شعار الموقع (Our Logo)

 

 

ليست أزمة فيلم "بحب السيما" مجرد زوبعة في فنجان الحياة الثقافية العربية فحسب بل تتجاوز هذا إلى كونها تجسيدا لحالة الفصام التي يعاني منها الفنان العربي الذي يطالب عادة بحرية تناوله لكل مفردات المجتمع، رافضًا أن يتم فرض "تابوه" من أي نوع على إبداعه، لكنه يتحول إلى حالة متفردة في القداسة عندما يطالبه المجتمع بأن ينزل من برجه العاجي ليناقش ما طرحه.

وهذا ليس ادعاء بل واقع جسدته ندوة نقابة الصحفيين التي كانت مساء الخميس 15-7-2004 والتي انتهت بفواصل من "الردح" التي امتدت من سيناريو العمل إلى حضور الندوة عن طريق بطل العمل محمود حميدة الذي اعتبر كل من ضد الفيلم "جاهل وظلامي".

تقسيم الناس لمتدينين وفنانين

تكمن أزمة الرؤية التي طرحها فيلم "بحب السيما" في طرح بعيد كل البعد عن علاقة الفيلم وصناعه بالكنيسة.

وهذا الطرح هو السعي الحثيث إلى تقسيم الناس إلى متدينين وفنانين وهو ذات الطرح الذي سبق إليه يوسف شاهين في "المصير"؛ وبالتالي عليك أن تكون ضمن أحد المعسكرين، وتصنف نفسك بحسب ما تعتقده من علاقة بينك وبين الوجود، فإما أن تكون الحياة بالنسبة لك هي كل شيء "إبداع وجنس وخمر وتدخين وسخرية من كل مقدس وأي قيمة"، أو تتحول إلى ناسك أي "تحرّم السينما والغناء والرسم والضحك وربما الطعام والشراب".

هذا الطرح كان المتحكم في وجهة نظر صناع العمل (بحب السيما)، وهو ذاته كان الحاكم في صناعة فيلمهم السابق "جنة الشياطين".

وهنا تكمن الإجابة عن السؤال البديهي: لماذا البطل في كلا الفيلمين مسيحي الديانة وليس مسلمًا؟

الواقع المطروح في "بحب السيما" ومن قبله "جنة الشياطين" لن يقبله بأي حال طرح فيلم عربي جمهور مشاهديه من المسلمين مضافًا إليهم الشريحة القبطية أو المسيحية في عموم العالم العربي، وبالتالي كان الحل هو الهروب إلى الواقع القبطي بتداعيات شخوصه، مع عدم تعاظم ردود الفعل على اعتبار أن ما لن تقبله الكنيسة البروتستانتية ربما تقبله الكاثوليكية أو الإنجيلية وساعتها يمكن الهروب بما يحمله الفيلم من اعتراض هذه إلى تلك! هذا التحليل ليس مجرد رؤية، ولكنه واقع صرح به صناع "جنة الشياطين" عندما اختاروا أن تكون الشخصية المحورية في فيلمهم (الجثة التي كان صاحبها اسمه طبل ومجسدها هو محمود حميدة)، شخصية قبطي هرب من زيف حياته الأرستقراطية المقيدة بأعراف اجتماعية وتعاليم كنسية إلى رحابة عالم الغجر والصعاليك والقوادين، حيث لا قيود ولا معايير إلا القوة البوهيمية الصرفة.

ومن أشد ما يلفت الانتباه في هذا الفيلم، ويثير علامات التعجب حول دور الرقابة وجود العبارة الرقابية الخالدة "للكبار فقط" على "أفيش وتيترات" الفيلم، وباعث هذا الموقف هو كون أحد أبطال الفيلم طفلاً صغيرًا.. بل ويعتبر هذا الطفل «نعيم» هو محرك أحداث العمل والشاهد عليها كما أنه راوي الفيلم، إضافة لكونه صاحب العنوان "بحب السيما".

وهنا أسوق كلمات الكاتب الكبير يحيى حقي قبل 41 عامًا وتحديدًا في 18 فبراير/شباط 1963 عندما كتب على صفحات جريدة المساء يقول: فيلم الهمسة الصارخة يُعرض للكبار فقط على حين أن حوادثه تجري داخل مدرسة ابتدائية، وأحد أدوار البطولة لممثلة لا يزيد طولها على شبرين!

ثم اختتم حقي مقالته بسؤال: ماذا لو جاءت تلميذات هذه المدرسة ومعهن البطلة الصغيرة وأردن مشاهدة الفيلم الذي قمن هن أنفسهن بتمثيله؟ أنت ترى أن منطق القيد القانوني سيقتضي من هذا الرقيب أن يحرم عليهن الدخول حرصًا على أخلاقهن من التلوث بهذا الفيلم الذي هو من عجينهن وخبزهن.

