شاهدت قبل فترة فيلما سينمائيا يحكي عن ممثلة مسرحية مشهورة متخصصة بتمثيل ادوار في مسرحيات الكاتب الروسي أنطون تشيخوف. والممثلة في خريف عمرها. وها هي تصاب فجأة بمرض يؤدي الى فقدان الذاكرة بشكل جزئي بين فترة وأخرى. وهي تتعرض ذات مرة لاحدى حالات النسيان الطارئة في أثناء أداء دورها في احدى مسرحيات تشيخوف، فتنسى جملة الحوار التي يتوجب عليها قولها. بعد أن تستعيد ذاكرتها تقول لمن حولها: انها لمأساة ان ينسى المرء تشيخوف. قد يبدو هذا التصريح مبالغا فيه كثيرا لمن لا يعرف تشيخوف كأديب كبير من أدباء نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، والذي ما يزال أدبه المكون من قصص قصيرة او متوسطة الطول ومن مسرحيات قصيرة أو من خمسة فصول ، ليس فقط يعتبر أدبا ملائما لعصرنا الحالي في مضامينه لما فيه من رؤية نفاذة لجوهر العلاقات الانسانية والاجتماعية ولما في شخصيات اعماله الأدبية من شفافية تجعلها قابلة للاستقبال من قبل قراء العصور اللاحقة كما لو أنها شخصيات من زمانهم الحالي، بل يعتبر أدبا ملائما جدا للتحويل إلى سينما. وجدت السينما الأوروبية والأمريكية، إضافة إلى سينما “الاتحاد السوفييتي”، مادة خصبة بشكل خاص في النصوص المسرحية التي كتبها أنطون تشيخوف وأهمها “بستان الكرز” و”نورس البحر” و”الأخوات الثلاث + و”الخال فانيا”. غير أن السينما الأوروبية والأمريكية بشكل خاص ظلمت إبداعات تشيخوف المسرحية عندما قامت بتحويلها إلى أفلام. وإذا كان اقتباس الأعمال الأدبية للسينما لا يمكن بأي حال من الأحوال ان يكون مطابقا للأصل، بل ان هذا الاقتباس يمكن أن يكون بمثابة “خيانة” للأصل، فإن جل الأفلام الأمريكية والأوروبية تنتمي إلى نمط الاقتباس الذي يكتفي بأن يأخذ من مسرحيات أنطون تشيخوف مادة السرد وأفعال وأقوال الشخصيات، وفي الوقت نفسه “يخون” روح المسرحيات. يمثل الفيلم البريطاني الإنتاج “نورس البحر” (1968) انموذجاً لهذه الخيانة في التعامل مع أدب تشيخوف. قام بإخراج هذا الفيلم الأمريكي الشهير “سيدني لوميت” والذي اختار لأدوار البطولة بعض أهم كبار الممثلين والممثلات الأوروبيين مثل الممثل البريطاني جيمس ماسون والممثلة البريطانية فانيسيا رودغريف والممثلة الفرنسية سيمون سينيوريه. في الأصل، فإن شخصيات هذه المسرحية شخصيات قلقة ومعذبة. ومن ضمن هذه الشخصيات ثمة مدرس ريفي شاب من أسرة فقيرة والذي لا يكفيه دخله المتواضع لتلبية احتياجاته الشخصية واحتياجات أسرته الأساسية، ما يشكل هما دائما بالنسبة له. وهذا الشاب يعشق فتاة من أسرة إقطاعية مفككة، ترتدي دائما الملابس السوداء، و هو يزورها باستمرار قاطعا مسافة طويلة سيرا على الأقدام متحملا في سبيل حبه لها مشقة الطريق. ويبدأ المشهد الأول من مسرحية “نورس البحر” بحوار بين هذا الشاب وفتاته يكشف رأسا عمق الأزمة الروحية والحياتية التي يعيشان في ظلها. يفتتح هذا الحوار بسؤال مباشر يوجهه لها: “لماذا ترتدين الثياب السوداء دائما يا ماشا؟”، فترد عليه جادة: “إنه حداد على حياتي، فأنا تعيسة”. وهذا الرد يثير غضبه فيشرح لها الفرق بين وضعه ووضعها، فهي ميسورة الحال ولا تعاني مثله من العوز، وفي حين أن همومها محض وجودية وغير مبررة ولا مشاكل مادية تؤرقها، فإن همومه مرتبطة بأساسيات عيشه وعيش أسرته . يلتزم فيلم “نورس البحر” بهذا المشهد الافتتاحي وبما يتضمنه من حوار شكلا، غير أنه يخونه روحا ومضمونا. نرى الاثنين في بداية الفيلم يتنزهان وسط أجواء طبيعة الريف الجميلة، يمرحان معا، ويتوقفان أحيانا ليتعانقا وليتبادلا القبلات الحارة، وبين المرح والعناق والقبلات يجدان الوقت لكي