شعار الموقع (Our Logo)

 

 

ربما كان المخرج الكسندر سوكروف يفكر في صنع فيلم عن مدينة سان بيترسبروغ عندما رأى أمامه رجل متعجرف يلبس السواد و لا يكف عن التمايل و التهكم كغراب يفتقد مشيته المنسية، و قرر عوضا عن ذلك أخذه في جولة استمرت 90 دقيقة، حيث ظلت كاميراته مفتوحة.

هذه هي إحدى الفرضيات التي قد نفسر بها كيف خرج فيلم المخرج الروسي((the Russian ark))، و هو الإنجاز التقني الأكبر في تاريخ السينما الحديثة، فالفيلم الذي يضم أكثر من ألفي ممثل، و فرقتين موسيقيتين في عرض حي، يشتمل على مشهد واحد يستمر إلى نهاية الفيلم ، متجولا في قاعات المتحف الروسي الأرميتاج والقصر الشتوي في المدينة نفسها،ن وهي يعيد إلى الحياة من احتلوا هذه القاعات وصنعوا تاريخ روسيا خلال مئتين سنة.

في البداية نرى مجموعة من النساء و الرجال بأزياء قديمة و هي تترجل من عربة و تدخل المكان الذي نعرف في وقت لاحق أنه المتحف الشهير، وصوت الرجل المتهكم الذي وصفناه في البداية لا يكف عن التعجب من المكان واللغة التي يتكلم هو ومن حوله بها.

بعد لحظات تنتقل الكاميرا في مغامرتها إلى رواق مظلم يطل على غرفة حيث عرش بيتر العظيم الذي بنى مدينته الأوروبية على مستنقع و هو يهين ابنه ابنه، و يلتقي الرجل الذي يسميه صانع الفيلم»أوروبا« بالمخرج، الذي لا نلمس منه صوته الموجه و المصحح لأوروبا المتهكم أبدا على روسيا.

يمر المخرج مع أوروبا المتهكم على عصور القياصرة العظام من بيتر العظيم إلى كاترينا العظيمة التي رغم حاجتها الملحة لدخول الحمام، فأنها تجبر حاشيتها وحلجتها على الصمت حتى تنتهي الفرقة الإيطالية التي جلبتها من عزفها الذي لا تستسيغه الحاشية الروسية.

ينتقل المخرج بعد ذلك إلى سرد من نوع آخر في المشهد ذاته، يبتعد عن القياصرة الرهيبين و العظام إلى اللوحات و الموسيقى، التي تأرخ بتطورها التغير المرحلي في المجتمع و الثقافة الروسية وعلاقتها بأوروبا التي ستراها دوما نائية و غريبة.

و يستمر أوروبا ذو المعطف الأسود بالتهكم يسأل بشكل خبيث لماذا تشبه هذه اللوحات رسوم الفاتيكان؟هل اعتقد القياصرة أن الفن الروسي لا يرقى إلى مستوى جدران قصورهم؟ و يتكلم عن الموسيقى الروسية مشتكيا بأنها دوما تعطيه إحساسا بالدوار يتركز عند ركبتيه النحيلتين. و يخترق التسلسل الزمني مرور امرأة من بداية القرن تبدو عليها المحافظة والسذاجة، و أخرى معاصرة و متقدمة في السن تقف أمام لوحة و تقوم بطقوس معينة بصورة ساحرة، يقترب منها أوروبا و يسألها عما تفعله، فتقول له أنها تخاطب اللوحة،ينجر أوروبا العجوز إلى اللعبة الساذجة بتواطأ خفي مشترك بين الشخصيتين،لكن قبل أن ينتهي لعب الكبار هذا، تبتعد المرأة بلطافة وتعتذر عن بعد و تقوم بتحية ساحرة بيديها و هي تبتعد عن مستنقع الأزمان الذي سقطت فيه، و بعد حين تستغرق الكاميرا في تفاصيل لوحة ما مع صوت بيانو خافت يأخذ في التلاشي، و يتوقف الحوار بين أوروبا والمخرج، لك يستمر أوروبا في النقد الساخر والموجع من روسيا الناقصة أبدا وبعد اللقطات المقربة الداكنة والجميلة، تتأرجح الكاميرا إلى أن تصل إلى الأرضية الرخامية وبهدوء نسمع خطوات حذاء أوروبا القاطعة وهي تنتقل من القاعة إلى القاعة التالية، و للتأكيد على اختلاف المرحلة المقبلة تأتي القاعة مفرطة البياض مقارنة ممن اللون الأخضر القاتم السابق.

و بدءا من هذا الجزء تبدأ نبرة أوروبا المتهكم بالتلاشي و تحل مكانها نبرة أكثر حنوا نحو الإمبراطورية التي تتفسخ تحت ثقل وزنها الخاص، و يتبنى المخرج لهجة أكثر حيادية و هما يقتربان من نهاية روسيا التي أحباها، رغم تناقضاتها الصارخة و جنونها القاتل.