ولا يزال الواقع يفرض على الرقابة أن تتعامل مع المنتَج الفني بلا إدراك تام لطبيعة علاقتها به، وبدون قياس لأبعاد مشكلته معها ثم مشكلتنا معهما التي لا يمكن التفاعل معها على اعتبارها معادلة مشاهدة لا نتيجة صناعة يصلنا منتجها النهائي ومحظور على الصغار مشاهدته، رغم أن أحدهم استعار عيوننا ليسير بها بين عوالم الفيلم.

من أجواء الفيلم

فيلم "بحب السيما" يبدأ بصوت شريف منير -راويًا بلسان الطفل نعيم بطل أحداث الفيلم-، حيث يؤكد أننا في حي شبرا بالقاهرة عام 1966، وبعدها يبدأ في استعراض مكونات بيئته: الأب (محمود حميدة) المسيحي الملتزم جدًّا، والذي يبدأ يومه بالصلاة والاستغفار، والأم (ليلى علوي) ناظرة المدرسة القلقة دائمًا، والأخت، ثم الجيران "مسيحيون" أيضا باستثناء "الجنايني".

ثم تبدأ الأحداث –قبل التيترات- بحوار بين الأب وصغيره حول حرمة السينما ومن يشاهدها أو يعمل بها، ويتطور الحوار ليصل إلى شجار بين الأب والطفل بعد تأكيد الأول أن صغيره من أهل النار!

الشخصيات المحورية في العمل والتي من خلالها ينساق المشاهد نحو "حب السيما" تتجسد في: أب متسلط بسبب خوفه من دخول النار؛ وبالتالي يحرّم كل متع الدنيا، لكنه في ذات الوقت صاحب مبادئ تدفعه لمساعدة كل من حوله والوقوف في وجه ناظر المدرسة الفاسد -لم يقل الفيلم هل هو مسلم أم مسيحي- وهو ما يعرّض الأب إلى التنكيل به في مباحث أمن الدولة بسبب وشاية تتهمه بأنه شيوعي. وأم تعاني جمود زوجها وعدم إشباعه رغباتها وميله لمساعدة أهله أكثر من التوسيع عليها وعلى أولادها، إضافة إلى دفنه موهبتها الفنية في الرسم بدعوى تحريم الفنون. وأخت للزوجة كل علاقتها بالحياة تدور في فلك الجنس وكذلك صديقاتها. وحماتان إحداهما قعيدة ومسالمة والأخرى حريصة جدًّا لدرجة أنها تكتب تاريخ نزول البيضة إلى الحفاضة التي تلفها على خاصرة دجاجاتها. وأخ للزوجة.. محب للفنون وعلى رأسها السينما ويتمنى دخول كلية الفنون الجميلة لكنه يفشل بسبب (الثانوية العامة) فيهاجر.

هذه الشخوص الرئيسية نتعرف عليها بعيني «نعيم» الصبي الصغير الذي يحب السينما على خلاف رؤية والده لها، وفي خضم الصراع بين رغبات الابن وتوجهات الأب يظهر أمام عيوننا -كمشاهدين- وبعيدًا عن عيني رفيق الرحلة مفتش الموسيقى (زكي فطين) الذي يرتدي مسوح النضال الشيوعي مؤكدًا عشقه للفن والحرية رغم بغضه للثورة -ثورة يوليو- التي نسيته معتقلاً؛ لأنه شيوعي وعندما خرج وجدها اشترت الرفاق.. فقرر الانكفاء على الأتيليه الخاص به.

نظراتنا بعيني الصبي نعيم ساهمت في جعلنا أوقاتًا كثيرة نتعرف على المفردات المشوهة التي صبهّا الفيلم في نفس الصبي الصغير ليخرجه مشوهًا يرى دائمًا العالم من بين ثقوب الأبواب، حيث لا تبدو إلا العورات! كما أكسبت نظرات نعيم الشقية الكثير من الحيوية لإيقاع العمل الذي راح يعلق كل تفاصيله الدقيقة على فضول نعيم وبالتالي لا نملك -كمشاهدين- الاعتراض على دخولنا عالم أسرة الأم بكل مفرداته (بيض الحماة- غراميات الخالة- حب الخال للفن- صفاقة صديقات الخالة في الإفصاح عن رغباتهن- وشعر الجد المدهون والمصفف بعناية).. وكذا وجدنا أنفسنا وجهًا لوجه مع سقوط النفس البشرية في هوة رغباتها -وأيضًا بعيني نعيم- داخل الكنيسة مرة وداخل منزل أسرة الزوجة أخرى.. وعلينا أن نقبل استثمار نعيم ابن السنوات الخمس لكل هذا نظير أن يذهب إلى محبوبته "السيما".