يتلفظا، بنبرة مرحة، بجمل الحوار المشار إليه آنفا . ويقدم الفيلم الإيطالي “بستان الكرز” ( 1992 ) نموذجا أكثر وضوحا وصراحة لهذه الخيانة أثناء اقتباس المسرحية. والفيلم من توقيع المخرج انتونيلو أغليوتي، والذي يؤكد في أحد تصريحاته بأن “شخصيات تشيخوف مثلها مثل الشخصيات التي يبدعها الفنانون العظام، تحيا وسط علاقات لا تحدها الأزمان. وإن هذه الشخصيات، وإن كانت تمثل المجتمع الروسي زمن تشيخوف، إلا أنها أيضا تمثل مجتمع أوروبا المعاصر”. وهذا التحليل يقدم لنا الفرصة لاكتشاف مدى التباين في المضمون الإنساني بين ثقافتين، ثقافة زماننا وثقافة القرن التاسع عشر، واكتشاف مدى الاستهتار الذي تتعامل به السينما أحيانا مع روائع أدب العصور السابقة على السينما، بحجة التفسير المعاصر لها . كتب تشيخوف في بداية القرن، ويصف مسرحيته بأنها كوميديا من أربعة فصول. وهي تتحدث عن امرأة من المجتمع الإقطاعي، تعود إلى أملاكها بعد هجرة اختيارية إلى فرنسا لسنوات عدة، تعود مفلسة محبطة لتجد أن أملاكها معروضة للبيع في المزاد العلني، غير أنها لا تدرك، كما يدرك بقية أفراد عائلتها وحاشيتها عمق الأزمة، وتحيا فقط وهم أمجادها الماضية وسلطتها التي لم تعد مؤثرة. الوحيد الذي أدرك الأزمة وحاول إيجاد الحلول لها تاجر شاب، كان أبوه من الأرقاء عند تلك الأسرة الإقطاعية وهو تربى في كنفها، إلى أن تمكن من شق طريقه في الحياة. وتعكس مسرحية تشيخوف أساساً، فترة تاريخية حاسمة في حياة روسيا، إنها فترة انهيار الإقطاعية وبداية تشكل المجتمع البرجوازي، إنها إقطاعية تنهار من دون أن تعي واقعها، وبرجوازية تقوم محلها وتتسلم زمام السلطة وهي ما زالت في بداية تشكلها. وإذا كان تشيخوف يصف مسرحيته بأنها كوميديا، فإن الكوميديا فيها هي تلك المفارقة التاريخية الناجمة عن انهيار طبقة لا تعي انهيارها. غير أن النص المسرحي بحد ذاته لا يضحك أبداً. إنه ربما، قد يثير ابتسامة هنا أو هناك، غير أن جوهره وبنيته يدعوان للحزن ويثيران الشفقة. شخصيات “بستان الكرز” بعامة، حساسة، عاطفية، رقيقة المشاعر وإنسانية، غير أنها مأزومة وجوديا. تحيا ضمن واقع ولكنها لا تعيشه إلا بأحلامها وأوهامها ومثلها التي لم تعد منسجمة مع تغيرات العصر. فما الذي شاهدناه من مسرحية تشيخوف في الفيلم الإيطالي! نقل الفيلم أحداثه إلى الزمن المعاصر في إيطاليا واستعار من المسرحية التسلسل العام للحبكة، وأخذ من شخصيات المسرحية هياكلها وألبسها جسداً جديداً وأضفى عليها روحاً مختلفة. غير أن التغيير الأساسي لم يتوقف عند هذا الحد، فإن ما هو جوهري في مسرحية تشيخوف قد تقلص في الفيلم ليصبح مجرد مادة لموضوع حول الأحاسيس المسيطرة على تصرفات أفراد عائلة إقطاعية معاصرة، فكان الفيلم مجرد وسيلة لعرض العلاقات المتبادلة بين شخصياته، بحيث طغى تصوير هذه العلاقات على مادة الفيلم وأفقده صلته بتشيخوف. وإذا كان مخرج الفيلم يقول إنه حاول أن يقدم رؤية عصرية لمسرحية تشيخوف، فإن الفيلم، في الحقيقة، لا يعكس رؤية عصرية لمسرحية “بستان الكرز” بل يعكس هاجساً بات يسيطر على السينما العالمية، وفيلم “بستان الكرز” مجرد نموذج على هذا التوجه السائد في السينما العالمية، والتي صارت تبتعد تدريجياً عن الهم الثقافي والتعبير الفكري الفني الجمالي عن العالم، لتدخل أكثر فأكثر في مجال الإثارة الحسية للغرائز، مستفيدة من التقنيات السمعية البصرية المتطورة. جريدة الخليج في 26 يناير 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
ضوء.. مسرح أنطون تشيخوف في السينما عدنان مدانات |
مقالات ذات صلة: عن تشيخوف.. والسينما.. ومسؤولية الفنان
|