قبل الحرب العالمية الثانية, ثم خلال سنواتها الأولى, كان ثمة في الولايات المتحدة الأميركية تيار عريض يقف بالتعارض مع اي محاولة لإدخال "الأمة" في أتون تلك الحرب. صحيح ان معظم الشرائح التي تكون ذلك التيار, لم يكن لها اي علاقة بالنازية - حتى ولو كانت ثمة تيارات نازية لا بأس في حجمها في اميركا ذلك الحين -, لكن تحركها كان في نهاية الأمر يصب في مصلحة النازية. فالحقيقة ان جهود تلك الشرائح لإبقاء اميركا خارج الحرب كان معناها الحتمي القضاء على أوروبا وتركها لقمة سائغة في فاه النازية الهتلرية, وكذلك - لاحقاً - ترك الاتحاد السوفياتي لمصيره تحت وطأة هجمة الجيوش الألمانية. يومها كان كل من يسعى الى دفع اميركا الى الحرب لإنقاذ اوروبا والعالم, كان يوهم بأنه احمر. وما مطاردة السحرة التي شنتها لجان "النشاطات المعادية لأميركا" تحت زعامة السيناتور ماكارثي آخر اربعينات القرن العشرين وبداية خمسيناته, سوى افعال انتقام طاولت السياسيين والمثقفين الذين - من دون ان يكونوا حمراً في غالبيتهم - دفعوا اميركا في اتجاه الخروج من عزلتها. كانت تلك الشرائح, إذاً, انعزالية, عن حسن نية او عن سوئها. وكانت ترى ان اميركا, كأمة وكمكان وكناية, يجب ان تبقى خارج صراعات العالم, اي فوق صراعات العالم. اما كل "غريب" يأتي ليخرق تلك العزلة, فما هو سوى عدو يجب التخلص منه. ومن هنا تفاقمت في النسيج السياسي والاجتماعي الأميركي افكار مثل "الغريب" و"العدو الخارجي". في مقابل فكرة "القرية النقية المنغلقة على نفسها وعلى اخلاقياتها" والتي يجب ان تبقى في منأى تام من تلوث بأي قذارة تأتي من العالم الخارجي. طبعاً هنا يخيل الى المرء انه اما تجريد لحكايات طالما ملأت مسرحيات الأخوين رحباني, وكل ذلك الرهط من الفكر الذي يرى في النقاء الداخلي للجماعة المنغلقة على نفسها, دفاعاً ضد الغريب الهاجم من الخارج سواء كان وهمياً (راجح الحكاية قبل وصول راجح الحقيقي في "بياع الخواتم") او حقيقياً (غزاة "جبال الصوان" وما شاكلهم). غير ان ما يبدو لدى الرحابنة كناية اخلاقية وطنية, يصبح في اميركا سلوكاً سياسياً عاماً, يتخذ في احيان كثيرة طابعاً فاشياً واضحاً. وأحياناً تعبر عنه سينمات تحذر من هجمة العدو الخارجي الذي كان يكنّى عنه بالخطر الشيوعي - "خاطفو الأجساد" في طبعته الأولى في الخمسينات-. وهنا لا بد من الإشارة الى انه منذ نهاية خمسينات القرن العشرين, تضاءل حضور هذه الكناية في السينما الأميركية, على رغم افلام مثل "آلين", بأجزائه الأربعة, وعلى رغم الكثير من الأفلام التي تصور مجيء عدو مجهول (مثل "الشيء" لجون كاربنتر... وأشباهه). خصوصاً ان تضاؤل حدة الحرب الباردة, وتنامي وعي جديد في هوليوود تواكبا, لخلق مساحة زمنية حل فيها انتقاد سمات المجتمع الأميركي في كل وضوح محل تلك اليقينات السابقة التي كانت لا ترى من وصمة في ذلك المجتمع خارج التدخل الأجنبي الى اي لون انتمى. بيد ان بدء تصاعد المخاطر الإرهابية - داخلية المصدر او خارجيته - منذ انهيار المنظومة الاشتراكية, اتخاذ تلك المخاطر سمة الفعل العربي او الإسلامي, جعل انواعاً معينة من السينما الأميركية, الشعبية بخاصة, تحل المسلم والعربي محل "الأحمر" كمصدر للخطر الخارجي... ولكن هنا لا بد من ان نقول ان هذا كله ظل حاضراً على شكل اخطار محتملة, لا على شكل واقع حي يتعين التصدي له... حتى كانت حوادث 11 ايلول (سبتمبر) 2001, حيث دهش كثر إذ لاحظوا كيف ان "الواقع هو الذي يحاكي الفن" هذه المرة: كيف ان الأخطار التي كانت تشكل جزءاً من خيال علمي, راحت تتخذ سمات واقع يفوق الخيال قوة وخطراً. ونحن نعرف الآن ان هوليوود, وعلى رغم كل شيء لم تستجب كما كان متوقعاً لربقة ذلك الحدث/ الكارثة, بمعنى ان الأفلام المتعاملة, روائياً وعلى الطريقة الهوليوودية المعهودة - والمثيرة عادة للاشمئزاز - لم تتحقق. ظل لدى هوليوود شيء من خفر منعها من استغلال الحدث ودماء الضحايا الذين أُحصوا بالآلاف, في سبيل تحقيق ارباح تجارية. ومن هنا لم نشهد حتى اليوم افلام خيال تتناول تلك المجزرة من موقع استغلالها لتقديم صورة قبيحة للعربي او للمسلم. بل يمكننا على العكس من هذا ان نقول ان تلك الكارثة, انما حركت هوليوود في اتجاه معاكس تماماً, إذ, سواء في السينما التسجيلية التي راحت تعرف ازدهاراً ما بعده ازدهار منذ ذلك الحين - ويمكن ربطه, فكرياً, بحقيقة ان حدث ايلول برهن كم ان الواقع اقوى من اي خيال - او في نوع معين من سينما روائية, عرفت كيف تتعامل مع الحدث تعاملاً غير متوقع ويمكن ان يسجل شهادة لهوليوود لا شهادة ضدها. وحسبنا, لكي ندرك فحوى هذا الواقع, ان نعود بالذاكرة - على سبيل المثال لا الحصر - الى الفيلم القصير الذي شارك به شين بن, في مجموعة افلام حققها 11 مخرجاً من شتى انحاء العالم حول تلك الكارثة, او الى فيلم مايكل مور الذي اضحى كلاسيكياً الآن "فهرنهايت 11/9". إذ هنا, وفي صالات اخرى مشابهة جرى التعامل مع جذور ما حدث, لا مع مظاهره الخارجية. صحيح ان الحدث كان إرهابياً دموياً لا يمكن إلا إدانته وبكل قوة, ولكن في المقابل أفلا يجدر بنا ان نسبر جذوره ونسأل عما جعله ممكناً؟ هذا السؤال نفسه, يمكننا ان نجده - وإن في أشكال مواربة - في ثلاثة افلام, على الأقل, عرضت خلال الشهور الفائتة, تتنوع مواضيعها ومن الصعب ان نجد لأي منها علاقة حقيقية ومباشرة بحدث ايلول, لكن كلاً منها, يدنو من جوهر الحدث -لا من قشوره - بشكل حاسم وقوي. وتحديداً من طريق التعبير عن اميركا كناية, وبالتالي من طريق التعبير عن جذور الخوف والعزلة الكامنين في الذهنية الأميركية العامة والشعبية نفسها. وفي يقيننا انه ليس مهماً ابداً, بعد هذا, ان يكون مخرجو هذه الأفلام, غير "اميركيين" بالمعنى المبتذل للكلمة, وإن كان واحد منهم اميركياً خالصاً. المخرجون الذين تتحدث عنهم هنا هم لاس فون تراير (في فيلمه "دوغفيل") وتيم بورتون (في فيلمه "السمكة الكبيرة") وأخيراً م. نايت شيامالان (في فيلمه "القرية"). الأول دانمركي لم تطأ قدماه