شعار الموقع (Our Logo)

 

 

لم تكن سينما المؤلف يوما سينما ناشزة، او متعاكسة مع تيار السينما بتنوعه وأطيافه ومدارسه وطرق انتاجه، بل هي اضافة ابداعية على مسيرة هذا النوع الفني، ولكنها حافظت على ميزتين اساسيتين، الاولى التنوع الذي هو احدى ركائز المشاهدة، والثانية هي الجماعية بمعنى تقدير موهبة الآخرين والاستفادة منها، اي ما يمكن تسميته تضافر وتراكم الرؤى المصنعة للشريط في صورته النهائية. ومع كل النجاحات التي حققتها هذه الافلام فإنها لم تصم سينماها الوطنية بصفتها، فلم تتحول السينما الايطالية او الفرنسية كلها الى سينما مؤلف، ولم يتحول كل المخرجين الى مؤلفين، ولم تتحول الافلام الى مشاريع شخصية، حتى في اقصى حالات التطرف الفردية (بونويل مثالا)، فالاختصاص هو جزء من الاداء الحداثي الذي قدم هذا النوع من ادوات التعبير، بما يقدمه من تحد لإضافة رؤية تتسابق مع رؤى الاخرين في إنجاز وبناء الاحسن.

مع موت سينما القطاع الخاص السورية التي هوجمت بشدة وقوة لا تتناسب مع طاقاتها الهزيلة أصلا، حيث اتهمت بأنها مجرد سبوبة تسعى الى الربح المادي ولا شيء غيره، ظهرت السينما الجادة او بالاحرى السينما الثمينة، محققة إنجازات معقولة على المستوى المحلي وفي بعض المهرجانات الدولية التي تعتبر بوابات تحضيرية الى مهرجانات الصف الاول في العالم، وكانت هذه الافلام تدّعي انها على تعاكس في الشأن المادي والتجاري مع الانتاجات التجارية للقطاع الخاص، هذه الانتاجات القذرة التي تبغي الربح والربح فقط حتى ولو كان ذلك على حساب التربية والذوق!!! ظهرت هذه الافلام في كنف المؤسسة العامة للسينما، وللحق ان المؤسسة تعاملت مع افلامها دون الخضوع لمنطق الربح التجاري، في تقديم واضح لرعاية الابداع والفن عن الارباح المادية، وربما أثر هذا الأداء على سيرورة المؤسسة اقتصاديا، ولكنه ابرز سؤالا حول المسألة المادية هذه، فإذا كانت المؤسسة لا تهتم بالريعية الاقتصادية، فهل تطابقت هذه النظرة مع صانعي افلامها...؟ وهل المال لم يكن من اولويات صانعي هذه الافلام؟ بحيث يكونون اقرب الى وجهة نظر مؤسستهم منهم الى وجهة نظر القطاع الخاص؟

مع النجاحات الاولى لأفلام المؤسسة بدأت تتكرس نظرة لعملية صناعة الفيلم السوري التي تعتمد إداريا على اطلاق يد المبدع في مشروعه الذي ارتضاه لنفسه، وتوجهت هذه العملية فورا الى طريقة سينما المؤلف لتكرسها طريقة وحيدة لصناعة فيلم سينمائي سوري، حيث بدأ المخرجون بالسيطرة رويدا على مقدرات الفيلم متوجهين به الى حالة إبداع فردية تعاكس السينما كمفهوم حداثي، انطلاقا من التأليف وزحفا تجاه مهن وأعمال سينمائية او متعلقة بصناعة الفيلم، فهل هذه الطريقة هي المثلى وحدها؟ وهل الهم الابداعي هو وحده المسيطر على دوافع هذه الطريقة ونتائجها المادية والمعنوية؟

لسنا في مجال رصد التراجع الذي طرأ على سينما المؤلف السورية قياسا بالنجاحات التي حققتها في بداياتها، فهناك العديد من الاسباب الموضوعية والفانتازية أسهمت في تلك التراجعات، ولكن هناك مقياسا معتمدا لدى صانعي هذه الافلام تراجع مؤشره كثيرا ألا وهو الجوائز المهرجانية التي تراجعت كماً ونوعاً موفرة على المشاهد شهادات جودة لا يجرؤ على الاعتراض عليها او مناقشتها، هذا التراجع يدق جرسا للإنذار ينبه الى تراجع المستوى، وبالتالي على السينمائي السوري مراجعة حساباته، ومن هذه الحسابات اعتبار الفيلم وصنعه وعرضه ومهرجته مملكة شخصية وخصوصية يحق للشاعر فيها ما لا يحق لغيره. ولكن القصيدة لا تكلف مثل الفيلم وليس في طريقة انتاجها ادوات ووسائل ذات مهارات حرفية وتكنولوجية او مفاعيل اقتصادية تتناول معاش اشخاص يعتمدون عليها في رزقهم، ولا سطوة تكريسية تجعل من الشاعر ماريشالا على ثلة من المساعدين.

