغاته، ومغالاته الفجة، ونزل إلى أرض الواقع مُكتفياً بالتركيز على مأساة هذه المرأة القروية التي أحبت زوجها من الوريد إلى الوريد، ولم تكن تتمنى أن يفارقها تحت ذرائع وحجج واهية. فهي من وجهة نظري ماتت بسبب الحب، وليس بسبب فقدان الدواء أو وصوله متأخراً. القدس العربي في 20 أكتوبر 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
مَنْ قال إن " الملائكة لا تحلّق فوق الدار البيضاء " ؟ محمد العسلي صوّر " الدار البيضاء " وكأنها غولاً يبتلع المُستجيرين بها تونس/ عدنان حسين أحمد |