اراضي اميركا لكنه متغلغل فيها وفي ثقافتها وذهنيتها الى درجة تدفعه حالياً الى تحقيق ثلاثية عنها, ليس "دوغفيل" سوى جزئها الأول. والثاني اميركي لكنه هامشي تماماً, ودائماً ما جعل افلامه الغرائبية, ساحة للحديث عن المهمشين الواقفين خارج عمومية الذهنية الامتثالية الأميركية. وأما الثالث فأميركي من اصل هندي يرصد العقلية الأميركية بشكل جيد, وتتكون افلامه من خلاصة هذا الرصد. لقد اشرنا الى ان اياً من الأفلام التي نتحدث عنها هنا, لا يدنو مباشرة من حدث ايلول. ولكنها معاً, وتحديداً من خلال عنصر رئيس فيها, تطاول خلفية الحدث. وبالتحديد تلك الذهنية الأميركية الانعزالية التي ترى الشر كل الشر في الغريب, والخير في الانغلاق على الذات, وغالباً حتى حدود مرضية. وهذا البعد تمثله في الأفلام الثلاثة معاً فكرة القرية, المعزولة جغرافياً غالباً, وبشكل طوعي إرادي في غالب الأحيان عن "العالم الخارجي". طبعاً لسنا هنا في صدد قرى - رمزية في نهاية الأمر - تتعرض لغزو من الخارج, يدفع السكان الى التماسك فيما بينهم للتصدي له على الطريقة الرحبانية التبسيطية التي اشرنا إليها. لكننا في صدد ثلاث قرى يمثل كل منها نمطاً من انماط الانعزالية الأميركية. ففي "دوغفيل" تقوم القرية هادئة وسط الجبال الصخرية (سلسلة جبال روكي) وكان يمكن لحياتها الوديعة القائمة على التوافق بين شتى الشرائح والأفراد, ان تظل هكذا الى الأبد. ولكن يحدث ذات يوم ان تصل الى القرية, غريبة حسناء تستجير بها من مطاردة عصابة دموية لها. في البداية تستقبل القرية الفتاة لكنها على الفور تبدأ بإظهار رغبتها في لفظها طالما ان ثمة في وجودها ما يحدث تبديلاً ولو بسيطاً في النسيج الاجتماعي المتجانس. في اختصار تصل الأمور الى حد استبعاد الفتاة التي هي لم تسبب اي اذى للقرية وتكمن جريمتها الوحيدة في كونها غريبة. وفي النهاية تسلم القرية الفتاة الى العصابة لنكتشف ان زعيم العصابة هو والد الفتاة التي بعد تفكير طويل تقرر الانتقام من القرية... كل القرية. ان في وسعنا طبعاً ان نجد في هذا الفيلم ابعاداً ميتافيزيقية تتجاوز الكناية الأميركية لتجابه حكاية السيد المسيح مع البشر الذين اتى لافتدائهم فصلبوه. لكن هذا البعد, يمكن - هنا في هذا السياق - تنحيته جانباً بعض الشيء للتوقف عند البعد الأميركي, والقرية المنغلقة الظالمة ومجابهة الغريب بكل لؤم وكراهية. في قرية "السمكة الكبيرة" لتيم بورتون, ليس ثمة اصلاً موقف سلبي واضح من الغريب, حتى وإن كان هذا الغريب يشكل رعباً للسكان حتى خارج تلك القرية المثالية التي اقيمت وسط الغابات, لتمثل النقاء الأميركي الصرف. ولكن هل هي نقية هذه القرية الى هذا الحد؟ ابداً يقول لنا تيم بورتون... بل الأدهى من هذا ان هذه القرية - التي ترمز الى اميركا ما, يمكننا العثور عليها في آداب اميركية تعود الى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر, ولدى واشنطن ارفنغ مثلاً-, إنما هي صورة مصغرة لعالم منحرف شرير, لكنه يعرف كيف يخفي انحرافه وشره خلف قناع النقاء الأصيل. ذلك ان قرية "سبكتر" التي هي في "السمكة الكبيرة" من النقاء الى درجة أن سكانها يخلعون احذيتهم قبل وطء اراضيها, سنكتشف ان شاعرها نفسه - والشاعر هو الذي يمثل عادة صورة النقاء في مجتمع ما, طالما انه لم يقدم إلينا كشاعر متمرد, بل كشاعر يمجد قريته وحياتها في صيغ وطنية اخاذة - هذا الشاعر هو في الوقت نفسه لص كبير يسرق المصارف ليتحول بعد ذلك الى رجل اعمال كبير يضارب في وول ستريت. وهذا التحول ليس صدفة هنا, وكذلك ليس صدفة ان نجد كيف ان حسناء القرية الناعمة الهادئة تجسدها في الفيلم هيلين يوهان كارتر, التي تلعب في الفيلم نفسه دور الساحرة الشريرة. إذاً, صورة قرية "السمكة الكبيرة" وجه آخر لصورة قرية "دوغفيل"... فماذا عن قرية فيلم شيامالان الذي يحمل تحديداً اسم "القرية"؟ انها الوجه الثالث لصورة اميركا. والوجه الذي بات, في رأي المخرج, جديراً بأن يصور بتركيز, بعد التغيرات التي راحت تطرأ على الذهنية الأميركية إثر حدث ايلول. ومن هنا تبدو الكناية الأميركية في "القرية" اكثر وضوحاً, حتى وإن كان مسار الفيلم يؤخر ظهورها حتى اللحظات الأخيـرة. ومسـار الفيلم هذا يـتحدث هنـا عن مجموعـة من الناس تعيش معزولة عن العالم الخارجـي الذي تفصلها عنه غابات مرعبة سنفهم ان سكانها وحوش يستفزهم اللون الأحمر, جرى بينهم وبين اعيان القرية اتفاق ضمني على حسن الجوار, شرط ألا يخرق احـد هذا الاتفاق. والخرق هو اولاً وقبل اي شيء آخر يقوم في دخول الغـابـات. طبعاً لاحـقاً في الفيلم ستضطر حسناء عمياء الى عبور الغابات, بعد ابتداء حمى الصراع ودخول الشر لدى اول خرق جزئي للاتفاق, وسنكتشف الحقيقة المروعة وهي اننا لسنا في القرون الوسطى, بل في القرن العشرين, وأن اعيان القرية, الذين ترعبهم المدينة ومدنيتها هم الذين اخترعوا الحكاية كلها, من اجل إبقاء قريتهم في منأى من العصر ومن الأغراب ومن الحداثة, بعدما تعرضوا قبل ذلك لمساوئ المدنية الحديثة. مرة اخرى اذاً, ها نحن امام ذهنية الانعزال الأميركية... وها هي السينما تكشف ابعاد هذه الذهنية, في إدانة واضحة لا لبس فيها ولا غموض. واللافت, في الحالات الثالث, ان المدينين, هم مخرجون هامشيون من الخارج بشكل او بآخر. ولكن هل يمكن حقاً لمن هو في الداخل ان يكتشف الحقيقة؟ ابداً تقول لنا الأفلام الثلاثة معاً. فنفاق اهل "دوغفيل" ووعي الفتاة لا يتحرك إلا بتدخل رئيس العصابة الآتي من الخارج. ونفاق وضلال "سبكتر" تيم بورتون لا يتكشف إلا امام الزائر (ادوارد بلوم)... اما حقيقة "القرية" لدى شيامالان, فلن تدرك إلا بفعل اكتشاف الهامشي (مجنون القرية) لها من ناحية, وإلا بعد وصول الحسناء العمياء الى الخارج من ناحية ثانية. وفي يقيننا ان هذه الحقائق تكاد بدورها ان تقول لنا الكثير عن اميركا, بل اكثر من عشرات الدراسات ومئات الخطب والشعارات. الحياة اللبنانية في 1 أكتوبر 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
إبراهيم العريس |