ان الصيغة القانونية لموضوعة المخرج المؤلف صيغة صحيحة وكذا مفاعيلها المالية، ولكنها تبدو طارئة ومختلة ومهزوة نوعا ما، لأن تطبيقها استنسابي ومن دون تبعة حقوقية او مادية او اختصاصية، فنجاح الفيلم او فشله لا يؤدي الى البحث في الاسباب، او يؤثر في الفرصة القادمة للمخرج الموظف، كما ان تعثر اي فيلم اثناء عمليات صنعه لا يدفع بالجهة المنتجة للتدخل في تغيير المخرج كحاكم اعلى ونهائي في تصنيع الفيلم حيث نرى خططا زمنية مفتوحة ومكلفة قد تصل لسنوات ومع هذا يظل المخرج الحاكم بأمره حتى ولو كان ذلك على حساب الفرصة القادمة لفيلم جديد او حتى خطط اخرى للمؤسسة، ومن جهة اخرى نرى اختلالا في هذا الميزان الذي يعطي المخرج (الخريج على الاغلب) الحق بالتأليف وخلافه ولكنه لا يعطي ذات الحق للسينمائيين من مؤلفين ومونتيرية وخلافه (على الرغم من كونهم خريجين) لهم حق التساوي مع المخرجين ابداعيا ووظيفيا، ما دامت إمكانية تجاوز الاختصاص موجودة ومحققة للمخرج فلماذا لا تكون للكاتب مثلا. ومع هذا تبقى المسألة الابداعية هي محور الانتاج في القطاع العام، وهو ما يجدر نقاشه والالتفات إليه، فهل كانت الافلام السورية تصاعدية في ابداعاتها في ظل المخرج المؤلف في صعيدها العام وعلى صعيدها الفردي؟ سؤال لا بد منه مع ملاحظة الخط البياني لجوائز المهرجانات من جهة وكمية المشاهدة في العروض العامة من جهة ثانية والتقييم النقدي من جهة ثالثة.  

الدكتاتورية

بلا شك ان الاخراج السينمائي هو عملية تحدّ كبرى للذات المبدعة، والنجاح هو مقياسها الاول والنهائي، (ولا يدخل في هذا الباب الرهان على المستقبل كقولنا هذا الفيلم سوف تنصفه الاجيال المقبلة، فالنجاح يعني في ما يعنيه إعادة الانتاج)، حيث يأخذ هذا التحدي أشكاله العملانية من خلال ممارسة الاخراج كمهنة قائدة في صناعة العمل الفني، اي كاختصاص يستطيع التفاعل مع الاختصاصات الاخرى، والتحدي هنا يبدو على صعيدين، الاول: تمثل روح العصر المساوي لعصر السينما، اي العمل الجماعي الممنهج، اي ترك دكتاتورية قمة الهرم (وما يرافقها من تصورات شخصية تذكرنا بالاقطاع)، الى موقع مركز الدائرة الذي يتساوى مع الجميع حقوقيا ويتميز إبداعيا.

الثاني: الاعتراف برؤى الآخرين، كإبداعات تصب في مصلحة العمل الفني، وبالتالي التعامل معهم كمبدعين وليس مجرد بيادق في كتيبة تنفيذ الفيلم، وهو ما يؤدي إلى التعرض لتهمة الخيانة لكل من تسوّل له نفسه ان يختلف مع مقام المخرج الموقر، (ولعل استيراد تقنيين من الخارج وخصوصا مدراء تصوير يساعد في التخفيف من تأثير هذه العقبة).

ولكن التحدي الاكبر برأيي يكمن في مواجهة الاخراج نفسه كمهارة إبداعية، حيث لم يتعرض القسم الاكبر من المخرجين السوريين لامتحان هذه المهارة عبر إخراج سيناريوهات لغيرهم من الكتاب او المخرجين كما السينما بشكلها الطبيعي، باعتبار ان الاخراج رؤية جديدة للنص، وهذا ما يفتقده المؤلف المخرج بتوحيد النص الكتابي والبصري تحت رؤية واحدة، اي اخراج ما هو مخرج سلفا، او ما يستطيع المخرج إخراجه، وهي خصلة تشي بالخوف من الاقدام على الاخراج بحد ذاته كمهارة إبداعية، وكاختصاص اكاديمي. اي تعريض الإخراج للقياس او النقد كممارسة مستقلة، وهو ما يسعى المخرج المؤلف لإدغامه في حالتي النجاح والفشل حيث لا يمكن الفصل بدقة بين الاختصاصات وبالتالي مسؤولياتها، فالنجاح مسؤولية المخرج والفشل هو من مسؤولية باقي افراد الكرة الارضية.