ويمر المخرج و مرافقه العجوز بمقطع ضخم يصور استقبال ولي العهد الإيراني في حضرة الإمبراطور، و ظهور إمبراطورة ضخمة تعتني بعدة أطفال و عدة كلاب، و تقرر دون سبب معين ارتداء معطفها و معها خادمها و تنطلق في ركض محموم على أرض يكسوها ثلج الشتاء القارس من المتحف الشهير إلى القصر الشتوي، و كما توحي لنا الكاميرا من الحين و الآخر أنها آيلة للسقوط لكنها تستمر في التصوير و الانتقال بين الغرف مع حاملها، فإنها تنطلق رغم استكمالها لجميع غرف المتحف الضخم، وراء الإمبراطورة العجوز التي تفقد أثرها، و تدخل عوضا عن ذلك القصر الشتوي، عارضة ابتداء الأسرة الإمبراطورية الأخيرة و الطفلة الأسطورية »أنستا زيا«. و بعد ذلك يدخل أوروبا و المخرج إلى القاعة الأخيرة حيث يجتمع مئات الروس الارستقراط في قاعة مهيبة تنتصب فيها أوكسترا ضخمة تعزف الفالس،و في مقطع يضيع فيه الحوار تتركز الكاميرا على صور فردية رمزية يكملها المشاهد بالسيناريوهات المناسبة دون أدنى صعوبة: فتاتين يتجمع حولهما الرجال و تتصنعان اللامبالاة ، امرأة عجوز مكللة بالمجوهرات تحدق في الفراغ بصمت، شاب يحاول الرقص مع فتاة و ينتظر الفرصة الملائمة مجموعة من المسرحيين الوقحين. . .، و صور خلفية متنقلة إلى الجوانب لتبين حجم الفرقة و ضخامة الحشد كل ذلك في صورة الحنين لزمن قد مضى . تنتهي الفرقة من عزفها و يبدأ الروس بالانصراف، و يجد المخرج أوروبا الذي أضاعه و يسأله أن يأتي معه ، يتساءل أوروبا إلى أين؟

·         إلى الأمام

·         و ماذا سنجد هناك، أنا أفضل البقاء هنا

·         وداعا أوروبا.

وتبدأ الكاميرا بالابتعاد ببطأ عن أوروبا المبتسم، و تعود إلى الروس و هم في نزول مهيب على سلالم القصر الرخامية، وبتقنيات رائعة تنسحب الكاميرا من القاعة تلو الأخرى إلى أ، تترك الروس في مسيرهم الأزلي و تقوم بحركتها الأخيرة عندما تستدير نحو نافذة تطل على البحر و يعلو صوت المخرج الذي يتأسف لغياب الصديق»أوروبا« الذي كان سيفهم لو وصل إلى هنا،فهم لعنة و هبة روسيا المحكوم عليها بالبحار إلى الأبد والبقاء إلى الأبد.

هذا الإنتاج الضخم الفائز بسعفة كان الذهبية لعام 2002، وصف بأنه الفيلم المضاد »لأكتوبر إيزنشتاين« فغالبا لم يتصور المخرج الكلاسيكي الذي ابهر العالم بتقنيات متطورة في مجال المونتاج، أن يأتي مخرج روسي آخر بعد أكثر من 80 عاما و يقدم فيلم ضخك مستغنيا عن عملية المونتاج ككل، في نفس موقع التصوير ألا و هو القصر الشتوي في المدينة.

وبعيدا عن الإنجاز التقني الكبير الذي تطلب تدريبات شاقة شارك فيها طاقم الفيلم الضخم و بروفات عديدة ليصل إلينا بهذا الإتقان والإبهار،كقفزة ضخمة للسينما الروسية المنزوية منذ زمن في محاولات تقمصية مضحكة للغرب، و أخرى وجودية و داكنة، يمكننا أن نرى أن الهدف الأكبر في هذا الفيلم هو إعادة إحياء و التذكير بروسيا العظيمة، الجميلة و الحزينة، روسيا القرنين الثامن و التاسع عشر، متجاهلا القرن العشرين و التجربة الشيوعية، التي يرى فيها خروج عن الجلد الروسي، قائلا ذلك على لسان أوروبا المتهكم»لم تكن الجمهورية تصلح لروسيا يوما«.

ذكرت سابقا أن المخرج يضع رؤيته في جو مشحون بالحنين، الحنين الذي يخلي مسؤوليته تجاه أي رأي غير منطقي أي تجديف يرتكبه في مملكة التاريخ والعقل، و يصل هذا الحنين إلى ذروته في المقطع الأخير حيث تكون حفلة الفالس الضخمة، الخارجة عن السياق التسلسلي، و التي تعطي شعور بجو شديد الخفة وبعيد جدا عن الأرض، مكان فردوسي تختفي منه الألوان الداكنة و يغدو فيه كل حدث جميلا و مبهجا، و لكن بنفس السلاسة التي تنتقل فيه الكاميرا الفيلم، ينقل المخرج تجسيد الفردوس هذا إلى مجرد ذكرى سحيقة و ملحة في نفس الوقت تطبع وداع روسيا و أوروبا و نزول الممثلين المهيب و تنقلات الكاميرا الهادئة و التي تستخدم جمال القصر في زيادة الشحنة النفسية التي يحملها المشهد، و حتى تصريح المخرج الأخير بصبغة تجل الحنين لهذه الذكرى أشبه بطقوس الشعوب في سرد الخرافات والأساطير.

التجربة الثانية للمخرجة بعد فيلم((mother and son)) الذي تميز بدور بلقطات طويلة،يحمل جولة في المتحف الروسي الأكثر شهرة تأمل تاريخي خلال قرنين،جمال وإتقان و دعوة لروسيا النائمة بالاستيقاظ.

الأيام البحرينية في 21 سبتمبر 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

«The Russian Ark»

فيلم المشهد الواحد.. تأمل في وجه روسيا النائمة

علي مدن