الرؤية بعيون طفل

ومن أجل عيون نعيم التي ارتديناها من ساعة دخول قاعة العرض صار لزامًا علينا أن نتحمل "اللعب مع العيال" مثلما تحمله المؤلف والمخرج وفريق عمل الفيلم.. وبناء عليه اندفعنا مع نعيم إلى الأطباء ومعامل التحاليل لنطمئن على صحته، كما ذهبنا معه إلى دورة مياه مدرسة أمه لنشاهد موقفه الرجولي مع الفتاة الصغيرة التي صحبته إلى هناك لتعرض عليه ملابسها الداخلية فيتهمها بقلة الأدب تمامًا كما حدث مع فريق الصبية الذين كانوا يلعبون بـ«الكوتشينة» المطبوع عليها صور عارية.. وهكذا راح الفيلم يلم علينا كل ما استطاع مؤلفه هاني فوزي أن يجمعه من ذكريات كل الطفولات المجرمة مضافًا إليها تجليات خياله الخصب ليتم في النهاية صناعة جو عام من السخط موجه إلى كل ناصح وإلى كل سلطة وإلى كل نظام، متبنيًا خطاب المخرج العالمي "لويس بونويل" الذي كان رائد مدرسة سينمائية شعارها "نحن لسنا إرهابيين لكننا نحارب مجتمعًا نحتقره، وسلاحنا ليس البنادق طبعًا، ولكنه التعرية.. وهي عامل قوي في عملية الاكتشاف والفضح للجرائم الاجتماعية والإمبريالية والطغيان الديني باختصار كل الدعائم السرية والكريهة للنظام الذي يجب تدميره، وبالتالي تكون غايتنا تفجير النظام الاجتماعي ككل"!

هذه الرؤية التي طرحها بونويل وسيلفادور دالي قبل أكثر من نصف قرن يحاول اليوم فريق عمل "بحب السيما" إعادة إحيائها من خلال الجمع بين كل مفردات الرؤية الخاصة بنعيم ليتحول الأب من أداة سلطة دينية في لحظة مكاشفة بعد صدمة استجواب مباحث أمن الدولة إلى شخص محب للحياة "اللذة"، وفي سبيلها يقرر الاستغناء عن كل الممنوعات حتى الطبية ليموت وهو يتلو صلواته المقدسة! بينما تفيق الأم بعد وفاة زوجها لتحل محله محرقة للصور التي كانت ترسمها وكان يحرمها.. أما الخالة فتفتح بابًا جديدًا على العائلة بطلاقها من زوجها الذي اكتشفت أنه عاطل، ولا يملك من مقومات الزوجية إلا فحولته.. كما أن نعيم قرر أن يخطب أخته لابن الجيران نظير تذكرة سينما على أن يتم تأجيل الحديث في هذا الموضوع حتى تكبر الفتاة..

وأخيرًا يموت الجد وهو يتابع مع باقي أفراد الأسرة التليفزيون فتغلقه ابنته (الزوجة ليلى علوي) لتبكي مع أمها وأختها الأب، بينما يعاود نعيم فتح التليفزيون ليضحك مع ثلاثي أضواء المسرح.. وينتهي العمل بين ضحكاته ونحيب الثلاث نساء.

"بحب السيما" جمع العديد من المفردات السينمائية التي تؤكد موهبة صانعيه فنيا، وأبرزهم المخرج أسامة فوزي والسينارست هاني فوزي.. لكنه في النهاية وضعنا أمام مطالب حثيثة بضرورة الاستغناء عن الثوابت الاجتماعية والدينية والسياسية، التي تفرض -من وجهة نظر صناع الفيلم- قيودًا على الحياة، وحتى التابوه الفني الذي تحول إلى تيمات ثابتة في الأعمال "البطل الفقير الذي يحب الفتاة الغنية والتي بدورها تحمل في أحشائها جنينًا من علاقة محرمة".. وبالتالي صرنا من خلال "بحب السيما" أمام رؤية جديدة للحياة بدون قيود، وما علينا في أحلك الظروف إلا أن نتجاهل مَن حولنا أو نعطيهم ظهورنا، ونضحك مع ثلاثي أضواء المسرح!

"بحب السيما" شريط جديد يضاف إلى العديد من العلب التي تحوي مشاهد صادمة أو جملاً مثيرة للجدل أو إسقاطات تجافي الواقع، وكانت كلها تكرس في النهاية لـ"تابوه" جديد يعطي لنفسه حق الطرح والنقد والسخرية والازدراء بدون أن يراجعه أحد وإلا تحول إلى رجعي ومتخلف وضد الإبداع وظلامي..

وبناء على هذا أعترف بأنني ظلامي لا أقبل السخرية من دور العبادة حتى، وإن كانت بها سقطات بشرية.. ومتخلف؛ لأنني ضد ظهور امرأة تستحم أو تمارس الجنس على شاشة السينما.. ورجعي لأن هناك قواعد وأعرافًا وقيمًا نبت على أرضها مجتمعنا، ويجب ألا تسقط لحساب الرؤى الفنية.. وأخيرًا "بحب السينما.. لكنني أكره سقطاتها".

موقع "إسلام أنلاين" في 26 يوليو 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

"بحب السيما".. عندما يصطدم المجتمع بـ"قداسة" الفنان

عبدالجليل الشرنوبي