الارتباك

ولعل الارتباك الذي يرافق تنفيذ كل فيلم سوري تقريبا (تعطل التصوير، عدم دقة تزمين السيناريو، التعديلات المفاجئة عل النص، تصوير لقطات ومشاهد زائدة ترمى عند المونتاج، الخلافات بين المخرج ومجموعة العمل، المونتاج المتطاول الذي قد يؤدي الى فيلم آخر غير الذي كتبه المخرج... الخ..) ناتج عن هذا الخلط بين ما هو إبداعي وبين الخبرة المهارية المتوافرة لدى الآخرين، وهي بداية الخيط لإلغاء دور الآخرين بمن فيهم المشاهدون، ما تجلى في إلغاء مهنة كاتب السيناريو السينمائي على الرغم مما يمثل حضوره من ضرورة في هيكلية الانتاج السينمائي، ما يطمئننا الى امكانية إلغاء كل الاختصاصات الاخرى وضمها الى صلاحيات المخرج بطريقة او بأخرى.

من جهة ثانية تبدو تأليفات المخرجين لأفلامهم كأنها تكرارات للمضمون المعرفي نفسه، المؤطر فرديا (في رأسي كم موال بدي غنيهم) حيث تتم إعادة ذات الافكار والابطال في حلل جديدة تفضي الى ذات النتائج بغض النظر عما إن كانت هذه التأليفات سيرة ذاتية ام <<حدوتة>> من الخيال، وهو الشأن الذي يُتجاهل دوماً لأنه يطرح تحدي تجاوز الذات او التجديد المعرفي او إعادة النظر والحسابات ما يعيدنا الى ذات النقطة السابقة اي الاكتمال المعرفي او دكتاتورية المعرفة التي لا تستحق إلا التبجيل والدعم، وإلا فإن لجان التحكيم في المهرجانات تحوك مؤامرة ضد الفيلم، والجمهور على عادته لم يفهم القصد او...  

الفيلم

تبقى مسألة واحدة وهي الاجواء التي تحيط بالمخرجين المؤلفين وهم يتنافسون بضراوة للحصول على فرصة، وما ينتج عن هذه الضراوة من تخلخل في العلاقات خصوصا بين من يصنفون انفسهم بين المبدعين، حيث تمتد هذه الصراعات الى خارج اطر صناعة الفيلم، ما يصنع جوا عدائيا وأنانيا يؤدي مع اسباب اخرى (العطالة، قلة السيولة، الفرص الوظفية) الى صراعات وتكاره ومواقف شخصية وانتقامات وتقييمات خارج اطر العمل السينمائي والفني، وهو ما يؤدي عالبا الى الاستثمار الجائر لفرصة إنجاز الفيلم، فكل واحد منهم يعتبر نفسه الأحق بالاموال لتنفيذ مشروعه حتى لو قضت هذه الاحقية على فرصة إنجاز فيلم آخر باعتبار انه الاكثر عبقرية بين زملائه، ما يلفت الى ميزانية الفيلم السوري التي لا تقل عن اية ميزانية لفيلم اوروبي على الرغم من الشكوى الدائمة من ضعف وصغر ميزانيات الافلام، ولكن مع حسبة بسيطة تضيف تكاليف الادارة كمنتج والمصاريف النثرية التي تلحق بإنتاج الفيلم لفترة طويلة وأجور المعدات المجانية نرى ان الكعكة لا تكفي الجميع اذا تم استهلاكها بهذه الطريقة الناتجة عن علاقة مختلة مع الجماعة، كمؤسسة تحترم المبدعين وتدير المال العام، وكزمالة يشكل نجاح اي فرد من أفرادها نجاحا للمجموع ومصداقية للسينما السورية.

السينما السورية لا تعوزها اسباب الغياب فهي كثيرة ومتنوعة، وفرصة غناء موال شخصي، إبداعيا كان او مزاجيا، مرتبطة بقوتها واستمرارها ووسع امكانياتها المادية والبشرية، وبإعادة الانتاج الذي يغلق دائرة الفعل الحداثي الذي هو لب السينما وسرها ايضا.

السفير الثقافي في  30 يناير 2004

كتبوا في السينما

 

 

مقالات مختارة

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

بسام الذوادي ـ لقاء

      مهرجان البندقية.. يكرم عمر الشريف

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

آسيا جبّار عبّرت عن الهواجس الدفينة للمرأة

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

سينما المؤلف السورية:

دكتاتورية المخرج وإلغاء الأخرين

نجيب نصير